وليد هرمز

وليد هرمز1

ستونَ تمًّا، بمِحفَّاتٍ من خديعةِ السماوات تعبرُ غيوم النِّسْيان؛
تعبرُ الأرخبيلات الصامتة؛
تعبرُ سواحلَ الألم إلى سواحلِ الألم.

ستون تمًّا خُرسانَ ستُخطئ عُمري، ربما،
بعد عام.
ستُخطئ ظلِّي الصَّالِحَ لخِذْلانِ الشَّمسِ.
ستُخطئ عدَّ شروخي الذابلةِ،
كلذائِذ الخريف.

سيَّانَ عندي إنْ أخطأت، مرَّةً
أو ثانيةً ستُخطئ.

2

ستون تمًّا، على سِماطٍ واحدٍ،
بقلوبٍ تلهثُ من حصار العضَل.
وريشٌ يزدَردُ ألمهُ ويسفحُ طريقاً
مغسولاً بنديفِ الغيم النقي.

صبَّحكِ الله بالخير، ياطارقاتِ النجمِ.
مسَّاكِ الله بالخير، ياطيورَ التَّمِّ.

ياذاكرة القصب عند حافات المَصَبِّ.
والنهرُ في غيبوبةٍ،
ياأصابعَ من قصب،
نسيتْ أسماءَها الخمسة.

الذاكرةُ شُبهةٌ

1ـ التِّمَّ : طير، هو الأوز العراقي طائر مائي كبير عنقه طويل يصدر نداءً كصوت النَّفير ويذكر في الأشعار وفي الأساطير، فيقال إنه يغني مرة واحدة في حياته ومرة أخرى حين يموت.

إن سكان بلاد الرافدين كانوا يتكهنون بالطيور فقد استخدموا من طريقة طيرانها وسلوكها هذا الرمز للتعبير عن مفهوم المصير.

3

لاقصب هنا، أيها التَّمُّ.
ياذاكرتي التي أنكرتني.
صباحي، هنا،
ملغَّمٌ بثلجٍ يكره الملح.
ويكرهُ القيَّافين المشرَّدينَ في الليلِ.
مسائي، هنا، بلا أصابع ترتجف حين يحل كانون الثالث.
مساءٌ فائضٌ من الأصابع الغريبة.
أصابعُ
يُدغدِغُ بعضها بعضاً،
ويُطَقطِقُ بعضها بعضاً،
ويُراقب بعضُها أظافَرَ بعضٍ.

بلا أكفِّ تُلوِّحُ لكم مخافةَ الإغراء.
لاتحُطِّي. لاتَمْتثلي:
العبورُ العبثُ رحيلٌ عبثٌ.

الإغراءُ شُبهةٌ

4

أنا الوصيُّ على خيالِ الهواءِ وشقيقته الريح.
ربَّما أقودُ المُهجَّرينَ من أرض المراثي ـ عشبِ السَّواد ـ إلى حتفي.
رهينٌ، بكاملِ جنوني إلى زهرةٍ لم تتفتح بعدُ،
وعطرها منذورٌ للصمتِ، بعدُ.
فياترابُ السَّواد اتبَعْني.

العُشبُ فكرةٌ،
العشبُ شَعرُ التُّراب.
فياترابُ اتبَعْني:
سأمسحُ عن وجهكَ غبارَ العواصف،
وأُنسيكَ المجازرَ التي وطأتكَ،
وأُنسيكَ صواعِقَ الغرباءَ بأسلحتهم وهرطقاتهم.
سأُمسِّدُ شعركَ بزيتِ اليقطينِ وأُلبِسُكَ قميص حبيبتي الفيروزيَّ؛
قميصها الذي خاطتهُ أناملُ جذوركَ.
وأحلجُ لها بدلاً منه رماد الكتَّان من جبل "بَعْشيقة".

الخيالُ شُبْهةٌ

5

في هذا الخِتامِ القارصِ،
عقاعقُ تصنعُ الخيانات.
تنقرُ الكرز الناضجَ المتساقط من شجر أصابعي،
وتذرقُ على أشجار المغيب.

تبتَسِمُ النادلِةُ الشقراءُ بمريولها الأسودِ في مقهى "سلوتسكوكن".
تُناولني كأسَ النبيذ، وتقول:
ـ احذر العقاعق.

6

ستونَ تمَّا خُرسانَ، بصفيرٍ خافتٍ، تميلُ نحو انكِساري.
تُشبه غفلتي.
تُشبهُ شهواتي المتأخرة ستونَ عصفاً.
تُشبه إخوتي الذين لايشبهونَ أبي.
تُشبه أخواتي اللواتي يَشبهنني.
تُشبه قَلَقَ ابنتي التي تشبهُني.
تُشبه ثرثرتي في الفجرِ الأخرس.
تُشبه أشْباحي التي اطمأنَّت إلى النسيان.
تُشبه انكِسارَ أبي ذاهباً إلى النهايةِ بلا ضجيجٍ.
تُشبه عزلةَ أمي بجبال الرَّنة.
تُشبه خساراتي التي بلا ذنوب.
تُشبه ارتباكي المتعثر بنظرات عشيقةٍ بيضاءَ كملاءة ظلٍّ.

الشَّبهُ، شُبْهةٌ.

7

هُم الحاملونَ رمادَ ريشهم في مجمرةٍ من شغافِ قلوبهم
يرتجفونَ صُحبةَ أدلاَّءَ يبيعونَ المُجازفات بقلوبٍ ميتةٍ.
قيَّافونَ، أدِلاَّءُ،
بخرائطَ من هواتفَ نقَّالة.

مُهجَّرون.
مَنْ يصلَ، يصِلْ،
ومن يرتبكَ في مسالكِ التهريبِ،
أخيراً، يصل.

يُصنَّفون في المُقام الأبدي حسبَ وثائِقِ الميلاد.
يصنفونَ بالأرقام احتيالاً على الأسماء.

سيكتفونَ.
لايتكيَّفون.
سيتبادلونَ الأفأفةَ:
جنَّةٌ، بلا ناس، لاتُداسْ.

الجنَّةُ شُبهةٌ

8

صبَّحكِ الله بالخير، يانواطيرَ الطَّميَ.
مسَّاكِ الله بالخير، ياطيورَ التمِّ.

الستون تمًّا، تعود.
الستون تمَّا، تُعاودُ الهجران.
يأخذون بقايا خذلان العمر إلى الهاوية.

سيدوِّنون في دفاترِ الرَّمل:

الخُذْلانُ شُبْهةٌ

9

النادلةُ الشقراء، بأظافرها البللور، في "سلوتسكوكن"
تُقشِّرُ عَرقَ النبيذ عن ظاهر كأسي،
تُدَمْدمُ:
ارْفعِ الشَّهوات عالياً،
تَمَزمَزْ بحليب الفستق.

"سلوتسكوكن": بارك مشهور في غوتنبورغ

10

مثلومو الأرواح في جنَّةٍ من نسْيانٍ يجهشون وراءَ بوَّابات الحُزن الضائع.
يتبرَّمُ نشيجهم من خطايا هجراتهم، وتهتبِلُ هيبتهُم عزلةً بعدَ عُزلة.
يتعقَّبونَ أقدارهم سطوراً متعرجة كالمحفورة في راحة أيديهم .
سطورٌ مُجفَّفةٌ كحبالٍ مُجففة. سطورٌ مثلومةٌ تليقُ بقدرهم المثلومُ .
ماالذي يرسمه القدَرُ لأسراه؛ لغدٍ نسي ماضيه في شهوة النسيانِ؟.

شهوةٌ مُجففةٌ،
شهوةٌ مهشَّمةٌ.
شهوةٌ فجورٌ.

لاغد يوقظُ النسيانَ من رقادهِ، هو غدٌ.

هل ينسون؟.

النسيانُ شُبهةٌ

11

هذا الرمادُ، الرَّملُ ـ مذبحةُ الحجرِ المتساقطُ من حَرْقةِ العَماء،
الناطقُ بلسانٍ ثقيلٍ، يجرُّ الحروفَ رملاً مبلَّلاً بغسق غيْبٍ
تنبَّأ للغرباءَ نِعمةً مُفخَّخة بأسئلةِ أحفاد يقبضون على أجوبةٍ مساربها تَيهُ موجٍ.

آباءٌ، رملهُم حبرهُم.
آباءٌ، رمادهُم حبرهم.
سيسطِّرونَ بالمَمْحوِّ انكساراتهم،
وسيرتِّقونها بمغزلِ العناكب.
سيموِّهون الرَّحيلَ بجيوبٍ مثقوبةٍ تتدلى منها مفاتيحُ
تروِّضهم على النسيان،
كلَّما اقتربوا من وصايا عشاء نبيهم،
كلَّما اقتعدوا ظِلالَ التُّفاحِ.
تفاحٌ تخمَّرَ في عربات جنة المنسيين.
من تختلسُ تفاحتي الأشهى؟
من تختلسُ قبلتي الأشهى؟
وأنا معصوبٌ من شفتيْ المتشقِّقة كتينةٍ ناضجة.

الآباءُ شُبهةٌ

12

بعيدٌ، هو، جبلُ "بعشيقة".
بعيدٌ، هو، جبلُ العشيقة.
والأرخبيلاتُ،هنا، جزرُ سندبادٍ،
ومنصَّاتُ فناراتٍ،
خَلاءٌ لحراسٍ صحبة عشيقاتهم ليالي السُّبوت.
لن تتوه السفن.
لن يغفل القبطان مَسار زوبعة الرَّعْدِ.
لن يغفلَ المهجرونَ ترفَ العُزلة.

ياآهاتهم التي بلون جبل "كُوْرَك"،
سيِّدِ البياض وسيد طير "الباشيك"،
يومَ نزحوا منه صوب جبل "مقلوب".
يومَ أفطروا زيتوناً ورموا النوى في ماء العيون،
وناموا جهة الأيائِلِ وهي تحفر بقرونها الأزَلَ منقوشاً على جلدِ الرَّحيل.

هل يغفرونْ؟.

الغُفرانُ شُبهةٌ

13

لن أغفرَ، أنا، "لرُبَاخِ" التمِّ وهي تتسافدُ على
نجيل تتناهشهُ نِعمةَ لهاثهم كحرقة وميضٍ من حليب التويجات.

مُباحٌ لي أن أنفضَ ريشهم عن بقايا كسلٍ قبلَ أن يفطمهم البحر؛
قبْلَ أن تُعرِّيهم لوثة الدِّيكِ الشَّريد فيزاحموه على مكرِ الله لهُ،
وعلى فُكاهةِ صياحهِ بفاكهةِ قَبْقبتهم.

مُباحٌ لهم، هُنا،
الإسْرافَ في الجسارةِ يرصدون فضائحهم المُستهترة بالعدم
الذي استعصى عليهم ستينَ عدماَ. أُجيزَ لهُمُ، الآنَ، هُنا.
عدمٌ، فردوسٌ باذخٌ بغفلتهِ عن شغبهم المثلومِ نَدماَ،
عَنْ صفحهم عن الماء؛
صفحهم عن جهاتِ خيباتهم،
هُم، المُحدِّقونَ في وجوههم المَشروخَةَ على صفحات البحيراتِ
يُشيِّعونَ النَّرْجسَ على أكتافهم التي نخرتها براعمُ الأفول.

السِّفادُ شُبْهةٌ

رُبَاخُ: رَبَخَ، تربَّخَ : استرخى. ورُباخُ كلمة تُستخدم بالعامية العراقية ومصدرها فصيح، أي: الإسترخاء.
ومنها جاء عنوان الديوان.

14

الحقولُ، هنا، خديعة.
المستنقعاتُ خديعة.
أبراجُ الكاتدرائيات خديعة.
السواري خديعة.
قرميدُ المتاحفِ خديعة.
قممُ الجبال خديعة.
قمَّة العزلة خديعة.
سأكسرُ عصيانهم بضربة من عصا الضَّجر،
وأوزِّعُ غَيْظي، باعتدالٍ، على عثراتِ براثنهم
حتى يسأموا أرض الهباء وغواياتها.
سينقشونَ بنَبْلةِ مناقيرهم على جبينِ الغواية:

العِصيانُ شُبهةٌ.

15

تشبَّثي بي أيتها العزلةُ،
تشبَّثي بي.
أنتِ أكثرُ من شُبهةٍ وأقلُّ من ندَمٍ
يصعدُ معي سلالِمَ القطارات الأنيسةِ.
أقرأ وصايا الحنين على أسيجة المحطاتِ،
وأرتجفُ كآخر المقطورات التي كالخيولِ ترتجِفُ.
وأرتجفُ كرنين قَلَقٍ يُفاوضُ الوِداعَ، ذاكَ، الذي
سيمضي بي حين أُمسِّدُ عنقَ عشيقتي بأيدٍ أتعبتها الحقائب.
تشبَّثي بي، ياعُزلةُ، كما تَتشبَّثُ معاول عمَّالِ السكك، ليلاً، نهاراً،
وهُمْ يرصُّونَ الحديدَ كي نتبعكِ في عَرَبات الهزائمِ، أو عربات الموتِ.
حقيبتي سلةٌ من الجريدِ أنيسةٌ في حضني، أكوِّرُ اليدينِ حولها، مُبْتهجاً
بنوافِذ تتخاطفها أجماتُ الأهوار:
ربَّما كانت هنا "اور".

ياأسلافي الذينَ من رماد الزعفرانِ حينَ في العُلى.
لاتُساوموني، واتركوني علَّني آتيكم بعزلةٍ من قصبِ الأبديةِ
علَّني أغرسها في أرضٍ تَليقُ بطينِ الفجرِ.
قلبي مطعونٌ، هُنا،
قلبي مُهشَّمٌ في مملكة الأقاصي.

16

اشربيني بشهيَّةٍ، أيتها العُزلةُ.
أنا محضُ ابنٍ من أبنائك الخارجين من المكانِ
العريق بلا بوصلةٍ تؤمِّنُ لي نجومَ الجِهات:
كانَ الوقتُ صيفاً. ًتُثرثرُ أمامنا اللعنةُ على مهلٍ، واثقينَ بنزهةٍ عابرة.
كم كانَ يسخرُ منَّا الحنينُ بكبريائهِ ويسيرُ خلفنا،
فنضحك له ملءَ أشداقنا، نشيحُ عنهُ ولانلتفتُ.
يُقشِّرُ ظهورنا بشفرة الملحِ، فنرتجفُ، ولانلتفت.
ننحدِرُ فينحدرُ؛ نتَدَحرجُ، ولانلتفت.
يَصْلينا بنصالٍ من سكاكينَ عويله فنركَعُ لظلِّنا ولانلتفت.
يحرقُ أهدابنا بشَررِ الصيهود ولانلتفتُ. يستديرُ نصفَ نهارٍ
بعيداً عن عويل القَارِ فيرتخي النافوخُ بعد عنفوان تحت سدرة النَّبقِ،
أو التوت، أو الإترَنْج.


كانَ الحنينُ، بِكْراً، لم يَبْيضَّ شَعْرهُ،بَعدُ.
شِخنا، ولم يشِخْ بعدُ.
لِمَ نلهثُ به أوَّل الصيف؟.

الحنينُ شُبهةٌ

17

مكيدةً، تلكَ، كانتْ أيها الصَّيْفُ.
لكنكَ لم تقفْ لنا كرجلٍ صارمٍ يحبهُ أبناؤه السُّذجُ.
وعدتَ تنتظرَ عامكَ القادمِ على أحرٍّ من المراثي.
كانَ ينقصكَ جنودٌ من أبنائكَ المُنضَّدين كبيادق الأشباح،
يقفون على أبواب حِصاركَ الجهنَّمي وهم يَشْكونَ لكَ
سخاءَ عرقِكَ الذي ينزُّ من طبعِ جسدكَ الرَّطْب.
لكنكَ أوكلتَ إكْمالَ قنصِ دمهم إلى إخوَتكَ الفصول.

الفَيْءُ قبعتنا القلقة يُرتِّبُ خطواتنا التي تشبهُ قفزةَ الكنغرِ.
لاغيوم، لاغُبار، لاحَيْرةَ تُلبِسُ قِناعَها تلك المجازرَ.

لِمَ تُحبنا كثيراً، ياصَيْفَ الفُقدان،
ويطيبُ لكَ عرقَ أجسادنا أكثرَ من إخوتكَ الفصولِ؟.
ذكاؤكَ ساذِجٌ حين تُغْرينا، نهاراً،
بالبطيخ الأحمر وبالسُّبورِ الطازج "بنغنوغهِ" الأحمر، أيضاً.
لكننا نحتالُ ليلاً عليكَ، فنرفعُ نَخْبُكَ ونخبنا من عَرقِ الشُّرود.
عرقٌ قَلِقُ الرؤيا نُكَسِّرهُ بماءِ الهباءِ.
شُبهةٌ نغسلُ بها رؤوسنا الكَلْمى بمكيدة طيْش.
طيشٌ بلا ضِفاف.

18

ياالشُّبْهةُ، أنتَ، نُذوِّبُ سعارك في خُلْوةِ الثَّلج
قبلَ أنْ تؤجِّج خصامنا ـ خِصامَ فضَّاحٍ بريءٍ،
عند استراحة الكؤوس من عذوبة الأنخاب.
نَحُكُّ ثَنْيَةَ الإبْطِ ونُدغْدغُ أرنبَةَ الأنفِ بأظافرنا المُحنَّاةِ بتبغ السَعوط.
نتحسس بقايا نقودنا، وهاتِ ياساقي "رُبْعيَّةً" أخرى.
وتفوز علينا بنقاطٍ من هذَيانِ عرقكَ وهي تتدحرجُ على
فقرات ظهورنا. تمْتصُّ ماتبقى من ملح أسمالنا.
قساةٌ نحنُ،
وبَّخْنا الفَرَحَ، فانحنى النخلُ تباعاً،
هكذا، كلَّما حدَّقنا طويلاً في نهرنا الذي يعشقُ المنعطفات
المرتبكة التي أوَّلنا لها أسماء حُفرتْ على لوحٍ
أوَّله مدٌّ، وأوله جزْرٌ على مدٍّ.

19

إمبراطورٌ،أنت، أيها الصيفُ.
ماذا تركت لنفسك؟.
أتحبنا كل هذا الحبُ أيها المتموِّجُ بسعير
جفافكَ نحن الطافحينَ حدَّ العماء بمائكَ،
فتلتصقُ بصدورنا وأنتَ القميصُ المتحررُ
من الأزرارِ؛ وأنتَ تتشاجرُ مع أشجار حدائقنا
فتتربَّصُ بمكامنِ ظلالها، ومع وردنا كي يغلق فمَ عطره،
وتُجبرنا، ياربَّ الظهيرة، على وليمةِ القيلولةِ؟.

أهٍ ياصيفَ الفقدانِ.

20

وكانت النُدوب التي تركتها على حصرانِ "شَرْجيَّة" عصارة التمر،
وشرجيَّة عصارة الدِّبس تكتمُ مايؤلِّبُ الغُبارَ على الريح،
مايؤلِّبُ "الشَّاخة" على النهر،
مايؤلِّبُ الأمواجَ على "المهيلات" و"النوخذة"، والدُّوَبْ"، "والعَبَّارات"،
مايؤلبُ المدَّ على الجَزْرِ خَبْطاً بزبدٍ خجولٍ
تسرَّبَ خُلسةً من صخبِ جُزرِ أتكأت على صخورِ المذابحَ.

يالجزيرة "الفاو" وهي تكتُمُ أنينَ شجر الحنَّاء بعدما
شيَّعت النخيل فسقطت تيجانُ الله على نوافِذٍ
ماؤها زجاجٌ مطحونٌ بالغرين.

لكنَّ جزيرة عمري، عمداً أجلستها الأُرجوحة،
وهززتُها بعنفٍ فطاشَ ماءُها بوجهي، فصرختْ:
أما من منقذٍ؟؛
أما مِنْ منقذٍ؟.
المُنقذونَ ارتَحلوا لمشارفَ ذاكَ الصوب بقاربٍ يشبهُ
صحنَ فاكهة مجففةً سقطَتْ، كجُذاذاتٍ، على سُدْرةِ عُمري. .
دمٌ هو،
كلُّ ذلكَ الزبدِ.

الصيفُ شُبهةٌ.

21

ياصيْفَنا الطويلَِ كرافعات الميناء،
ماذا تقول "للجواخين"؟.

ماذا لأنينِ الحِصْرم وهو يتَّكئُ على عرائشهِ.
ماذا لأنينِ البرحي وهو يشمُّ قِشْرةَ القِطْمير
فيرتبِكُ مُدوَّخاً عند عَطْفة السُّكَّر؟.
يصعَدُ السُّكَّر؛
يصعدُ السُّكَّر، هاذياً، آخر فصلِِ القِطاف.
يصعدُ السُّكَّر، زاحفاً، لايُخطئُ احتدامَ العناقيدِ.
تنهضُ المجازرٍ مثخنةً بالمجازرِ.
تنهضُ طوْعاً لإخوتكَ الفصول.
تنهضُ القيامةُ مُثخنة بالقيامة.
تنهضُ فورةُ الجواخين مغمَّسة بدبس العذوق.
لِمَ تُنحرُ العذوقُ؟.
المناجلُ عبثٌ؛ نحرٌ بأنين معُتدِلٍ.
أنينٌ نبيلٌ.

الأنينُ شُبهةٌ.

* "الجَواخين": بيادر القمح أو التمر، بَصْريَّة، أعجمي معرَّب وهو بالعربية الجَرين أو المِسطَح. (معجم الفرائد ـ د. إبراهيم السامرائي)
* "البَرْحي": أحد أصناف التمور وأجودها التي تزرع بالبصرة.

أكتوبر ـ ديسمبر 2010