لقد غدا متعارفاً عليه أنّ "لن" الولدُ المنشقّ الأوّلُ للشاعر أنسي الحاج. وقدْ مَهّدَ لميلاده بمقدمة شهيرة تَحَمّلَتْ بخطابِ الإزاحة، ومناهضة الجاهز؛ بطريق إبدال سلطة النص المركزية، بسلطة نصّ استثنائي خارجيّ عشوائي زائغ لا يحتكم لبنية أو صورة قديمة. وقد أتّخذَ هذا الاستثنائي الوحشيّ منطلقَاً شيّعَ الفتنةَ في الأصول، وحَرّضَ على التجريب في معملِ الشعرية العصريّ؛ إذ شكلّت "لن" -المُبجّلة- منزعاً حداثياً عنيَ بتغريب وتوتير الذائقة وتدريبها على تَقبّل الإزاحة المباغتة والعنيفة، بغيةً تجاوز الماثل. فكانَ أنسي الحاج، إذاً، جليلاً وراديكالياً في سعيه لخلْق التحوّل، بوصف، هذا العمل، تحريراً، وصياغة مستقبل. الآن، بإحداث قفزةٍ قرائية من "لن" 1960 إلى "الوليمة" 1994، فإننا نجد- بعد تخصيصنا النظر في قصيدةٍ حَمَلَها عنوانُ المجموعة- أنّ "الوليمة" تحفلُ باللافت؛ نظراً لإقامة الشعر، على المائدة، في لغةٍ قريبة، مَهضومة، وعميقة في بساطة صوتها. إذ تظهرُ صورةُ الشاعر الفردية والشعرية عفويةً أنيسةً، متخفّفةً من حشود توتّرات ومجازاتِ وخياناتٍ أخرى، بكلام ممتلئ صادر عن ذات أو أنا محتاجة للقرابة -أكثرَ، لا أقلّ-من فرديتها. وإن لم يكن للشاعر تحقيقُ القرابة عينها، فهو بغصّتهِ، ينشدُ المقاربة مع صوته الفردي، من باب الرغبة الصادقة في التشابه مع كلامه، بوصف، الكلام الممتلئ يتكشّف عن أو- تملأُه- حقيقة الحرية و حرية الحقيقة:
ما لي ولهذا الكلام
بعضه يشبههم! يشبهكم!..
حماقة تُخوّنني نفسي
مجاملة تُهَوِّرُني فأجنح.
لست معكم
لا تدخلوني!
أنا محتاج أن يشبهني كلامي
دائما، بلا تسامح.
أريد رأسي!...
وسأحتفظ به!...
وبغصتي هذه
حيث أنا
وحيث أرى الجميع كما هُم، ومرارتي أكبر منهم.
فهنا، تُقيم الإشارة، إلى الكلام الممتلئ، قرابةً وطيدةً مع جاك لاكان، وقد "أقام تميّزاً بين كلام ممتلئ ينتمي إلى الذات، وكلامٍ فارغٍ يَصدر عن الأنا، وينتمي إلى مجال الخياليّ". أو بصياغةٍ ثنائية منّا: فإن خبط عشوائية أو طقوسية وحُلُمية وحماقات "لن" -مثلاً- تقفُ في مقابل زكاوة وعفويّة "الوليمة". إذ يكون للعفويّة أن تنطوي على الطبع والسجيّة، في مقابل إقصائها للتطبّع بالظلال والتمنّع. ويكونُ للعفوية التمثّلُ بحقيقة الذات، وهي تكشفُ أبعاد النفس التي تظلل أو تضاء بخيال عظيمٍ أو "حماقة تُخوّنُ النفسَ". وقد عنيت ذاتُ الشاعر بإظهار التفرقة بين المجاز والحقيقة، أو كما ورد في القصيدة بين " شعر" و "عفوية"، حيث تكشفُ التبدّلاتُ بين الشعر والعفوية - لاحقاً- امتثال المكان دون تجاوز زمنه، فهو جائع إلى الأمام:
كان شعر ولم يكن عفوية
وكان عفويةً ولم يكن شعر
وكان الشعر والعفوية فظلّ مكانٌ
مكانٌ إلى الأمام
جائعٌ
جائعٌ تسمعون جائع.
ذلك أن الأوّل-شِعر- جديرٌ بالحُلُميّة والخيالِ والعشوائية، وهو ما تبنّاه نيتشه، في بيانه لفائدة الشعر، من أنه خيال محض، عبرَه تتجاوزُ الذاتُ موضوعها. وهذا ينقلنا إلى "لن"، وقد أراد أنسي الحاج عبرَها إحداث النقلة الفتية بطريق الشعرية، من الماضي إلى المستقبل، حيث على الذات الفردية أن تتجاوز موضوعها- بيئة الأنساق الماثلة. أما الثانية -العفويّة- فجديرةٌ بإحضار رأي هايدغر في الشعر: من أنه يقدّم حقيقة. أو بعبارة أخرى، فإنّ هايدغر يضع هو الآخر تفرقةً بين " كلامٍ يفصح عن فهم الكينونة في العالم وبين كلام تافه لا يعدو أن يكون ثرثرة اجتماعية، والكلام الفارغ، هنا، هو شيءٌ يقوم المُحلّل بتأويله وليس بالاستجابة لمحتواه". وبكلامٍ يفصح عن فهم الكينونة يتكلم أنسي الحاج عن "الحب" كما لو أنه حصل عليه من النزعة النيتشوية المتمثلة في "حبّ المصير" عند نيتشه:
وَتقدَّمتُ
لا للشعر ولا للعفوية ولا لأجلكم
تقدمت لأني في الحب!
وأصبحت الطعام
أصبحت طعام الحب
أكلني
حناناً شفقةً
نشوةً غيرةً
شكّاً ندماً
افتراساً انصلاباً
غباوةً تنازلاً
خوفاً قهراً
فشلاً غربةً
من كتفي وعينيّ وقلبي ومن أسناني
وجعل في رأسي خلخال العذاب
جعل رأسي يدور ويرن بين يدي ويرن بلا يدي ويرنّ
بلا وقت
لأني أهديتُ حتى النهاية وتقدمت بعد النهاية.
فهو، أنسي "لا يفصل فصلاً أخلاقيًّا عدائيًّا بين الخير والشر"(النهار،الأحد 23/1/1983)، وهو نيتشه يرى في "حب المصير" موقفاً، يجب أن يتبناه الإنسان في الحياة، ذلك أن الإنسان كاملٌ بتناقضاته الخير والشر معاً. وهنا يجب ألا يفوتنا أن نذكر قصيدة شهيرة لـ بودلير بعنوان " المدمر لنفسه " رأي كثيرون أنها اكتسبت شهرتها من هذا الغناء:
أنا الجرح والسكين
أنا اللطمة والخــــد
أنا الأعضاء والمبضع
والضحية والجلاد
ومن مقولات نيتشه أيضا "صيغتي التي اتخذتها تعبيراً عن عظمة الإنسان هي : حب المصير، أعني ألا يحبّ المرء شيئاً، لا إلى الأمام ولا إلى الوراء، على طول الأبدية". وهو ربما ما انفتح عليه أنسي الحاج بوصفه للعلاقة بينه وبين المسيح، إذ يقول "علاقتي بالمسيح علاقة شخصية، حرة، علاقة إثم وحماية، علاقة paranoïa"(النهار، السابق)، ولأنسي هذا الغناء:
لم أقل يوما تماماً ما هو الحبّ لي
وما هي الحياةُ
أنا السطحي باطني جدّاً
أنا المحبّ كاره عميق
أنا الشاعر لست شاعراً
إنّ الذي يتجلّى لنا، حقيقةً، في "الوليمة" هو أن أنسي الحاج يفصح، بشكل أو بآخر، عن وجود ضحيّة، هي بمثابة حقيقة، لها ثلاثة وجوه: الشعر، الشاعر، المتلقي= الحقيقة، الذات الفردية، الآخر. فلقد طردت لغة "لن" جمهوراً ودشنت متاهاتٍ وانتخبت قلةً تحملتْ، بدورها، عبءَ هرمنيوطيقا الظلال والرموز والأشكال. وها هي لغة "الوليمة" تردّ الاعتبار للجمهور؛ فتلْكُمُ القلّة التائهة في خبطِ المجاز.
تريدون شعراً؟
ومتى كان الشاعر يكتب شعرا؟
تريدونه في سره، في تأليفه؟
تريدون تلك الظلال، وذلك التجديد، وتريدون الرموز
والأشكال؟
والموسيقى؟
والصور؟
اذهبوا! أخرجوا من هذه الغرفة.
كما أنّ للذاتِ الفردية" صوتاً عبرَه، طردٌ للآخر بأنواعه: "اذهبوا! أخرجوا من هذه الغرفة"، والخلاص برأسه، فالشاعر بحاجة لإفراغ الغرفة من واو الجماعة، وبلبلة المجاز. أو بنحو تفصيلي مُعاد، إجلاء الذات/الرأس من كل ما لا يخلقُ المصالحة مع العالم/الموضوع، الذي يحشد أشياءه في الخارج من الرموز، الظلال، الأشكال، الموسيقى، والصور. ولقد عبّر الشاعر، في حوارٍ، بقوله " لا بدَّ لي من أن أظل أؤمن بيوم يأتي، يصبح فيه العالمُ الذي يعيش داخل رأسي هو نفسه العالم الذي أستطيع أن أعيشه في الواقع اليومي"(النهار، السابق). إنّنا نستمع من خلال "الوليمة" إلى دعوةٍ تلحّ على تغيير أثاث الغرفة، الكلمة، التي يريدها أن تُغيّر وتعيد التأثيث بالحقيقة، والاقتراب من ذلك، في مسعىً تصحيحي: فنّي لملامسة الشعر، وفردي للعيش في العزلة والفراغ النقي الواضح، بعيداً عن ضلالِ وخيانة الضوء:
ضوء القمر يلمع ليضلل الباحثين عن فحوى ظلامه
وظلام القمر جزء ضائع في ظلام الله
لا تبحثوا عني في كلمة.
ولستُ في شيء
أحرقوا هذه الكتب!
خيانة.. خيانة..ليس شيء
لقد تقدمتُ مفتوح الحواسّ
وشربتُ الليل
أنا هو أنا
من يناديني
من أنتم؟
أنسي الحاج الذي يتمسك بالعزلة والصمتِ كخيارٍ فاصلٍ للذات عن الأنا الاجتماعية في فضائها الأدبي، أو أنا المشهد الشعري على نحو من التخصيص؛ إنما تتوفر، في خياره، هذا، ضمنيةُ التكفير مسوّغةً بالتوجّه للإفلات من متاهةٍ يشترك الشاعر مع غيره في ذنب حبس الوحش- الشعر فيها. فأنسي الحاج هو مُهندس شهير كان قد صنع المتاهةَ. الآن -يفلتُ منها، في الوقت الذي يتورّط في خدعتها وضلالها وطيش هواها الشبابُ من كتاب قصيدة النثر. وإن أنسي الحاج، في ضوء ذلك، يشبه "دادالوس" ذلك المهندس الإغريقي الذي يقال أنه صمم المتاهة الشهيرة التي حبس فيها الوحش الخرافي (المينوطاوروس) الذي كان نصفه إنساناً والنصف الآخر ثوراً، وظلت أثينا تقدّم له القرابين من الشباب حتى قتله "ثيسيوس". وقد أمرَ الملكُ "مينوس" بحبس المهندس المسكين في هذه المتاهة، ولكنه استطاع أن يفلتَ منها، وينجو، بعد أن صَنعَ لنفسه جناحين من الشمع والريش ساعداه على الطيران".
أنا في غصتي هذه
ولن أرتبها في كلمات
لأن حقيقتي أصْغَر أو أكبر
لكنها ليست حيواناً في حديقة اللغة
فلا فنّ يَعشقُ ما فيَّ
ولا كائن يُجديني أن يَعرف.
أغلقوا عليّ الباب
سيظلّ بيني وبينه فاصلُ كلمة
ولن أقولها لأفتحه.
سأختنق
فهذا هو الأفضل
هذا هو الشعر
والجواب
والوحش الذي لا يعيش
إلا على الطريق التي سيسلكها
كل من يختنق فيما بعد
عوض أن يختنق وينجو
قَبْل أنْ يُولَد!