عقل العويط
(لبنان)

من "سراح القتيل"

حياة من جهة الموت

عقل العويط حياة من جهة الموت
كان عليَّ أن أذهبَ لأرى الحياةَ من جهة الموت
أعني من جهة الحب
كنتُ أوحشَ من فلاة فذهبتُ ورأيتُ.
في العادة يكلّلني تاجُ اليقظة يضعني تحت التردد
لكن الشمسَ ضربتْني
صعقتْني دورةُ القمر
تيّمني إلهُ الوحدة لم يوفّرني جنوح
جرفني النوُّ أكلني البصر
فحسرتُ جميعَ خوفي خلعتُ كلَّ ملْك
أحببتُ الغفلة وارتميتُ في الجبّ.
... "لا سماءَ أعلى من خيالي"
تقولين أيتها الأوراق
فاستجبتُكِ وانتميتُ
لكنْ ما أرعبَ أني حيث تقيمين
ما أصعبَ أني في الحياة
كنتُ القتيلَ وهذا بعضُ ما يُراق منّي
لا فرق عندي إنْ كنتِ تصدّقين
يا حياةً من جهة الموت
ولا أسهلَ الآن من أن أعودَ القهقرى
لكنْ ما أقلَّ الخارجَ ما أقلَّني خارجاً
ليس لي حيلةٌ لأتملّصَ ويقيناً لا أريد
فأعطيني سلامَ أن أعطي
لعنةَ ما لا أعرف.
حين صعدتُ الى أعلى شجرة
لم أزعم بقاءً في رحابِ القمم
أنتهك أُنتهَك أتوقّع من يُخطىء وهو يرديني
كي أدركَ كيف تقترب المواعيد
كي أصلَ باكراً الى الوقت
أو كي يتناساني الوقت
فما أجملَ وما أطيبَ
أضع يميني على الصفحات لأكتبَكِ
بزواج الإلفة والرهبة ولكنْ ليس بالاعتياد
بوحشية الغريزة وبما لي من حدس
أوحّد ما تبدّد لا أوقف نزفاً
مألوماً أفتح ينابيعَ لا أبلسم عشقاً.
الحبُّ جميلٌ الوحدةُ جميلةٌ أيضاً
في قفيرِ الجحيم تصنعين عسلكِ
فاضفريه بنعمة أن يؤكلَ.
أرنو إليكِ من عتمتي ومن تعبي
فمدّي إليَّ لأخرجَ من عهدةٍ الى عهدة
تحت سقفِ غيومكِ أنتظر
لأسقي الوجهَ والفؤاد
لا يقتلني الوقتُ لا يقتلني سواكِ
يمهّدني بياضُكِ ويهيِّئني
بالعدوان أتقدّم
تحتَ الجمرِ تحتَ الكلمات
فمن فرط ما أُعطيتُ وما أُعطيتُكِ
إمنحيني عنفَ حنانِ العبور
كي أستحقَّ
لا ضجراً أناديكِ بل لاكتمالِ الفصول
لكنّ جحيمكِ تُسقمني وجمري لم يعد يحتمل.
لم أترك قسوةً إلاّ أنزلْتُها بظلّي
جعلْتُني جلاّدي وقاتلي لأغدو لا ضحيةً بل قرباناً
أودعتُ حياتي كي لا تكونَ على مقربة
نزلْتُ بها الوادي السحيق كي تدملَ القاع
قتلوني قتلتُ الجميعَ
كي يعيشَ في معزلٍ عني
أكلني ذئبُ الصمت تركني موحشاً تحت الأسرار
لكني فعلتُ ما فعلتُ كي لا يُفسدَ النشيدُ العالي نبرةَ شقيقِهِ الخفيض
أسكنْتُ لغتي عتمةَ النهر فعلْتُ هكذا بجسدي وأفكاري
أهملتُ النثرَ ومديحَ الحياة كي لا أعلنَ معنايَ
كنتُ كلّما هممتُ بكِ أيتها الأوراق
عَرَتْني شهوةُ الخوف وغريزةُ الكسل
الى أن محوتُ كلَّ شعرٍ يبتسم لي.
تملكين بياضَكِ وليلَ خيالي
فافعلي ما تشائين بحكمة النقائض
إجمعيني بكثافة القتيل حين يرى
أطلقي سراحَ الينبوع
إصنعي من نقائضي ثمرةً للحياة المكتوبة
ولا تنسَي أن حبركِ هو ما أتذكر من هجرات نفسي.

****

نبذة

هاكَ نبذةً عنّي أيها الموت
فقد ترفع الكلفةَ بيننا
ومَن يعرف
قد أدعوكَ لتكونَ ضيفاً لوجودي
قد أغفّيكَ لتتقمّصَ الخيالَ والزمن
وربما حيلةَ نهمي
قد أُشعِلكَ بهَوَسِ تجميدِ الطفولة
وبالعشيقةِ الحياة
قد أقاسمكَ رغيفَيْ دموعكَ ومرونةَ العينين في الفشل
قد أسترق وَلَعَكَ بسخريةِ أعماري وبشهوةِ الاستمرار
ألم يعجبْكَ تألّقُ النزولِ الى الجحيم أيّها الموتُ
وفداحةُ استقوائي بالانتحار
كي تمنحَني قتلَ التيقظ وبرقَ الغياب؟
ألم يعجبْكَ أني شريككَ في ضجرِ الأرض
وتوأمكَ في شهوة المنتصف
وظلالكَ مع جَواري السماء؟
ربما توصي لي بالممالك دون سوايَ
ربما تصرف انتباهكَ عن مشاعرِ الكتب
وعن فنوني في تقريظِ المراهقة
هاكَ نبذتي فلربما تتغاضى عن قسوتكَ
ربما تمنحني فتنةَ التملّص من رغباتِ عينيكَ
ونعمةَ العودة من ظهيرةِ العمر
ربما تفترض أني سأكون رفيقكَ في التجوال وظلّكَ في الخيانة
فأرتّب لكَ المزيدَ من المغفَّلين والأتباع
ربما أستمهلكَ بعضَ الفصول ليدّخرَ الأصدقاء قليلاً من الثرواتِ والسنين
كي يعودوا بلكناتٍ ضاحكة
ربما أكتب سيرتكَ المضنية وأضفي عليكَ نكهةَ التمويه
ربما أيضاً تضع حدّاً لبدائيتي في اجتنابِ الأمل
ولغريزةِ صمتيَ المغمورةِ بالشغف وثعالبِ الودّ
ومَن يدري
فقد تختم فطرتي
وتفتح أمامي ميزةَ العيش في كتاب المطلق.
هاكَ تفاصيلي إذاً أيها الموت لنتفادى النسيانَ والخطأ:
شيءٌ من كثافةِ النوم للحؤولِ دون ارتطامِ الأصوات في الرأس
تدجينُ الليل بالمواظبة عليه
الخروجُ صباحاً بأمطارٍ خفيفة
فشلٌ في بناءِ سعادةِ النهار وصلافةٌ في صمتِ التعبير
إخلاصٌ في كسرِ الحديقة تحسّباً لرعونةِ الأفكار
عدوانيةٌ لتمتينِ العرى بين الدموع
بعضٌ من توتّرِ القلب يؤثّث النظرات بحكمة الضوء
ظنوني بأنكَ سهلُ المنال وسريعُ العطب
وبأنكَ مدعاةٌ للسخرية عندما تجمع موتاكَ وترقص دائخاً في متاهةِ الأعالي
إحساسي بأنكَ
وبأن التملّقَ كثيرٌ من حولكَ وحولي
وبأن الذاتَ ركيكةٌ وآفِلةٌ أيها الموت
كي تستطيعَ تمويهَ الدجل بضحكةِ الاستمرار.
لنعدْ الى البداية أيها الموت
لن تلقى مني اصطناعَ التهذيب
ولن أكونَ اللائقَ أمام صناعةِ خيالكَ
لن أخرجَ إليكَ بضحكةٍ أنيقة ولا برفقةِ أحد
لن أجاملكَ ولن أحبّكَ!
لقد احتملتُ موتَ حياتي أعمقَ ما استطعتُ
وذهبتُ بعيداً في الشطط وفي الهزيمة
قامرتُ وخسرتُ
وفعلتُ دواليكَ ولم أربح
فليس الكرهُ ما أكنّه لكَ أيها الموت
لأنه لن يكون كرهٌ أكثر مما أخبّىء لدموعي
ولن تكونَ رغبةٌ أبعد مما أغمر به حواسي.
لا ليس الخوفُ ولا الغيومُ ما يستولي على نفوسي
حتى ولا غشاوةُ الانتهاء
بل سكوتٌ مطبقٌ
والغيرةُ أيضاً
فالحياةُ لن تكونَ معي عندما سيرقد جسمكَ الى جِواري
لن أستيقظَ وحيداً على عادتي
لأشربَ الأفقَ مع أعشابِ الجنينة
لن أحاورَ أفراحَ يأسي وضجري
لن أخدشَ نجمةً أراها في الظهيرة
ولن أرى
لن يكون معي خيالٌ لأستجمعَ كتباً لم أكتبْها
لأتطايرَ في شظايا الظلالِ والضوء
غامضاً كعصفورٍ تشعله قسوةُ التحليق فوق غيمة الانتحار.
لا ليس الانحلالُ ما يخيفني أيها الموت
بل شعوري بأنكَ الرابح ولا منازلة
بأني لم أقامر جيّداً
ولم أسهر عمقي وخيانتي
لأعود مطأطىءَ الأفكار
وفراغ قلبي في برودةِ يديّ.
لا ليس الخوفُ أيها الموت
بل ماذا يكون شأنُ حبّي بعدي
وصالُ الباطنِ في لحظةِ صعودِ الشبق
أحوالُ المرأةِ شبهِ العارية
نشوةُ الشعر
والموسيقى
هل نسيتَ الموسيقى أيها الموت
والقصائدَ المنزلقةَ على أطرافِ لساني
وماذا يكون شأنُ الذاكرةِ الهاربة والذاكرةِ التي تتذكر
ومن يحلّ مكاني في كلّ هذا أيها الموت.
أرأيتَ أيها الموت!
إنها الغيرةُ فقط
شعوري بأن الأوراقَ البيضاءَ ستظلّ بيضاء
وبأن العريَ سيزداد عرياً
وكذلك انتظار تلك المرأةِ لي.
هل تريد المزيد؟
كلّما حاولتُ أن أدجّنَ نفسي أيها الموت
أن أدملكَ وأسلّيكَ بكحولِ الوقت
كلّما حاولتُ أن أرتّبَ يقظتي كي تحدسَ بالألم قبل وقوعِهِ
منمّياً أغصانَ الشرود لتحطَّ عليها عصافيرُ سهري
كلّما حاولتُ أن أروي لحياتي حكمةَ صخبكَ المتمدّن ووجودكَ العادل
أن أروي خلودَ الأفكارِ المحفوظةِ في إنائكَ الخفيّ
وروحاً تغيِّم على مسافاتٍ قريبة
كلّما حاولتُ أن أعوي تحت رذاذِ الماءِ المندهشِ من عيائي
أن أختفي كلَّ صباح في النظراتِ اللاهية
كلّما شممتُ بالغريزة عطوركَ الكثيفة في أروقةِ رأسي
وفاحتْ هلوساتكَ في فراشِ الرعشة وعلى طاولاتِ المقاهي
كلّما تذكرتُ أنكَ تصنع لي عذوبةَ هذه الأفكارِ الصعبة
كلّما حاولتُ أيها الموت أن أحكي للحياة عن بستانٍ سأقيمه لهدوئكَ في القرية
أيقنتُ أن نبذتي لا تخلو من رفعِ الكلفة
وأني لن أكرهَ موتي أكثرَ مما أخافكَ أيها الموت!
لا تكن ليّنَ العريكة
فلن أشيحَ عينيَّ عن يديكَ الغامضتين
لن أجازيكَ يا خائني ولذيذي
لئلاّ تتعاطفَ يوماً مع حنكةِ بقائي
سأدجّنكَ لتنسى
سأبلسمكَ لتغطّي وجعي بالعشب
فلا ترفع الكلفةَ بيننا أيها الموت!

***

مياه غامضة

في هذا المكان متّسعٌ من الأسرّة للأوقاتِ الساخرة
ونافذةٌ عالية تهرع إليها النجوم
ضحكةٌ تشدّد عزيمةَ السقفِ المتراخي
وردةٌ تعيد تأثيثَ هوائِهِ بالعطور
وترهقه بسيولةِ الوهم.
ثمة متّسعٌ لرحابةٍ
لسماءٍ توحي العتمَ وقلةَ الحيلة
كي يهتدي الفارّون الى هضابٍ وليل.
في هذا المكان شجرةٌ باسقة وظلالٌ لا تعثر على شمسٍ نائمة
خيالٌ لا يكلّ عن الارتقاء
أضواءٌ تتلاعب
صمتٌ يجلس ويحاور انعكاسَ الكراسي والقمر
ثمة متّسعٌ لامرأةٍ غائبة
لأصدقاءٍ لن يصلوا بعد قليل
لروحٍ ترحّب بنظرةٍ بائسة
ثمة متّسعٌ أيضاً لنبتةٍ تنتظر في الخارج
كي يقالَ إن المكان مأهول
لحوضٍ يائسٍ لا يجمع الماء
لافتراضٍ يدنو من الغياب
لأشياءَ
لكائناتٍ
لجروحٍ لا يقهرها الندم
لكتبٍ من غمامٍ وهدوء لا تؤلم الكلام
لانتظاراتٍ
لأغنيةٍ
لستائرَ لا تثير الغيظ
لبابٍ تغلقه ذاكرةٌ مفقودة
لهواءٍ لا يسيء الى الشجرةِ المقابلة
لأولادٍ مثل قفزةٍ في الهواء
لأملٍ متثاقلٍ يُشعل غضبَ الهوينا
لجرحٍ يردم الهوةَ بين العدم وبدايةِ الكتابة
للنهم
للرضا
لتعبٍ يلي امتلاءَ صفحة
لموتٍ يحوّم حول الغرفِ الساكتة ولا يؤذي أحداً
لموتين ثانٍ وثالثٍ
يتآخيان مع نسماتِ النور
مع قنديلٍ مفترَض وقرعِ الجرسِ في الأعياد
ثمة في هذا المكان أيضاً مأوىً لمسيحٍ تائه
للنسيان
لتجديدِ الجسد
لزرعِ الفتنة في القلب
للقتل
ثمة رغبةٌ في الثأرِ من الهواءِ البخيل
في لمسِ نظراتٍ خفيضة عندما تقترب من الجوار
في العثورِ على الحياة.
ثمة إحساسٌ بأن الجسدَ لم يمت
بأن الماءَ يسيل في الأعماق
بأن شهوةً تمنح الضوء أن يباشرَ فصوله
بأن الماضي
بأن العمرَ ومياهَ الشتاء
بأن الألمَ الغائرَ في أعماقِ النظر
بأن وجهاً يتغضّن من هبوبِ الأفكار
بأن قهوةً متروكةً على الشفتين
بأن جروحاً لامرأةٍ
لرجلٍ سابقٍ
لأشخاصٍ آخرين
للمساتٍ من غبارٍ أليم
لأصواتٍ على الطاولة
لثيابٍ لرفوفٍ لحركاتٍ جامدة
لصُوَرٍ تنبت على الحائط
من راحةِ اليد
من الرأس
لصُوَرٍ تختفي في غمامها
لبردٍ لا ينام في خزانة الشتاء
لكلماتٍ
لكلماتٍ ماضية وحاضرة يطير لهاثها من ذاكرةِ النافذة
لقتيلٍ يستجمع لحظةَ القتل
لقاتلٍ ينتظر
لامرأةٍ
لامرأةٍ خصوصاً.
في هذا المكان
متّسعٌ لرجلٍ
أو لفكرةِ رجل
متّسعٌ لامرأةٍ
لفكرةٍ عن امرأة
في هذا المكان متّسعٌ للوقت
للوقت
لشيءٍ آخرَ لا أعرفه
يؤثّث الحياة برغبةٍ غامضة.

***

الغرفة

الغرفةُ كتابُ الجسد
حجارُها جماعةُ الروح ومفكرةُ امرأة
صفحتُها بداية ونهارُها تصنعه نافذة
ملائكةٌ سابقون يعزفون
كائنٌ يحاور حياته على الجدران
يأوي الى ثيابه ولا ينام.
لا شيءَ هنا سوى المكان
بيتٌ للقربان ووجعٌ للكاهن
عزلةٌ تشتهي استمرارَ الليل
ضوؤها يرتدي الرعشات
عتمتُها وهجٌ لشهوة
صمتُها نظراتٌ مغمضة
تراتيلُها امتداحُ الفرارِ الى الذات
تقريظٌ للوحدة والخوف
كأسٌ للجلوس وآفةٌ للتأمل.
زوّارُها لا أحد
وَهْمُ أصدقاءٍ وحياة.
هنا الوقتُ لا يأخذ مجراه
نهرٌ يلمع بين الأفكار
دمعةٌ تروي الشرفةَ وأحواضَ الورود
ومرآةٌ تبرأ من آلامها.
المكانُ يحاور ذاتَهُ
غرفةٌ تكون توأماً لأخرى
رسومٌ تسقي حديقةَ الجدار
أغنيةٌ تتوهّم آخرين
حرارةٌ هي شهوةُ المدفأة
سجادةٌ تتعرّى في صوفِ ألوانها وتدفىء أرضَ الرأس.
وماذا أيضاً!
قهوةٌ هي كلامُ الصباح
وتتبعها الكتب
ثم يتيح الضجرُ مزيداً من التفاصيل
عصفورٌ وخبزٌ للمللِ السريع
حوارٌ يغمس ماءَهُ في الفراغ
خادمةٌ هنديةٌ يتبّسم صمتُها في الرواق وتتحدث عن العائلة
مياهٌ صادقةٌ في حرارتها
مرآةٌ تستضيف وجهاً وثيابٌ للتمويه.
هنا طاولةٌ وإناءٌ وحالُ انتحار.
كاهنٌ ينضح من جسدِ القربان الى الخارج
جرسٌ في الجوار يقرع لقدّاس الأحد
أناسٌ يتنزّهون في صلواتهم
طريقٌ يودي بنفسه الى غموضِ النهر
ضجيجُ الخارج يتردّد خافتاً من بعيد
هاتفٌ يرنّ
لا شيءَ هنا سوى المكان.

***

غلطة الملاكَيْن

ملاكان
شهوةٌ تخضرّ وواحدةٌ سببٌ للانتظار
ملاكٌ يعطِّر جسمَهُ بالخمر وملاكٌ يتشمّس في جسمِ امرأة
أوّلُهُما يضبط جهةَ القلب والآخر جهةَ القلب
واحدٌ للحبِّ وواحدٌ للحبِّ أيضاً.
وإني الملاكان
الأولُ وهمٌ والآخرُ جحيمُ الوهم
هوسُ الطيران وسكرةُ الهاوية
في يدِ الأول سبعةُ عطورٍ وفي يدِ الآخر سبعةٌ أخرى.
وإني الملاكان
ندمُ الوقت وظلمةُ الحرقة
نزقٌ لامرأةٍ ولتبدّدِ امرأة
غلطةٌ في المعنى وسوءٌ في التدبير.
وإني ملاكانِ في الضيقِ الجميل
شريكٌ في السهر وفي الرغبة
نجمةُ الشهوة ونزولُ المطر
بابٌ على مشرقِ الشمس وبابٌ على القمرِ كلِّهِ.
ملاكان
لا يأخذنا هواءٌ ولا حَرٌّ لأننا على قوسِ غمام
لا تأخذنا ظلمةٌ لأنه لا يكون ليل
شفّافان كملاكِ المياه وملاكٍ عازفٍ بالكنّارة
خسارةٌ وهواءٌ الى الخسارة
ثيابنا عليلةٌ وعاشقة
كتبٌ لا تُحصى وهاوية
التبكيتُ أرضٌ وسماء
والندمُ غابة.
وإني الملاكان
إشتعالُ المطلق ولمسةُ النار المحرَّمة
لا أحتاج الى سراج ولا أغلق الأبواب.
ملاكانِ طائران
الأولُ لتطييبِ الوقت والآخرُ لبلورةِ الشرفة
يتجمّر الأولُ الى الأبد والآخرُ يتيه في الصحراء
وإني في الموتِ الثاني ملاكٌ يلتحف الشمس وملاكٌ يكون القمرُ تحت قدميه
وإني في الموتِ الأول مرارةٌ للضحكة وخيمةٌ للضوء
واحدٌ للغيم وواحدٌ للضجر
مشقةُ اتحادٍ بين القسوةِ والرحمة.
ملاكانِ للنقائضِ والتناغمات
رجولةٌ لتكريم الأنوثة
صوتٌ للكفاح وصوتٌ للنزوح
فتىً يأكل الحياة وفتىً تأكله غلطة.
ملاكان
نثرٌ وشعرٌ وثمرة.
وإني الملاكان
المتَّسَعُ والجسدُ
زجاجةٌ للعطورِ وواحدةٌ لحفظِ النظرات
لا يمنعني جدارٌ لا ينفع عقابٌ لا تردعني مدينةٌ ولا تحول دوني نهاية
وإني حرائقُ الطيران
شهوةٌ
صرخةُ الشهوةِ
ترنيمةُ الرغبةِ
نارٌ ورحمة
على رأسِ شجرةٍ وعلى الماء.
وملاكانِ للبوحِ والغبطة
ملاكانِ في الوَضَح يصنعان التَّلَفَ المُعطِبَ ويخفّفان الثقل
لِـما تبقّى من الخمرة ولاسترجاعِ الدمِ المراق.
ملاكانِ للجحيم وندمِ البحيرة
واحدٌ لغضبِ الجمر وواحدٌ لولادةِ الماء
يأكلنا الحبُّ ونعاسُ الحبِّ
وتأكلنا امرأة.
ملاكان
واحدٌ في شمسِ الفاكهة وواحدٌ في شمسِ الجسد
يحذفنا الصيفُ ونصير حزنَ القمح.
وإني الملاكان
ومعنا غلطةُ الحياة.
ملاكان
لكفاحِ الشجرِ في الصيف ولخيبةِ الكفاحِ في الخريف
للحَيرةِ وزفراتِ المرايا
للأعينِ التي تختصر المشهدَ ولا تتحمّل صرخة.
وإني الملاكان
نجتمع في جبلٍ في سهلٍ في غيمةٍ في قمر
في بحرٍ وفي صحراء
نجتمع في الإناءِ حيث يُكسَر الخبزُ والخمر
جحيمٌ تشمِّس يداً تكتب وجحيمٌ تطرّيها في الحرّية
أجنحةٌ تحترق وأجنحةٌ تنمو
امرأةٌ في عطورِ جسدِها ووردة
ثم نطير الى الكتبِ والغياب.
ملاكان
كلانا أوّلُ وكلانا غلطة
يفرّقنا الوقتُ ويجمعنا.
الأجنحةُ السبعةُ تفتح الأشرعةَ للأفق
والسبعةُ الأُخَر تطوي قمرَ الاحتراقِ على البحر.
وإني الملاكان
خاسراً رابحاً
للمقامرةِ والسهرِ الكثيف
للندمِ والانتظار
نمعن في الليل ولا يتّسع لنا الليلُ
يذهب واحدٌ الى الطرفِ الشاهق وينحدر واحدٌ الى الأسفل
ملاكانِ لا يستريحان
جسدٌ وتحليق
يسبحان في العمرِ ولا يصلان
جنسٌ يلتهب وجنسٌ يلتهم ذاتَهُ
جميلانِ غائبانِ كصيفٍ وشتاء
غائبانِ كشمسٍ وقمر
وجميلانِ كملاكين.
وإني الملاكان
تفاحةٌ وأيقونة
واحدةٌ للاشتهاء وواحدةٌ للابتعاد
الأولى للخطيئة والثانية لمحوِ الخطيئةِ
تفاحةٌ وأيقونةٌ وسحابة
السحابةُ شمسُ الأرضِ في الشتاء
قمرُها في الليل
وضوؤها في التجربة.
وإني الملاكان
ولسنا للحسدِ ولسنا للغَيرة
لكنْ للرأفة
لأتعابِ الضجر
ولسجودِ البحيرة.
ملاكانِ اثنان
وشيءٌ يلمع تحت العمر
يأخذ هواءَ البحيرة وشجرَ الهواء
يأكلنا ويحرق عشبَنا
ثم يغدو ذهبَ المعنى.
وفي منتصفِ العمر يجلس الملاكانِ على السدرة
حبيبين كصوتِ مياهٍ غزيرة
واحدٌ من هنا واحدٌ من هنا وبينهما بيتٌ للانهيار
الأول يروي: الموتُ غلطة
الثاني يروي: الحياةُ غلطة
وقصيدةٌ تروي غلطةَ الملاكينِ معاً.

***

جارتُنا الحياة

لستُ عدوَّكم
يقول جارُنا الموتُ
ففي إحدى الهفوات
كنتُ ليلَ الحجرِ والصحراء
وتقريباً كنتُ كتابَ العدم
أجوب الحياةَ حيث تنبت حنكةُ الظلّ
ربيباً لنشوةِ النعاسِ والكسل
أحصي البراري لأربّي أعشابَ طفولتي
وأغطّي مجهولَ الذات بدعاءِ النعناع وسماءِ فصولٍ هادئة.
لم أهيّىء شمسَ الصباح ليقظةِ الملاكِ الأولى.
عندما رفعوني الى الخشبة كي أفتحَ العتمَ لأوجاعِ الزيتون
لم يخيِّروني
ولم يُمهِلوني عندما أحصَوا أقنعتي
لأكونَ المرايا للستائرِ المغمضة
وأكونَ غمدَ الطعنات
لكني عندما وصمتْني اللعنةُ وسحرتْني تعاويذُ الشرور
رميتُ تبكيتَ الخيالِ في السجون وأغلقْتُ زنزانةَ وجهي
رحتُ أنحت صوتَ الهواء في سهرةِ الفراغ
لأعاينَ الذين يكرهونني
صرتُ أرتِّب ندوبَ الروح وبيادرَ الموتى
صرتُ الحكمةَ والجريمةَ ولسانَ الرواة
وأعلنتُ موتي.

منذ الله
أُجهِش تحت القناع مدحرِجاً طابةَ الروحِ في البئر
كنتُ وحيداً عندما قطفتُ خزامى الضوء ويانسونَ الظلال
من الجبال
أسدلتُ غيمةَ الصمت على حوارِ النسائمِ والشجرةِ اليتيمة
وعندما أشرق المجوسُ من نباتِ الأنين
فتحتُ الرقادَ
وعثرتُ على صرخةِ ضوئي.
لكنّ
نجمةَ
اللهِ
لم
تصدِّقْني
في
قمرِ
أحدِ
الأيام.
عندما افترستْني غريزةُ التكرار
لم أعد أستطيع أن أدفنَ تعاويذي
ولا أن أُجهِزَ على فسادِ يديَّ
وعندما خرجتُ على الله
لم أعرف كيف أختتم دموعَ متاهتي
لأواسي صقيعَ الجمر وأجفّفَ الشتاء.
لكني أركع للسكوتِ المصلّي
وأشرِّع نوافذَ المصالحة على الحديقة
كلَّ مساءٍ أذرف الهواءَ الخفيفَ على الذكريات
رادماً عطورَ الحواس وقيظَ التفاصيل
أفرش في السماء لأقتصَّ من شمسِ القسوة.
لن نحبَّكَ أيها الجارُ
قلنا له
ولا الأهلُ سيفتحون لكَ قمصانَ الأعماقِ والكلمات
هم يرمِّمون الوقتَ بعذوبةِ أرواحِهِم
كلَّ مساءٍ يحمّصون خبزََ الماضي على نيرانٍ هادئة
ليقاسموا عشاءَ هم السرّي تعبَ الحياة
لا يُفصحون عن هلعِ الوجوهِ المغمَّسةِ بنبيذِ اليأس
ولا عن أعمارِ الليالي عندما يعرّونها بقناديلهم.
لكنهم عندما يوقظون النوم
سيفاخرون أيها الجارُ
بأنهم لا يدْعونكَ الى أمزجةِ كؤوسهم
ولا يبادلونكَ مشاعرَ الودّ
أو يُهدونكَ زوفى الندمِ والغفران
يستطيعون أن يجافوكَ ليكثّفوا غيومَ الوقتِ والصداقة
أن يرموا عليكَ أشواكَ الكرهِ والغيم
وفلسفةً تشبه حجرَ الكفر
يستطيعون
أن يبلسموكَ ويمسحوكَ بزيتِ النسيانِ وغبارِ العقل
ويستطيعون التباهي
أيها الجارُ
بأنهم لا يخشَونكَ ــ وإنْ رغيفاً ــ الى موائدِ أعمارِهِم الغاربة.
الأهلُ يا جارَنا الموتَ يمتحنون جارتَنا الحياةَ
يروِّضون كآبةَ الزهور بمياهِ عيونِهِم
ويُشعِلون هسيسَ الشعر في سروةِ اللغة وحطبِ الهواء.

***

نهر

لستُ شوكةَ الرمال لستُ الرمادَ لستُ أرضاً محروقةً للصديق أو للعدوّ لستُ سرابَ المطر. لستُ للطمأنينة لستُ لقمةً سائغةً لستُ الحائلَ دون الهواء. لستُ للبَرّ لستُ لخرابِ البحر لستُ شرودَ الورد في تيهِ الحقول. لستُ شهوةَ السبحة لستُ القدّيسَ لستُ رونقَ الشيطان لستُ نشوةَ جهنّمَ لستُ فردوساً لستُ القمرَ المظلمَ في السماء لستُ الكوابيسَ ولا وجهاً كتوماً على صفحة نهر. لستُ المستهابَ بين الملوك لستُ رئيسَ المتمرّدين لستُ بائعَ الصحف لستُ قنديلاً في الأروقة ولا عتمةً في الضمير. لستُ سذاجةَ الديكتاتور لستُ رياءَ الديموقراطيّ لستُ اللفظَ المرميَّ في التهلكة. لستُ الغنيَّ لستُ الحديثَ النعمة لستُ غباءَ المتواضع. لستُ مرآةً لستُ ظاهراً ملفّعاً لستُ الفلاّحَ لستُ البورجوازيَّ لستُ حزنَ المستشار المخلوع. لستُ رئيسَ العصابة لستُ قاطعَ الطرق لستُ جباناً ولا شجاعاً ولستُ إحجامَ الدُّوار. لستُ الطاغيةَ لستُ الراعيَ الصالح لستُ الزيتونَ لستُ حبّةَ الحنطة وعصفورَ الدوريّ. لستُ فاتحَ الأمم لستُ داعيةَ السلام لستُ المسافةَ بين الفراغ والأرض. لستُ جنونَ الغرق لستُ شرفةً على التلال لستُ عاقلَ المنخفضات لستُ فظاظةَ الحكمة. لستُ الدموعَ لستُ المآقي لستُ العينين المثقلتين بغيرة البصر. لستُ القحطَ لستُ الأخضرَ لستُ توقَ الصيف للبساتين لستُ سياجَ الهاوية. لستُ كاتبَ الموسيقى لستُ عازفَ الناي لستُ شبّابةَ السهول. لستُ الغلطةَ المتدارَكة. لستُ النحّاتَ لستُ الغبارَ لستُ الشكلَ للشكل. لستُ العلاّمةَ لستُ الأمّيَّ لستُ تألّقَ الفجيعة بين الكلمات. لستُ خدعةَ الطليعيّ لستُ رتابةَ الكلاسيكيّ لستُ الائتلافَ لستُ إلفةَ الأزمنة. لستُ مرمِّمَ الخراب لستُ الباني لستُ جامعَ الشظايا. لستُ الخَمولَ لستُ الرحّالةَ لستُ المكانَ المكشوفَ لستُ شهقةَ القوس لستُ لجّةَ المرمى. لستُ المتفائلَ لستُ المتشائمَ لستُ عدوانَ التضادّ بين روحين عذبتين. لستُ الفاترَ لستُ الباردَ لستُ إناءً للماء الفاتر والبارد. لستُ نيرونَ لستُ لهيبَ روما لستُ مُخمِدَ الليل اليائس في الأزقّة. لستُ نبيّاً لستُ محمّداً لستُ المسيحَ لستُ مزودَ الفقير ولا مقبرةً للأغنياء. لستُ فرحَ الغيمة لستُ الجبلَ لستُ زاهداً على جبل. لستُ الكنزَ لستُ صوتَ المغنّي. لستُ الجريحَ لستُ المندملَ لستُ الضحيّةَ لا لستُ ضحيّةً. لستُ الجلاّدَ لستُ السجّانَ لستُ قاطعَ الشرود في راحة اليدين لستُ العصيَّ على الأمل. لستُ العشبَ لستُ البستانيَّ لستُ الساقيةَ لستُ تأوّهَ الساقي. لستُ طلوعَ الفجر لستُ عتمةً لستُ الفجرَ لعتمة. لستُ بندقيةً لستُ العصفورَ للبندقية لستُ الريشةَ القتيلةَ في المهبّ. لستُ الأوديةَ لستُ الأنهرَ للخرير لستُ الغادرَ بالحنين الى بحيرات الارتماء. لستُ جنيناً لستُ شقاءَ المراهق لستُ فراسةَ الكهولةِ الكاذبة لستُ اليقينَ الواثقَ لستُ حجراً في اندحارِ هاوية. لستُ الهجومَ لستُ التراجعَ لستُ أرضَ القتال لستُ القتلى لستُ الأشلاءَ لستُ وهمَ ضربةِ النرد لستُ غضبَ الطعنة الأخيرة. لستُ المرضَ لستُ العدوى لتغلقوا النوافذَ عند مروري. لستُ أعجوبةً لتحنوا الرؤوسَ لتلقوا عليَّ تحيةَ ذهول. لستُ الكاملَ لستُ نصفاً ثانياً لأكتملَ. لستُ شمساً لستُ ظلاً لشمس لستُ غضباً للهجير لستُ الثلوجَ لعذاب الهجير. لستُ المولودَ تحت الكسوف لستُ قوسَ القزح لستُ خسوفَ القمر. لستُ ضحكةَ الطفل لستُ مرارةَ الذكاء لستُ النسيانَ لستُ طفلاً لأضحكَ. لستُ صلاةً لستُ تعويذةً لأكونَ أيقونةَ النذور أو هلعاً على الوجوه. لستُ إلهاً إرهابياً لتقدّموا القرابينَ أو لأقتلَ ما أحبّ وما لا أحبّ. لستُ عدوَّ العناصر لتكونَ حياةٌ بدوني.
قالت النقائضُ ستغلبكَ لوعةُ الاختصار في هذا المنتصف
سيعتريكَ شبقُ الاختلاج
فخُذِ الحُبَّ بيديكَ وانثرْه على السطوح ليكونَ خبزَكَ وعصافيركَ
إجعلْ رأسكَ شهوةً لمقصلة
وكنْ بئراً لنشوةٍ ونبعاً لأرض
قالت النقائضُ هذه حياتُكَ فعشْها
نهراً يصنع مجراه من نفي الصفات.

***

أكره الحبّ

من كثرة ما أحببتُ صرتُ على مسافةِ يد
لوعةٌ واحدةٌ في الكون تكفي
ربما نظرةٌ
لأردمَ هوةً بيني وبين الله
ربما لا شيء لأسلّمَ حياتي
فلم يعد بيننا ولا موت تقريباً.
غيمةٌ زرقاء أو كنزٌ أو ظلُّ ينبوع
صرتُ يا لاكتمالِ الفقر واخضرارِ الذهب
أزدهر بجرحِ الذهول وأنصقل بلمعانِ الجوهر
مجبولاً برحيقِ النداء ونشوةِ التحليق
أفتتح الليلَ لأحبَّ
وأوقظ الفجرَ السهرانَ لأحبَّ أيضاً
عينايَ تخدِّران الشعرَ ورأسي على هاوية من شدة النزف
يهرقني زيتُ الأسرار ويجمِّعني هوى المطلق
يكثِّرني الليلُ في الرقة ويلوِّحني كداليةٍ على الشرفة
مسكوناً برحيقِ الدوار وممزوجاً بماءِ التلاشي
عاشقاً زهرةَ ضدّي ونقصاني
ما يُجهِز عليَّ وما لا يُحتمَل
كأنْ أبدو مفقوداً في جميع الممالك ومبدَّداً في ندى الرياحين
ممنوحاً رغبةَ الاحتراق في جنونِ الضوء
ما يسرقني ما ينمّيني
وما يجعلني في خلودِ الكتب
كأنْ يُنعَمَ عليَّ فأكون فتنةَ انسجامِ الأغلاط ولذةَ الغرق في تناقضاتِ البحيرة
أنصهر في معادنِ الشمس
وأنبت تحت الصرخةِ الرهيفة
سحيقاً في اختراقِ السرّ وعشبةً تلامس رعشةَ الصخر
يجمعني الهوى تحت صوّانِ البيادر ويذرّيني في حفيفِ الهواء
أتشظّى أتلملم
كامناً في اللجوء ومفضوحاً في الغلَبة
أغتني أتناهى
واحداً مضرَّجاً في النزق وفي الخيال
مجهَّزاً بهوَسِ البحث عن أحجارِ القلب وخاتَمِ الوقوع
أشفّ لأغدو في الكثافة والغياب
وأُمسي في الارتماء على شفاهِ حافة.
هكذا وقتي على أهبتِهِ
هديل الأرز حين يشغف بتوسّلاتِ الثلوج والعاصفة
مرونة العطور حين يأخذها ثوبُ الهواء
كأنْ أعودَ الى الأراضي بعد الحصاد
مزيَّناً بالقمح وكرم اليدين
مشغولاً بالحمّى
ومدهوناً بوهجِ الضربة الأخيرة
كأنْ أُفتَنَ بالأعماق كشلاّلٍ ينزل من عل
أو كصخرةٍ في مجرى النهر
كأنْ أُعطى أنْ أحلَّ في الدموع
فلا يعود شيءٌ يصلح فيَّ للانكسار والعطب
أصير نضجَ العطب والانكسار
فتشغلني خابيةُ الذهب وتكسرني
تنهبني تحت هشاشةِ الشعاع وتمكِّنني من المصدر
لا يبقى مكانٌ لي لأنتظرَ وأُنتَظَر
يُرسَل قلبي في كلِّ الأمكنة
فتسألونني كيف لا أختنق بأسبابِ هذا الحبّ وشدةِ العاصفة
وتسألونني
كيف أحتمل هولَ هذا الانصياع
كيف أقرأ المعاصي أو أكتب
كيف تتقطّع أوصالي لتنتحرَ فلا أفلح
كيف تتسع رئتايَ بعد الآن وكيف أعيد بناءَ المشهد
تسألونني كيف أرتّب الحياةَ اليومية في هذه الجحيم
كيف أعيش وأموت.
عندما وصلتُ الى الفجر
أجهزتُ على الأعداء قبل أن يعلموا بشمسي
أما الأصدقاء فلم أرأف بأحلامهم
لم أترك خيالاً ولا قمةَ جبلٍ لينزلوا الى حيث أقيم
عندما كشفوني كنتُ قد صرتُ ملكاً على الملوك
وقصيدةً ليّنةً كأفكارِ الهواء
ثم عصفوراً يطير في الحريق.
ترشقونني بالأجمل لأني في الجحيم
تستنكرون حذاقتي
لأن جميعَ ما أراه يصير منّي
قد يُخيَّل للبعض أنه القَدَر
قد ترمونني بالذكاء
قد تظنّونني أربّي سبائكَ الذهبِ والقمر
لأصنعَ منازلَ لشمسِ عينيَّ
وحبراً وأوراقاً لمتونِ الكتب.
لا هدايا أمنحها سوايَ
راحتايَ لا توصفان لأني مشغولٌ بتطريز الحفيف
حافّتي ماجنة ومحفوفٌ هو النزولُ الى روحي.
تقترحون عليَّ أن أتنازلَ عن أنهاري
تبحثون عن تلك المرأة
عن عنوانها الشعري
عن إرتمائها الخفيف في جروحِ الحبر
عن جسدها المطرّى بشراهةِ الينابيع
عن وهجها المعتّق بكستناءِ الساهرين
عن ليلها المشغولِ بالشغف
عن النبيذ ناضحاً من قميصها على الأرض
عن الماء عندما يتكهرب
عن نشوبِ القوس ورأسِ الحربة عندما يخترقان الليل
عن صرخةِ الكون عندما ترتعش
تسألون إذاً عن الشبق
عن الله أوانَ يحسد الشيطانَ والبشر
تريدون إذاً بياناً شعرياً بموتٍ تشيعه في الأنحاء
بحريقٍ يبزغ في ثلج الليل
تسألون عن عبوري هادئاً
عن أسبابِ جنوني
عن الترويضِ الذي أدجّن به الوقت
عن حياتي حين تُراق.
تريدون إذاً حكايةً عن ماناي...
خذوها من كتبٍ كتبْتُها ولم أكتبْها
من جنونٍ يُقبَض عليه
من جنونٍ تعجز الحكمة أن تلاحقَه في فتنةِ الليل
خذوها من روحي عندما تشرق كوردة
من روحٍ لا تخضع لمشهدِ البصر
خذوها أيضاً من صمتيَ الأجمل
من رغيفِ الحلم
خذوني مكسوراً وجبّاراً
طاغيةً وظلاً
شارداً ومتوقّدَ الذهن
كثيراً في السكوت وقليلاً في التعبير
كثيفاً كطعنةِ الشبق أو كدوخةِ نبع
كتاباً يتحرّق الى ضوءِ الحبر
وقلباً كخيالٍ ينتظر.
تريدون عنوانَها
خذوني
فلا ميراثَ أتركه سواها
المنهوبةُ الغنيةُ كما لم تُنهَبْ كنوزٌ عند افتتاحِ المدن
المأكولةُ كما لم تؤكلْ شهوة
المسهَّرَةُ في شغفي كغيمةٍ لا تطيق ثوبها
المسهَّرَةُ عاريةً كما لم تُسهَّرْ نجمةٌ على هاوية
المتعَّبةُ بالهجس لأني متعَبٌ كهزيمةٍ غالبة أو كنرجسٍ يعشق موته
المسكَّنةُ في بساتينَ غافية
والميقَّظةُ من فرطِ الليلِ الممزوجِ برحيقِ العينين
خذوها تلك المرأة من حياةٍ لن تعرفوها
غريبةً متلوّيةً في راحةِ اليدين
بكثافةِ الله حين يسيل في غيبوبةِ الشعر.
من كثرةِ ما أحببتُ
لم يعدْ حبٌّ لأحبَّ
لم يعدْ لي مطرحٌ في الوقت ولا مشاعرُ في الأمكنة
جمَّعني الحبُّ وبدَّدني
جعلني وعتَّقني
خضَّعني ونقَّاني
صرتُ خمرةً وخابية
ولأجلِهِ عرفتُ أن واحداً منا يجب أن يُقتَل
فكان لا بدّ أن تقتتلَ نفسي
لأني قاتلاً أكره أن أكون.
من كثرة ما أحببتُ كان عليَّ أن أنتحرَ كي لا أفقدَ معنايَ
صرتُ كلما استيقظتُ أبحث عن حبلٍ لأتدلّى
وعندما عثرتُ مرةً على جبلٍ عالٍ صعدتُ لأكتشفَ أني عاطلٌ عن الحياة
هكذا أعلنتُ انتحاري لأني ربحتُ الكثافةَ وصرتُ في الجوهر
فماذا كنتُ فعلتُ لو أمعنتُ في الحياة
لو رويتُ
لو أفلتتْ غيومي من براثنِ كثافتي وسيولتي
لو خرقتْ أفكاري عتمةَ المياه وراء السدود
وذهبتْ الى بحيراتِ الفجرِ واللغات
لو فتحتُ انتصافَ الليل على عذابِ الصحراء
لو أسلستُ القيادَ لأعاصيري
لو تركتُ يديَّ تقترفان هفواتِ الحبرِ واللمس
لو قتلتُ أتباعي وجنودي لأتحرّرَ من حرّاسِ يأسي وهابيل عينيَّ
لو سافرتْ سجوني وتركتْني في عهدةِ الخيولِ المهلوِسة
لو استطاع كلامي أن يظلَّ عارياً كفضيلةِ المرآة
لو كتبتُ
لو فككتُ لغةَ صمتي وتيهَ شرودي
لو مهّدتُ جبالَ غموضي ونزلتُ الى السهول
فكم كنتُ سأسفك
وأعاود الصعودَ الى صراعِ كثافتي وسيولتي
حاملاً حكمةَ أوجاعي لتكونَ فريسةَ عهودكِ
لكنْ
لو تعرفين كم أدوّخ اعتكافي
كم يطير وقتي من سماءِ قلبكِ
وأجعل خبزي طعاماً لطيورِ برّكِ ودموعي مياهاً لعطشِ البساتين
لو تعرفين كيف أمضي حياتي
كيف أستجمع هواءً من بلادِ خيالكِ
وأُفتي بالانتقام ليكونَ سبيلكِ الى غموضِ المعرفة
لتفوزي بظلالي كمساءاتٍ تنام في حلكةِ الغدِ والذكريات
كم أكره بخلَ كلامي وحبّي
كم يجرفني كفري واهتزازُ يقيني
كم أقاتل رأسي لأجلكِ
وكم يُغنيني أني في عرينِ وحدتكِ وتحت صمتكِ
لتفوزَ قسماتُ وجهي بكثافةِ أقنعتكِ.
لكنْ
لو تعرفين
من كثرة ما أحببتُ
بتُّ أسيل كينبوعٍ في النهرِ الأخير
لا أعيش بل أراقب عمري خالياً مني
فماذا أفعل لأجهزَ عليه
لأكرهَ الحبَّ
ماذا أفعل لأحبَّ أكثرَ من حبّي؟

***

عري

تأوهاتكِ ليّنة
شعاعٌ يشقّ دربَهُ الى أوّلِ الفجر
عنبٌ مهيّأٌ ليُشمَّسَ تحت المغيب
جرسٌ لكنيسةٍ نائية
وتفوحين من حناياكِ في عتمةٍ هائلة
وينصت صوتكِ كيف تترقرقين ببقية الهَوَس كنهرٍ من الأعالي
فتروحين تغرقين في نداءِ لوحة
بشهوةِ صمتٍ جارح.
لم أشأ أن أرشدكِ الى الصحو فمن يوقظ نائمةً يقِظة
وهل أعمىً يرشد سكرى الى هاوية؟
بيّنةٌ وغامضةٌ كسبيكةِ ذهب
وبكِ أنا بين الوهم والحسّ
أشياءُ روحكِ على هشيمي تستجيب
عراؤكِ الغامض يا لَوضوحِهِ
يتلوّى بشهوةِ مَن يسكر بحجمِهِ في فراغ
مع ذلك لا شيءَ يحول دون الافتراض
أن الحياةَ شهقةٌ مغموسةٌ بعسلِ عينيكِ الضارعتين
لا شيءَ يتربّص بإيقاعِ يديكِ
عندما تستنجدان بإغماءةِ هواءٍ طلق
لا شيءَ يدجّن أصابعكِ
عندما تنغرز في جروحي
على غرار وردةٍ تضرّج ضميرَ الصحراء.
هواءٌ ناعسٌ يلفع عريكِ بحريقٍ خفيف
يمنح الحواسَ لذةَ أن تحيا كعطورٍ تشتعل.
لم يكن الخارجُ ضئيلاً لكن جروحَهُ تعرف طيوبها
وكيف تلتئم بهَوَسِ الغرفة
باتحادِ مَن يمتلىء.
شجرةٌ سكرى تنعطف عليكِ
تخاطبينها من فرطِ عينيها الناظرتينِ إليكِ
جسدُكِ يقترب من دموعِهِ
مطرٌ خافتٌ في آخرِ هذا الصيف
لم يمنعكِ من التلوّي في حفيفكِ المخدِّر
ولا الرذاذُ البخيلُ حين ينعس على النافذة
الستائرُ المسكونةُ بالنظرات لم تنسدل
لأنكِ في ليلٍ جامح
لكنّ ليلَ جسمكِ ليس أقلَّ
بل تعزّزين الظلمةَ بألوانٍ من عتمةِ عرائكِ الداخليّ
الآن تدركين وآنذاك
كم أنتِ كثيرةٌ وبيضاءُ وشديدةُ الحُلْكة والتهلكة
وتدركين غداً وفي كلِّ آنٍ عمقَ اللذةِ المفترضة
إذ تلوذين بجسدكِ الهاربِ الى مائِهِ
تفعلين هذا كمن يشتهي أن يكونَ شجرةَ كرز
أو يلوذ بموجةٍ صاخبة
تفعلين لأن قَدَرَكِ أن تكوني مأوى السعير
فيا لَعرائكِ الطائشِ في بياضِ الكلمات
تعرفين وتتجاهلين كم يرفعكِ الهَوَسُ الى أعلى الصارية
كم يُفضي بكِ الى هاوية عندما تتخلّين عن غوايةِ الضوء
نجمةٌ قد تأوهتْ عميقاً قبل أن تنصتَ إليكِ
قبل أن تغادرَ نارَ سمائها لتأوي إليكِ
هكذا تعثرين على السرّ في موهبةِ جسدكِ
وفي انتحارِ العقل ترشدين لذّتكِ المستعصية الى مينائها
العاصيةُ لذّتُكِ تستجيب دعاءَ مرساتها
في آهةٍ تترنّح
في سَفَرٍ حين يشبه صدفةَ يديكِ
في فوضاكِ التي من كثافةِ الخريف
فوضاكِ التي عتمةٌ عند الشفير
كالتي على الشفا
حين أنكِ تفاحةُ آخرِ الصيف
حين تختلـين بأرضٍ ناضجة كذهبٍ تلوّحه شمسُ الحصاد
حين أني حطبُكِ ونارُكِ
خبزُكِ وزيتونُكِ
حين أني أحرس غابتَكِ وعصفورَكِ
حين أختفي في طيّاتكِ كمن تؤويه غيمة
حين أننا خلوةُ مكانٍ بذاته
فماذا يبقى خارجَ هذه الليلة
خارجَ هذا الاحتفالِ كلِّه
ماذا يبقى من سببٍ للحياة
ماذا يبقى من سببٍ للموت؟!

***

حوار

ترتعشين في الحَرّ صفصافةً نشوى على نهر
مدّي بساطَ الأفقِ تحتنا ولأُنادِ الهاويةَ
ضوءَ كِ
نجمةً غافلةً عن الفلك
هاتي المساءَ الهاجمَ برعونةِ الأشقياء لأضفرَه عليكِ
وأحولَ دون الذين في الخارج
هاتيه
وليتبلّلَ بآهاتِ زيتكِ المبارَك
بالغزيرِ المنتفضِ منه
بالأبيضِ المتلبِّد
ليظلَّ الكنزُ مجمَّراً
الى الصحراءِ واليقظةِ الناعسة.
يؤلمني الجوعُ أيها الرجل
يضعني في ريحٍ عاتية
في الريح حين لا تتحرّك
يودِعني تحت سكوتِ المقصلة
يتلوّى ويكويني
أنقلْني إذاً الى مطارحَ قصوى
الى الشراهةِ حين لا تنتهي
إمنعْ عنّي فقرَ الجسد ولوعةَ الجوع
صوِّبْ إذاً أيها الفتى صوِّبْ جيّداً وعميقاً
ثم اجعلْ شيئكَ على سطحِ البحيرة
كثِّرْني، لوِّعْني
إفعلْني حديقةً للزرع
للأخضرِ اليانع، لعبورِ الملائكة
وللإهراق
ثم لا تَدَعِ الظلالَ تأخذ علينا حدّةَ الصيف
أو تحتلّ الحريق.
الماءَ
أَلاَ تريدين الماءَ أيتها الحرون
على ورقتي المتيَّمة بالعطش
رطِّبيني بالماء ليغمرَني الماء
ليليِّنَ وطأتكِ
ثم لننطفىء معاً أيتها المرأة
لنأوِ تحت لحافِ الجمر
غداً يحكمنا الضباب
نامي لأكونَ فراشكِ لتكوني السماء
ستستيقظين عندما يدخل الوقت في غيبوبة
فنصير تحت قوسِ الوئامِ المخدَّرِ بهلوساتِ التيه...
تستهويني فتنةُ الوقت
ذوِّبْني أيها الرجل
هيِّئْني بالجمرِ بالرماد
قشِّرْني
لوِّحني زبيباً على شمسِ السطوح
ملِّكْني الزروعَ والشجرَ والظلال
هاتِ الينابيعَ تبزغ هناك
جهِّزْني بالعري
نوِّمْني في العتمة
في ضبابِ اليدين
في أوهامِ ثيابكَ على الأرض
حرِّكْ صفحةَ الوقتِ الغافي
إجتزِ المسافةَ بوحشِ الرويّةِ العارفة
بحنكةِ الافتراس
وتابعْ...
... هاي أيها الرجل
نسيتُ إسمكَ في العرين
ضيَّعتُ كلاماً تحت العتمة
ليبتسمْ لي
ليبتسمْ دائماً وامنعْهُ عن شرود
فعندما أصل الى غزارةِ النبع أخشى وحدتي بعد صحراء
أعِرْني الآن شجرتكَ والفجرَ
وانتباهَ الفجر
ونجمةَ الصبحِ الوحيدة
وعينيكَ لأراكَ
أعِرْني قلبكَ لآكلَ جوعي.
يا لَشهوةِ الماء، لَغوايةِ الوصول، لَلجنونِ عندما يسترشد فجأةً
ثم يكون الشرودُ علامةَ الرضا أيتها المرأة
ويصير الصمتُ كمالَ المعنى.
صوِّبيني الآن بالتغيّبِ الناعس
بالمواتِ الجميل
الوصولُ مدعاةُ الندم
حسرةٌ أيضاً.
بلِّلْه بندى كلِّ الأوقات
طيِّبْه بالآقاح
مرِّرْ يديكَ على الأفق
أغمرْه بحيرةً على خريرِ الشلاّل
على النزولِ الجمِّ
هدِّئْه بسعيرٍ يوسِّع الأراضي
روِّضْه بالحركات
بسكرةِ الحركاتِ فوق هاوية
لوِّحْه بالوهم
ثمّ ارفعْني صلاةً عليكَ
الى أن يستتبَّ مواتُكَ في أعماقِ الدموع
وفي الأعماق.
... هاي أيتها المرأة!
لا تزعلي بسبب الشرود
غيبوبةُ وقتٍ تلي الكمال
تأوّهاتٌ تغمر هاوية.
هاكِ المتّسعَ للعودة
بعد قليل
تجدين رحابةً لنفرشَ الليلَ بحبقِ الشهقاتِ.
فتِّحْهُ الآن أيضاً...
لا تفتِّحي صمتي
يناديني تمامُ الأشياء
تخزينُ الماءِ في الأجاجين
نجاةُ الرطوبة
غداً تعود روحي في هذا الصمت
من انتظارِ أقبيةٍ معتَّقة
الى نبيذكِ الحيّ
غداً تسفِّركِ الى الأجاجين.

***

شمس الزيارة

لاعِبْني
دلِّكْ بابَ البيت بفتنةِ الرطوبة
ليِّنْهُ ليزيحَ عشبَ الانتظار عن أوّلِ الحديقة
مرِّنْه ليفتحَ الطريقَ الى غموضِ اليمّ
غمِّسْ ثغرَهُ بنداكَ ليندى
كمثْلِ شفتين متوسّلتين
جمِّرْهُ بشمسِ الزيارة لينضج
ريِّحْهُ بمراهمِ العطر ليتنفّس
شعِّلْهُ وسعِّرْهُ
أعجنْهُ بالرّيقِ وغنِّجْهُ
زيِّنْهُ بياسمينكَ ليطيبَ كسهرة
كرِّمْهُ بغفلةِ الراحة
إجعلْه شديدَ القتال ليبتسم
ألدغْهُ بحنكةِ المفاجأة وراوِدْهُ بظلالِ قبلة
ناوِشْهُ بالهرب وأرهِقْهُ بوعدِ الوصول
هدِّئهُ وعذِّبْهُ ليقرَّ على الجنون
مسِّدْهُ لتستيقظَ الدارُ من الداخل
فتجذب روحكَ الى مأوى الجمر
آنذاك نوِّرْ عبورَكَ بالحريقِ والعتمةِ الموشوِشة
برِّدْه بالحوارِ على الوجهِ كلّما قارب الفراغ
إجعلْ مقامَهُ في أعماقِ البيت
ليجمعَ الماءَ بالماء
وينتفضَ عنا ما فينا من الفضلة
فهذا هو حبّ.
جوِّعْني
لأكونَ لبوءةَ الضجرانِ في وحشةِ الدغلِ الليلي
لأناغشَ سطحكَ النافرَ بحدّةِ أسناني
لأداوي حطبَكَ المتحفّز
لألمّكَ كطفولةٍ رعناء
لأنتشلكَ من المكتوم
لأنزلَ بكَ الى المائدةِ
لأنهبَكَ وارثاً للعرش
مليكاً مخلوعاً
الى أن أفترشَ شجرتكَ وألتهمَ طعامكَ.
عطِّشْني ونهِّمْني
طمِّعْني
شرِّهْني
بذِّلْني وقدِّسْني
لتنضحَ البئرُ الغريقةُ بحجةِ الإدمان
لتزهِّرَ عينُ الماءِ بتفّاحِ الرغبة.
صحِّرْني نشِّفْني
غالِبْني بقليلِ الرذاذ
شمِّسْني بصراخِ الحمم وظمِّئْني بغيمٍ بخيل
عرِّشْ كرمتي وقلِّمْني
كرِّمْني ورئِّسْني أرضَكَ ومشاعَكَ لأتمكّنَ من قمحِ البيادر
أرهزْني وجوِّدْني
جمِّعْني ماءَ سراب
ليفترَّ العيدُ تحت الشهوةِ اليائسة
ويرتفعَ نخيلكَ فوق الغليانِ والهطول.
عرِّفْني وجهِّلْني
روِّضْني ونزِّقْني وأغِثْني
وأطْعِمْني
نزِّهْني على زهرةِ عرفكَ
طيِّبْني وملِّحْني وصرِّخْني
نوِّمْني ويقِّظْني وهدْهِدْني
لأتهادى
تقولين
ولأصلَ الى الميناء على موجِ البللِ الأخير.
... ترفعين إقبالَكِ فوق الهتاف
بصوتكِ السرّيّ رغوةُ الحديقة
ثم تنسَين صوتكِ جانحاً كمركبٍ يجنِّن شراعه
تحتجّين لأني مشَّطتُ عشبَكِ بهديلِ الغيوم ورعونةِ النزولِ العميق
لأني نوَّمتُ يقظةَ الأشجار ومنحتُ الثمرَ لذةَ أن يهوي في سلّةِ العتمة
ولأني أكلتُ خبزَ يديكِ وقدميكِ
والكرزَ المضمَّخَ بهواءِ الروابي وحنكةِ الفم
ولأني
تحتجّين
لم أتركَ ظلاً يقي عصفورَكِ قيظَ الشهوةِ المقبلة.
...
آنذاك
حين
ينزل
قلبي
ليهجعَ
إليكِ
يلمع
جنسكِ
عميقاً
تحت
موشور
الليل
الأنيق
فذلك
حقاً
يكون
قمر
الحبّ.

***

رفيف

كان وجهُها منسحباً الى أحوالِهِ في العتمة
حديقةٌ تبدأ من عطورها ولا سياج
صلواتُ أيقونةٍ خاطئة وفتنةُ ضوء
جمرُ لهاثٍ وشفتانِ تأكلانِ قربانةَ الليل
لمعانُ أسنانها يشتعل بلا صوت
يداها الفوضويتان مِتعتان في جِواريَ المظلم
غرائزُ حركاتها حفيفُ أفكارٍ وقصائد.
لم تكن تفعل شيئاً يُذكر
جسمُها يرتدي ليلَ المكان وليلاً تجمّع عليه
ركبتاها العاريتانِ الى أعلى
كليلتانِ مهمَلتانِ شاعرتان
متعتانِ وتشبهان الرذاذَ الغافي
الليلُ الأهوجُ عليهما
منحدراً الى الكاحلين
دكنةُ عسلٍ افريقي
شمسانِ ساقانِ بل حمحمةُ صوتين
لا شيء يُذكَر سوى غموضِهِما
فليس واضحاً ماذا يُحدِث هذا العريَ
لا شيءَ سوى رفيفِ عصافير
من تأوّهِ الركبتين.

***

حُلْكة

كنّا داخل سيارة
ثيابُها القليلةُ تموء
المقعدُ متأوّهٌ من حنانِهِ
في الخارج
منارةٌ ساهرةٌ في ماءِ الانتظار
لهاثٌ مهلِكٌ بحرارتِهِ
الرذاذُ المتهالكُ لم يحتمل غيرتَهُ.
جسدُها العارفُ كان منارتَنا في الميناء
المساءُ المتراخي من عينيها رتّب أحلامَ أيدينا
وحُلْكةُ جسمِها أشاعتْ توسّلاً في الجوار.
كانت تفترّ في غموضِ صمتِها
وجسمُها يزيح غبشاً عن القلب
صفاؤها كثّف صيفَنا النزِق
ضحكتُها عطّرتِ السوادَ المبدَّدَ بنزولِ القمر
والشارعُ المثخنُ بالزوّار انضمّتْ إلينا أشجارُهُ جوقةً من الجواري.
كانت عميقةً كغموضِ ما تضافر من يديَّ
يداها أعجوبتانِ وترفعانِ الغريق
زورقُها يجعل وطأتَها ليّنةً كبحيرة
لم أعرف ضوءَ ها إلاّ حين نزلتْ أعمقَ
حكمةُ جمرٍ حين أطبق على مأواه
الأشياءُ المرتَّبةُ انسحبتْ الى أحوالنا
في غيمةِ وجهِها
تبدّد هولُ السماءِ
أضواءُ الشارعِ زيّنت القناديلَ بحميّاها
الواجهاتُ انحنتْ
كان المشاةُ يرسلون وشوشاتِهِم
شظايانا انسدلتْ على المرآةِ المتأوّهة.
المراكبُ التي تاهت في بحرِنا عادت تهتدي الى بحرِ الميناء.

*****************

من «إفتحي الأيام لأختفي وراءها»

لكنْ، مَن أنا لأكونَ راويكِ!
قلبُكِ الذي نزل على أصابعي فتح بيتاً ودعاني.

مكتوبةً للصيد والطريدة
تبدأين أعمارَكِ باختراع الكلمات
وعندما تلمسين الحروفَ يعمّ السحر
وتعيدين اكتشافَ الحياة
للذين تقتلهم أعمارهم
للذين يسكنون في الانتظار
والذين لم يولدوا بعد
يغمركِ نحلُ الجناس
ويعيد تشكيل معانيكِ
وعندما تؤلّفين بين المنيّة والأمنية
تصيرين قفيرَ الموت ولغةَ الشعر
وتصيرين عسلَ الله
زهرةَ منتصف الليل وإلفةَ الجحيم والفردوس
كيمياءَ الصدفة التي تشيع لذةَ الاقتران بالموت
وبثِّ الحياة في الأنحاء التي تعبرين
ويصير يكفيكِ في نومكِ وفي يقظتكِ
أن تسافري في نجمة الذات لتقنصي الخيالَ ولحظةَ هبوب القلب
الى أن يزدادَ شعبكِ كأعجوبة
وتعشقَ الحياةُ سعادةَ أن تحيا وتهلك
فتُردين القتيلَ قبل أن ترَيْه وتكتبين الحكاية.
ها هو النهار
أبدأ بالجسم المكسور
تجرحني المصافحاتُ ويؤلمني هوسُ الضجة
غارقاً في رمل الوقت
لا تليّنني رائحةُ نافذة ولا ورودُ التأملات
لا المراوغةُ تجديني ولا الهربُ ثم لا ميناء
مشتهياً كسرةَ خبزٍ من أوقاتكِ عندما لا تجيئين
ومشتهياً قسوتَكِ الليّنة ولا أحتمل
تنزلين على الحياة ولا وطأةَ لكِ
تحدّدكِ نزواتُكِ الطيبة وتسوِّرين إقامتَكِ بهاوية الرجوع
تقيمين في أعلى الخيال وعندما تطلّىن على حافة البحر
تأخذين المدينة بلا مقاومة
فافتحي الأيامَ كي أرتمي عليكِ
إذهبي بعينيَّ كي لا أخسرَ نظرةً
أستري روحي كي أمنعَ بصرَكِ عني
غادري كي أختفي وراءَ حبِّي.
لا قناعي يمنع الفضيحة
ولا اشتعالُ الزهد يبدّدني عنكِ
زيتُكِ شمسُ سراجي
نارُهُ تجنّن صمتي
وعتمتُهُ تجعلكِ بيضاءَ.
المدائح!
لا تُجديني المدائح ولا تصل إليكِ
تفضّلين الصمتَ كي أخاطبَكِ
لكن منابرَ سكوتي محطَّمة وصوتيَ لا يرتفع
أجافيكِ وأتجنّب خوضَ غمارِكِ في اليمّ وملاقاتَكِ في البيداء
أذهب إليكِ مسافراً بلا زاد
أهرب وأصل فكيف أداري نفسي وأين أغمض بصري
أفاتحكِ بالعينين وغيمةُ قلبيَ البيضاء رداؤكِ
وأنا أدنى إليكِ من مرورِ عصفورٍ بغابة
أريدكِ من أعلى القرى الى أعماق الأنهر
ومن رنين الوَضَح في الظلمة الى خفايا أنحائكِ السبع
وأريدكِ عن غَيرة الأفكار وعن الرجال جميعاً
ومعي عدّةُ الحرص على الجنون والتنكيل بالحكمة
أقاربكِ بالجزء للكلّ
مرتقياً كي أهديكِ تهدّلَ أغصانِ الأرز وأزهارِ الانتظار
حاملاً سكوتيَ المطالِب
كي أكاشفَكِ صحراءَ قلّتي وخوفي!

أخاطبكِ وأقصد هروبَ نظراتِ الفاكهة
امرأةً تجيء لتكونَ كلَّ جهة
تكتب لجسدها الضحكة وتفتّح لي جروحَ مائها
وبعينيها المهملتين تكرّ العتمة وتعثر عليّ
امرأةً تضعني في كلّ الأمكنة ثم لا تجدني
لأني في ثوب الهواء
وهكذا أخاطبكِ
ويداكِ تحوكان نسيجَ الوقت
فأحضر ويحضر سواي
شخصٌ واحدٌ وأشخاصٌ ثم لا أحد
شعوبُ غرائزَ وغياب
وإلاّ ماذا ينفع إنْ لم أمنعِ التكرار وأقع خارج الوقت!
أخاطبكِ ونظراتي طائشة
عينايَ عليكِ وفي كلّ مكان
وكم يُتعبني أن أكونَ مبدّداً هكذا
وكم أغيب ويحضر جسدي فإذا هو طيفٌ كاذب
لا جنسَ يحصيني ولا عناق
لا فراقَ يعيدني الى نصابي ونزولي على نفسي
حاضراً ومنهمكاً ومبتعداً
فاشلاً وباهراً وغامضاً
ثم جارحاً كطعم العسل والأغنية
أنا الخارجُ على الوقت وأنا لحظةُ النظر.

ولأعترفْ
كان يمنعني عنكِ كلُّ هربٍ يركض فيّ
وكان يمنعني عنكِ خوفي على المعنى
وكم كان يضنيني أن أغيبَ مثلَ شمسٍ وراء غيمة
ومثلَ قمرٍ في نهار
لكني عرفتُ سذاجةَ هجرتي
وعرفتُ أن غيابي احتجابُ العودة الى الرحم
لأني منتظرُكِ وغائبُكِ ولأني أغدر بهربي
فكم هائلٌ ما تفعلين
ثم كم وكم عندما أهرب لأن كلَّ عثورٍ مانعٌ عن الكل
فأكون في استيلائكِ عليّ وفي نزولكِ على هروب جسدي.
ولأعترفْ
أجدكِ عندما تصلين الى صحراء نفسي
وصحراءُ نفسي لا شجرةَ فيها سواي
تجدينني ولا تستطيعين البقاء طويلاً لأني صحراءُ الله
وعندما أتوب الى هربي فلكي لا تصبحَ الأرضُ ضيّقةً
ولا المتاهةُ ميناءَ خلاصٍ جزئيّ
ثم أجدكِ عندما يعييني البحثُ عن سماءٍ مفتوحة
وعندما أعثر عليكِ فإنما تحت سقفِ الشعر
وإذا أمطرتْ أقول ها هي تمطر في كلّ الأمكنة
لأني أحبّ البقاء ولا أعود قادراً على الهرب
وكلما رأيتُ نفسي عائداً الى بيتِ جسدي أعثر عليكِ كأنما على بيتي الضائع
من هجراني أعود وهذا لسببِكِ الأشدّ جمالاً من حياتي
ومثل هذا يجعلني خالصاً من الوقت ومن المكان
ويمنحني اسمي حرّاً ومكبّلاً ثم حرّاً منه
فأخاطبكِ بصوتي وبغيرِهِ ثم أقتل صوتَ غيري
وأنزل عليكِ
وأخاطبكِ
لأنكِ تريقين نبيذَ ضجري فيظلّ خيالُنا مرتوياً
لكني أخاطبكِ وعيناي تفتشان عن شقيقٍ ضائع
وأخاطبكِ لأني مقتضَبٌ كشمسٍ لا تشرق طويلاً
كحياةٍ في قطبٍ تغمره الظلمة
وها هو جسدي يعبرني ولا يضعني.

أذهب الى مسائكِ ومعي جمرُ الاعتذار
أجعلكِ وسيطاً بين قلبي ولفظي لتدمليهما باحمرارِ الوجنتين
أنجز الوقتَ
وأحوك الليل دثاراً لضحكتِكِ الكارجة
أسترق النظرَ إليكِ من غيرةِ عينيّ
كي أختلسكِ من جسدِكِ
كي أنهبَ كلّ ما أستطيع ولا أعلن
كي أراكِ مرةً وحيدةً بكمالِ الرؤية
كي لا تعرفي أني ضعيفُكِ
كي تعرفي كم أنا ضعيفُكِ
كي لا أعرفَ أني أحببتُكِ
كي أعرفَ أني أحببتُكِ
كي لا أفقدَ حباً لا ينازعني أحدٌ عليه
كي أكونَ أعينَ كلِّ الذين يحبّونكِ
كي يتوافدَ أحبّتُكِ من قلبي فأوزّعهم على منازلِكِ السبعة
آنيةً لباقاتِ الخزامى
كي أهيّئَ الحطبَ لتشعلي الطريقَ أمام أفكارِكِ
كي أرتّبَ بيتي لموسيقى عشّاقِكِ ولجنونِ الآخرين في جسدِكِ
كي أرسمَ قمرَ العشّاقِ على العتمة
ليكونَ نافذةً على كلِّ خيال
كي أسعفَ الذين يحبّونكِ بحبّي
كي إذا بلغوا ميناءَ كِ يصلوا بمراكبي الكثيرة
كي في عتمةِ يديكِ
أصيرَ قناعَ مَن يدلّكون أحزانَ روحِكِ بالشعر ولعنةَ جسدِكِ بالجنس
كي تباركَني لعنةُ الماضي وتُغويني لعنةُ خلْق الحاضر
كي أُعدَّ طعامَ الصداقة لتنشغلي بالوليمة بدلَ السَّفَرِ في الهاوية
كي أسكبَ نبيذَكِ الأبيض على رخامِ الوقت
كي أرتضي أن أكونَ فُتاتاً لانتقامِ الجوع بعد عودتِكِ من كلِّ حبٍّ وخيبة
كي أجعلَ عينيكِ مرآةً للنظر إليّ كلّما غامتْ روحي تحت عشاءِ الرؤيا
كي أناديكِ مغسولةً بالطيب وملطّفةً بسعيرِ عطرِكِ الملائكي
وكي تكوني بديلي وغائبي
كي غداً وبعد غدٍ وأمس لا يعرف أحدٌ كيف أحبّكِ وكم
وحيداً وبلا منافسة
كي مسترقاً ومتسلّلاً أكونَ الرواقَ المفضي الى لحظةِ اندلاعِ خيالِكِ
وكي أكونَ نازعَ الليل عن وجهِكِ الى أن يسكرَ مني الحاضرون
كي، متقطّراً من النبع، يحصدَني الصيف ولا يبقى عليَّ ماءٌ في الشمس
كي أكونَ نظراتي فلا يشاركني أحدٌ متعةَ الفوز بكِ
وكي أكونَ مرارةَ أن تحملَكِ نظراتي الى البيت وأعودَ خالياً من عينيّ.

أقول هذا هو الحب
أعلّق يديَّ على خشبة لأوافيكِ في الصحراء والليالي
يُهلكني أنكِ تعدّين المائدةَ للآخرين
يُرهبني تهديدُكِ ولا أريد سواه
بقوةِ الأعداء ينهب كسلُكِ خزائني وأزعم أنها هداياي
يسلس الجنون قيادي ولا أعرف أن أليّن أحصنتَكِ
تقولين هذا هو الحبّ
وتقولين إنكِ خفيفة ثم تجتاحين حياتي
لا تتحمّلين انتظامَ الحياة
يجرحكِ خيالُ الكلام وحتى نظرةٌ تريد أن تصلّي
فماذا أصرخ ومَن أستنجد!

أوسِّط بيننا ملائكةَ الرأفة ليرفعوا للطريقِ ضفتين من الزنبق
أتداوى بصبرِ الأعشاب على العذاب
أكابد كي لا تنزلَ من وجهي تعابيرُهُ
أقتتل في دواخلي لأوحّدَ جموعي
وأصدّ بهاتين يديَّ جموعَ ليلِكِ
أجانِبكِ وطأةً تقتلني ثم أنتحب عليكِ
أضعكِ في صيفِ الفردوس تخبلينني في الجحيم
أرفعكِ الى غيمِ الموسيقى ترمينني في أخضر الصمت
أكلّل غيمَكِ بالمطر تخرّبين برديَ بالشمس
أحبّكِ تصيرين منتصفَ قمرٍ في آخرِ البحر
طعاماً لدلالِ الخيال
فماذا أصرخ ومَن أستنجد!

هكذا يبدأ اعتذاري
أنظر إليكِ بعينَيْ ذئب كي أتركَ لنفسي أن تراكِ
عن كلِّ مرةٍ ممكنة
عن كلِّ مرةٍ مستحيلة
عن كلِّ حياتي السابقة
عن الحياةِ المقبلة
عن الأفراحِ والأوجاع وعن الموتى والأحياء
عن اللصوصِ والملائكة وسارقي التفّاح
عن أولئك الذين يأكلونكِ بوحشةِ أجسامِهم ويشربونكِ بعطشِ الصحارى في أعينِهِم
عن نفسي كلما كثر عددُ الذين يلتهمونكِ
عن كلِّ الأجيال
عن الذين يحبّونكِ نيابةً عني
عن الذين يحبّونكِ نيابةً عن أنفسهم
عن الذين يتركون على الأبواب دموعاً ومشاعرَ انتقامٍ لأجلكِ
عن الذين يغارونكِ ولا يغارونكِ
عن الذين يكرهون أن يقاسمَهم أحدٌ نظرةً اليكِ
عن الذين سيحبّونكِ كلما غادرتِ
عن الذين يتوجّعون كلما عدتِ
عن الدوارِ الذي يسلبني براعتي في الوصف
عن التماسُكِ الذي يغريني بمفاتنِ البعاد وكبرياء المغادرة
عن اللفظِ الأقلّ بلاغةً من حبي والنظرةِ الأقلّ نفاذاً من الماءِ في الصخر
عن كلِّ مرةٍ تقفينها أمام مراياكِ وتمحوكِ مراياكِ بشراهةٍ ضاحكة
عن كلِّ مرةٍ تكونين امرأةً أخرى
عن كلِّ مرةٍ تكونين لإخوتي وأعدائي
عن كلِّ مرةٍ تكونين لي
عن كلِّ مرةٍ تكونين لي ولإخوتي وأعدائي
عن طفلةٍ على غرارِكِ تولد سبعَ مرات وأموتها سبعَ مرات
عن السبعِ النساء اللواتي يُقمنَ فيكِ
عن سجونِكِ السبعة وتزعمين أنها أمكنةٌ للفرار
عن يومِ الأحد حين أيضاً لا يستريح الله من خَلقِه
وعن عددِكِ الصالحِ لأيام الأسبوع ولا عددَ لكِ
عن الرجالِ الذين تحبّينهم
عن الرجالِ الذين لا تحبّينهم
عن كلِّ رجلٍ آخر تحبّينه وتكرهينه
عن كلِّ نظرةٍ تشتهي أن تكرجَ عليكِ
عن كلِّ يدٍ لا تملك أن تلامسَ خيالَكِ
عن خيبتي عندما أعود الى البيت ولا أرى ضحكتَكِ على قلبي
عن غيرتي كلما رأيتُ ضحكتَكِ وليمةً في أعينِ الآخرين
عن كلِّ رغبةٍ لا أستحقها
عن كلِّ رغبةٍ تستحقين أن تملكيها ولا تملكينها
عن كلِّ سكوتٍ لم تعرفي أنه لأجلِكِ
عن كلِّ ثرثرةٍ زائدة
عن كلِّ أحزانِ يديّ وعن كلِّ خوفٍ وارتباكٍ لا يراعيان وداعتي
عن كلِّ ذهابٍ لي عنكِ وإيابٍ إليكِ
عن كلِّ حكمةٍ أسديها وعن كلِّ جنونٍ أحاكَم عليه
عن ادّعائي وتواضعي
عن غريزتي كلما عرفتُ أنكِ ستسلبينني مناعةً باقية
عن ذكائي كلما دعوتُكِ الى العشاء
عن سعادتي كلما أحببتُ خسراني
عن جهلي ومعرفتي المسبقين
عن كلِّ عاصفةٍ لم تكسر شوكةَ أغصاني
عن كلِّ عاصفةٍ كسرتْني وأغصاني
عن كلِّ هاويةٍ رمتْني إليكِ
عن كلِّ هاويةٍ رمتني إليكِ ولم أهوِ
عن رعبي بأن رجلاً آخر يقيم فيكِ
عن رعبي بأن رجالاً آخرين
بأني لستُ لصّهم وأمينَهم
وبأن امّحائي غير تام لأكونَ جنودَهم وأعداءَهم معكِ
فماذا أصرخ ومَن أستنجد!

هكذا تبدأين اعتذاري
تنظرين إليّ بعينَي ذئبٍ يتأهّب للفريسة
كي تتركي لنفسكِ أن ترَيني عن كلّ مرةٍ ممكنة
عن كلّ مرةٍ تقيمين في مكانٍ محدّد
عن كلّ مرةٍ لستِ في أمكنةٍ عديدة
عن كلّ مرةٍ تأوين الى جسدِكِ كسائر النساء
وتتعرّىن كخيالِكِ
عن كلّ مرةٍ أنكِ
وأنكِ
وأنكِ نائمةٌ في بحيرةِ حناني
وأنكِ حرّةٌ مني
وأنكِ حرّةٌ فحسب
وأنكِ مَن أراها ومَن لا
وأنكِ تمنحين الآخرين أن يرَوا فيَّ أسماءَكِ
وأنكِ تصيبين أهدافَكِ بلا قوس
وأنكِ تعرفين خوفي أن أنظرَ إليكِ
وأنكِ تعرفين مشقةَ أن لا أنظرَ إليكِ
وأنكِ تجهلين مشقةَ أن أنظرَ إليكِ
وأنكِ كلُّ شاردةٍ وشاردٍ منكِ ومنّي
وأنكِ صفاءُ جلوسي تحت الليل الى أن يأتي الملاكُ حاملاً البشرى
وأنكِ سقفُ الغيم وغريزةُ الرملِ المتحرّكِ تحت وقوفي
وأنكِ ملاكُ كلِّ ضحكةٍ ونومٍ لي
وأنكِ شيطانةُ زهرةِ الفيروز
وأني لن أسترقَ النظرَ إليكِ يوماً
وأني سأنظر إليكِ مثلما أنظر الى أيِّ امرأة
وأني سأصافحكِ
وأني سأخاطبكِ بكلامٍ وقور ومشاعرَ أخوية
وأني سأجاملكِ مثلما أجامل حياتي
وأني سأتعايش معكِ مثلما أتعايش مع موتي
وأني عاقلٌ لأصحّحَ لكِ الأخطاء وأسندَكِ في المشقات
وأني مدركٌ أنكِ تبدعين شيئاً هائلاً غيرَ جمالِكِ فيَّ
وأني سأكون مع امرأةٍ أخرى
وأني سأكون معكِ ولن أكونَ معي
وأن أحداً سيعرف
وأن أحداً لن يعرفَ
وأني بابُ بيتِكِ وفنجانُ القهوة
وأني صالحٌ للقفز من الباب الى الشبّاك ومن الشبّاك الى الخيال ومن الخيال الى الهاوية
وأني ضالعٌ في حنكةِ مراياكِ
وأني جناحُكِ المتمرّدُ عليكِ كلما وقعْتِ في الحكمة
وأني أفرادُكِ الضائعون إليكِ في التجربة
وأني الأزرقُ من خوفي والأحمرُ من غبطتي والأبيضُ من اغتسالي بطيبكِ
وأني كلُّ الألوان لكِ
وأني مدينٌ لكِ بالأوجاع كلما تحرّك أنينُ الجبال في الأعالي
وبالنظراتِ حين تقول للقتلى أن يتجمّعوا في رأسي
وأني مجنونُكِ كلما لممتُ لكِ ضحكةً
وأني لم يتسنّ لي أن أبيحَ نفسي لنزولي الى ليلِكِ
وأن نفسي باتت لكِ مباحةً بلا إرادةٍ منّي
وأني مباحُكِ وممنوعُكِ قبل أن أخافَكِ وأهربَكِ
وأني الملاكُ الساقطُ من سقفِ غيمةٍ على سطحِ هاوية
وأني ملاكُ وجهِكِ وشيطانُ دعوتِكِ
وأني شعبُكِ وصحراءُ عبورِكِ الى اليمّ
وأني جسدُكِ الذي يسند ترابَ الحديقة من الانزلاق
وأني بيتا دموعِكِ ومعطفُ شتائِكِ الأخفّ من الهواء
وأني سأهرب في رأسي حيث أستطيع أن أحتمي من هلاكيَ المعلَنِ فيكِ
وأني لن أجدَ حمايةً لنفسي منكِ
وأني سأهرب فلا أرى نظراتي كي لا أراكِ
وأني هاربٌ مذ رأيتُكِ الى مجاهلَ أكتشف بذهولٍ أنكِ فيها وأني مغبوطٌ لأني ذاهبٌ الى أمكنةٍ سأجدكِ ولن أجدَكِ فيها
الى أمكنةٍ تحرقني بعذابِ غموضها
وأني إذا استرقتُ النظر ولم أجدكِ سأراكِ بتمامِ قلبي
وأني إذا رأيتكِ فبأعينِ جميعِ مَن سيحبّونكِ وسيكرهونكِ
وأني إذا أتممتُ الرؤيةَ سأفوز بعماءٍ عظيم
وأني هالكٌ ولستُ صالحاً لأكونَ ميناءَ عودتكِ من بحارِ أسمائِكِ الكثيرة
وأني صالحٌ لكلّ هذا
وأني ساهرُكِ
وأن موتي ليس أصعبَ من انتظاري
وانتظاري تحت قوسِ القزح ليس أجملَ من حبّي وأنتِ تتريّضين في عريِكِ الحرّ إنعاماً للقلب وتلييناً لأحوالِهِ
وأن حبَّكِ الناضجَ في أتونِ الوحدة سيكون سميري
أنا المقيمُ في عتمةِ الباطنِ الى أن ينموَ البحر في أحدِ الأيام
وأني جارُكِ في الخيال وتوأمُكِ في الليل وجديدُكِ في الرجال
وأني العددُ الذي لا يُحصى لأني لستُ في مكان
وأني مدمعاكِ كلما تساقط البللُ الغامض ولم تجدي أرضاً لزرعِكِ سوى فراغِ البئر
وأني كاتمُ وجوهِكِ وأهوالِكِ وكاتبُكِ كلما أقمْتِ في ريفِ جروحي وكلما ارتحلْتِ
وأني صباحُكِ في الفرج وظهيرتُكِ في النوم ومساؤكِ في الضيق ونصفُ ليلِكِ في الرغبة
وأني غائبُكِ وحاضرُكِ بسبب القناعِ وأصلِ الوجه
وأني أُتمّ مشورةَ القلب ومبالغةَ الخيال وسَفَرَ الوهم
وأني الأسرعُ بين الطيور لأقعَ الأسرعَ من الغيم
وأني المتهوّرُ كلما أبعدتُ بصري عن مرمى القنص لأرى بالغريزة مخبأَ الطريدة وفرارَها
وأني المقيمُ بسبب العاصفة تحت سقفِ الغيومِ الكثيفة
ولا يدُكِ تضع حداً لجمالِ ما أنا فيه
ولا جنونُكِ يقول كلمةً ليهدأ روعُ القمر
ولا وحدتُكِ تقول لي تعالَ.

ما أكثر أعدائي وأحبابَكِ
يحبّونكِ كلما قتلتُ لأجلِكِ واحداً مني
ويبدعونكِ أعمقَ بجمالِ غيابِكِ عني
وباجتماعِ حبّي في بئرِ أيديهم وخيالِ وجوهِهِم
وتعرفين وتتجاهلين
أني لغةُ حواسِكِ ومجيئِكِ الغائب
أني نسلُكِ ووارثُ كثرتِكِ بين النساء
أني ميلادُكِ وميلادُ أولادِكِ الذين يهيّئون السفينةَ لنوحِ الطوفان
أني الإثنان من كلِّ أجناسكِ لتكثيرِ الحبّ بعد خرابِ الأرض
وأني أناديكَ أنتَ أيها البحرُ الخجول يا حجرَ الفيروزِ الليّن
أسرجْ موجكَ وحمِّلْه الى نافذتها من لدني ومن بلادِ القيظ نصفَ القمر
وشجرةَ قطافٍ لصيفِ فمِها الحارق
وحيث يكون المطرحُ الأخيرُ من ارتمائِكَ في الأفق
وأني أناديكَ أنتَ يا ماءَ العطشِ المشتعل
تعالَ الى تحت أيضاً
ثم الى أسفلَ أيضاً
فالى الأسفلِ الأسفلِ الأسفل
وامنعْ كلَّ ارتواءٍ لا يكون سراباً لقمرِ سمائِكَ المنحني على ليلها.

مطالَبٌ بيديكِ
لا أحد يعرف من أين تجيئين
ولا كيف تشبكين أصابعَكِ على مزاجي
وتنزلين نزولَ الستائرِ على الزوّارِ والمائدة
يحكمكِ كتمانُ الشوق وشظفُ بقائيَ في الردهة
ولا أعرف كيف أجد الذرائعَ كي أشقَّ الطريقَ من عتمتي
كي أجدَ متسعاً من الهواء والغبطة لأحوالِ البيتِ وأثاثِه
فكم عندما تدقّين الباب تكون ضحكتُكِ زهرةَ جسدِكِ المترنّح في الدغشة وبعد منتصف الليل
وكم تجدّدين الوقت كسلال التفاح المقطوف آخر الصيف
وكم عندما تأتين تأسر ضحكتُكِ شمسَ الشرفة وقمرَ الحياة الداخلية
وكم عندما تأتين تندلق كؤوسُ الكآبة على سجادةِ الحياة
فتسحبين البيت من وحدتِهِ وتطرب الصوَرُ المعلَّقة للموسيقى ولكلامِ عينيكِ
وتفوح العطور بين سطورِ الألوان
وتنزل لوحةُ أختي من إطارها لتخاطبني بهوسِ نظراتِها الهاربة
وكم تشرق مرآةُ المدخل من نومها ويقرع جرسُ الكنيسة المجاورة ويشتعل القدّاسُ في كنيسة لعنتي
عندما ترَيْن ملائكةَ حبّي على النافذة ينثرون الثلج والمجوس على الطريق المؤدية الى روحي
وكم عندما تأتين يأخذني الاعتقاد أني كائنٌ صالحٌ للمودة ومتأهبٌ للنزول
وكم أتلفّع بعينيَّ المضيئتين كذئب
وأصفّق لطيرانِ ثوبِكِ بين أوراقي
وكم أحلّق بليونة الهواء وخفّة السنجاب ومراوغة الفراغ
عندما تبدّدين المسافة الفاصلة بصوتِ عينيكِ
وتمسحين الحياة بالزيت
ثم تضعين يدَكِ عليّ فأكاد ابتسامةً أكون
ومن حدبكِ أصير خبزاً وحبةَ زيتون
فأحمل جسدي وروحي كي تأكلي وتضحكي
وكم في محراب لقائنا آخذكِ بالحكمة وانتظار الهلاك
الى أن يدقّ فؤادي مثل قبّة الجرس
فأواسيكِ بالقربانة المغموسة وأبرئكِ بالماء والموسيقى وأستر هشيمَ الأنفاس بلهاث العتمة
وكم أظلّ حتى يسكرَ الوقت كشجرةٍ مهووسةٍ بالحافة
وكم حين يترنّح الليل أردّ عليكِ لحافَ يديَّ
وضحكةً لا أراها
وثوباً ملقىً على شفير روحي
ويوقظكِ جنونُكِ في منتصف الليل
تكونين لا غافية ولا عيناكِ ناظرتان
وأكون
مَن أكون أنا لأكونَ راويكِ
ينثر جسدُكِ زهرَ الشوق على سطحِ شتائِهِ فيخضرّ الصيف
وعندما يرتمي داخل قميص نومه لا أحد يعرف كيف يرتعش القطن
وعندما يستبدّ الجمر يرفعه عبءُ الظلام الى السرير كمن يرفع غائباً الى ضميره
وعندما تطالبين بعتمة يديّ
تنزلين من ثيابِكِ كآهاتٍ تتدحرج من عينين خفيضتين
وتتيهين في عرائكِ كأنما في صحراء العطش
وتتلاشين على ضمير الفراش كأنما تغدرين بأعمارٍ سابقة
وتنحنين على عجينِكِ الليّن تحفّ بكِ إلفةُ النار والماء
وتكتبين الليلَ أسودَ أسودَ
وتختمين الجروح بضحكاتٍ مبلّلة
ولا تدلّين المركب الى سلام الميناء
وعندما تطالبين
ينقلكِ صفاء الوجه الى هواجس الملاك
فتستلقي عليكِ نجومٌ صافية
وتأسركِ الظلال كأنما ترشفين دموعَ مراياكِ
ويبهركِ الجنوح الذي يخطف الشاطىء الى حافة الغرق
وتنادين بالتوسّل الذي يتفتّح من أسرار الليل
وتشهقين بجنونٍ ليس له صوت
وصلاةٍ تفوح بالعرفان
وعندما يطيّركِ الغيم الى زرقة الفيروز
تأخذ أنحاؤكِ بالغموض الذي يُفشي ندى الينابيع
وبالماء الذي يُلهب جروحَ العطش
وبالظل الذي تعثرين على أنوثتكِ فيه
وعندما تطالبين
تحملينني الى الأطراف التي تغار من الابتعاد
وعندما تغيبين في أنحائكِ العميقة
تأخذينني الى الكتفين اللتين تتنزهان بين الشامات
الى النهدين اللذين يأبيان النعاس
الى الساقين اللتين تنسحبان الى فوق
والى الشفتين اللتين تنفرجان عن وشوشات الشغف
وعندما تتّحدين بأنوثتكِ
تطالبين بالجنين الذي يغرق في ذكريات الغمر
بالبلل الذي يشبه مرايا طفولتي العمياء
والأمومة التي تؤوي يُتمَ يديّ
وعندما تعودين من غيابكِ الآسر
يلمسكِ نزولُ القمر على النفس
وتزورين الكنيسة وتتركين قصيدةً على المذبح
وعندما تصلّين يقبّلكِ الملكُ الساهرُ على تلةِ النهر ويضع في يديكِ باقةَ خزامى
فتصيرين ما أشدَّ طغيانَ العاصفة وما أرقَّ عبورَ الخلاص
وتصيرين وجهُكِ تكريمٌ لصفاء السرّ وتقوى الخطيئة
جمالَ بزوغ الحبّ من خدعة الحواسّ
وتنزل عندما ترتجفين أيقوناتُ الحبّ لتنشدَ لكِ
ويصدح صوتُ المغني لأجلكِ
وتتغافلين عن صمتٍ يرافق جروحَ يقظتِكِ
وتسألين عن الطعام فيحمله الخادمُ الجبليّ وعلى ثيابه نقابٌ من ذكاء الفطرة
وتسألين عن النبيذ فتنفكّ أزرارُكِ من تلقائها
وتنسَين ثيابَكِ تحت الضوءِ الخافت وكعبَ حذائِكِ
وعندما يُبكيكِ الحنانُ والخوف
ينزل الصيفُ وفي يده منديلٌ لبلسمة الدموع
وعندما تضحكين يعود جسمُكِ الى وئامه
وعندما تأكلين تزور الشرفةَ حمامةٌ بيضاء وتهدل لكِ ثم تغمزكِ بريشةٍ تتركها في الفضاء
وعندما تسخرين من قسوة العقل
يحملكِ الخيالُ الى ليونة الأسماء الأخرى
وعندما تنزلين تنزلين
يدقّ الأفقُ حاملاً آخرَ البحر وبعضَ القمر
وعندما تخلبينه يقول لكِ تعالَي
وينشلكِ الغريق من يديه ويضعكِ على المركب محفوفةً بأفكار المجاذيف
وبدل أن يعيدَكِ البحرُ الى الميناء تأخذينه الى السَّفَر
وجهتُكِ غيمةٌ ينام تحتها الماء
تسافرين وتتركين الجمرَ يحفر أرضَ الموقدة
وزرَّ قميصِكِ وقلبي باردَين على السجادة
فكم أليِّن غيابَكِ بفراشٍ تتقاسمه أفكارُنا
عندما تشيع بيننا هواجسُ الوداع فتفوزين بكلِّ شيء
جمالكِ ووجداني وحرائق الآخرين
وتحسّين على سريرِ مناماتِكِ أنكِ الملكة
عندما تظلّلكِ هزائمُ نظراتي وانسحابي
وعندما يعبرني جنودُ الوحشة السوداء بأحذيتهم الموحلة
تُعميني حلكةُ قلبي
فلا يتغضّن ظلٌّ في ملامحي ولا آهةٌ تتقطر من ثيابي
ولا تعرفين كم أكون غائباً عنّي وكم تحرقني شمسُ متاهتي
لكني أفتّش عن عطرِكِ المستلقي على دلالِهِ
نازلاً من الكتب والنظرات كمسيحٍ في الميلاد
وعندما أعثر عليكِ في كلام الشجرة
أسمع طفلاً يطارد لهاثَ المركب المسافر
مهلوساً أن الغيمةَ تنام على شرشفٍ أبيض
وأن الهواءَ يخطفها ليقتل الغَيرة
وأن الأخضرَ ثأرُ الربيع من الشتاء
وأن القمرَ قبلةُ معلّمة والنجومَ أنفاسُها اللاهبة
وأن العصفورَ رسمةُ ولد عندما يخرج الى الشرفة
وأن الليلَ ينزل على الأرض لأنه يطير من قفص النهار
وأن الظلَّ كيمياءُ الحبّ والانتقام بين الشمس وبياض الكوكب
وأن الجمالَ تحريرُ الرقةِ من طغيان النظر
وأسمعه عندما تسافرين فأضيّع جوابَ الهواء هالكاً على لهاث النافذة
وأطيش عندما تسحبكِ الحياة الى أحوالِكِ
فتحظَين أيضاً بمرارتي وصداقةِ الشتاء
وتصلكِ أفكاري مغسولةً من بصمات الآخرين
وتمحوكِ غشاوةُ الماء والغيمُ يحرّركِ من الوقوع تحت المجهر
فأُرسل يديَّ في هواءِ الوقت
فهما عينايَ وسبيلي إليكِ
وكم بملمسِهِما الخشن وبذكرياتِ طفولتِهِما
يأويان كلَّ ليلة ملاكَين الى دفء يديكِ.

حاملاً فوزَ الخيال
أسلّمكِ مفتاحي وسبلَ الطّعنِ في الصَّدر لتَرَيْ كيف يُهدي الحبُّ نفسَهُ لقاتليه
أهديكِ لذةَ أنكِ قادمةٌ من أيدي الرجال
لذةَ أن تتركي جروحَكِ في عهدتي وتندملي بلا جروح
لذةَ أن تصيرَ دموعُكِ بحيرةً لتوسّلِ الزنبق
لذةَ أن تكوني قديسةَ الحبِّ الماجن والمرْيَمات السبع
لذةَ أن تكوني هيكلَ اللقاء لحفظِ عشائِنا السرّي
لذةَ أن تتكلّلي بهالةِ ما أُعطيتِ أن تكوني
لقاءَ الدهشةِ والموت
امرأةَ الجنونِ والحكمة
بيتَ القربان والخمرةَ الراشحةَ من الكأس
أخضرَ كلِّ خيالٍ وأزرقَ كلِّ صفاءٍ واجتماعَ الألوانِ السبعة
لذةَ أن تنسَيْ عدلَ العقل لتحفظي عدلَ القلب
لذةَ أن يجتمعَ فيكِ مسيحُ الزيتون ومجدليةُ العشق والأمُّ الساكتة
لذةَ أن يُفشي جسدُكِ عطرَه المسروق من نظراتِ الشعراء وسهرِ البراكين
لذةَ أن يحرثَ أرضَكِ يأسُ الحالمين بكلِّ ليل
وأن يزرعَكِ بكلِّ شجرٍ غامضٍ حرّاسُ الجبال والظلال وجامعو الدموع
وأن تُمطرَكِ الطفولةُ بالغيمِ السهران
وأن تحصدَ سنابلَكِ أيدي المحتاجين الى كلِّ شهوة
وأن يخطفَكِ ويأكلَكِ القمرُ المنبسطُ على الأرض
وأن تعودي من كلِّ ليلٍ وعلى عينيكِ نعاسُ الخفرِ والنوم
وأن تزرعي الفتنةَ في كلِّ شجرةٍ تؤمّها العصافير
وأن تُعطَي أن تكوني أيقونةَ الخلاصِ بالنارِ من النار
وأن يكونَ ماؤكِ عطشاً لكلِّ صيفٍ مقبلٍ في آنيةِ الشمس
وأن تفيضي وتأخذي المراكبَ الى الشفير
وأن يروي الشجرُ العائمُ حكايةَ الهدوءِ الخادع حين تسحبين روحَه بصمت
وأن يكتمَ مرورُكِ سرَّ الهواءِ الملتحفِ بورقِ الحياة وظلالِها
وأن تُمنحي لذةَ المدفأة لتطردي بردَ الشعورِ بالقتلِ وتردّدَ الإجهازِ على القتيل
لذةَ أن تَرَيْ القتيلَ مبتسماً بعد المغادرة
لذةَ أن تدمعي لدهشةِ عدمِ الشعورِ بالذنب
لذةَ أن تتقمّصي سعادةَ القتيل حين تسدّدين طعنةَ القاتل
لذةَ أن يبدأ قتلَهُ مرةً أخرى
لذةَ أن تشاهدي رأسَه مفصولاً عن جذعِه
ولذةَ أن تثقي بيديه تقودانه الى المقصلة ثم تعودان يديكِ.

لكن مَن أنا لأكونَ راويكِ
تجترحين آيةَ الأمنية والمنيّة
باللمسةِ التي توقظ الميت
وبالخاتمةِ التي تفتتح الحكاية
هكذا تبدأين حياتي وتأسرين القتيل
تروين جسدَكِ بشفاهِ جنونكِ وحبي
أسمّيكِ ماناي ليعرفوني.

من "مقام السروة"

نشوةُ الملاكِ أيضاً

لا تسميةَ للأخت لأنها تأتي قبل أسمائها.
الأختُ المبطِلةُ الموتَ إلى حين،
تحملها أسماؤها الشتّى في هبائها فتصير هباءً فهو الهباءُ الطلق.
أسمّيها بأحوالِ رعيّتـِها ورعيّتـُها الذكرياتُ ونحن.
أما الجسدُ فمنفىً.
يزرع الحديقةَ وسرعان ما يهزّ السياج إلى أن يطيرَ العطر. أما العصافيرُ فاكتئابٌ بعد ارتجاجِ الروح وصعوبةِ النوم في الأليمِ من الخيانة.
والجسدُ الفكرة، فيجنح الزورقُ خارج الميناء بعد الشراع إذا خارت قواه من مراودةِ الريح وضياعِ القناديل.
والجسدُ حَزنان لأنه يحزن.
شأن الروحِ الغلاّب يحزن، مثلما يفعل الملائكةُ عندما يؤخذون بنشواتهم ويحترقون في الهباء الطلق.
شأن الروحِ ينظر فلا تحمل نظراتـُهُ سوى الجروحِ الغامضةِ من غموضِها إياه ومن شدّةِ الهشاشة.
شأن النظراتِ عندما تصنع دموعَها بماءِ القَدَر ينزل من السحب ليروي ظلامةَ الحياة فلا يكفيها.
ويحزنُ حزنَ الليل الذي يحزن لأنه لا يكون لائلاً أكثر، وحزنَ الماء الذي يتخلّى عن النبع ولا يعود إليه.
شأن الشاطىءِ يتلمّس جسدَ اليابسة ولا يكون إياها. واليابسةُ تلك مهما استبدّ بها الشوق لن تعرفَ أن تسترخي في البحر كغيمةٍ منتحرة.
شأن المدينةِ تغلق الأبوابَ والنافذة قبل أن تشربَ الحرارة. ومثل الحزنِ تحزنُ النظرات إلى أن يستبدَّ قلقُ الأجفان في الملاقي من غير أن تستدركَ ما ذهب منها.
وشأن الحزنِ يحزنُ الجسد ولا يتمالك أن يرتجفَ من ذاتـِهِ المرتبكة ومن شدّةِ الرحلةِ أيضاً.
والجسدُ ضجورٌ لأنه يضجر.
شأن نجومِ العينِ والخوفِ يضجر الجسد لأنه طافحٌ من فراغِهِ بعدما استقرّ في الهوّةِ التي تنظر إلى فوق ولا تستطيع أن توصلَ النظرات.
وشأن العصافيرِ يطير الجسد بعد أن يشفّ، وشأنها يحطّ في الهباءِ الطلق.
ويضجرُ ضجرَها إياه لأنه يضيّع أجنحتَها ففي طيرانـِهِ يحترق ولا يعود يستجيب للحروق عندما تتبدّد على أوهامِ الأغصان.
وشأنها أيضاً، يأخذه وجلٌ لا يأخذ الملائكةَ الذين يرسلون إليه العزاء، ولكن بعد فوات الاوان.
والمساءُ يأسرُ الجسد أيضاً فينحلُ حتى يصيرَ خافتاً من فرطِ الوهجِ الهارب أو من بأسِ المرارة.
والجسدُ لا يعود قادراً على البوح لأنه القليلُ قلّةَ الليل عندما يحتجبُ القمر عن نجومِهِ أو يحتمي بالدموعِ التي تخفي النورَ فلا تضيئه.
والجسدُ ميّالٌ إلى الهزيمة كلما أحسّ بالنذير أو ضاق مقامُهُ بالنزقِ الباطن. وها السيلُ يمتنع عن النزول لأنه القعر. فلا الليلُ حينها تتمّة المساء ولا الأحزانُ إلاّ تتمّة ذواتـِها إياها كلما استتبّ لها الامر واكتمل نسيج اللاجدوى في الوقتِ الخارج من الدوام.
والحياةُ تألم من جرّاء البوار عندما يستولي على تربةِ الجسد. كذلك تفعل الشمس عندما تمنع ليونةَ الظلّ الذي يترك الشفيفَ من الثياب. أما النسيجُ فدمارٌ والتأوّهاتُ العتمة، فلا يخفّف الظلّ الوطأةَ ولا يبقى ظلاً.
والوقتُ حينذاك على السرير مصحوباً بدموعِهِ ليبلّلَ الأفكارَ والذكريات ويحول دون الجفاف الذي يستقبل الصباح التالي.
وها عندها يخرج الوقت من ضواحيه ليكويه الشرود، فلا يعود المساء يضيء ولا يعرف طريقَ العودةِ إلى الظلمة.
وعندها أيضاً تتجمّع الغيوم أمام أفقِ العين فتغفل عن مراميها ولن تستطيع استرضاءَ الورود فتحزن كلما تفتّحت لها الأكمام ولم تجد مكاناً في الفراغِ المبدّد، أو ضوءاً يقيها عثرةَ التأوّهات.
والخطواتُ المرتجفة تضيع في الصباح المفترض لأن هشاشتَها تشدّ الأزر فلا تحتويها مواطىء مهما تمادت جروحُها في الكتمانِ الممضّ.
فما فائدةُ الوقت المتبقّي عندما يغرّد إيقاعُهُ مع كلّ آهة، ويستولي رذاذُ الخسارة على تألّق العاصفة!
ما المعنى كلما سألناه أن يحتفي بالبقيّة فلا يرى سوى نظراتٍِ لن تجدَ مائدةً تتّكىء إليها! ما المعنى كلما رأينا أن السماءَ تغضّ الطرف فلا ترسل رأفةً إلى الكائنِ المكتوي بجروحِ ورودِهِ!
بل ماذا في وسع المشاعر أن تفعلَ حين الذي ينتظر عودةَ نفسِهِ إلى الأشلاءِ المبعثرة لا يستطيعُ أن يطيّرَ نظرةً من سجونِ العين ولا من أحلامـِهِ أيضاً!
ما المعنى إذا استجمعتْ ذكرياتُ الجسد شمسَ العاصفة وهي تئنّ في الباطن على إيقاع اللعنة، ولا تمنحُ المساء ضوءاً يقود التأمّلات في شرودِها غيرِ المرئي!
وما المعنى كلما نزلتْ دمعةٌ لتروي الوقتَ والبساتين ولا تجد شجرةً تؤويها بعد الاكتفاءِ بالعتمة!
الأختُ المبطِلةُ الموتَ إلى حين، ماذا أسمّيها؟
أذكرُ أنها الجسد فاذا ناديتُهُ من منافيه هبّ من أشلائه في الجميعِ من الجهات.
وإذا استثنيتُ الوقت، لم يبدر ما يجرح نسيجَ الغياب ويمنع حوكَ الهواءِ المتألّم حتى في هدأةِ العقلِ العاطفي.
وإذا استثنيتُ أيضاً، أجهشَ المساءُ بالثقلِ الرتيب فلا ترتفع نظرةٌ إلى السَّروةِ المجاورة لأن السَّروةَ منضمّةٌ على ذاتها، وروحَها الداخليَّ الشديدَ الوعورة مكسورُ الخاطر من شدّةِ انكسارِهِ إياه.
وإذا استولى الوقتُ الغفيرُ على الهواء لا يترك لعصافيرِ الأخت أو لأغصانِ الشجرة سوى الوقوع في فراغاتٍ مفاجئة. أما الحياةُ فلها الفجوةُ المنتظرةُ أن تمتلىء فلا تمتلىء بل يغمرها شعورٌ بانهيارِ معنى الصحراء عندما تنتشي بارتوائها المستحيل.
والآهةُ سبحانها بعد أن ينوبَ الجسدُ عنها، فلا تعود تتصعّد في فضاءِ الصمت مهما استبدّ الحريق الذي يؤجّج دفينها.
ولا النظرات تعود تعرف الطريق لأن الرفيفَ جريحُ ذاتـِهِ إياها، فكيف لا ينضمّ على الجروح عندما لا يحتمل الليل بقاءَها في الضيم الاليم.
أما فؤادُ الجسد فلا يضيع بل يهوي.
وعندما يستلقي على هوّةِ الأوجاع، يمنحه امتلاءُ الهوّة مكاناً لم يعد يعثر عليه في الطيّاتِ التي صارت الجلاّدَ والضحية.
وكلما شاءتِ الشرارة أن تشعل هشيمَ الفرقة في الأشلاءِ المنضمّةِ على آهاتِ ذواتِها، استحثّ فؤادُ الجسد هذا غيمةَ الحلم كي تأخذَه في الفضاء الرحب ليستريحَ من عناء الزمن أو لينسى.
أعودُ إلى التجهّم فليس هو في دموعٍِ تلي الفؤاد، بل في المضمَرِ الجرحِ بين الجسدِ العاطفيّ والجسدِ الآخر.
ولا تستطيع البسمةُ أن تحذفَ الحقولَ التي نبت فيها الشوك فجأةً، ولا أن تشيعَ الضوءَ عندما ينوء بنجومه، لأن التجهّمَ مقيمٌ حيث المساءُ آخذٌ في إسدالِ الستارة، وحيث الجدارُ حائلٌ دون الثُّغَرِ التي تمثل الحياة وراء دمائها.
والحياةُ هذه ترتطم بالكسور كلما سعتِ المرايا إلى ترميم الموهَنِ من الشظايا، أو تطلّعت إلى الشموسِ الفقيرة ولم تعثر على قميصٍ تقيها بردَ الأفكار والخيالات.
وماذا يكون للحياةِ هذه أن ترتجي بعد الهواءِ الذي أخذته الشجرة إلى الهاوية، وأيّ عبورٍ ينتشل ما سقط من الجسد عندما يلمع الفؤاد في الصعوبة ولا تحتوي لمعانَهُ مرآةٌ أو تقتفي بريقَهُ ثمرة!
والتجهّمُ يردم المساء ويقتطع من مسافة البحر آهةً ونظرة.
والتجهّمُ يرفع شجرَ السَّرو ويضمّه إلى الباسقِ من الأوجاع، فلا تخرج همهماتٌ من سكونِ الغصن بل ظلمة.
والتجهّمُ ليس في وجومِ الوجه بل في الحقلِ المجاور، عندما يهمي الفؤادُ الأخير من تلقاء النبضات ويبدّد عطورَ الزهر خارج فضاء العين في الموقعِ الممضِّ الذي لا يمهل إلى الغد.
والتجهّمُ نزهةُ العقل قبل العشاء الأخير.
والتجهّمُ نبيذُ المائدة التي ستظلّ فارغةً من عطورها. فهو مرآةٌ وليس صورة.
ولا تتذكّر المرآة أنها متجهّمة إلاّ عندما تلتهم الظلمة. يسحرها السحرُ أو تمحوها أيدي الملائكة فترتعش من شدّة كسورها وتخذلها المعاني. ولا تعود العين قادرةً على محو الفضاء وجروحه، لأنها تربك السوادَ بالبليلِ من النظرات ولا تستبدل المشهدَ المجلوَّ بأفكاره. والعين تسيء الظنَّ بالحياة لأن الوقت لم يعد يعلو بعطورِهِ إلى القمر بعدما صار موحشاً من فرطِ الجسد وهو وحشتُهُ إياها.
أعودُ إلى البحرِ الذي أقفر من الميناء، فلا النظراتُ تعرف الوصول بعد تعطّلِ البوصلة، ولا غرائـزُ الجسد ترفع الأشرعة للمراكب. والبحرُ ينعم النظـرَ إلى القمر ولا تحتمله كآبة، فهو الكئيبُ أيضاً من كآبتـِهِ إياها، وشقيقُ العاطفةِ المبدّدةِ في المطلقِ الفؤاد، عندما يشتدّ جنوحُ المركب داخل العقل ولا يكتمل نسيجُ الأشرعة لوقف شرود الهواء .
ثم أعودُ إلى الروحِ الذي لا يشغل أمكنته لأنها ضاعت، فأسألـُهُ أن ينتعش كي يحتملَ نظراتِ الهواء وعبورَ العصافير، فلا يهتدي إلى القناديل ولا إلى الميناء بل يتبدّد من التلقاء ممعناً في جمعِ المياهِ للغيومِ في انتظار أن تمطر.
أعودُ إلى الروح فهو منّاعٌ بل ضنينٌ وممسكٌ نفسَه إياها، كلما تمنّعَ الحزينُ الجسد عن استدراكِ يقظتـِهِ الباطنة. ويفرّ فرارَ الهواء في العاصفة، ولا يعود ينفع كلَّ ما يسدّ المنافذ. فالذي يفرّ فليس من ثغرةٍ بل من لامكان. ولا تعود شرارةٌ ترشد الغابةَ إلى حدودها، كما لا مرايا تمسك شظاياها عن تفادي التبدّد.
ليس الضجر ولا الحزن لكن سماؤهما. ولا الفرار أو التمنّع بل أفكار الجسد تنوء بصفاتها فلا تكتفي بالعين ولكن بملائكةِ جروحـِها.
والجسدُ هيّابٌ موتَ الحديقة بعد فرارِ الهواء.
ومثلما ترتجف الثمار كذلك ترتعش ظلالها لأن الشمسَ لا تضع حدّاً للرطوبة بل تردمها بآهاتها.
والعصافير تنسى أنها العصافير فتخفض الأجنحة كي لا تفسدَ حجم الهواء وما تبقّى من النظراتِ المعطّلة.
ويفترض الجسد أنها تفتح سياج الهواء بنظراتها فلا تجرح السرَّ عندذاك بل تهمس كي ترسل التحيةَ الخفيضة إلى الملائكةِ حارسي الجسدِ الكليم، فلا يتخلّف سرٌّ عن الأوان أو شرارةٌ تندلع لتشوّشَ هدنةَ الركن.
ويفترض الأحبّةُ أن الملائكةَ همُ الأصدقاءُ أيضاً، فيرتاحون بين أياديهم كمن يأوي إلى العتمة التي يظنّها الظلال فيبلغ مديةَ الحياة لأن بها انقضاءَ المدى.
ولهم أن يفترضوا أن الترانيمَ متأهّبةٌ من أنغامها إياها، وتحفّ بالجسدِ الذي يأوي إلى رمادِهِ بعد أن يبلغَ ميداءَ ذاته ومنتهاها.
وإلى أن تضجـرَ الرسائلُ من النظرات، يظلّ الجسد ينتضد بأشلائـِهِ ويضمّ بعضَها إلى بعضها مبتسماً للجمرةِ المشعّةِ من غير أن يصطفي حريقاً يشعل به الغيابَ بعد اقتراب الأوان.
أعودُ إلى الضوءِ الذي ساهراً على حافّةِ السرير. فلا هو النهار ُولا هو نوحٌ يستنيح فيستبكي مثلما يفعل بالطعنةِ بعد أن ينهرَها لتصيرَ نهراً.
أما الحريق ففي ضواحي الجسدِ الكليمِ والمرامي، وها يؤجّج الفراغَ الدامسَ في الجماعةِ وفؤادِها، ويثير غرائز الذكرى فتحول دون ترويضِ العقلِ العاطفي وأفكارِهِ.
وها المائدةُ لا تستحبّ طعامَها بعد كفافِ اليدين ونظراتٍ كانت العطورَ للنكهةِ الغامضة.
والضواحي رعيّةُ الجسد وأهاليه، فلا هي تستوحش الحياة لامتناع أسبابها، ولا للمساء تغتفر استمرارَه بعد فرارِ النهار.
وماذا ينفع الذهاب إلى هناك والأختُ ماثلةٌ أمام عينيها، وكذلك المتبقّي من الزورقِ المكسورِ الخاطر على مسافةِ نظراتٍ غامضة وهمسةٍ لا تصل لفراغ الوقت!
والكفاحُ المبطِلُ الموتَ أبطله إلى الحينِ الصاعق لأن السماءَ التي أرسلُ إليها التأملات لم تعرف أن تشيلَ الوطأةَ مع أنها مجروحةُ الملمس في الشتاء، ومجروحةٌ أيضاً في الفصول من شدّة أفكارها، وكذلك الليل الذي يغطّيها بسحبٍ لا تدرك معنى الدموع مع أنها دامعة.
وماذا أقول للسؤالِ المرتجف من خوف الشفاه، ولا يتجاسر أحدٌ أن يهتدي بنظراتـِهِِ إلى الأشلاء المنيعة، حيث، وراءَ آلامِ الثياب وآهاتـِها، لا يمتثل الروح للموت المفضي إلى الفراغ الطلق!
ولا يجدي أن ترسلَ الحياةُ شقائقَ النعمان، عندما يشتاق الحنين إلى جرحٍ أقلّ كي يرتدي بسماتٍ سابقة ويلمسَ الهواءَ الذي يلمع في الفراغِ المطلق.
أسمّي الأختَ بكفاحِها المبطِلِ الموتَ إلى الحين،
بحنينها أسمّيها، وبلمساتِ الايدي الضاحكة لما علق على الجدران من العطور.
ولا تفعل الأخت. سوى أنها زهرة السؤال، أما العطرُ فيطير في فضاء الملائكة.
وها هناك تسبح الأصوات في خضمٍّ ملبّد والعقلُ العاطفي ينوء بالهزائم فلا يجد متّسعاً لوردةٍ تكسر مسافةَ الفراغ وتنوب عن الكآبةِ التي تستشري في الرحبةِ الأرجاء .
والأختُ كأسٌ كئيبةٌ كلما تفقّدتِ الكأسُ جوارَها فلم تعثر على قهوةِ الجلوس وعطورٍ ألفتْ ملمسَها.
والأختُ تعرف أن السماء قريبةٌ إذا أرادت، ومع ذلك تخشى الذهابَ إلى حيث لا فائدةَ من الشكل ومراياه.
والأختُ دائمةُ السعي إلى استردادِ الظُّهرِ الذي أفلت فجأةً قبل القيلولة، وكلما همّت به سالتْ قطراتٌ لا تعرف المكانَ من شدّة الخيبة.
والأختُ تعجز عن تفهّمِ الغيمةِ التي يتبدّد شكلُها كلما اصطخب الريحُ في المقامِ الذي ينال منها. فلا هي تختار أن تشفقَ على ما تبقّى من السحابة، ولا حنانُ الغيب يتيح لها أن تستعيدَ لوحةً نسجتْ ذاتها في الافق.
وحين تختطف الأختُ الذكرياتِ الآفلة، تمعن في إرباكِ الشريطِ المرير وإشاعةِ الصرخاتِ المرتدّة عن الشفاهِ وارتجافاتـِها الساهمة. وتتشدّد الأختُ لاستجماع أشلائها بعتابِ النظرات، وتستنهض جمرَ المحبة ليدفىء عنها الفتى الذي صار السَّروةَ المضمومةَ على بسماتها.
أما العزمُ الخائر فهزيـمٌ لأنه غيثٌ لا يستمسك كأنه منهزمٌ عن سحابة. وهو الأختُ فتتهالك في المكان الذي لم يعد عذباً، مكتفيةً بكفاحِ النظرات حين لا بدّ من الاسترسال في المرارة. ولا تعود الصلاة تكفي لتوجيه العتاب إلى حيث تشيح المعجزةُ بنظراتـِها عن التعبِ المنهِكِ الأفئدة منذ الصباحات.
ونعجز عن استدراكِ الأخت بأكثـرَ من الأبيضِ الحب، ويعجز الملائكةُ الذين على مقربة، حين بثقلِ الأتعابِ ينوء الحب، بعد أن يكونَ الغدرُ استجمع قواه في الهشِّ من الجسد واستفاض الغياب في بسط سلطانه على التفاصيل.
ولا نفعل سوى هذا، وأحزانٍ مُضافةٍ إلى تلك الشاغلةِ حيّزَ الحياة في الجماعةِ المجروحةِ بتعبٍ لا يندمل.
ونصنع المحبةَ صنعاً يشبه أحوال المائدة، فنستبقي العاطفة في الدفء الذي لا يحلو له أن يغادر على رغم الشقاقِ الآخذِ في الرسوبِ إلى القاع، حيث الدموع مشفقٌ بعضُها على بعض وعلى الودِّ الذي ينوء بالخلل، ولا أحد يعرف كيف يمكن تدبير النهايات في الوقت الذي يغفل الروح عن السهر.
والأختُ مدركةٌ أن الصبر شحّ زيته لأن الجسد نافدٌ أيضاً، فليس سوى ما يرنّ على الوجنتين، ولا يخفّف بل يشعل الغرفةَ الضئيلةَ بأسى الثياب عندما تشتاق إلى رائحة الجسد. والجسدُ مُلقىً، والأختُ مُلقاةٌ فيه، فلا خلاصَ يحول دون الفرارِ من الأوّل، والأوّلُ الجسدُ ينوء لكنه يكافح حين لم يعدِ الكفاحُ قادراً على تسطيرِ رسالةٍ إلى الورودِ المضمومةِ في الإناءِ المقابل، ولا على تضميدِ جروحِ الذكريات التي ستكون أسيرةَ الفراق بعد حلول الساعة.
والأختُ مساءٌ جريحٌ عندما لا يلتئم الفراق إلاّ في الأوان المتأخر، أي في هزيعٍ يلي الجسدَ الشديدَ التعلّقِ برعيّةِ الحياة وطقوسِها.
ولا ترتجف دمعةٌ في أوهام الكون مع أن الأفقَ آخذٌ في التلاشي تحت النظرِ المبدّد.
والحوارُ لا يجفّ ماؤه من الخوف، بل ينوء تحت أوجاعٍ مبلّلةٍ بالآهات ونظراتٍ لا تكفّ عن إرسال اللومِ الكثيرِ في الفراغ.
والأختُ جيّاشةٌ لأنها ترسل ينابيعَ في الارض وتحتفل ببسماتِ الملائكةِ الذين لا ينامون. وهي تفعل هذا بالشغفِ المتمكّنِ من الفؤادِ الحارسِ الليلَ والنهارَ والأوقاتِ الأخرى. وإذا تعثّر الروح ولم يُمسكِ الأشلاءَ عن التبدّد، فاحت في فضاء الغرفة ارتجافةُ الشفاهِ العاجزةِ عن إدراكِ الجدوى من استمرارِ المساء. ثم لا يعود يسعف النظر إذا صار الربيعُ الجديد مدعاةً للأسف الجمّ كلما هبّتِ الشمس وأرسلت إلى المكان بسماتٍ تطيش خارج مرماها. واليأس يبثّ اللواعجَ فيأنس اليها إلشجرُ المرخي حزنـَه على الغرفةِ الآخذةِ بنظراتٍ مرميّةٍ على الجدار المقابل.
وفي حين تجهش الأختُ بثيابها لا يعود النفس قادراً على تصعيد الحياة من الفجوةِ المرميِّ فيها الروح. وتفعل هذا في الصباحِ عندما يسحب الليلَ غيرَ الآبهِ لما يجرح المشاعر ويطيّب خاطرها.
وترى الأختُ النعاسَ الهاجمَ إلى الأرجاء المتداعية وتخشى الذهابَ فيه إلى حيث لا رجعةَ، لأن الخوفَ يحصد الوهج المتبقّي فلا يحرس المحبةَ سوى الارتعاشاتِ وظلالـِها. ولا ينفع كلّ ما يتجاسر فيها عندما يتحامل على الفريسةِ جسدِها فيعود القهقرى حيث لا ماءَ يكفكف المشقّةَ ويكفي لاستنكار الهزيمة.
والأختُ قليلةُ الوطأة لأن خفّتها تعالج الهواء عندما يقتتل في الفسحاتِ التي تفصل الظلَّ عن الضوء. تنسرب ضآلتُها الخفيفة في ظلمةٍ لا علاقةَ لها بأختفاء النور بل بتراجعِ فكرةِ الجسد. وفي الوقت ذاك، يختبر الداخلُ آلامَ النزولِ إلى القعر بما يشقّ على الروح أن يصدّقَ الهزيمةَ بعد التحليقِ الجميلِ في الروضةِ المشغولةِ بأزهارِها والأريجِ المسعف البسمات كلما تهاونتْ هذه في إرسال الودِّ إلى الرعيّة، ومجّاناً إلى الكون.

ولا تعرف الأختُ إلاّ القليل وقليلُهُ كثرةٌ لانشغالِ الشوقِ بالعودةِ إلى النبع. هي الأختُ يصنعها الشوق مثلما تفعل الأعجوبةُ بالجسد وهو رميم. وكلما تذكّرتْ أنها لا تعرف، أو استبدّتْ بها آراء العقل الآخر، خسرتْ فكرةَ النبعِ الذي يحبّ أن يجهلَ مصيرَ انصرافـِهِ إلى حيث لا مفرّ من الاستغراق الابدي. وكلما أدبر الشوق من جرّاء العقل، اهتزّ النظام الذي كان إلى الوقت ذا، يسعف الأشلاءَ في افتراضِ الذهابِ إلى الشموس، واستسقاءِ الحلم بعدما أقفل الليل النافذةَ المطلّةَ على وصيفات القمر.
والأختُ الممزَّقةُ أوصالُها، ترسل المكسورَ من أجفانها إلينا، وإلى السَّروةِ الريّا ومكانٍ آخرَ سرعان ما يبوح بفؤاده الكليم. ولا اكتئاب إلاّ لأن الروحَ مدركٌ فواتَ الأوان وأختلالَ النسيجِ الذي اجترح المودّةَ للجسد طوال الدموعِ المتلألئةِ ببسماتـِها. والسماءُ التي تعوّدتْ أن ترفعَ السَّروةَ في الفراغ لتحولَ دون رتابة الخواء، أو لتؤنسَ الموتى الذين حلّقتْ أرواحهم بعد الجسد، نسيتْ أن تترك نجوماً على النافذةِ المشقوقةِ الستائر.
السماءُ نفسُها أغفلتْ إيقاظَ الجنودِ الملائكة عندما استولى عليهم النعاس فلم يعرفوا كيف ينتشلون نظراتٍ أرسِلت إلى الأعالي تضرّعاً، بل سدىً والتهمها المطلقُ الهواء.
لم تشأِ السماء أن توضحَ كيف يمكن ترميم الجسد بالأعجوبة بعد خرابه، ولا متى تشفق على المساء فتسدل له الستائر ولا كيف تمنع أهبة العقل والروح وتحول دون جنوح المركب بعد فرار القبطان.
والسماءُ إذا فعلتْ، فلأنها تعرف الفؤادَ الذي يشرق من صلواتـِها ويرسل الإيقاعَ إلى النغمِ الذي بات يتيماً.
السَّروة هي الأختُ كلما اجتمعنا حولها، فلا نقع في الصخب لئلا تضيعَ الرسالة، ولا تعرف بنا الظلال لئلا يحزنَ الضوء الساهر بيننا على رغم النعاس، ولا الغابة تعرف كي تظلَّ الأغصان ُعلى ألوانِ هديلـِها، ولا نشغل الكلام كي يبيتَ الصمتُ المشعُّ قادراً على إشاعةِ المحبة، ولا تنزلق مياهٌ من الحزينِ النبع لأن الأعينَ لم تشأ أن ترمي جمرَها البليلَ في الهاوية. والسماءُ التي تعوّدتْ أن تقولَ للسَّروةِ العاليةِ تعالَي، لم ترسل إليها العصافير ولا الضوء، ولم تستطعِ السَّروةُ أن تظلَّ عاليةً لأن العاصفة ضجّت بها، ولم تشأِ السَّروةُ هذه أن تتهاوى، بل انضمتْ من تلقاء الجسد الذي لم يعرف كيف يرمي جروحَه خارج الحديقة.
السماءُ التي ندعوها إلى المائدة كلَّ صباح، لم ترغب في النزول فبقينا حيارى، كذلك فعلتِ الطاولةُ والكراسي ونظراتـُنا الطائشة.
والسماءُ التي قادت خطواتـِنا، لم تجدِ الكرسيّ الذي يصلح للأخت فظلّت وقوفاً في الهواءِ الذي أمعن خراباً.
أعودُ إلى الجسدِ ونثارِهِ فهو المبطِلُ والفاعلُ أيضاً.
أكتبُهُ وأريدُ الثمار. ترتّب حياتَها بهدوء النبات ثم تغادر في تباشيرِ الصيف.
تجرح الشجرةَ بالهواء كلما تململتْ على أغصانها، وإذا سقطتْ تجرح الشقيقَ الهواء.
أما الجسد فتجرحه بحضورِها وإذا أظلمتْ تجرحه بالغياب.
يزعم الجسد أنها ذريعة وتفترض أنها ترفع العبء بالسقوط. بيناعـِها تؤلم الجسد ويؤلمها أنه الوداع.
أذهبُ اليه من ثمارِهِ فهي الجروح، وإذا أغفلْتُ أذهبُ من المسام.
مسامُ الجسد مآقيه.
أوردُ الثمارَ وأريدُ أوجاعَها.
الحزينُ الجسد لا يؤوب إلى ثيابـِهِ بل إلى التراب.
أما الضوءُ فيقيم في الجسد إلى أن يضجرَ فينطفىء.
القلبُ ملاكُ الجسد، يقيم فيه إلى أن يحلَّ البرد فيطير.
الصرخةُ التي تنظر من علٍ لم تجد ثياباً ترتديها
أرسلتْ غيومَها إلى الغرفةِ في انتظارِ الدموع.
أما الصرخةُ فبلا معرفةٍ تصرخ أوجاعَها وتطير في أفكارِها المقسومة،
لا أحدَ يلتحق بها سوى هذا البهيِّ الآخر
فإلى أين يذهب!
لم يأبهِ الملاكُ الاليمُ حارسُ الباب لجروحِ الجسد بل لأفكارِهِ والأجنحةُ التي أرسلها بقيتْ على النافذة في انتظارِ العصافير.
الذين تحلّقوا في ملتقى الصباح ليسعفوا الملاك
صرَفَهُم وجْدُه إلى العقلِ العاطفي فتبدّدوا.
التعبُ لم يستطعِ الوصولَ إلى النافذة
خذله دفينُ الموت والأفكارِ المنقسمة على نفسها.
أما الجسدُ العاطفي فليس إناءً بل منفى.
والصرخةُ التي أطلقتْ نفسَها في الهواء
حطّتْ على شجرةِ السَّرو وبقيتْ فيها.
لم يعرفِ الحزينُ العقلُ كيف يؤوب إلى الإناء
شأن المغلوبين على أمورِهِم لأسبابٍ شتّى.
الحزينُ الجسد يرشد الليلَ الشخصي إلى النجوم ولا يستضيء.
وعندما أضاءته الحواس كانت العصافيرُ قد هجرتِ النافذة.
عندما أضاءته كان الجسدُ قد أسدل الستائر.
الأخواتُ والإخوةُ دموعُنا
إجعلْهم يا الله يبيتون في ملاقي الاجفان فلا ينهمرون.
الأختُ المبطِلةُ الموتَ إلى الظهيرةِ أعودُ إليها.
الأختُ تعرف أن الظهيرةَ سرعان ما ترفع الحياء فيحلّ النور الذي ليس ظليلاً، وتخاف الوقتَ فمعه ينزل السواد، وإنْ أقمرتْ، لأن الظبيَ يأخذه النشاطُ في القمر ويلعب، وربما يغترّ به ولا يحترز فيأكله الموت. ومثله يحلّ بالذين نحبسهم بين ملاقي أجفانـِنا فينهمرون وهم على مقربةٍ وتلتهمهم الهاوية.
إلى الأختِ الممعنةِ في استبقاءِ الجسد أعود،
لا تكتفي الأختُ بالقليل لأنها مؤمنةٌ بأن غلطَ الجسد لن يلبثَ أن يصطلحَ بعد اكتمالِ النجوى وإنهاكِ الخيانةِ التي ألـمّتْ بالبيتِ الكليم. وهي تفعل هذا لأن الوجدَ مجتهدٌ في محوِ الجروحِ بعدما فعلتْ فعلَها في مقامٍ لم يعد قابلاً للترميم، وكلما أوضح الصباحُ أن الشمسَ قابلةٌ للانتظار قليلاً، تكلّل الوجهُ الذي صار ضئيلاً بنظراتٍ لا تكفّ عن توجيهِ التحيّةِ إلى الحياةِ الممعنةِ في الفرار. والأختُ تمدح الشغبَ الذي عاد يستأثر بالجمر. وكلما تذكّرت أن الشارعَ ينتظر وقعَ الخطوات، استيقظ من نومها قمرٌ أمضّته النجومُ المرتبكة.
أعودُ إلى الأختِ المبتسمة.
فالبسمةُ أعمقُ الدموع وأحسنُها وهي ضحكةٌ قليلاً من غير صوت.
تبتسم الأختُ من ثيابـِها لأن ثيابَها وهي المحيّا ظلالُ القمرِ المبتسمِ من عرائـِهِ إياه، فلا تلبث أن تصبحَ الجسدَ الظليلَ ذاتَه من شدّةِ الضحكةِ التي تشيع من غير صوت، وهي القليلةُ لأنها الشديدةُ الطيران والظليلةُ لأنها روضةٌ كثيرةُ الأشجار.
فهي ظلالُ البحر، أي أمواجـُهُ، لأنها تُرفَع فتُظِلّ السفينةَ ومن فيها.
وهذه هي الأختُ تختفي لتستظلَّ، فهي الشمسُ تتظلّل فتستتر بالسحابِ لتنسحبَ فيه، فهو نسيجها، فما أظلَّها وأظلَّنا كالسحابِ ونحوِهِ الذي يشيع أمام العين فيحجبها ويشيع في السماء أيضاً. ومن تبدّدِ ضحكاتـِهِ والتراكمِ في الفلك يصير الأغمَّ الذي لا فرجةَ فيه، كالليلةِ الغَمّاءِ الطامسِ هلالُها، فإذا القمر فيها يغمّ النجومَ فيبهرها ويكاد يستر ضوءَها، فتصير ذات غمامٍ كالوجهِ يترك بسمتَه معلّقةً في سماءِ الغرفةِ والضواحي وفي روحِ الثيابِ والصور. ومثل هذا يفعل في صفحاتِ الكتب والأرصفة، وكذلك في الدموعِ وفي الغُمومِ وهي النجومُ الخفيّةُ المغمّمةُ كأنها مختفيةٌ من كثرةِ الماء.
وبسمةُ الأخت رميةٌ وسهمٌ يُرمى به إلى أقصى، أي إلى أبعد ما تقدر عليه الرمية. فهي غايةُ ذاتها. ومرماها الرنين، فهو الصوتُ مطلقاً أو الصوتُ الحزينُ الذي صار ابتسامةً لأن شقاءَه ألاّ يفعلَ هذا. فهو الحزينُ مطلقاً والمبتهجُ لأنه لا يستطيع أن ينوءَ بمرماه. فهو الفرح.
والبسمةُ وردةٌ لأنها تورِّد الوجهَ فتُخرج وردَه من غيبةِ القسمات ضحكاتٍ قليلاً من غيرِ صوت، فإذا هي نَورُ الجسمِ مثلما الوردُ نَورُ الشجرِ مطلقاً.
والبسمةُ أخذٌ بالوجه إلى حيث يصطفي ورودَه فيجمعها كأنها بين قسماتـِهِ ظلالُ الحديقة، فهو في أطرافـِهِ كأنه السياج. فالبسمةُ حينها دارةٌ أو هالةٌ في الوجنتين تبدو عند الضحك، وسرعان ما تغفر للجسدِ أوجاعَه فيأفل الألم إلى حينٍ عميق لأنّ أخْذَه لا يعود هيّناً بل بغلبةِ الصفاءِ الذي تهيّأ ليكونَ سعادةً.
والأختُ تفعل هذا كلما زهَـرَ الوجهُ فتلألأ ليصفو لونه. ثم تفعل بالمودّةِ التي من طينتها، وهي الطبع، فتوقد لنا وللاضيافِ فهي مزهرةٌ وشأنـُها زهّارةٌ وغفيرة، فهي أيضاً زهرةُ الآلامِ الزرقاء وفعلُها كفعلِ القمرِ إذا أرسل أريجَه بين النجوم وهو يفعل كذا إذا كان بدراً .
والأختُ ريّانٌ غصنُها فتأخذ للأمرِ نُبلَهُ وما يُهيَّأ لإتمامِهِ، فهذه ضالّةٌ توجَد عن غفلةٍ لا عن طلب، لأنها نباهةٌ بالفطرةِ بل مودّةُ الطبع. فإذا أخضرُ العائلة أخضرُ ناعمٌ وحسنُ المنظر، فهو رُواءٌ لأن ماءَ وجهِهِ عذبٌ وغناءَهُ ليأخذَ بالعين فيؤخذ بها، فهو حالة.
والأختُ تسبغ على الصباح ما يجعله أنيقاً بين الفتية، فهو قمرٌ يافعٌ وله حظوةٌ إلى أن يزهرَ سراجُهُ فيشتعل المنزل بالضوء حتى بعد انتهاءِ المسرّةِ ونزولِ الصعوبةِ على الليل.
ولن تنوءَ الأختُ بأزهارِ صباحِها، فهي القُمرةُ وأزهارُها البياضُ العميقُ الذي يخالجه اخضرار.
وللصباحِ قهوتُهُ فهذه بخورُ الصلاة.
وله يداه فهما لهفةُ هلالين.
وله النافذةُ فهي متَّكأ العصافيرِ وحكاية.
وللصباحِ نظراتٌ فهي ارتفاعُ ملاقي الأجفان لينضمَّ بعضُها على بعضِها في الأفقِ الذي يطير.
فهذه هي البسمةُ التي تبطل الموت.
فهي أعجوبة.
الأختُ المبطِلةُ موتَ الرعيّةِ، والمبطِلةُ مطلقاً موتَ أحبّتـِها.
هم المشفقونَ على الغابةِ فلا تطير من أيديهم،
والمشفقونَ على سياجـِها العالي فلا تأخذه السحب،
وعلى العصافيرِ لئلا تتهدّجَ في طيرانـِها فتقع في وهدةِ الجسد،
المقفلونَ بابَ الدموعِ لئلا تنهمرَ فتنزل الحياة منها، مثل سحابةٍ عميقةٍ لم تشأ أن تمطر فبقي فؤادُها محبوساً في نسيجِها الغضّ كي يظلَّ القمرُ بدراً لنفسِهِ فلا يتبدّد وجهُهُ وهو الضحكةُ مطلقاً من غيرِ صوت.
وهم المثيرونَ شغبَ المحبة وشمسَها، فكانوا إذا عطشوا لم يرتووا بالماء فابتسامتُها ارتواءٌ فهي سحابة. وإذا سافروا فعلى بساطها فهو المركب، ولا يجرفهم إلاّ سيلُ يديها فهو اليمُّ الذي إذا اصطخب ظلّ أميناً لفكرة الميناء، ومنارتـُهُ فؤادُها.
والأختُ ابتسامتُها غنّاء، فإذا غنّت فصوتُها العميقُ يشبه صلاتَها فهو ابتسامة. وترتّب له المحبّةَ فيكون مشعّاً كندرةِ الزمنِ عندما تقتضيه الومضة.
وابتسامتُها ليست صناعةَ وجهِها، ولو بدا كلّه ضحكةً قليلاً من غيرِ صوت. فهي صناعةُ النهارِ مطلقاً وفوزُها البقاء.
والأختُ المبتسمةُ من وجهِها إياه تفتح الفضاءَ كأنه سياج الحديقة، وتتلمّس الهواءَ كأنه الفؤاد، وتفتتح النهارَ كأنه طفلُها.
أما السياجُ فحدٌّ مصطنعٌ وسرعان ما يطير كالعطورِ فهو من صنفِ العصافير، وأما الفؤادُ فمودَعٌ في الظنِّ فهو خالصُ النسبِ قلباً ومن منازلِ القمرِ وسوارُ الروح، وأما الطفلُ فشجرةٌ ممكنةٌ وهو الغابة.
والبسمةُ حِلمٌ لأنها ذاتُ صفحٍ وتأمرها أحلامُها فهي الملائكة.
والأختُ المبتسمةُ تجلو ظلمةَ الليل فهي ماء، وإذا تغيّمتِ السماءُ أرسلتْ من لدنـِها قناديلَ تفتح الطريقَ للنجوم وتليّن الشدّةَ التي تعتري غابةَ المساء.
أذكرُ يديها فهما كتابُ الصلاة.
أذكرُ يديها فهما الميناء.
وأذكرُهُما لأنهما السياجُ العاطفي وهو يحمي أفكار َ الحديقة.
ليستا الصباحَ لكن رنينُ الضوء فيه، وليستا القهوةَ لكن مناخُها، وليستا الطعامَ ولكن روحُ المائدة.
ويداها ليستا الماءَ لكن دموعُهُ، وليستا الكآبةَ لكن هيكلُ الكنيسة.
ويداها ابتسامتانِ فهما الضحكتانِ القليلتانِ من غيرِ صوت.
وهما ملاقي الاجفان إذ تنضمّ على نفسها فتمنع نزولَ الماء ليكون مخزّناً إلى أوقاتِ الصعوبة.
المبتسمةُ من طبعها إياه، فهي المجتهدةُ لكي يهبَّ الصباحُ ويهتزَّ المنزلُ من حبورِهِ وهي المنشغلةُ بأحوالِِ الضوءِ كي يشيعَ فلا يظلّ كتوماً لأنه أيضاً ابتسامة.
ليست الإناءَ بل أفكارُهُ وليست الأزهارَ بل نظراتُها نحونا.
واللهُ الآخذ بحكمتـِهِ كلَّ ابتسامة، لم يأخذِ النسيجَ الكليمَ بيديه ليعيد حوكَ ما تبدّد منه.
وبسمةُ الأختِ التي أبطلتِ الموتَ إلى حين، وعرفتْ كيف تصنع الحديقةَ والأريج، لم تتناسَ الإهمالَ الذي ساور نظراتِ الله عندما همّت بالتقاطِ خيوطِها المنعشة فأسرع في الغياب.
البسمةُ التي كانت مغفرة، فتحتِ الأفقَ الذي لم يفتحه الله ونظرتْ إليه بتحنانـِها فهو المغفرة.
والموتُ الذي منعتْه إلى الظهيرة كان انتقاماً ولم تشأ أن تخدشَ هفوة اللهِ لئلا يقالَ إنها المنتقمة، فاكتفت بالحياءِ وسرعان ما اكتفت بالنظرات فهي انتقامُها. فنظراتـُها أعجوبة.
والأختُ بلادُ الروح فليست عبوراً بل المقرّ.
الموهبةُ التي تحرّك سطحَ البحيرةِ والنزولَ إلى القعر.
فهذه هي السَّروة وها مقامُها.
الأختُ المبتسمةُ أعودُ إليها.
فقد ذهبتْ إلى الشوق ولم تتركه عارياً. غطّته بأوراقٍ تتدثّر بظلالـِها لأن الظلالَ كثيفةٌ وضوءَها مشغولٌ بالنعاس. أما الشوقُ فمزمعٌ أن يُطلَّ كلما تغافل النسيجُ عن الهزيمة، ويحصل هذا في اللحظةِ عندما تعكف على شموعـِها المضاءةِ بأحاسيس، فلا تكتفي بآهةٍ بل بما يشعل رمادَها الذي يطير لا ليحلّقَ بل ليمحو نومَه الطويل في قعرِ المواقدِ المتدفئةِ بالصمت.
والأختُ ترتّب البحر وتدعو سفنَهُ إلى الميناء.
ولا تهاب الأختُ الأفقَ لأنها ترفع أشرعةَ الفؤاد لتردَّ العاصفة إذا هبّت في أوان الليل والتخلّي. وتفتح الأختُ يديها للموج كلما ارتبكتِ الأشرعةُ وأغلقتِ القناديلُ أبوابَ الميناء. والأختُ ترسل مناديلَ من حبِّها كلما تهاونت الاشرعةُ هذه في توجيه الرسائل إلى الصخب، فسرعان ما تنسج من شوقـِها والنظرات رداءً يحمي الذين لا تسعفهم أعينهم عندما تهطل الصعوبة.
والأختُ ترتّب الغابةَ وترسل إليها الهدايا نجوماً في الليل وحكايات، والأختُ تزيد أشجارَها كلما هبّت الاشعة ولم تجد ظلالاً تأوي إليها على مقربةٍ من العصافير. والغابةُ تعرف الأختَ من أشواقها فتفرش لها الطمأنينةَ وآهاتٍ لا يعرفها سوى الندامى المنصتين إلى الغيمةِ ونظراتـِها المبلّلة.
والأختُ ترتّب الليلَ بالأضواء فلا يظلّ الشارع وحيداً ولا يعود يخاف أو يغمى عليه حين تدهمه الأحلام. وترسل الأختُ الأحبّةَ إلى أسرّتـِهِم بعد أن تحمّلَهم عطوراً ورياحين من حدائقِ الجسدِ الذي كان، ولا تتوانى عن نسجِ الثيابِ المضيئـةِ للقمر كلما خرج من نعاسِهِ ليغتسل، وترسل إليه الوصيفاتِ والملكة كي لا تسرقَه الوحشةُ بعد انتصافِ الليل.
الأختُ تشرح للأشجار كيف يمكن الظلَّ أن يكونَ شديدَ الحنان، بل والأنوثة يكون، عندما يكتوي بخفوته فيحول دون الضوءِ الذي يقول الأشياءَ من تلقائها.
الأختُ تفترض مثل شعراءِ الحياة أن الحديقةَ أوسعُ من السياج، بل هي النظراتُ من عينيها تسمح للعبيرِ أن يخفّفَ عن الطيورِ والعميقِ من أفكارِها رتابةَ الفضاء. ومثلما تفعل بالأنين حين ترتّبه إلى الداخل، تفعل بالبحرِ فلا يظلّ بعيداً بل يقترب من تلقائـِهِ لمجاورةِ دموعـِها.
والأختُ تحتفي بالضوء مثلما تحتفي بجروحِهِ، وتصنع من البسماتِ ثياباً للحياةِ المتألمة، ومن أزهارِ الذكريات تصنع حديقةً للبلادِ المجدبة. ولا تنتظر الأختُ الربيعَ بل ترسل إلى الأشجارِ وهي كسيرةٌ ما يفتِّحُ البراعمَ وهي نيام، ولا ترتضي أن تؤخَذَ كسورُ الوحشةِ إلى النافذة فتوصي الجروحَ أن تصيـرَ عصافير والغابةَ أن تصيرَ حكاية.
والأختُ مرآةُ السماء حين تزركش البيتَ بالعقلِ العاطفي ولا تنسى أن تدعو البحـرَ ليكون مسافةَ يديها.
والأختُ تسأل الشرفةَ أن تظلّ مشغولةً بالحافة كي تهدّدَ فراغَها بالوقوع كلما همّ بافتراسِ النافذة.
والأختُ تعدّ الفصولَ مثلما تفعل البساتينُ بأشجارِها، وتخبّىء الكنوزَ في حياةِ يديها كي لا تفرَّ بسمةٌ في الهباءِ الطلق. ولا تخطىء الأختُ عندما تضمّ الهزيعَ لأن صلاتها تضيء الفراشَ للأحلام فلا يقع ليلُها في الهاوية.
والأختُ تفتتح الصباحَ بمناديلِ يديها، وكذلك تفعل عند الظهيرة، وما ان يهمّ المساءُ حتى ترسلَ الغابةَ فتكون أعشاشاً للعصافير.
والأختُ لا تهمل الحقلَ الذي من طفولتـِها بل ترويه بعواطفِ يديها والذكريات، وفي العيدِ تفرش نظراتـِها فتكون الملائكة، وترشح دموعُها زيتاً في الحزن فتصير أيقونةَ التعزية، وفي النهارِ تصنع النهارَ رغيفاً ليكون قربانَ المائدة وتصنع الليلَ قميصاً فينسج الكلامَ الذي يصير قصيدة.
لا تسميةَ للأختِ المبطِلةِ الموتَ ،
أسماؤها الشتّى تحملها في هبائها فتصير بقاءً فهو البقاءُ الطلق.
أسمّي الأختَ بأحوالِ رعيّتـِها ورعيّتـُها الغابةُ وغابةُ القصيدة.

من "لم ادع أحدا"

وحيداً ولا خوف
لم أعرف كيف أنجو بنفسي
عندما خرجتُ من جلدي قليلاً لأرى العالم
ولا كيف أحتمي
عندما قطعتْ عليَّ النجومُ عزلةَ العين
وسيَّل الحبُّ باطنَ رأسي.
لم أدعُ أحداً
ولم أُخطىء حين جاءني كثيرون ورددتُهم.
كنَّ نساءً في الغالب ومعهنّ أصدقاء
جاؤوا بحكايات مسلّية وقلوب
ومع ذلك رددتُهم.
هاكم القصة
أحببتُ في السابق أن أخترع الماضي
وأفكَّ أسر عمائه
لكني لم أعرف كيف أنجو ولا كيف أحتمي
ولأجل هذا لن يشاركني أحدٌ هذه المرة
ولن تتسع الحلبة لغيري.
سألعب وحيداً ولا خوفَ عليَّ.
جنوني جمٌّ والهاوية تعرفني
حواسي أكثرُ من خمس
وطيراني يشقّ الشمسَ الى ثمرتين
والفجرَ الى نهاراتٍ عميقة.
الأعالي أيضاً أراها من هنا.
لم أدعُ أحداً الى تفقّد الجسد مع أنه متأهب
كما أني لم أفتكر بأحد كي أدعوه الى الطاولة.
لم أفعل شيئاً لعينيَّ
ولم أستدعِ البريق
فقد كان فيهما.
ولكي أنظرَ
أرسلتِ النظراتُ نفسها فنظرتُ.
وفي الليل لم أفرش لهما
فالرموش كانت السرير.
ومن أجل أن أكتب
جلستُ فكتبتُ.
لم أشترِ ورقاً ولا كتباً ولم أحبِّ الأقلام
ومع ذلك كتبتُ.
فقد فتكتْ بي دمائي وطيّر الوهجُ أفكاري فلممتُها.
وعندما لم أجد ورقاً
أبقيتُ الكلامَ في يديَّ.
ولم أفصح كي لا أنكأ جراحي.
كثيرون أخذوا عليَّ هذا الترفع
وظنّوا جننتُ.
لكن الطاولة رتّبتْ دمائي وأفصحتْ عن الحكمة
غفرتْ لي وحدتَها الطويلة وبرودةَ الخشب في الشتاء ووحشةَ الكراسي في الصيف.
كتمتُ الضجر ولم أُغفل شيئاً
لأني لم أعد احتمل الندم.
لم أتسرع في الصمت ولا ترددتُ في شأن النساء
فقد كنّ أحابيلَ للهرب الى الذات أو الهاوية.
لم يكن هرباً ما فعلتُ بل عودة.
ولم أكتفِ بالأبواب
بل أغلقتُ نفسي لأن الحلبة لم تعد تتسع لسواي.
هاكم القصة
كان السحرة ينزلون في الليل
ويحضّرون الغرفةَ للضوء والمنظرَ للغيبوبة.
كان جنوناً ما يفعلون.
لهذا ظنّ كثيرون جُننتُ.
كانوا يرقصون بلا أجنحة أحياناً
وأحياناً بلا شكل
وتنهمر لأجلهم الابتسامات وفرائد الحكمة.
ومع ذلك لم أذكر أنها معجزة
أو أني تراقصتُ.
وعندما عطشتُ سيَّل الباطن جنوني فشربتُ.
وعندما كتبتُ
فتكتْ بي دمائي فكتبتُ.
فعلتُ ذلك كي أنجو بنفسي
لأني لم أعد احتمل الماضي.
فعلتُ وحيداً
ولم أتذكر أحداً من الشعراء والنساء
لأن الحلبة لم تعد تتسع لسواي.
ومع أن جروح هؤلاء تندمل لديَّ
فقد ظنّ كثيرون تناسيتُ.
لكن الأشجار كانت تهتزّ لوحدتي في الخفاء
وتؤمىء لي ثمارها في العلن.
كذلك فعل الأصدقاء والنسوة وأيضاً أفراد العائلة.
كانوا غائبين
ومع ذلك قفزوا من خيالي ونزلوا الى الطاولة.
أحبّوني ولم يحزنوا لأن الحلبة لي.
عرفوا أني مرةً
فتحتُ لامرأةٍ فبقيتْ طويلاً
وأني أعدتُ الكرّةَ مع أخريات.
وعرفوا بعدها أن الدماء تفتك بي.
كان جنوناً ما فعلتُ.
ومع ذلك لم أقل إنها معجزة.

***

نجوم الطريق

لم أيأس من العاصفة حين أشاعتِ الفوضى
وختمتِ الصيفَ بشمعٍ أحمر
بعدما أمضيتُ يديَّ في صنعِ أشكالٍ لها
وتسييجها بالفتنة.
اقتبستُ في الشتاء معاطفَ من نظراتي
لتقيها البرد
ونجوماً تدلّها.
لم أيأس حين تخيّلتْ أشكالَها ولم تفتعلها
ولا أيضاً حين أربكها الحبُّ
وجهّز لها غرائزَ مدهشة.
فقد شققتُ الجبالَ لكي تمرّ
وتكفّلت أشجارٌ أن تفتح لها معبراً تخرج منه الى الخيال
وشموسٌ هلّلتْ من أجلها.
ومع أني لم أهيّىء شعوباً تحتفل بقدومها
فقد استقبلَتْها أرضي
ويدايَ ضاقتا بالهدايا.
لم أيأس
لأن العاصفةَ كانت تسكن حبّي.

***

المائدة

انحنيتُ على موتي
لكي أنقذَ الحياة.
أسكرتْني أناشيدُ النازلين في الليل لترتيب حواسه
فانحنيتُ لئلا يخدشَ أحدٌ نزولَهم.
وكي أربحَ رهاني
تراقصتُ من الوهج
وقدّمتُ الكؤوس جيداً كي أهتدي.
ولأختصر
انشغلتُ بكائناتٍ غيّبتْني.
تفقّدني الآخرون ولم أجد بدّاً من الكتمان.
كتمتُ غيابي مثلما كتمتُ حضوري.
سهرتُ على الرغبات مثلما سهرتُ على الأفعال
حتى إذا استشرى الخيال
أسدلتُ الستار على الضجة
فلا تنوء العينُ بالنعاس
ولا يتثاءب السيلُ في انحداره.
كنتُ أحضّر فصولي لتكون صالحةً لأحوالها
فلم أُهدرِ المكان بضيوف آخرين.
كانت الرغبةُ في الكتابة أعمقَ من الكتابة
والرغبةُ في الموت أعمقَ من الموت،
لم تكن الرغبةُ في المرأة أقلَّ
ورغم ذلك فعلتُ.
ومع أني ندمتُ
فقد فعلتُ
وكان بودّي أن أرغبَ فقط حتى أرثَ لغتي
حتى أرغبَ وحدي كاملاً.
من مسافة الحواس والحواس الأخرى الى زوال المسافة
الى أن أشفَّ فأطير
حتى لا أراني
حتى أرغبَ وحدي كاملاً بدون ندم
حتى أرغبَ الى أن أدنو منّي
الى أن أدنو حتى أنقسم
حتى أصيرَ رغبةَ نفسي الكاملة
حتى أرغبَ لأرغبَ
وأصيرَ مائدةً
لأصيرَ مائدةَ رغبتي
فأكون الفعلَ والشوقَ إليه.
وأكون غائباً ولو حضرتُ. والعكسُ.
لتفعل الرغبةُ نفسَها.
فأكون الفعلَ والفاعلَ
ولأفعل، لو استطعتُ، بدون أن أفعل
ولأفعل بدوني لو استطعتُ
فتكتمل الصورة
وتسقط واو العطف
ويفرح الملائكة.

***


فردوس آخر

يفهم الصباحُ الخفيفُ أني ضئيلٌ أمام النور
فيخفت لي الأشعةَ ويبتسم.
يفهم أيضاً حاجتي الى الطاولة العارية
والكراسي التي تحمل أثقال فراغاتها
الى سيرةٍ تشيع حنكة اللامبالاة
الى فردوسٍ للخيالات المكبوتة
وآخرَ بلا ملائكة لجراحي
الى سَحَرةٍ يفتنون الريح ويحملون الضحكةَ على راحاتهم
ثم يربطون هذا العالمَ بخيطٍ قانٍ ويراوغون
الى نهارٍ لا يشعّ خلف النافذة
الى ضجةٍ تحمل العالمَ من أجلي مرةً في الحياة
ولا ترمقني باستفزاز
الى مقاهٍ تسبقني الى روحي كثيابٍ لاصقةٍ بالجلد الخافت
الى عاصفةٍ تأخذني تحت إبطها ولا تتوقف
الى فتنةٍ تفتنني كالبرق
الى بناتِ آوى وثعالبَ أمكر بها
لتهرعَ الى غرائزها ثم تعود إليَّ محمّلةً بالمعرفة
الى هواءٍ أكسره بنظرة ثم تكسرني النظرةُ نفسُها
الى شكلٍ أتغافل فيه عن الجميع وأتغافل فيه عن نفسي
الى هواء أمسكه بخيطٍ ليطير بي مطمئناً الى عتادي
الى مزايا الخفة التي لا تتعب من مراقصة النساء
الى فخٍّ أقبض فيه على فراغ نفسي وأرميه أمامي
الى سكينٍ أطعن به السماء فلا تنزف دمائي
الى سحابٍ أمرّر فيه الشمس كي أثيرَ ظلمتي
الى صُوَرٍ أختبىء فيها لأشتاق قليلاً الى ذاتي
الى استمالة الفراش في غيابي
والتودّد ليديَّ وغرائزي فلا تقف ضدي
الى موتٍ يأتي بلا تنبيه من كثرة ما تنبّهتُ
الى حقدٍ وغفرانٍ ليكونا أكثرَ مروءةً من الحياة
الى قبعةٍ أخفي بها مشقةَ الرأس وأسدّ رأس الهاوية
الى مزيدٍ من الجدران والأبواب المغلقة كي أروّض فضائي
الى خللٍ يصحّح نزق الأربعين
الى شخصٍ آخرَ غيري لا يصفّق لأوجاعه
الى كوكبٍ أقع منه على منظر العالم من دون أن أعود إليه
الى شِعرٍ لا يستدعي كلَّ هذه الغيبة
الى نساءٍ يملأن هوة الرأس
وينسجن بحرارة الجنس أشكالاً أخرى للأحاسيس
ويصنعن الحياة مرةً جديدةً لأجاور نفسي
الى نساءٍ يحتوين الجسد بشمسٍ تسلس قرانَ أشياءِ فراشِنا وأشعارِنا
ويقسمن الوقتَ نظرتين
واحدة لتطيش وأخرى لتطيش أيضاً
ويحضرن كي يصغن المودة ويخدّرن الأمكنة باعتذارٍ شديد
ويمحون الغبارَ العالق بالبصر.
يفهم الصباح الخفيف أني ضئيلٌ أمام النور
حيث على الدوام يحترق الكوكب الذي يفتح المشاعر
ويصنع للأربعين الفائتة القهوةَ الحارةَ وجمرَ الانتقام.
يفهم أني ضئيلٌ
فيسدل الستائرَ للواتي يسرِّبن الحياة لأجلي.

***

سماء صديقة

لم تخطىء عينايَ
عندما حال المطر دون خروجي الى الشارع
وتاهت يدايَ في زحمةٍ مفترضة.
فقد كان المشهد مؤلماً
والوقتُ يضيع كنظراتٍ طائشة.
الغيوم التي أمطرتْ
لم تبدّد حريقاً اشتعل في المقهى
ولا فعلتْ شيئاً تلك اللمساتُ التي تراكمتْ على الطاولة.
السماءُ الصديقة
لم ترسل إلينا قمراً في المساء.
بقينا حيارى أمام الزجاج
كذلك فعلتْ أيادينا.
كان الكلام مؤلماً أيضاً
لهذا استعضنا بحواراتِ الجالسين قربنا
وبأفكارٍ تعالتْ الى فضاء المقهى.
النادلُ الذي يرمقني من أطراف محبته
أشاح بعينيه قليلاً
ليلملمَ النظراتِ المكسورة بفناجين جديدة
ويُرفِقَ الحريقَ بهمهماتٍ لم تصل الى الشفاه.
الموسيقى التي صدحتْ في الداخل
سحبتْ دموعَ المرأة الى الرواق.
بقينا هناك طويلاً
فالمطرُ الذي في الخارج
جرف الحياة الى ساعةٍ متأخرة.
وعندما غادرْنا
كان النادل لا يزال يرمقني بكامل محبته
ويلملم بفناجين أخرى
كسوراً هائلة.
ومثله فعلتُ بدموع المرأة.

***

العشاء

ولكي أضرمَ سعيراً
حبستُ الحياة في غرفة
وأفردتُ لنسوةٍ مواقدَ كي ينصرفن الى الجمر.
لم أحبسِ الحياة
لكنْ دنوتُ من جسدي
وأشعلتُ حطباً ليستدفىء الشعور
وكسرتُ زجاج الليل فلم يتخرّب مزاجُ القناديل.
ولم تفلت إلاّ نجومٌ قليلة
عندما فوّتتْ عليَّ أن أرشقَ المقهى بها.
لكنها توهّجتْ لي حين أرسلتُ نظراتٍ من مزاجي
ودعوتُها الى العشاء.
لم أحبسِ الحياة
لكنْ فرشتُ الأسرّة للملائكة.

***

قبل أن نعود

عندما هممْنا بالمغادرة
رتّبْنا البلادَ والأصدقاءَ بقناديلَ من نظراتنا
ورفعْنا جبالاً شحذتْ لنا من شظف العيش سكّينَ النزول الى السهل.
عندها،
تركتْنا السواحلُ حيارى أمام البحر.
لكنّ الأرياف التي انضمتْ على نفسها
دملتْ جروحَ المدن
وأرسلتْ إلينا ملاءاتٍ للشتاء
وحنطةً نصنع منها خبزَ الكلام وقمراً لأوجاعنا.
لم نغِبْ طويلاً
لكنْ كبرْنا فجأةً
واستلقتْ على سطوح الأعين سنواتُ دموعنا.
غبْنا عميقاً، والهواءُ الذي لفح الحديقة
استنكر وجومَ الضوء في حركاتنا،
سَبَقَنا الليلُ الى الأهل ولم نصلْ.
لم نعرف في البداية أن نشقّ الطريق الى المقهى.
وهو حين قصدناه مرةً
لم يوفّر لنا الزجاجَ الذي يعكس المودة
ولم يشأ أن يعرفنا من نسائنا
بل من قسماتنا الساهمة.
عندما أتعبنا المسيرُ
رفضنا أن نتألم.
أرواحُنا كابرتْ على مضضٍ منا
وأطلقتْ طيوراً من آلامها تمشي أمامنا.
لم تُفضِ بنا الجُزُر الى القيلولة
لكنْ الى أعمارٍ عميقة.
صادقتْنا العصافيرُ التي هناك
وأخذتْ نسقاً لأشجار الشارع منا.
الصمتُ غمر شمسنا بالغيم
وأرسل الى الليل همهماتٍ حميمة من انتظارنا.
البحرُ أيضاً تودّد نحونا
والدموعُ المغلقة عرفتْنا
لأن وجوهنا كانت مغلقة.
كنا عندما صفّق البحر لنا
نضحك للطريق التي أخذتْها العاصفة
وغافلتْنا.
كذلك فعلنا عندما لطّف رذاذُ الجنس عقولنا
فحفظناه لنروي به في الموت حديقةَ أجسامنا.
غبْنا عميقاً عميقاً.
لكنّ الأنهرَ التي جرفتْ أصواتنا
خاطبتْ أوجاعها قبل أن تعود
فعرفْنا أصواتنا للتوّ
وطرْنا بخيالاتنا الى المقهى
وصفّق لنا النادل الذي، حين قدّم القهوةَ لنا،
أعاد أيضاً نظراتٍ أبقيناها في فناجينَ سابقة.
كذلك انفعلتْ صُوَرُ المرايا التي حطّتْ عليها وجوهنا.
قبل أن نعودَ الى مقهى حياتنا.

***

النهر الغريق

ماءُ الذكريات الذي غمر الرأس
ظلّ يؤلم الشتاء هنا.
والنهرُ الغريق داخل مجراه
بقي غريقاً داخل مجراه،
والرفاق الذين هناك
لم يذهبوا بدوني رغم صرخاته المستنجِدة.
كنا،
قبل ذلك،
ننزل إليه لننتشله من الضجر
ونرفعه قليلاً الى ضحكاتنا لينشف.
ماءُ الذكريات ظلّ يؤلم الشتاء هنا
ولم يسحبِ الغبارَ الذي غبّش أوجاعَ النظر الى الموتى
والتهم رسوماً معلقةً على الحائط
وصُوَراً جرحتْني حين لم أكفّ عن مخاطبتها.
الكؤوس التي شاركتْني السهرةَ
كانت ترافق هدوءَ المقاعد الوثيرة
في الركن المصطلي بأوجاعه.
بقيتْ عينايَ هنا،
خارج نظراتي.
ولم يسألني أحدٌ أين تطير التأملات
بعد أن تختلي بنفسها الثيابُ المعلَّقة في الخزانة،
ولا كيف تتصاعد حواسي المريبةُ الى الجبال
عندما تكفّ الحياة عن البقاء.
ظلّ ماءُ الذكريات يؤلم الشتاء
ويغمر الموتى
وظلّت ظلمةٌ تلتهم ظلمةً هنا.

***

حنين

العشاءُ الذي يقيمه المساءُ لي
مدعاةٌ للمشقة.
لكنّ الرفاق يهوِّنون الأمرَ عليَّ
فنأخذ الموتَ على غفلةٍ منه
ونرميه عميقاً عميقاً،
متذرِّعين بعبور الماء في هلوساتنا
وغيرَ آبهين لصوته الأجشّ.
بعدها،
أغيب في سحابة،
فأمطر الأرضَ مع الرفاق
بوابلٍ من دعاباتنا المرّة.
وتهبّ ثعالبنا المتربصة
لتغيرَ بالدهاء وتعودَ بريشٍ ودماءٍ وقصائد
ثم نطلق الرصاصَ الخادعَ ابتهاجاً،
مصوِّبين على أجنحة تخييلاتنا
لكننا لا نلبث أن ننتبه،
فنستعيد الحلبة لنرقصَ،
الى أن نقع،
ويأتي العرّافون ويرشّوننا بالماء ويحرقون بخوراً ويرفعون صلوات،
فترتدّ أرواحنا.
لكنّ الحياة تأخذنا في غيبوبةٍ معاكسة،
فأجلس من دون الآخرين الى العشاء الذي يقيمه المساءُ لي،
وأبعث بأحلامٍ وذكرياتٍ الى الديار
والثياب الصوف لمحبة الأهل والأصدقاء.

***

ظلالي

الذين أحببتُ وكرهتُ،
استجمّوا في الذكريات،
وفي موتي استراحوا كعائلة،
ثم طاروا بنظراتي العميقة.
هؤلاء ظلالي وأمواجُ البحر تحرّك سفنَهم
كلما ضاق الوقتُ بي.
كانوا رغباتٍ تستجلي قناديلَها
طاروا من أسفار موتهم لينضمّوا الى موتي
طاروا لأنضمَّ إليَّ،
كأنهارٍ تستعيد مجراها بعد ضياع.
جاؤوا بكثرة وظلوا نادرين،
كغيبوبةٍ تقسم الشيءَ حياةً وموتاً.
المساءُ الذي حلّ بهم،
مهّد اللحظةَ لكأسهم اللائلة،
ورتّب الشجرَ في الخارج لكائناتٍ غائبة.
حين أشعلوا،
استجمعوا علوَّ جنونهم،
ليكون سقفَ شتائهم البارد،
فلا ينفرد البردُ بجمرهم فتألم الغابة.
في الشتاء،
سبقوا حياتهم الى الغيوم،
وبالجبال ارتطموا.
أرواحُهم جاشت كورودٍ عالية.
وكورودٍ لا تكفّ عن التأمل
خطفوا الأعينَ وقساوةَ النظرة،
الهواءَ ملأوا بالشجر المحض.
كانت قراهم تصحو قبل الشمس وتوقظ الليل بالهمهمات
تستدرك الغابةَ بزهرة،
وتكتب السهلَ نظراتٍ خضراء.
هؤلاء استفاقوا من موتي،
وشغلوا الغابةَ بأشجارهم
وأشجارُهم خطفتِ الغابة.
وعندما همّوا بالمغادرة،
تأسفتِ الغابةُ لأنهم سبقوها.
لكنهم حين فعلوا ذلك،
أشعلوا وراءهم ظلالَ الملائكة،
كي بدفء وجعهم يستشعرَ المكان،
وببخور قدّاسهم تبتهجَ السماء.
من ريفهم،
نزلتْ عينايَ الى السواحل لتأسرَ الحياةَ نظرةً نظرة،
وتدعو الضجةَ الخافتة الى العشا.
لأن الذين ارتطمتْ حياتُهم بالجبال،
جاشوا كورودٍ عالية وانتظروا مرورَ الهواء ليأخذ عطورَهم.
صاروا ضجةَ القلب الخافتة.
كانوا وحدهم،
حين استبدّتْ شهوةُ الكتب بأغلفتها،
وتعرّتِ الضجةُ الباقية في انعدام الضجة.
حينذاك،
كان الضوءُ الناظر إليَّ،
عشيقَ ما يحصل
شريكَ الفضائح وليلَها الحارس
قارىءَ المتعة الشخصية ومخدِّرَ الملائكة ومرمّمَ الاختيالات
مدّاحَ الدهشة واحتلامات الرأس
خزانةَ الاحتباسات.
كان الضوء الناظر إليَّ،
مروِّضَ سَحَرة القلب وبهلوانَ الحزن وحارسَ الوقت الذاتي.
فردوسَ الذين صاروا ضجةَ القلب الخافتة وضلّوا الطريق.
هؤلاء كانوا نساء
جئنَ بدون دعوة بعدما قرعنَ الحياة
حملنَ الهدايا الى رغبات ضائعة
وبعدما جلسنَ،
خلعنَ قبّعات السفر ولم ينمنَ
كنّ ينزلنَ من أعالي الفردوس ليرقصنَ في حلبة الرأس،
في حلبة الجسد،
يومئنَ في العاصفة لخيالاتهن الطائرة،
وفي الصيف يومئنَ الى الداخل المحض
رددنَ الحواسَ والحواسَ الأخرى وشغلنَ اللغاتِ بأحابيلهنّ
وعندما جئنَ،
جئنَ بلا انتباه
لمعنَ في موتي كحياةٍ وحيدة
وطرنَ في خواء البداية والنهاية
ظللنَ هكذا في احتمال الضوء،
مسرّاتٍ تجرح فظاعةَ العيش،
منتهى الشهوة ونعاسَها،
وكنَّ جمالَ الخراب.
خدّرنَ زوغانَ البصر وأشعنَ الحوارَ الخفيّ،
وراء زجاج اللوحة وشفّاف الصمت
كنّ الضوءَ الناظرَ إليَّ، شبقَ الغيبوبة
وكنَّ سريرَ خيانتها الدافىء.
ظللنَ احتمال الضوء،
عندما أصبحنَ ماءَ الشغف ورنينَ تأوّه العين
لم يباغتنَ الضوء،
حين اصطحبنَ ماجني الأوقاتِ الغامضة،
لكنْ صعقنَ انتباهَ الجسد.
لم يجرحنَ شيئاً،
إنما أشحنَ الليلَ بذكاءٍ ومحبة،
ورفعنَ فوق حواسه نجمة.
كانوا يضيِّعون العتمةَ،
عندما يفيقون في الليل.
لم يكن ضوؤُهم يضيء
لكنْ يناوم العتمة.
عرفتُ مهارتهم منذ البداية.
كانت عتمتهم تحبّ الضوء كلما استيقظ،
فتصيره لتمنعَ وحشتَها وتبدّد غيابه.
عرفتُ مهارتَها أيضاً
تراود كمونَ الضوء فيشيع
وتقبّله فتتوارى،
وتخبّىء نشوتَها المخدَّرة الى المساء التالي
وفي المساء التالي،
تحبّ الضوء وتملأه بجنسها المشعّ
عندها لا يعود يضيء.
وفي الرواية،
تنام كلما استيقظ الضوء
تنام ليحبّها،
لأنه يحبّها نائمة.
وعندما تكون نائمة،
يحتلم ليل العتمة فيصير ضوءاً.
تضيء العتمةُ الضوءَ،
وقلائلُ يبصرون ذلك.
هؤلاء عرفتُ مهارتَهم منذ البداية.
كانوا ضجةَ القلب الخافتة
وملائكةً كانوا عندما ضلّوا الطريق.
وعندما استهدوا،
أصبحوا احتمالَ الضوء.
كانوا ملائكةً وأعني نساء.

***

دمع

الهواءُ الذي يلمس الضوءَ في الغياب
يكتب مروءةَ الأشعة.
في الغياب،
يهب البيتُ الأليمُ إيقاعَ الحواس،
انفعالاتٍ فائضة،
ويرتّب ثيابَ البصر بإغماضاتٍ ورطوبة
فتضيع الأيدي خارجَ الذاكرة،
ومثلها تفعل دموع الكتابة.
لأجل هذا يفتدي العمرُ خسارته،
باختراع مزايا جديدة ونجومٍ لسماءٍ فارغة.
الهواءُ الذي يلمس الضوءَ في الغياب
يلفح الحياة بملح الهدوء الداخلي،
ومطرِ العاصفة.
من هذا الهواء،
يقع قلبي،
ويكسر صحن الصمت بدقّاته.

***

نظرةٌ وقعتْ من منامي

أروي مشاعرَ الكلمة،
وبها مرارةٌ منكم ومن الحياة،
ولا أحفل بمشاعري.
من أجلي خصوصاً لا أحفل،
ومن أجل آلام الكلمة.
أفعل ذلك،
كي لا تُصاب بغير دمائها،
وكي لا تؤلمها دمائي،
ولا أقول كي لا أجرحَ عواطفَ الهواء الذي يصلكم،
ويُشيعُ التوازنَ في المسافة الفاصلة.
ولا أقول لأن العين لا تحتمل التحديق عميقاً في الشمس،
مثلما لا يحتمل ألمُ الكلمة أكثرَ من نظرة.
لحظة الكلمة تضع الكلمةَ في منتهاها،
مثلما لحظة الأشياء تلغي مادةَ الأشياء.
يعزل التحديق في الكلمة مادةَ الكلمة
مثلما التحديق في المرأة يعزل ثيابَ المرأة.
بعدها،
تصبح النساءُ مادةَ غيابها
ولحظةَ الكلمة.
لا تعرف الكلمةُ أنها حدّقتْ عميقاً،
إلاّ بعد أن تغيب في الكائن الذي حدّقتْ فيه،
أو بعد أن يغيب فيها.
ولا تعرف أنها لم تعد تحتمل،
إلاّ حين يصرخ أو يغيب.
مشاعرُ الكلمة لا تحتمل أكثر من نظرة.
بعدها، تحمرّ وجنتاها،
ومن ألمها تقع في الكلمة.
ولأوضح،
لا بدّ من التسلية أو الانتحار.
أعبث كي تزداد الكلمةُ عبثاً،
فأنظر الى وقوع الكوكب من أعلى الى أسفل،
وأجرح شعورَ الحياة قليلاً
وحين أفتكر أن أنهي السجال،
تزداد اللعبة عبثاً،
فأصل الى نوم مطلق يشبه الموتَ ويختلف عنه.
ولأوضح أكثر،
أكتب كلما خرجتْ حياةٌ من رأسي،
أو دخلتْ عليه.
أفقد نفسي عندئذٍ،
لأن الكلمة تغيب عن الوعي،
ولأني أيضاً لا أحتمل أكثرَ من نظرة.
أقع من نظرةٍ وأقع فيها.
أقع عميقاً،
كي أقع جيّداً.
وكل ما أكتبه،
أكتبه لأستعيد نظرةً وقعتْ من منامي.
وأفعل ذلك كي لا أجرحَ مشاعرَ الكلمة أو أُكرهَها على البقاء
عينايَ أيضاً لا تحتملان
يدايَ خصوصاً تضيعان بعد ذلك.

***

ضجة الأفكار

ضجةُ الأفكار،
سكّينُ الحياة ومُرشدةُ الكلام الى الذوات الخربة.
تنزل من الرأس لكنها تترك خدوشَها فيه.
ضجةُ الأفكار تثير غريزةَ الرأس
ولحظةَ الدنوّ من فضاء النافذة.
لأجل ذلك أصعد الى الكلمة لأجرحَ ضجتها،
أو أنتحر.
لا فرق.
لكنْ،
لا أحد يعرف بانتحاري،
لأني أظلّ على قيد الحياة.

***

صخب هارب

الصخبُ المطلّ من رأسي مؤلمٌ،
لكن الأوراقَ لا تعرف به.
عندها، أعوي.
أبتسم أيضاً ليديَّ المتلبستين بأفكارهما،
حين تلتقطان الصخبَ الهارب من القبعة.
وفي النهاية،
تسيل الضجةُ من أصابعي،
بعد أن تفرّ أفكارُ اليدين.
وفي النهاية أيضاً،
تعزّز الأفكارُ معنى النساء
وبدونها لا أهميةَ كبيرة للحب في الواقع.
لأجل ذلك تدنو يدايَ وهما متلبستان بأفكارهما
وبهذا يغيب العالم.

***

في البداية

في البداية،
كانت يدايَ برىئتين وكذلك جسدي.
ثم تلبّس جسدي بأفكاره،
ومثله فعلتْ يدايَ.

***


حياة وحيدة

كنا حين نفتقد سعادتَنا،
نتوهّم أن الشِّعرَ فوّت علينا الموتَ في أحضان النساء،
فنتفادى الإعرابَ عن مشاعر باءت بالفشل،
ونصرف أرواحنا الى اهتماماتٍ أخرى.
لكن الهواء كان يتلقف تعابيرَ ممضة
وقعتْ من وجوهنا،
ويرتّب المساء بإشاراتٍ لا تفهمها سوى نظراتنا.
وكنا حين نفتقد السعادةَ،
نخيط بإبرة المنفى نسيجَ أنفاسنا،
ويتراءى لنا من خرمها أن الحياة في مكان آخر،
وأن عطور الأشواق تفرّ الى الجبال،
لتأخذ من الأشجار المستوحدة ظلالاً لها،
فنقارب الامحاء برغباتٍ صامتة،
ونلتقطه بشِباكٍ مهيَّأةٍ للصيد، وفخاخٍ لم ننصبها إلاّ لثعالب الكلمات.
لذا، كنا نجرح السطور بحروفٍ طائشة،
وندملها بعطورٍ يصعب إدراكُ شميمها.
وكان صيّادو لعبتنا يأخذون علينا،
أننا نُغير بثعالبَ مراوغة،
ونفلت الهواء من شِباكٍ وهمية،
فنبتسم حتى يلوّن الهواءُ ابتساماتنا بلمساتٍ فوّاحة،
ثم نغمز الأسطرَ التي دوّختْنا،
ويستبدّ بنا الشوق الى أسطرٍ تهمّ بنفسها،
ثم تمانع كنساءٍ يعذّبنَ أفكارَ أجسادنا ونزقَ أيادينا.
كنا نغيّب اللذة بإشاراتٍ كافية،
يسخر منها الرجال بتودّداتهم الجلفة.
ومع ذلك كنا نرسل إليهم المودة عبر سماءٍ عالية،
أو هواءٍ يليِّن الظلّ في الصيف.
عندها، لم نكن نفعل سوى ما نظنّ أنه يلطّف الذكورة،
فتتخفّف القصائد من أعباء جمة،
ونعيد الاعتبار الى أنوثة هائمة،
لا نجدها إلاّ في خيالات النسوة اللائي في دواخلنا.
كنا نشتاق
نشتاق كفتيةٍ، فنخرج دوماً الى مراهقتنا
بأعينٍ حادة وأعضاء لا تكلّ عن المشاكسة.
نشتاق الى أنوثتهنّ فينا،
فننسى أجسادنا ونروي ما يحقق جزءنا الكامنَ في جرح الرأس.
وكانت أيدينا كلما نسيتْ نفسَها،
تتذكر أفكاراً ترتعش لها الطاولة،
وكذلك الفضاءُ المحيطُ بالمعنى.
لذلك مللْنا المصافحات لأنها أفقدتِ الأيدي فراغَها
ومللْنا أيضاً النساءَ حين منحنَ الأيدي معنىً واحداً.
ومع ذلك رحنا نجمع عطوراً غامضة،
لنزيّن بها حياتنا الطائشة فلا تبيب وحيدةً في الشتاء.
عندها لم نكن نفكر في الذكريات،
لكنْ في اختلاط الزمن
فنتفاجأ بلمساتٍ كأننا اغتربنا عنها،
وبأمكنةٍ كأنما لم تخطر لأعيننا
ونتفاجأ بنساء يغسلن دفاتر أجسادنا بعطر الملائكة.
عندها، لا نعود نملّ النساء،
حين يفعلنَ بنزواتٍ فائقة،
فيدوِّخن الليل بمعانٍ من افتراضات الجروح وأهواء الفؤاد.
لذا، كنا نستبطن المعنى بنزق المراهقين،
ونجلوه في حكمته الشخصية بحدس البداهة وغرائز التكهنات.
لم نخترع بديلاً من أجسادنا، لكنْ إضافة،
ومع أننا أُغرِينا بالشكل الذي اصطفى حركاتِ أعيننا،
وبالماء الذي غسلنا به صيفَ الرغبة،
فسرعان ما أجاد الشِّعرُ القبضَ على كرامة الجوهر
ورقّق الحياة بموداته الدمثة.
كنّا حياةً وحيدةً حين نفتقد السعادة.

***

بأيِّ جنون

نضجر أحياناً من أفكارنا،
وضجرُنا يحرِّرنا منها،
فتطير من إناء الرأس وتحطّ على أيدينا
لكنها تظل مذهولةً بمكانها الأول.
ومع أنها أسيرةُ النظرات،
فهي تحتضن الآخرين بنظراتها.
لكنْ،
ماذا نفعل أيضاً إذا لاذتْ بالفرار
وبأيِّ أفكارٍ نعوِّض شعورنا أننا فقدنا أفكارنا!
تخرج منا الأفكار كنساءٍ لا يعرفنَ طريقَ العودة
وقد نظلّ أصدقاء فنبتسم لها،
لكننا نخشى سطوتَها علينا،
فلا نعرف أن نخرجَ منها.
وعندما نفعل،
تظلّ ندوبها في أرواحنا،
وتمعن في تصوير الحياة لنا بالتباسها الفائق.
ومع أننا نتناساها،
فهي لا تتفادى عجزنا بل تهزّه بمشاعر مستديمة.
لكنها طائشةٌ أيضاً،
حين لا تبالي بمعناها فتتكهن بتفسيراتٍ أخرى لحياتنا.
الأفكارُ انتقامُنا من أنفسنا عندما لا نكتبها
وعندما نفعل، فلكي نلملمَ همهمات ماضينا.
لكننا أحياناً،
نفضّل المشاعرَ عليها،
فتضيع في جنونٍ آخرَ لأجسادنا.
بأيِّ جنونٍ تعيش الأفكار التي تحرّك أجسادنا
بأيِّ جنونٍ تتعرّى ثيابُها في أسرّة نسائنا!

***

في أحد الأيام

ضئيلةٌ هي الأفكار التي نعرفها،
لأننا نتذكر أشياء لم تحدث في الواقع.
ومع هذا، نتذكرها كأنها ستحصل غداً.
عندئذٍ، تصطفي الكلمةُ عشّاقها وترنو إليهم بشهواتٍ حارقة،
وتصبح القصيدةُ ذكرياتٍ لعواطفَ وأحوالٍ،
ربما ستجري في أحد الأيام
ولأجلها نعيش في منازل تُضاء دائماً بأفكارها العمياء.

***

الأشياء

في الليل تصبح الأشياءُ أفكاراً باطنة لأننا لا نعود نراها.
نتصوّر أشكالها لكنها سائبة.
وفي الليل تطير منا أحلامنا،
كذلك تنتهز الأشياء نومَها فتكبر في غيابنا.

***

ماذا نفعل

ماذا نفعل إذا لم نجد أمكنةً للأفكار في زحمة الرأس
ماذا نفعل أيضاً إذا لم تهرب أفكارنا منا؟

***

علاقة

نغار من أيدينا عندما تكتب.
نغار من أيدينا،
لأنها تخون رغباتنا.

***************

من "تحت شمس الجسد الباطن"

هدوء
القتلة
تلك
الفضيلة
التي
لم
أنعم
بها.
من يلملم الرائحة العطرة
عن كراسي الجلوس الأنيق
من يحمل الوقت المجلوّ بفاكهة النسيان
والمدن المأهولة بالنعاس.
والذين انحنوا على رميم أجسادهم
ليسألوا تفاح الصيف عن أوان القطاف
كيف ينسدلون على بحرهم كسياج الليل
وكيف لا تهرم خطواتهم الممهورة بالتجهم
كلما حطت عاصفة على أيديهم.
كيف لا تهرم صرخاتهم المرتَّبة على إيقاعاتها
ومؤونة الغضب تلك
حين تمرّ عربات الحاضر
لتقطف صدى أوجاعهم
وتستعجل سقوط الهواء.
على غضب دمائهم يدفأون
والمساء القتيل يحرس ورودهم
حنانهم يشرب معصياتي
كلما ندّت طعنة من لهاثهم المحتجب.
مريعٌ اصطدامُ أبصارهم بالماء
ومريعٌ حين تنظر عيونهم في نومها
وكيف تقتتل النظرات في اغتراب الرؤية.
حنانهم يشرب معصياتي
حين
أرشف
ظلام
يديكَ
أيها الوطن
وميتاتهم المترنحة تعبر هذا الجسد
بهوس من يلجأ الى طعناته.
سماؤهم تنحني
فلا يهبّ صراخٌ من قتامة الشارع
ليلقي التحية على الهواء.
هدوء
القتلة
سحقاً
لم
تعد
مرآة
الذاكرة
تحتمل
هدوء
القتلة.
الشاعر الذي ينام
عيناه المغمضتان
تفتحان ذاكرة العماء
وتؤنسان الجسد الباطن بالدهشة.
افتراض يطمئن الحواس
كمرآة
تفتح
خيالها.

*************


من «قراءة الظلام»

أضجر كلما أمسكتُ عن جنوني.

***

السكة الحديد مرّت وظلّ قطاري في مكانه.

***

يأخذني النعاس بيديه الى الفراش جثة غي هامدة.

***

ذات نهار لن أجد جثتي لأوقظها عند الصباح.

***

صامتاً أكون لأحذق صناعة مجدي. بالحدس أهدّد مصير المعرفة وجنود فصاحتي على الجانبين. قراصنة الشغب يسكنون فوضاي ومن نظرة أرديهم بين اللغات. دماؤهم على شرفتي ومن نقاطها أسدّ فراغ الحروف.

***


تستيقظ الأفكار عارية من نومها كلما أغرتها الكلمات.

***

مشنقة تتدلى من أعلى الخيال وتدعوني إليها.

***

حين يتسنّى لي التصفيق تخون يدي أختها.

***

لا أرى كي تشتاق العين في نومها.

***

عيناي حبيبتان ولا تأويان الى فراش واحد.

***


لا تترك يدي أصابعها لئل تضيع في الزحمة.

***

أصرخ لأقول كم يكون مؤلماً ألاّ أصرخ.

***

يرفع قبعته ليستأذن الحياة.

***

يتسلق شجرة المرارة ليلامس خيباته العالية.

***

مَن يشعل نجمة ليحرق هذا النهار.

***

قبعة ليعتمر الرأس فضاء خيباته.

***

ننام كي نغطي أحزاننا.

***

وطلقةٌ واحدة تنقلكَ الى النوم.

***************

من «ماحياً غربة الماء»

عمرٌ في الماء
أتقاسم ترابي تغرفني النبضات
أنهب أنهب صفحةً
لا شيء
عمرٌ في الماء
أجلد العاصمة بحروف الإسم
بانتعاشٍ أقف
أتقوقع
غشاءٌ يتوسد الهمّ
هجرتي تحمي أكمام البحر
هجرتي غشاء
عمرٌ في الماء
الوجه بين اللحظة واللحظة.

***

كل دمعةٍ تساوي امرأة.

***

جامعاً وجوم الشعراء
فاتحاً غربة الماء
ماحياً التراب
لكنكَ
الضجة ذهولكَ في الوهلة
ببراءة تنسى
تظنّ
متجهماً كلغة
تخلع عنكَ منتصف النهار
ترتدي المساء
بسرور بمحبة
كأنكَ لا تدرك ضفافاً
لجة القلب
الدم ذهولكَ.
أنحت في صفحة الوجه.

***

عمرٌ في الماء.

  • من مواليد لبنان 1952.
    شاعر وناقد وصحافيّ وأستاذ جامعي.
    أصدر ثماني مجموعات شعرية، ويحمل شهادة دكتوراه في الأدب العربي الحديث.
    يعمل مديراً للتحرير في "ملحق النهار" الثقافي في بيروت، ويدرّس الصحافة والحداثة في الشعر العربي في جامعة القديس يوسف في بيروت.
    تُرجِمت قصائد له الى الفرنسية والإنكليزية والاسبانية والألمانية.
    صدرت له انطولوجيا في عنوان "سماء اخرى" عن دار ميريت في القاهرة عام 2002.
  • له:
    سراح القتيل - دار النهار للنشر، بيروت، 2001
    إفتحي الأيام لأختفي وراءها - دار النهار للنشر، بيروت، 1998
    مقام السروة - دار النهار للنشر، بيروت، 1996
    لم أدعُ أحداً - دار الجديد، بيروت، 1994
    تحت شمس الجسد الباطن - دار النهار للنشر، بيروت، 1991
    قراءة الظلام - دار بيبلوس للنشر والتوزيع، بيروت، 1986
    المتكئة على زهرة الجسد - المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1985
    ماحياً غربة الماء - دار النهار للنشر، بيروت، 1981

أقرأ أيضاً:

أقرأ أيضاً: