(بطاقات مكابدة لوديع سعادة)

محمد العباس
(السعودية)

محمد عباسحين تخرق القاعدة يا وديع، تظهر الكتابة كقسوة، ذلك لأنك تستعمل لغة لم تكن منتظرة. كأنه بهذا المفهوم البنيوي - أي رولان بارت - يقرأ نصك المؤلب " لحظات ميتة " من مجموعتك " بسبب غيمة على الأرجح " حيث ينعدم الخط الفاصل بين ذاتك ولغتك، ففي خلفية الكلمة الأدبية، برأيه، تسكن فلسفة كاملة، وهو أمر أحسه يتحقق برهافة، وكثافة لغوية فيما تختزنه مفردة " الغيمة " من إيحاءات، أو ما تم التنويع عليه من تداعياتها، حيث اللذة النصية المنبثة من لغة غريزية كأنها الأنين، المنتجة بدورها لكتابة أشبه بالبيان الدرامي، إذ تعادل إنجازك النصي بمراودات العلاج النفسي، كما يوصي به باتاي كدواء مقوٍ للـ ( أنا ) المفجوعة بالفقد.

نوبة أخرى من نوبات إستدعاء الغائب تداهم نصك يا وديع، لتسقط تسلسلاته الأفقية، وتربك تداعيه الحر، فأنت لا تروي حكاية في سلاسة خيط لغوي، بقدر ما تبدد كلمات انفعالية تتوب عن الالتصاق بمضامينها، لتغرق في كثافة حسية " لماذا أتذكَّرُ أبي الآنَ؟ كنتُ طفلاً حين أوصلتُهُ إلى القبر. لكنَّهُمْ كانوا ينظرونَ إليَّ، وكان من اللياقةِ أن أشيخَ أمامهم ". أو هكذا تحتمي ذاتك بالنص. تلوذ به، وتسكنه كموضوع، فيما يشبه الإجراء الوقائي لحفظ الذات داخل اللغة وبها، مع تمنع متقصد عن إظهارها - أي ذاتك - بشكل فاقع، فهي ذات لغوية شفافة، مواربة، وممسوسة بحميمية الأثر اللفظي، أظنك تراعي بها لوعة الغياب، لئلا يكون فوق صوتك أي صوت آخر، قد يفقدك حميمية البوح وضماناته.

وكالعادة، لا تبدو مهموما بتجسيد الواقع، بقدر ما تسعى لمضاعفته باللغة، كما تنم عن ذلك تصويراتك الخاطفة " حينَ ودَّعتُهُ لآخرِ مرَّةٍ، كان ذلك على الشاطئ. ثُمَّ تصاعدَ من بيتنا دخانٌ كثيفٌ. والدخانُ كانت له رائحةُ لحمٍ محروق. وصارَ أبي هيكلاً عظميًّا أسود... صَعدْتُ وألقيتُ نظرةً أخيرةً على فحمِهِ، مضيتُ حاملاً وحدي حطبَ الحياة ". أو هكذا وجدت نفسك عاجزا عن استيعاب الحدث، والسيطرة على الواقع، فقررت القفز على نسق تمثيله، إلى اللعب برمزيته، والوقوع تحت وطأة أهواء ممضة، مردها ذاكرة مستبدة، حيث الماضي هو رافعتك وملاذك.

كأنك بهذا الإبهام البنيوي، القائم على سرد استذكاري، تعيد سيرة " اللحم المحروق " أو تنادم نفسك بها، داخل حياة تتخيل أنها مجرد " صديق صامت ". أو هذا ما يصلني منك عندما تتساءل " هل الحياة مريضة هكذا بسبب الأصوات؟ تمرض وتموت لأن البشر يتكلمون؟ " ففي استفهامك الخادر هذا قدرة صياغية على رفع الكلام العادي إلى مستوى الحيرات الوجودية، والإشكالات الفلسفية، بل هي نزعتك الأصيلة التي لا تتوب عنها لتعبئة كل مفردة بطاقة فلسفية تعكس وعيك ومزاجك الخاص حين يتعلق الأمر بالكتابة.

ليست مجردة تماما، بل حقيقية هي غيمتك، وناعمة أيضاً، تلك التي افتتحت بها نصك على إيقاع فلكي، مماهى بالخفي والغامض من إيقاعاتك الجوانية " إختفى الشعاعُ فجأةً. أعتقدُ أنَّ غيمةً تعبرُ فوقَ البيت. أشعَّةُ الشمسِ تختفي فقط لسببيْن: إمَّا يحْجُبُها الغيمُ أو يكونُ الوقتُ ليلاً. وبما أنَّ الآنَ صباح، الأرجحُ أنَّ غيمةً تعبرُ ". كأنك بهذه العتمة الداخلية الكثيفة يا وديع، لا تريد أن يطالك الزمن، ولا تقوى إلا على الارتداد إلى الوراء، أو السقوط العمودي في ذاتك، كما يفترض الشعر، ولكن دون أن تعطي ذاتك قوة توليد المعنى بمعزل عن اللغة التي تولّد هي الأخرى تداعياتها دون التفرد بمصدرية صوتك، لأنك مزيج شبه متعادل من هذه وتلك، أي الذات واللغة.

ولكنها - أي غيمتك - معادلة بدمعة متحجرة في داخلك. كأنك توازي سماء توشك أن تمطر بعين تكاد أن تدمع. سماء قد تبلل العالم بمطر رحيم، قبالتها وحيد يرثي ذاته بدمعة مؤجلة. هذه هي فطريتك في التصفيح الجمالي للأشياء، والتوليف الغريزي فيما بينها، وتلك هي طبيعة نصك في تغليف المعنى المؤكد بعبارات احتمالية رهيفة، ذات طابع إيجازي كثيف وغير جازم، يبدو الظاهر منه انعكاساً لمضمون مستتر، أو هكذا يتبدى نصك كنظام لغوي خالص ومنقطع عن مرجعية الواقعي، كأنما النصي، وليس الواقع، هو الأصل المتضمن للحقيقة الجوهرية.

نصك إذاً، يا وديع، ليس ضد اللغة وإنما هو لغة أخرى، يقوم على فرادة أسلوبية، انقطاعية، أشبه بالغنائية الموضوعية، حيث تشكل " الغيمة " محوره العمودي المضمر، كما يتصدى السرد التفصيلي لمهمة تعبئة الفراغات، وتوزيع العلامات المسكوكة بشاعرية، فاشية، أحيانا، إذ تقوم على تحشيد المفردات في بنى تكرارية تتقاطع مع ما تسميه جوليا كريستيفا من الوجهة اللغوية " العنف الإيجابي " الذي يستبطن علاقات ضمنية، تتحدد ليس بما تقتدر عليه، ولكن بما تفرضه، كما يبدو ذلك جارحاً ومغوياً عند التنويع على ثيمة الحذاء، خصوصا عندما قرنته بمكامن الشعور، وفي اتكائك الفطن على رهافة المكّون السّيري دائماً " أعتقدُ أنَّ هناكَ شَرْطًا للسعادة: أن يكونَ الحذاءُ الذي ترتديهِ جديدًا. لا أعرفُ أناسًا سُعداء بأحذيةٍ عتيقة ".

بمنتهى المسكنة الشعورية، ترتب خفتك الشعورية يا وديع. تعبث بشعرك لتستشعر صداقة العالم وجماله. تحدق في أصابع قدمك الملتوية لتستفز ذاكرة الركض والصخب وراء مجهول مخيف. تمرر إصبعك على البخار، وتلهو بدخان سيجارتك. تتمتم بانفعال عضوي ولهفة حسية دفينة " أنظرُ إلى أثاثِ الغرفةِ من غيرِ أن أتحرَّكَ من مكاني. نظرةٌ صغيرةٌ قد تجعلُ هذا الأثاثَ صديقي " فهكذا يقوم الشاعري فيك بهدم وبناء ذاتك، بما هي جملة من التأثيرات المستدعاة إلى النص عبر قرائنها، حيث تطل ذاتك اللا مرئية في فضاء نصي يستعرض تعدديته الرمزية كلغز، كما تستدعي الذات القارئة بصيغتها الحلولية لاستقبال الكلام ضمن عملية بنائية، تقوم على الإمساك بالعمل في عمقه، ولا تكتفي بأحادية دلالته.
هذا النص له جمالية خاصة تقوم على استدامة الجملة والشعور قدر الإمكان، وهو ما يفسر استشراء حجمه أيضا. أما أهمية تلقيه، بالنسبة لي، فلا تكمن في استيعاب التواتر الحدثي للحكاية، إنما في ملاحظة العلاقات الضمنية التي يتأسس بها، حتى معاييره البنيوية، يا وديع، تشير إلى لذة تتجاوز المعنى إلى علاقات لغوية غامضة. توليفات شكلية، ولعب بالمعاني ربما " لم أكن أعرفُ لماذا كانَ أبي ينهرُني عن عَدِّ النجوم. الآنَ أعرفُ أنَّ ذلكَ كانَ خوفًا من غيابِ أحدِ رفاقي. كان يعلمُ أنْ ليسَ كُلُّ الرفاقِ دائمًا سيحضرونَ، وأنَّ عددًا كبيرًا منهم لا بُدَّ يومًا سيغيب، وأنَّني سأنامُ، في تلكَ الخيمةِ العاليةِ المفتوحةِ للعراءِ، مرَّاتٍ عديدةً من دونِ رفيق. كان أبي بالتأكيدِ يعرفُ أعماقَ مشاعري، ويُحِبُّني فوقَ التَصَوُّر ". وهكذا يتصّعد الاعتيادي من الكلام إلى مستوى من التفلسف، لأن ما تقاربه من أشياء على درجة من التمادي وغير محدودة أصلا بسقف مادي أو شعوري، او ربما لأن هذا الحدث الفاجع استوجب منك هذا الإنفلات في الخيال، حتى أصبح لكل الكلام مشروعية التنصيص.
لأسباب عميقة ومعقدة شعوريا لا يمكن تقاسم البؤس مع أحد. هذه حقيقة انفعاليه صادمة. ولكنك فعلت، يا وديع، حتى التاريخ، أو سيرتك الذاتية أمكنك تفسيرها بفردتي حذاء مهترئ " وأنا لا أستطيعُ أن أنكرَ أنَّ أحذيةَ إخوتي كان لها تأثيرٌ كبيرٌ في حياتي: في حزني الباكرِ، وحزني اليومَ، وخجلي، وضعفي، وفشلي في الحُبِّ والحياة. ولا شكَّ كانت سببًا في هجري المدرسة، وتشرُّدي، ونومي على الطرقات، حتَّى في نحولِ جسدي وتوقُّفِ نُمُوِّ طولي، وفي جلوسي الآنَ وحيدًا في هذه الغرفةِ التي غابَ عنها الشعاعُ، بسببِ غيمةٍ على الأرجح، غيمةٍ قد تُمْطِرُ، وحينئذٍ أستطيعُ أن أقفَ على النافذةِ وأتأمَّلَ المطر ". أجل ، بقليل من اللغة والكثير من شاعرية المعنى انسردت يا وديع، وقذفت بلا وجل ولا احتراز علة احتباساتك الشعورية.
تلك هي هفوتك التراجيدية يا وديع، المتأتية من اعتناقك التوثيني للغة، والاستسلام لغواية سحرها الآسر، أو هو الخطأ الجمالي الجسيم الذي يحدث نتيجة الإيمان المفرط بها - أي اللغة - فكلمات الغائب الأثيرة لديك، التي تفتش عن آثارها " على المقاعدِ، في الخزانةِ، على الأسِرَّةِ، والجدار " هي الوهم الأكبر الذي قادك لمنادمة ذاتك، واستمطار السماء من غرفة نائية وغريبة، بروح نصف مضاءة، والكتابة على إيقاع غيمة عابرة " أنظرُ من النافذة. في السماءِ غيومٌ. أظنُّها ستُمْطِرُ ".

وعلى الأرجح أنك بكيت حينها.

m_alabbas@hotmail.com


إقرأ أيضاً: