تناولنا في الحلقة السابقة عدة عروض متنوعة. هنا عروض أخرى.
"أهل المخابئ"
"أهل المخابئ" (إخراج كريم الشرقاوي، المغرب)، ما يجمع هذه المسرحية بـ"ناس وحجارة" المغربية أيضا والتي تناولنا في الحلقة الماضية، سيادة النص مختلف العناصر الأخرى، وإن بنسبة أقل في الأولى، هذا العمل يمكن أن ننسبه كلياً الى مسرح الخمسينات والستينات السياسي، بالمعنى النقدي، المباشر، وبكمية الأفكار الجاهزة، المعهودة، في مثل هذه العروض.
ويمكن القول أنها مسرحية الكلام حول الكلام، وما يتخلل كل ذلك من مواقف كلامية تصل الى حدود الشعارات، والى "فعل المعجزات" صحيح أن الموقف العمومي في العمل جريء، وغير موظف لجهة، أو منحاز لطرف في السلطة أو في غير السلطة، من البنى والمؤسسات، لكن ا لصحيح أيضا أن هذه النبرات الاحتجاجية لا تتجاوز أيضا ما قد يتجاوزه الهامشيون.
كوميديا سوداء تدور حول ناس يختبئون من المخاطر والمواجهة الفعلية، وهنا غارات العدو (لا نعرف من هو العدو ولا من أي جهة)، ليدافعوا أو ليبرروا انكفاءهم بالكلام، وبمواجهات في ما بينهم، على قضايا ومسائل لا تتخطى همومهم ومطامحهم الشخصية السياسية. فلجنة المخابئ، والمرتبطة باللجنة الثورية العليا، قد تحيل على أهل السلطة العربية، الذين يتوارون أمام ما يهدد بلدانهم، ويعوضون عن ذلك باجتماعات وقرارات واستراتيجيات تبقى في الحناجر أو حبراً على ورق. انه واقع الأمة وقياداتها العاجزة، وتلهيها بمصالحها الشخصية وصراعاتها الصغيرة، إزاء ما يتهددها من الخارج. إذاً الداخل يتآمر على نفسه، والخارج يهدد الداخل.
الداخل، عبر هذه القيادات، عدو الداخل، والخارج عدو الجميع. فإن مصلحة "العدو" هنا تتلاقى وسلوك هذه القيادات المؤتمرة بقيادات ثورية (لا نعرف لماذا يجب أن تكون ثورية فقط) في هزم الناس. بين الغارة والغارة يستأنف كلام اللجنة، عبر لفظ وحوارات عقيمة ومشاورات وثم تواطؤ . فكأن الغارة لا تعني لهم سوى أن يكملوا ما بدأوه وكأن شيئاً لم يكن.
على أن المشكلة تكمن في النص المليء بالخطب والكليشيات والمواقف المعهودة في المسرح السياسي العربي. ما من بؤرة يلتف حولها الحوار، أي ما من فعل درامي يشد كل هذه العناصر في بناء، أو حتى في هيكلية مسرحية.
ولهذا بدت الحوارات والخطب المتشابهة تشابه الشخصيات، وكأنها توازيات متكررة، مطولة، ملول، بعيداً من السياق الحي، ويردف ذلك أداء متشابه متوازٍ، من الصعب أن يكشف طاقات مميزة إذا وجدت، ولو التمعت لحظات عند الممثلين.
على أن المسرحية إذا قسناها بمنطق العمل الشعبي (السياسي) المباشر، والذي يندرج ضمن خط طويل من الأعمال العربية، كمثل ما قدّمه لينين الرملي، مع محمد صبحي، وما قدمه أمين الهندي في تونس، أو مسرحيات من هوية سياسية "يومية" فإنها تبدو متقدمة ونظيفة، غير مبتذلة، وغير شعبوية، ولاسوقية، بهذا المعنى أنها عمل سياسي بالمواصفات التقليدية، عدا السينوغرافيا التي وضعها يوسف العرقوبي، والتي كثّفت المناخات الداخلية (المخابئ)، وأضفت نوعاً من جمالية وظيفية (طاولة الاجتماع التي تتحول الى منابر ومنصات، أو الخلفية التي تساعد على بناء المناخ من دون أن تكون تفسيراً أو صدى للنص).
"يقولون عني"
ـ "يقولون عني" (هولندا). منذ قرابة عشر سنوات قدمت الدانمارك عملاً مسرحياً هو خليط بين التمثيل (العنصر البشري) وبين السلايدات (العنصر التقني)، استخدمت فيه الإضاءة (عبر السلايدات) وعبر الصور، لتكوين مناخ يتجاوز مسرح النص والإخراج. ومنذ أكثر من 15 عاماً ساد المسرح العربي (وبالطبع الأجنبي لا سيما الأوروبي) عاملان: قوة السيناريو وطغيانه، وقوة الحركة الكوريغرافية وطغيانها. وفي الإثنين غاب أو كاد يغيب العناصر الثلاثة المكوّنة للدراما "الحداثية": النص، المخرج، الممثل. ومنذ عشر سنوات أيضاً قدمت فرقة الصواري البحرينية عملاً سمّته "عرضاً" وهو مجرد تسجيلات على فيديو بثّت في غرفة معتمة، (كالسينما أو التلفزيون). وشاهدنا أعمالاً عربية وأجنبية عديدة تعتمد على الصورة الفوتوغرافية (كأساس)، وعلى الشاشة الصغيرة، والفيديو...
هذه المقدمة أراها ضرورية لتناول العمل الهولندي "يقولون عني"، الذي يتناول مسألة "الأنا" والآخر، ورؤية الأنا للآخر، والآخر للأنا، في حُمّى من الصور والتشابكات والمقابلات والموسيقى الرومانطيقية الدافئة والصاخبة. ثلاث شاشات صخمة تستفرد منتصف المسرح لتترك حيّزاً لتحرك الممثلة. وعلى ما تبقى من الخشبة فراغ ولا ديكور. فقط حضور الممثلة. إذاً هناك الجسد كحركة وصوت. وهناك الشاشات أي الصورة. الصورة تصير جسداً. والجسد يصير صورة. الصورة تمحو الجسد. الجسد يمحو الصورة. الصورة تصنع الجسد. الجسد يصنع الصورة. وكأن الذاكرة الحديثة صارت أكبر من أن يستوعبها الجسد. صارت صورة تسترجع، وفاصل بينها وبين الأنا المتذكرة، أو الشاهدة، أو الراوية. ولهذا تبدو الممثلة (والعمل مونودرام)، وكأنها راوية ومروية. تحكي حكايتها وتشاهدها. تحكي حكايات الآخرين، ويحكون عبر الصورة حكايتها. كل ذلك بسيل محموم من الصور المشغولة بالمونتاج لوجوه (لقطات مكبرة) في تعابير مختلفة من واقع العصر، ولصور عن الحروب والإعلانات، والترفيه، والسياحة والحروب.. أي صور تختزل مدارات عصرنا... انه النص البصري المصلت، الهاذي، المجنون، السريع، الصادم والمتصادم لكل ما يحيط بنا، من خصوصياتنا الى آخر حدث أو ظاهرة أو إنسان في العالم.
الصورة المعولمة؟ ربما! لكن ما يواجه هذه "الصناعة المعولمة" للصورة، حضور الإنسان على هامش هذه "الكائنات" الجديدة، والذي يحاول أن يوازيها: تتسلق الممثلة الشاشات الكبيرة، وتتمدد عليها، وتلتصق بها... وتدغدغها كأنما لتروضها، أو لتعلن خضوعها، أو اعترافها بها، عندما ننشر الزهور على هذه الشاشات تتبدد كلوحات تظهر الوجه "الوردي" للعالم. بل يبدو وكأن ثمة تماهياً بين هذا الحضور الإنساني (الصوت، الكتابة، الكلام، الغناء، الحركة، الصراخ..)، وبين انعكاس سلوكه على الشاشات، التي تنقل أحياناً ما يدور على الخشبة، لتكسر ثنائية الذاكرة والتذكر، أو الرؤية والبصر.
عمل مفرقع. جميل. بلا نص. ولا سياق. ولا تمثيل. ولا موضوع مركزاً. ولا تطور. ولا حتى إخراج (إلاّ إذا اعتبرنا عملية المونتاج إخراجاً ما). عمل يمكن أن يقال انه ما بعد حداثي. أي طغيان لغة الصورة ـ التلفزيونية (الكومبيوتر)، واللحظوية، والعالم الافتراضي، والإيقاعات المتسارعة.
المستقبل - الثلاثاء 28 أيلول 2004