يحيك خيبته مناديلاً:
"يحيك خيبتَهُ مَناديلاً" هكذا جاء عنوانُ القصيدة الثالثة من ديوان "الغزالة تشرب صورتها" للشاعر السعودي المتميز علي الحازمي. ومجاراةً لتأملاتِ وملاحقاتِ الأسلوبيّ البنيوي نشرعُ، تالياً، في استنهاض الكامنِ من الدلالات في عنوانِ الثالثة؛ انطلاقاً من البحثِ في الجزء عن الدلالة الكبرى. إذاً، فالحال أنّ مناديلاً يحيكُ المُستَتِرُ - في زيّ الضمير الغائبِ- خيبتَه. وقد سَمَحَ الشاعرُ للحالِ بصرفِ حالهِ إلى تنوين الفتح. ولعمري هذا حلالُ شاعرٍ، وتجلٍّ في الحال. ونحنُ في بداياتِ الغوصِ والملاحقةِ -الآنَ- نُلحِقُ عنوانَ ديوانِ الشاعرِ الثاني السابق" خُسران"، بما هو مشير وجاملٌ للمعنى، نُلحقُهُ في الكلمة الثالثة من عنوان القصيدة الثالثة في ديوانِه الثالث هدف قراءتنا الآن.
وإننا لنرى، في عنوان القصيدة الثالثةِ، للخيبة نقيضاً في فعل الحياكة، إذ الحياكة في أحوالها الفضيلة دليلٌ على العمران والالتئام- إذا كانَ الهدفُ جرحاً، مثلاً. لكنِ الهدفُ "خيبته". فهي، إذاً، تَحمِلُ في طويتها إمكانيةَ التمزّقِ الغائبِ في حضور الفعلِ "يحيك"، والحاضر كإمكانية، ربما، تتحقّق للمناديلِ وفيها. وفي الجُمْلةِ: فإنّ المناديلَ مادةٌ قابلة لمصائر وتصاريف من قبيل النسج، التمزّق، التلويح، وتشرّبِ ماء العيونِ؛ ذلكَ أن ما تفرِزُه التجربةُ الشخصية والجماليةِ من عناصرَ وتسرّباتٍ لطبائعَ وعلاقاتٍ تستوطن أوّل ما تستوطن خارجةً من الذات الشاعرة إلى بياضٍ جميلٍ- بالأحرى: إلى مناديلَ. بوصفِ الأخيرة آثاراً مُنتجَةً وحاملةً لآثارٍ، ومحفوفةً بالغناء وبالتلويح الفضيلينِ الجماليين، وموزّعةً عليهِ إلى الجهاتِ على الصدى والريح. هي، بالأحرى، القصائدُ تلويحاتُ شاعرٍ ينأى بالحياكة، بالعمران الجماليّ الغنائيّ - عن ما يهتكه الحاضر المريض- إلى آخر الذاكرة، إلى الأوّلِ الفضيل، أو المنتصفِ التوازنيّ العادلِ واللاغي، في آنٍ، للمشادّات التقليدية العَصْريّة بين المركز والطرف والمحيط.
الغزالة ريشُ القصيدة حين تحط طواعية
فوق شال الكلام
وتنأى إلى آخر الذاكرةْ(ص40)
الغزالة صفر البداية، خيط رهيف
يشد إلينا الجهاتِ...
لنبقى بمنتصف الدائرة(ص42)
وإذاً، فالشاعرُ يحيك تجربته في قصائد تتجلّى، تجيدُ الاعترافَ، ورسمَ المسار الجماليّ، عكسَ هذا الحاضر القبيح، بالغناءِ من صورة الماضي الفضيل لصورة الماضي نفسه.
الغزالة تشرب صورتها:
إنّ وُصُولَنا -الآن- إلى الصورة يقتضي منا القراءةَ في الدلالة الكبرى للخطاب الجماليّ الكامن في العنوانِ؛ لكنِ الكلّيّ هذه المرّة: "الغزالة تشربُ صورتها". بوصفِ "الغزالة أنثى المجازِ"، جزئية من كلية. أو بوصفها الطبيعة الأولى الجاملة لمكوناتها الجماليّة الحيّة الطبيعية والفنية الناضجة النقية، القريبة من نفسها:
الغزالة حرية الأقاصي، أنثى المجاز
جناح المخيلة، شمس فضاءتنا النادرةْ (ص42)
إنّ القصيدة حين تولدُ
بعد ليلكِ لا تكون قريبة من نفسها
تحتاج وقتاً كافياً للنضج
فوق لهيب ماضينا وفضة نارها. (ص53)
ولنكشف عن ألقِ الكلامِ أكثر بالقول: إنّ الشاعرَ يتغزّل بالغزالة الأولى في قصائدَ تغنّي نفسها، وتشرب صورتها العذبةَ بثقة، وباعتزازٍ، وبامتلاءٍ بالمضمون الجماليّ وبتوقٍ عائدٍ إليه. وقد صدق الناقد والشاعر عبد العزيز المقالح في شهادته على تجربة الشاعر وقتَ قالَ: " شعرُ علي الحازمي كصاحبهِ مُعتَزّ بنفسهِ ولا يُصفّق إلا للشعر وحدَه.. وأنه يَعيشُ حلقاتِ عزلتهِ المضيئة في ألقٍ عَذْبٍ يليقُ بالقصيدة ".
الغزالةُ توق الحياة إلى نفسها
خصر الجمال تروّضه النغمة الثائرةْ
الغزالة حينّ تعبّ عذوبة سحنتها
في الينابيع تفتح في جسد الماء
جرحاً شفيفاً
تهدهده النسمة العابرةْ
الغزالة ريش القصيدة حين تحطّ طواعيةً
فوق شال الكلامِ
وتنأى إلى لآخر الذاكرة
الغزالة درب النبيذ المعتّق حين يسير
إلى نفسه أو يفيض على ضفة الليل
من جرّة عامرةْ(42)
إذاً، فـ"الغزالة تشرب صورتها" في /و/ من مرآة الماضي الفضيلِ الحاضرِ في المخيّلة والذاكرة، بما ينطوي عليه ذلك من نشاطٍ دلاليّ لحاستيِّ التذوّق والبصر المشيرتان إلى العذوبة وجمال الصورة الطبيعية النقية المباشرة؛ وهو ما يحيل، على وظائف الأصول العُضوية في الكائن: كاللسانِ والعين. وما نقرأه من تبادل للأدوار بينهما بشأن شربِ العينِ الصورةَ وإزاحة دورها الاعتيادي، وما تحققه الإزاحةُ من غرابة في الفنّ؛ كونَ أنّ القارئ أمام غزالة تشرب صورتها بعينها في ومن المرآة.
وليكن الأمر كذلك، كون أنّ الصورة تُوحِي بالحياة الأصيلة الحرّة من التدخل الآدمي السافر. وكونها تحقّق، في الوقت ذاته، غرابة الصورة الفنّية الجمالية المتصالحة مع تغريبِ ولا مفهمة الفنّ. وهو ما يعني التقاطع مع رؤية أنصار الطبيعة الرومانتيكيين، دعاة الفنّ للفنّ، المثاليين الجماليين.
الغزالة أرض ضرورية للتصالح
بين خصوم الطبيعة والبشر الطيبين(ص42)
غصنٌ وحيدٌ للغناء:
نلاحظ في الديوان أنّ الدالّاتِ الصوتية وهي تتكرّر في القصائد تتكرّر معها مقربةُ مفرداتِ الخضرة والحياة من قبيل: الغصنِ، العشب، الحقول.. وما إلى ذلك. وبالتالي اقترابُ هذه القرابات من العلامة الكبرى بالإشارة والإيحاء. من جانبٍ مُرَافق فإن وجودَ الغصن في جوارِ الدالّة الصوتية - كما في قصيدة "غصنٌ وحيدٌ للغناء" - يحيل على سِحْرِ الناي المتخفّي في تركيبة العنوان، والمَحْكِيّ بلسانٍ صوفيٍّ شاطحٍ يرى في أصلِ الناي(لاحظوا المفارقة: لقد جعلت، في التو، للسان عيناً يرى فيها، وكان الشاعر قد جعل للغزالة عيناً تشربُ!) أنّه غُصنٌ قُطع من أمومتهِ الشجرة، فظلّ يُعبّر بأنّاته الحزينة عن تشوّف وتوق الجزءِ للعودة والاتحاد في الأصل. وعلى أية حالٍ، فإنّ الصوت الفيزيقي الظاهريّ الذي يَصدرُ من الناي، بالنفخِ فيه، يحمل في باطنه صوتاً ميتافيزيقيّاً يتوسّمَ ترجمةَ الروح. أو الكون فيه عبرهِ. بمعنى آخرٍ طيّبٍ: فإن صاحب الناي يحاكي، بالنفخ، اللهَ. أو يتوحد فيه، بفعل الناي خالقِ حالاتِ العودة، والتوحّدِ في الطبيعة.
هناك في شجرٍ قطعنا ظلَّه
غصن وحيد للغناء.. (ص30)
وليس لنا من خيار أخير
سوى أن تخبئ في جسد جسدين
فلا بد لي أن أكونكِ أنتِ
ولا بد من أن تكوني... أنا(ص15)
انقطاع الظلّ:
لنذاكر، بتوسّع، في جملةِ المكان الشعرية لدى الحازمي(هناكَ في شجرٍ قطعنا ظلّه غصن وحيدٌ للغناءِ) ولنبين أوجهَ الاتفاق والمفارقة، إذاً، بين جملته السابقة الآن واللاحقة تاريخياً لجملة لمحمود درويش القادمة الآن، والتي قرأناها سابقاً والآن في ديوانه "حالة حصار":
هنا عند منحدرات التلال،
أمام الغروب وفوهة الوقت
قرب بساتين مقطوعة الظل،
نفعل ما يفعل السجناءُ،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نربّي الأمل !
فبوضع الشاهدين في موضع المقارنة نجد التالي:
- أنّ جملتي الشاعرين حاضرتان بوضوح في سياق ظرفي واحد هو (المكان)، لكن ينقسم هذا السياقُ الظرفي إلى طرفين، فيحيلُ الانقسامُ على الزمان غير الملفوظ في جملة الحازمي تحديداً، والمنقسم في الجملتين إلى طرفين كذلك: "هُناكَ" البعيد (المكان + الزمان الفضيلين) القريب في المخيّلة والذاكرة عند الحازمي؛ "هُنا" القريبِ(المكان + الزمان الرذيلين) في الحاضر الواقعي المعاش، البعيد في الأمل، عند درويش.
فالمكان حاضرٌ مباشرةً في جملة الحازمي في العلاقة بين "هناك" و " في شجر". أما الزمان فحاضرُ ضمنا في "هناك". والجملة كلها مُحالة، بواسطة غنائية الحازمي للبعيد، على الزمان. أما في شاهد درويش فالمكان والزمان يحضران علانية، ويتضافران، علناً، في توضيح صورة الحاضر القريب الذي يعالجه الشاعر بإرادة جسور تربّي الأمل في المستقبل.
- أنّ جُملتي الشاعرين تختلفان دلالياً وإشارياً بشأن الكامن وراء المعنى الواحد لقطع الظلّ. فالحازمي يشير إلى الوضوح والاقتراب من حقيقة الطبيعة الأولى الهادئة العادلة المتوازنة السالمة الجمال من الغموض والتعقيد والبريئة من التدخل البشريّ، بينما يشير درويش إلى الوضوح والاقتراب وملامسة حقيقة الواقع المتوتر الجائر المريض بالتعقيد والتأزّم وقسوة "الآخر" العدواني على الـ"أنا" وجمال الطبيعة الفلسطينية من حقول وبساتين وغير ذلكَ، في حالةِ حصاره. هذا يحدث، إذاً، هنا عند منحدرات التلال، أمام الغروبِ، وفوّهة وقتِ الكهرباء، وانقطاع الظلّ!
- الفاعلُ في الجملة الظرفية "هناك في شجر قطعنا ظلّه" يتمثل في اقتراب واتصال ثنائي متّحدٍ في الضمير المتصل(نا) بالفعل. هذا الاتصال والاتحادِ يشير إلى التجلي في الطبيعة وانقطاع الظلّ منها. أما الفاعلُ في جملة المكانِ "قرب بساتين مقطوعة الظلّ" فمحالٌ على "آخر" يُمارسُ في، انقطاع الظلّ، تقطيعَ التواصل و يحول دون اتحاد البساتين بأهلها علانية، وهو ما يعبّر عن رذالة الفاعل!
الصوت والظلّ:
رأينا كيف أنّ الصورةَ تشيرُ إلى الحياة انطلاقاً من قيام الفم/اللسان بدوره الوظيفيّ: شرب/ تذوّق الصورة المرئية في الماء/المرآة النقية. فأنْ تَشْرَب الغزالةُ صورتها يعني أنْ تغنّي حياتها الأولى الفاضلة الكاملة في المخيلة والذاكرة.
تحمل، إذاً العلامةُ الكبرى حنينَ الحواسّ للأصول والمصادر الأصيلة وإعادة الاعتبار للسانِ الكائنِ الطبيعي للقيام بدوره الصوتي الصادر من نفوسٍ حية وزكية. وعليه، يربط الصوت في شعر على الحازمي بالعودة إلى الطبيعة الأولى. فيما يرتبط الظلّ بالإقامة في الحاضرِ الآني. وبموجب ذلك يرسم الشاعر بالنصوص اتجاهاً غنائياً متزوداً بالحنينِ لحياةٍ سالمة، حيث العيش في اليقين والملامسة الحية للطبيعة بوصفها ذات ومرآة الحقيقة المعاشة الواضحة.
إنّ ارتباط الصوت بالنوستالجيا لدى الشاعر يُحيلُ على مفاضلة الفلاسفة الأوائل للكلام على الظلّ باعتبار الظلّ أثراً وباعتبار الأثر كتابةً تحيل إلى أكبر قدر من تعدّد الدلالات بقصد تشتيت وإعاقة تجلّى الحقيقة. بالشواهد، إذاً، نتتبّع، في قصائد الشاعر، ارتباطَ السعى في اتجاه ماضٍ صحيح بالصوتِ، في مقابل الهروب من آثار الحاضر المريض بالظلّ والضباب المعيقين:
لم نختلف عن أمس غربتنا كثيراً
بل تغيّر صوتنا في الظلّ مذ نبت الكلام
على حواف الصمتِ
في دمنا المجفف بالسؤال(ص27)
عودي إلى شمس البدايات التي
كانت تربي صوتنا
حبقاً على ريش الحقول..(ص29)
لم نكن واضحين كما ينبغي
للفراش بأن يتهافت في ظلنا
كان صوتكِ أقربَ
للعشب من نفسه
حين ينداح بين صفوف النخيل
وينأى على ضحكة فاتنةْ(ص31)
لم نعد بعد هذا الضباب المطلّ
على شدونا راغبين بشيء من العمر
غير اتساع المواويل
بين كفوف الصدى.ص(35)
وتتضمّن هذه الرابطة الحنينية بين الصوت والطبيعة أصواتاً طبيعية حية كـ (الهديل ، الأناشيد، الكلام المباشر، المواويل، الصهيل، أصوات وصدى الكائنات الصغيرة ..، وما إلى ذلك) بوصفها أصواتاً تُعبّر، من تلقاء ذاتها، عن الحقيقة، وتقترب من مصادرها.
حين ولدنا
كما العشب بين صخور التلال القريبة
كنا قريبين من سرنا
قاب قوسين من منتهى الأغنيات
التي يأسر النايُ غربتها في أنين القصب
كان طفلُ هوانا ندى وشذا ممكنا (ص11)
هذا الخطاب تتجلّى جماليته في قصائد الشاعر، السعودي المتميّز علي الحازمي، الجديدة. التي تستمدّ حيويتها وروعتها من الغنائية المنسابة في اللغة، في الوقت الذي هي تستمد ذلك من قدرتها على التأليف والتصالح مع الطبيعة، الذهاب فيها على "جناح المخيلة" والاتحاد فيها. في لحظة بقاء الشاعر على قدرةِ مماهاة الشكل بالمضمون الذي هو: الإعلاء من شأن الصوتِ على الظلّ بقدرة نوستالجية مُعزّزة بمزيد من الشعرِ الحيّ.
naser_j79@hotmail.com
20/2/2005
* صدر الديوان عن المركز الثقافي العربي بالمغرب مؤخراً.