عقل العويط
(لبنان)

إلى عقل العويط
زاعماً أنّه
الشخص الثاني
في هذا الحوار

عقل العويط- حسناً. سأفترض أنّه الفجر، أو ما بعد منتصف الليل. يحلو لي أن أُحاور أمزجتكِ كما لو أنّكِ لا تزالين نائمة. كما لو أنّكِ تحلمين. أوهِميني فقط أنّكِ هنا، وأنّ غرائزكِ تنمو في الليل، مثلما تنمو شياطين على حافة هاوية. كلِّميني بإشارةٍ من جسدكِ، كي لا أبقى أكلّم نفسي، كما أفعل مذ وُلدتُ، وكما يفعل ممثّلٌ وحيد على خشبة مسرح... في العرض الذي يسمّونه بالإنكليزية "وان مان شو".
- ...
- سأزعم أنّكِ هنا، وأنّكِ تتقمّصين إحدى مرايايَ. دورَ كاتبة، أو عشيقة عابرة، أو الاثنتين معاً. حاوِريني كما لو أنّي شخصٌ عابرٌ وخفيف. إشارةٌ واحدةٌ منكِ تكفي لأتواصل مع نومكِ الافتراضيّ العميق. هكذا أستطيع أن أحاوركِ راوياً كيف أنّ الدنيا، هذه الدنيا، تأخذ عينيَّ من دون أن تدري، سراجَين لنجمةٍ مضيئة.
- ...
- لن أفترض أنّكِ عابسة، لئلاّ أظنّ أنّكِ تُصابين بالكوابيس. سأفترض أنّكِ تبتسمين، كعلامةٍ من علامات الرضى.
أنتِ النائمة تبتسمين في نومكِ، كأنّكِ تُنصتين، أو تحلمين. هكذا تتيحين لي أن أنتقل في ضوء الضحكة، لا لأصير مرئيّاً بل لأنقل عينيَّ في الضوء هذا، فلا تبقيا متفرّجتَين من بُعد، أو عاطلتَين. فأنا أكره الفرجة والتبطّل، متمنياً أن لا أرى كي لا أكون شاهداً فحسب. ولأنّي أسيل تحت الشمس وفي العتمة، أفضّل أن تسيل عينايَ في ألياف الضوء لتصيرا ضوء ضحكتكِ الصامتة.
هل أنتِ هنا؟
- ...
- حسناً. لا بدّ أن تكوني هنا. إليكِ قصّتي. لقد جعلوا لي عينَين لأرى فيهما نجمتي المضيئة. هكذا رأيتُها، لكنْ هكذا أيضاً جعلتُها تَرى. فمن طبيعة النجمة أن تُرى لا أن تَرى.
هذه هي خبرة الضوء الذي أنا، لا خبرة النجمة. لكنّ هذه الحقيقة تصير حقيقة النجمة لا حقيقتي أنا.
سامِحيني إذا قلتُ لكِ إنّ المشهد محض طبعٍ وغريزة. لذا يشقّ عليَّ أن أتطبّع: كأنْ أصير سراجاً بيِّناً، أو عينَين رائيتَين لنجمةٍ تهتدي بعينَين رائيتَين.
يسمّونها غريزة الشغف، أسمّيها غريزة ما (مَن) أنا. لكنّ التسمية ليست هي السرّ، إنما السرّ هو ما يُستطاب في الانتقال إليكِ.
كنتُ أقول: على طريقة النبع. صرتُ أقول: على طريقة الضوء الذي هو نبع السراج ومصدره. هكذا أنا بلا عينَين من كثرة ما أنظر إلى نجمتي المضيئة التي أنتِ. الآن أعيش ذاهل العينَين. وأراكِ. يغمرني شعورٌ بأنّي مكتمل الجسد من فرط الاشتعال الذي يجعلني جمراً متروكاً في غابة. ولأنّي لا أريد أن أُشعِل الغابة، فإنّ الجمر الذي يلفح أشجارها يصبح كثيف المعنى، بسبب الأشجار التي هي تستولي على المعنى.
قولي شيئاً أسمعه بعينيَّ المُنصتتَين...
- ...
- انتبهي إليَّ إذاً، في نومكِ الافتراضيّ الحالم هذا. قد كانت لي عينان تهندِسان العالمَ وتفتحان للهواء فضاءً يسرح فيه، وقد كانت لي عينان تُعِدّان المائدة للجميع، فصرتُ خلواً من العالم والهواء والطعام. عندما تملّكني الجوع بتُّ آكل ما فاتني من نظراتِ عينيَّ.
- سأفترض أنّكِ تبتسمين لي الآن، وأنّكِ تريدين بعض التفاصيل. حسناً...
- ...
- أختصر المسألة بأنّها مسألة عينَين. لكنّ الحقيقة تفترض أن أقول غير ذلك تماماً. من مثل: أنّي لم أعد ذلك الشخص الذي كنتُهُ لأنّ حياةً سُرِقتْ منّي فصرتُ خارج الحياة. هذا الوصف يصلح على طريقة صديقي ميلان، ميلان كونديرا أعني، عنواناً لرواية، أو لفيلمٍ سينمائيّ، بطلُهُما شخصٌ هو أنا، لكنّه ليس موجوداً لأنّه يعيش خارج الحياة. تصوّري تلك الرواية، تصوّري ذلك الفيلم، اللذَين أزعم كتابة نصّهما، وإخراجه، فكيف يُحتمَل أن يكون؟ لستُ روائيّاً ولا مخرجاً سينمائيّاً، لكنّي أعرف أنّي لا أحيا. سأبدأ من هذه النقطة بالذات، معتبراً أنّي لا أرى، لأن عينيَّ ذاهلتان وإن كانتا تريان. ثمّة روحٌ فيهما، يشتعل من تلقائه ويجعل الجمر متّقداً بحيث يحترق بهما كلُّ من يسوَّل له الالتهام أو النظر أو الغيرة أو الشهوة. أعرف ما أعرفه بالشعور الذي يسمّيه الشعراء غريزةً أو حدساً. لا تهمّني التسمية، فأنا الآن خارج الأوصاف، مثلما هي حياتي خارج الحياة. يبدر مني صوتٌ خافتٌ هو صوت الموت اللذيذ. قد يُذهلكِ أنّ للموت صوتاً. ذهولكِ طبيعيٌّ، لأنّ معجزة الصوت هي من طبيعة الموتى. وليس للأحياء أن يعرفوا بها. لم يأتِ أحدٌ من هناك ليُخبِر شيئاً من هذا القبيل. لكنّي، أنا الميت، أستطيع أن أُخبِر وأصف، متمتّعاً بما بقي لي من حواسّ تجعلني قادراً على سرد المرئيّات غير المرئيّة بعينَين، ولكنْ بغريزة الميت الذي كان حيّاً ولم يعد حيّاً لأنّه أصبح خارج الحياة.
هل تريدين أن أُكمِل؟
- ...
- هاكِ حقيقة هذا الحوار: يا نجمتي المضيئة، تضيئين سماءً مفترَضة تراها عيونٌ مفترَضة، بينها عينايَ. ولأنّي لا أرى بعينيَّ، فقد صرتُ أرى ما لا يُرى بعدما تاهت عينايَ في البراري الموحشة، حيث لا هواء يخدش البصر، ولا صوت ينصت إلى هوس العينَين باللاّشيء.
سأفترض فقط أنّكِ هنا، وأنّكِ تُنصتين إليَّ بدون صوت. وتبتسمين. أحياناً أقول: تضحكين. وتحاورين. لذا يمكنني الاستنتاج أنّ ما بيننا من نزق الافتراض جديرٌ بأن يُسمّى "تشاتينغ"، لكنّي سأسمّيه، تجاوزاً، "سكايبينغ" من كلمات. "سكايبينغ" كتابيّ، بين شخصَين افتراضيَّين، أحدُهما أنتِ. في هذا الـ"سكايبينغ" أراكِ، وعينايَ ذاهلتان. وفيه نتبادل الكلمات، ولا نكاد نكون موجودَين.
قد تسألينني لماذا أسمّيه "سكايبينغ"، مع أنّ هذه الكتابة، وما يُفترَض أنّه شِعرٌ مَعيشٌ بيننا، قد لا يكونان من الـ"سكايبينغ" في شيء. سيطرح عليَّ القارئ السؤالَ نفسه متعجّباً، وسأجيب أنّي أحببتُ الفكرة والتسمية والتجربة معاً، وأنها محضُ نزقٍ افتراضيٍّ متعسّف فحسب. أسألكِ، وأسأل القارئ، أن تسمحا لي بهذا النزق.
فها أنا أمثل وراء شاشة كومبيوتر، وأجدني أُحاوركِ عبر الـ"سكايب". لكنّكِ لستِ هنا، فيما شاشتُكِ مفتوحةٌ على غرائزها وخيالاتها، أخاطبها وتخاطبني، وأحياناً تلوذ بالغياب والصمت. يُغويني أنّي أختلق ذريعةً تواصلية لأفتح شاشتي على فانتاسماتها وذكرياتها. ويُغويني أنّ شاشتكِ مفتوحةٌ هنا. هل أقول إنكِ أنتِ التي ها هنا؟

***

- أُهدي إليكِ هذه اللحظة، هذه الحياة، باعتباركِ امرأةً، نجمتُها المضيئة تُعمي عينيَّ. ولا احتجاج.
- ...
- يشغلني الافتراض لكنّي لا أفترض. فأنا الآن أشغف بهذا الموت لئلاّ أرى شيئاً لا أُحبّ أن أراه. وأسمع شيئاً لا أُحبّ أن أسمعه. وأُحبّ حبّاً لا أُحبّ أن أُحبّه. وأكره كرهاً لا أُحبّ أن أكرهه.
الآن يا الموت. الآن. لأنّي لا أضجر. لأنّي أُتِمّ ما يجب أن يتواصل بذاته، محرَّراً منّي.
يا الموت الآن. ساعِدْني. أُحبّ ما أُعطِيتُ أن أُحبّه. ولئلاّ يهرب الحبّ رأيتُ من شروط اللعبة أن أكون أنا الميت، لئلاّ أبقى أعاين مسرحاً أنا بطلُهُ فيما هو يؤدّى بدوني.
يا الموت الآن. فلا تُشفِقْ. ولا ترحمْ. هاتان، الشفقة والرحمة، تُضجرانني أكثر. وأنتَ لا تريدني أن أضجر.
كرِّمْني بمجيئكَ في البرهة التي الآن. أحياناً، تلعب لعبةً ليست من الشيم، كأنْ تنسى. فإيّاكَ أن تنسى. إيّاكَ أن تغفل. إيّاكَ أن تنعس. إيّاكَ أن تنام. إيّاكَ أن تحلم. إيّاكَ أن تسمح للكوابيس بأن تضربكَ. وإيّاكَ أن تقدِّم أحداً عليَّ لئلّا أتأخّر عن الانضمام إلى جثمانكَ. اجعلْني متّحداً بكَ مثلما أنا متّحدٌ بهذه المرأة التي الآن، حدّ اختفائي عن الحياة.
- هل يؤلمكِ أنّي أتحدّث عن الموت، فيما أنتِ قد تفضّلين الاستفزاز أو المراودة؟
- ...
- لا بدّ أنّكِ تؤثرين الصمت أو التغيّب أو الاحتجاب. فليكنْ.
سأُكمِل مخاطبتكَ أيّها الموت. فأنا أُحبّكَ يا الموت السريع الخاطف المفاجئ الجريء المقتحِم المُسكِت الدماغ إسكاتاً يشبه غمضَ الروح أو سدلَ الستار.
أُحبّكَ يا الموت هذا. لا حبّاً بالموت، وإنّما.
أنتَ، يا الموت هذا، تُنقِذ كل ما أُحبّه. ولا أزال.
أنتَ، يا الموت تُنقِذ هذا الحبّ فتمنعه من السقوط.
الموت البطيء، الحبّ البطيء، كم أكرهكما! هل أحدنا إلاّ يعرف ما الموت البطيء، والحبّ البطيء؟
الكلّ يعرف، ولكنْ. كلٌّ على بطئه وموته.
- هل تعرّفتِ إلى الموت البطيء؟ إلى الحبّ البطيء؟
- ...
- حسناً. واحدٌ في داخلي يقول: الحياة نفسها هي الموت البطيء.
ويقول: الحياة نفسها هي الحبّ البطيء.
لا. هذا ليس صحيحاً، يقول الواحد نفسه لي: محض هربٍ في المعادلات الطفوليّة ليس إلّا.
واحدٌ ثانٍ في داخلي يقول: الموت الكامل هو البطء الكامل. فأين المفرّ من كمال البطء؟
هناك حلٌّ ما، يقول واحدٌ ثالثٌ فيَّ: أن تُوقِف الكمال، يعني أن تُوقِف بطئه. يعني أن تضع له حدّاً. أن تضع حدّاً له يعني أن تجعل الحياة تزدهر مرةً واحدةً، فتحصل عليها كلّها في زمنٍ مختصَرٍ خارج الزمن.
كأن تُمات الحياة. بالقوّة. بالشبق القاتل. بالنزّ الهادف. بجَرح فؤادها. بكسر مفاصلها. بالخلع الذي يجعل المرايا مرئيّةً كأوجاعٍ مطلقة.
ليس من تشابيه تعطي الأصل حقّه. المعنى الماحق يقيم خارج التشبيه. لأنّه ماحقٌ ولا ينتظر ما يعيه لكي يشبّهه به.
- ...
- بَعرِف إنّك موجودة. لها السبب رح كمِّل.
لا يُقاس البطء بالزمن. البطء المقصود يصنع زمنه. لذا أعتقد أنّه يسحق الزمن. يتناتشه شلواً شلواً، إلى أن يعدمه.
لا زمن للبطء. لأنّه لا يؤخذ بقياس. بعد قليل، ينبح صوتٌ في داخلي قائلاً: قياسُه بطؤه. وهو لا يُقاس.
في الداخل العتيق لرأسي، أفاعٍ تخلع جلدها لتنمو في العتق المميت للرأس. فإذا أردتُ أن أقيس ما ينخلع وما ينمو، فبأيّ قياسٍ أقيس إذا لم أعِ ما ينتاب القياس من أهوال البطء؟
ينوب عن الحياة كلّ ما لا يعيها.
كأن لا يُعاش الموت هنا.
كلّما أشرقتْ شمسٌ وسلّمت نهارها بعد طول عناء إلى ما ينوب عنها، ثم عادت لتواصل مشوارها بدأبٍ عجيب.
الإيقاع الشمسيّ ليس هو المعنى، ولا الإيقاع القمريّ. كلاهما مرآةٌ وما وراءها. إذا كان ثمّة بحثٌ عن معنى فهو في ما يختبئ في نسيجهما من بطء. هو اليوم مستعاداً بِلَيلِهِ ونهارِهِ، ثمّ مستعاداً إلى أن ينمو جدارٌ على وشك زهرة.
- هل تعرفين كيف أنام؟
- ...
- أنام نوماً مُضاءً بالبطء. هو النوم البطيء، الذي كلّما هبط إلى ليله، سقط منه نيزكٌ مُعتِم. لكنّي أومئ إلى ما يحصل لي في النوم البلا نجوم، أي إلى نومٍ شبه واعٍ، يزعزع قلبي ويفرطه مثلما ينفرط عِقدٌ يمسكني عن النزول إلى الموت. حتى ليقول واحدٌ من عقولي: ليتني أنام النوم كلّه، لكي أتخلّص من المساء الطويل الذي يجرجر فؤاده أمام قدميَّ ولا أتمكّن من انتشاله. البطء يجعلني أنزّ نزّاً يُماثل عندي ما يتراءى للروح أنّها تراه كلّما فارقها الجسم إلى نومٍ غير عميق. هذا من شأنه أن يجعلني أعي نومي وعبوره الجُلجُليّ في أنحائي، كما لو كان سمّاً لا يُفني، لكنْ يميت الجسم وهو حيّ. والنوم البطيء يأكل الليل ويتغذّى به لكي يتواصل تحت عينَي الجسم لا في إغماضهما. فأنا متحالفٌ مع الخطف لكي أظلّ منخطفاً. مفترضاً أنّي بذلك أحقّق ما ينجّي المشهد من عبوره المتباطئ تحت البصر. فأنا أمقت ما أعيه، لأنّي أحببتُ ولا أزال أُحبّ ما لا يوعى، أي ما لا يقع تحت برهان البصيرة. إلاّ قليلها القليل الكافي لتسجيل الخطف باعتباره واقعةً. هذا من شأنه أن يجعلني كأنّني لم أرَ ولم أعقل. هذه الـ كأنّني من شأنها أن تصون الدهش فتحفظه من اهتراء الرؤية واستمرارها في الزمن، فلا يُصاب ما أراه بالعقل الذي هو قياس الشيء إلى نموذجٍ أو إلى مثال.
ها الكلام بيعنيكِ إنتِ...
- ...
- مرّةً، ضْحكْتِ عليَّ، بسبب الحبّ إلّلي إنتِ ما بقا تعطيه أهميّة بحياتِك. مش رح إسألِك عن السبب، ولكنْ أنا أحببتُ ولا أزال أُحبّ الجنس الخاطف. لأنّي لا أُحبّه في الزمن، بل مخترقاً إيّاه.
سيسخر منّي دعاة الذكورة المتفحّلة. لا بأس. عندي أنّ كلّ إطالةٍ للجنس تقع في الاحتفال. نوعٌ من التشريح المبطئ الشهقة التي هي إنتاج الصعق ويجب أن تظلّ فيه لئلاّ تفقد شهقةٌ معناها.
لذا أيضاً، أحببتُ ولا أزال أُحبّ الحبّ الخاطف، أي الحبّ المخطوف، لأنّي بذاك أحرّره من الزمن.
وإذا كنتُ لا أزال في الحبّ، فلأنّي في الزمن المخطوف لا في الزمن الذي أعاينه وأحياه.
... ها أنتِ تبتسمين لي. أعتقد أنّكِ تجيئين من نومٍ افتراضيٍّ عميق. حسناً. فلنتحاورْ، مفترضَين أنّنا نتحاور، لئلاّ تقتنع نفسي بأنّي أحاور نفسي، أو مرايايَ، على طريقة "وان مان شو"، أو على طريقة نرجس.

***

- صباح الخير. تُغريني، يا أنتَ القادم من ماضٍ عميق...
- وأنتِ، كم تُغرينني، يا القادمة من جحيم اللاّمتوقَّع.
- اضحكْ قليلاً لأرى جوعكَ. جدّيتكَ تهدِّد لَيلي بالعتمة، بل أيضاً صباحي.
- عبوسي! لا أستطيع أن أحول دون عبوسي. كم يُفجِعني وقوعي المفجع في براثن الشرط البشريّ.
- براثني ليست أقلّ. لكنّي أضحك.
- ليتكِ تمسحين دماغي بكبريت النسيان، بكيمياء العيش، لأتعايش أكثر، لأضحك وأرقص على قبري.
- أأنتَ معطوبٌ إلى هذا الحدّ؟
- جَعَلَتْني حياتي في عهدة شياطيني. كلّما انتصف ليلٌ هبّوا من غيبوبتهم الكسولة ليقيموا الولائم في دمائي، وليمةً تلو وليمةٍ تلو وليمة.
- أنا عندي، يقهقهون يتراقصون بلا هوادة. لا ليلَ عندي ولا نهار. يلعقون دمي ويبصقونه. لكنّي لا آبه.
- خافي قليلاً.
- لا. فقد انتهيتُ من مسألة الخوف. شياطينكَ لا يخيفونني. لكن أنا، شياطيني قد يخيفونكَ. لأنّهم نزِقون. هوائيّون. مفاجئون. أنانيون. يوقظونكَ في منتصفات الليالي. في الهزيع المتألّم. قبل طلوع الفجر. يجمِّرون رغباتكَ ثم يتركونكَ على الحافة، منسحبين إلى صمتهم العنيد. ثمّ لا أسى. ولا وجع. بل صفحاتٌ مطويّة بعد صفحات. يتيهون في البدايات في الكواليس. يخرجون من الكتب كمثل كلماتٍ غضبى. وعارية. يمنحون أجسادهم بدون خفر. ثم يتمنّعون. ناكرو جميل، هم شياطيني. ولا يندمون.
- تستهويني فظاظة النكران. لا أُحبّ الندم.
- ماكرون شياطيني، وخائنون. أما شياطينكَ، فلا. أفترض أنّهم قدّيسون لا يزالون في المنطقة الإلهيّة. وأن إلههم لم يلعنهم بعد، ولم يُنزِلهم إلى الجهنّم الأرضيّة. هم شيءٌ من هذا الترف الملائكيّ.
- أُحبّ الخوف. لكنّ شياطينكِ ينادونني ولا يخيفونني. أريدهم أن يكونوا مرايايَ لأرى عندما عينايَ مغمضتان.
- شياطيني بداياتٌ بداياتٌ بدايات. ولا يكفّون عن الابتداء. يُرسلونكَ فوق هاوية كلّما تراءتْ هاوية.
- تعالَي. لقد أقمتُ لكِ ولهم مائدةً هذا المساء.
- هم أصدقائي في الليالي اللاّمتناهية. في قسوة الفجر وتكراراته الجارحة. أأنت مستعدٌّ لتكون فريستهم؟ ألا تخشى أن تواجههم ثانيةً؟
- ها هو قَدَري يصير خياري، فهل أفرّ؟
- شياطيني عاشوا آلام المغادرات. والأوهام. خسروا قسوة اللاّمبالاة الأولى. شياطيني ما عادوا هم أنفسهم.
- لا أعرف أن أُبارح. لا أعرف أن أُبارح الخطر. لو تعلمين كم أُحبّ أن أحترق؟! هذه وظيفتي في الحياة: أن أحترق.
- أذكّركَ بقولٍ لويسمان: الشيطان لا يستطيع شيئاً حيال الإرادة. يستطيع القليل حيال الذكاء. فقط ينتصر أمام الخيال. لقد غادرني منتصف الليل. الظلام يرمي وشوشاته عليَّ. أريد أن أنام.

***

- مساء الخير، يا أنت القادم من ماضٍ بعيدٍ قريب. ما الذي يجعلكَ مراهقاً باستمرار، كالمراهقين الذين كنّاهم في أحد الأيام؟
- جسمكِ ينبش. يفتح قبراً ظَنَنْتُه مكلَّساً.
- كأنّ عمركَ مخطوف. كأنّكَ لا تزال في الثلاثين!
- ...
- أيّ فراغٍ نريد أن نملأه، ولا تعطينا الحياة أن نملأه؟ عمرنا الناضج ليس سوى مرارة. نكتشف أنّنا خُدِعنا. أن لا أجوبة. أنّ الله، إله طفولاتنا، قد خاننا هو الآخر. كنتُ أريد أن أكتب شيئاً عن ذلك. لكنّي لم أفعل. كان ينبغي لي أن أتمرّد. أن أغادر. لكنّي بقيتُ هناك، في اللاّمكان، في شبه الحياة، في اليوميّ الفاتر الذي رويداً رويداً كان يدمّر أحلامي بضرباته الروتينيّة وإيقاعاته المنتظمة.
- مساء الخير، يا أنتِ القادمة من حياةٍ لم أعشها، ومن شهقةٍ بقيتْ عالقةً في فراغ.
- مساء الخير، يا أنتَ الذي تُذكّرني بكلّ ما أردتُ أن أكونه ولمْ. أنتَ الذي وحيداً أنا.
- نعم، أنا القادم من مطرحٍ بعيدٍ قريب. حيث أشياء تموت ولا تموت. وأشياء تنجو من الموت لأنّها خارج العمر. خارج الحياة. خارج الوقت. كأنّها غداً.
- أحلامٌ وخيباتٌ ومرارات. لكنْ لا ندم. ولا وجع. بل محض عدم. أَلَم تقرأ "الكائن والعدم" لجان بول سارتر؟
- معِك حقّ. أكيد، ما لازم يكون في ندم. بيخلّينا نشعر بالأسى، وإنّو تعرّضنا للخيانة. هيدا، حتى لو كان صحيح، مش هوّي كلّ القصة. ما بينفع الندم. لأنّو مش رح نقدر نكسر الحيط.
- حائطٌ وراء حائطٍ وراء حائط، ثمّ لا شيء.
- ككرسيٍّ يجلس في فراغ. ككرسيٍّ يملأ الفراغ.
- ...
- كنتُ أساهر موتي من خلال موت آخرين أحببْتُهم، ولا أزال. الموتُ وقِحٌ حيالي، وأنا تقريباً وقِحٌ حيال الموت. وقد كنتُ وقِحاً حيال إله هذا الموت. هل تؤمنين؟
- لا أؤمن. أعيش ما بعد الكفر والألم. أتنزّه فيهما. أُقهقه. كأنّي أرضٌ محروقة. بل كحالة أرضٍ بعد حريق. قد أكون مرآةً لبعض هؤلاء الموتى الذين غادروا.
- أخبِريني شيئاً آخر عنكِ. مَن تكونين؟
- كانت ثمّة مَن تترنّح تحت سياطِ الشرط البشريّ. وكنتُ رضوض مراياها. حاولتُ أن أكونها، بل كنتُها، وحاولتُ أن أرمّم ما استطعتُ، أن أمحو ما استطعتُ، أن أستعيد المرايا من أجلها، لكن بدون جدوى. كانت الرضوض تُفحش في الحفر، فأشعر أنّي أنا تلك الرضوض. أخبِرْني عن أختكَ السروة.
- ظننْتُكِ تتحدثّين عن أختي. أخبِريني أكثر عن السروة تلك.
- كانت الحياة هناك، ثم بقي الصوت الخافت الذي هو العدم.

***

- أتُحبّ المشي؟
- الطبيعة المفتوحة تُسلّيني، تُفلِّتني من جسمي، تُنسيني إيّاه، تُشعِرني به، تراضيني، تُخدِّر. كأنّها تقول لي: تعالَ، ها هنا سريرُكَ والهرب. أمشي كثيراً وعميقاً في مكاني. من ها هنا أغادر، أترسّخ، أنحفِر، أتفكّك، أتبخّر. لكنْ يُرهِقني الشعور بأنّي لستُ صالحاً للحياة. هل تحبّين الطبيعة؟
- أُفضّل طبيعة المدينة. يلهمني الأفق المختنق. الممعوس. يثيرني. يستفزّني. أمّا المكان المفتوح فلا. أشعر بأنّ الطبيعة ماحقة وتَهزم. تحدّث باسكال عن الدوار الذي يشعر به من جرّاء الفضاءات اللاّمتناهية. هل تحبّ المقاهي؟
- أُحبّ المقاهي. وُلدتُ فيها مذ كنتُ في التاسعة عشرة. قبل ذلك، لم يكن ثمّة مقهى في حياتي. حياتي الثانية اكتشفتُها هنا. في المدينة. صرتُ شاباً عندما جلستُ في المقهى. وأنتِ؟
- أنا مدينيّة. أفترض أنّكَ قرويّ قليلاً.
- قد لا أكون هكذا حرفيّاً. لكنّي مختلفٌ عنكِ بالتأكيد. أنا مدينيٌّ من الريف. أنتِ مغسولةٌ بالضحك. بالهواء. ربّما أنا لا. قد يكون هذا بسبب قسوة المزاج، أو الهشاشة البشريّة...
- أُحبّ الهنا. الجلوس في المقهى. هنا أيضاً أحبّ الكتابة. حيث لا شيء سوى صخب العالم والعمارات المتلاحقة والأفق الممحوّ والهواء الملوّث والمحادثات التافهة الجوفاء. أشعر بأنّي حرّة. بأن لا شيء ينتبه. فيما الطبيعة المفتوحة العارية تُخسِّرني فرديّتي المجهولة. تُشعِرني بالتهديد. بأنّي مراقَبة. وبأنّي لا أستطيع.
- أكتب في مكانٍ مغلق. وحيداً ومليئاً بالجسد المعطوب. عندما أكتب، ينحلّ كلّ شيء خارجيّ إلى عدم. وأنحلّ أنا في هذا العدم. حاولتُ في البداية أن أكتب في مكانٍ مفتوح. استطعتُ ولم أستطع. أحسستُ بالليونة. بالامتلاء. بالادّعاء. باختبارات المرّات الأولى. لكنّي لم أعد أستطيع أن أتحمّل صوت الآخر في نشيج الدماغ. شيءٌ ما له علاقةٌ بإيقاع اللغة، بلاوعيها، يتخربط عندي فيُضيِّع عليَّ فرصة الإحساس بالعالم والقبض عليه.
- قد أكون عكسكَ تماماً. أشعر بأنّ مكاني الحياتيّ هو هنا. وبأنّ مكاني الكتابيّ هو هنا أيضاً. في هذا الصخب الأعمى. في الكيمياء المدينيّة هذه، في هذا التسيّب الذي يجعلني أنساب، أو أطير. لذا أعتقد أنّي سأطير يوماً. الهواء شيطانيَ الحارس...
- أكتب في كلّ مكان، شرط أن يكون مغلقاً. المكان المفتوح يبدّدني. يجعلني أشعر أنّ روحي الكتابيّة تذهب منّي. فيما هو، أي هذا المكان المغلق، يعطيني أن أتحاور مع كينونتي المبدّدة.
- أنا جسدٌ فقط. لا روح لي. أعتقد أن لا حياة أخرى. رغبتي أن أُضعضع هذا الفراغ الأعمّ. أن أفهم كلماته. أن أجرّد لحمه عن عظمه. أن ألتقط غضبه وتلاشيه. أشعر بأنّ جسدي موجود ليحاور هذا العدم الصامت الصاخب المنتشي. آكله ويأكلني. نتلامس لنصنع نزقاً يكسر صرامة العالم. لهذا أعتقد أنّ عدمي الشخصيّ يضحك فوق جسدي. يضحك فيه. وأنّي وحيدةً أضحك له. أستفزّه. ثم أواصل نهاري كأنّ شيئاً لا يكون.
- أشعر. أنعطِب. أتدمّر. لكنْ لا أحد يعرفني أو يعرف مَن أنا، وما بي. هذا يُعزّيني لأنّه يجعلني حرّاً من معرفة الآخر بي.
- كم أنا غريبتكَ. كم أنتَ غريبي، يا أنتَ القادم من ماضٍ بعيدٍ قريب. تعال لأذكّركَ. تعال لأُنسيك...

***

- كيف تتذكّرينني؟
- أنا التي كتبتَ فيها شعراً شتائيّاً تُشبّهها فيه بالأمواج العالية. كيف لا أتذكّر؟
- كم أنتِ مثيرة ومهلكة. لكنْ، أنا لستُ شاعراً. ولا أتذكّر.
- كنتَ آتياً من سفر، ثم فجأةً قفزتَ عليَّ من نافذة...
- لا أتذكّر شيئاً من هذا. لا أتذكّر أنّي رأيتُكِ من قبل. أنا لستُ أنا.
- مش معقول. كم تشبه ذلك الشخص! هل يمكن أن تكون أخاكَ مثلاً؟ صدِّقني، لستُ أدري ما الذي يجعلني أعتقد أنّكَ أنتَ؟ عم تكذب. مش معقول الشبه...
- ...
- مش إنتَ عقل العويط؟
- أنا هو. لكنّي لا أتذكّر.
- عيناكَ هما هما. كانتا تأكلان ولا تزالان تأكلان. وتحلمان. لا يمكن أن تكون العيون متشابهة إلى هذا الحدّ. لا تضحك عليَّ.
- وحياة الله...
- لا تحلفْ لأنّي لا أصدّق. لا أؤمن.
- وحياة عيوني لا أتذكّر.
- بل تتذكّر. أخذْتَني إلى شاطئ. كان ذلك على صخرة ملساء. ثمّ تمدّدتَ فوقي. واعتليتَني. كان الأولاد يضحكون لنا ويصفّقون...
- لا. لستُ أنا. لم أكن موجوداً في ماضٍ كهذا. ولا أتذكّر شيئاً من هذه الوقائع.
- متل ما بتريد. لم أقل شيئاً لتؤكّده. أو تنفيه. محض خفّةٍ تتذكّر وتتسلّى. ربما يكون ذلك حصل مع شخص آخر...
- بل تقولين إنّي دخلْتُ عليكِ من نافذة، وإنّي اعتليتُكِ. يعني، هناك أنا، وهناك قصّة.
- مش معقول الشبه!
- رح تخلّيني صدِّق أنّي عم لَخْبِط بحالي، وأنّي معطوبٌ في دماغي، أو أنّي شخصٌ آخر. على كلّ حال، يجب أن أُغمِض لأرى جسمكِ في ذكرياتي.
- ...
- عيناكِ تسافران. فستانكِ تلعب به الريح. صحيحٌ ما تقولينه، لكنّي لا أتذكّر. بل أعيش. شيءٌ ما فيَّ، يجعلكِ أكثر من ماضٍ. أكثر من حسّ. لكأنّني لم أرَ جسمكِ يوماً. فأنا لا أتذكّر أنّي نظرْتُهُ. ولا أتذكّر أنّي شممْتُهُ. ولا أتذكّر أنّي سمعتُهُ. ولا أتذكّر أنّي شربتُهُ. أتذكّر فقط أنّي أكتشف عينيَّ اللتين ترى فيهما النجمة المضيئة ذكرياتها.
- كنتَ مراهقاً. أكولاً. هل تتذكّر كيف أَكَلَتْني نظراتكَ؟
- حلمتاكِ هما هما. تبتسمان. عيناكِ هما هما. تبتسمان. ابتسامتكِ هي هي. تفترّ فقط. وبدون صوت. هل تتذكّرين كيف أَكَلَتْني ضحكتكِ هذه؟ أخشى أنّي لم أُحببْكِ كفايةً لأترهّل. أخشى أنّي أقع الآن في الغلطة نفسها.
- هجمْتَ عليَّ كثورٍ جريح.
- فرجُكِ يفوح.
- خفتُ منكَ. لا أُحبّ الحبّ. لذا تراجعتُ. ظننتُ أنّكَ مريض أو مجنون. أخاف المرضى النفسيين.
- لا أتذكّر.
- فتَّحْتَني على هاوية. وفجّمْتَ رحمي. فذهبْتُ...
- رحمُكِ تُفجِّم ذكرياتِ دماغي. أنتِ عالمة نفس. كيميائيّة حياة. فيلسوفة. أستاذة. روائيّة. شاعرة. سحقاً لي. لا أعرف أن أفرّق بين الشعر والرواية. بين العلم والأدب. بين الواقع والافتراض. لذا لا أتذكّر أنّي أحببْتُكِ. ولا أتذكّر أنّي قبّلْتُكِ. ولا أتذكّر أنّي عبدْتُكِ. ولا أتذكّر أنّي زرتُ بيتكِ. ولا أتذكّر أنّي دخلْتُكِ. ولا أتذكّر أنّي نمْتُكِ. ولا أتذكّر أنّي غَرِقْتُكِ. ولا أتذكّر أنّي أَرَقْتُ مائي على شمس جوعكِ. أتذكّر فقط الكأسَ وبيتَ القربان. ولم أشبع. شربْتُ ما لا يزال يرشح منكِ. أنا سكرانُكِ بعد غياب...
- أُحبّ عندما تتدفّق. لغتُكَ نهر.
- يختلط عندي زمنان. لكنّكِ واحدة. أإلى هذا الحدّ تُفجِّمين دماغي؟!
- ظننْتُك تتسلّى.
- هل تتذكّرين...
- تقول إنّكَ لا تتذكّر، ثم تسألني عن التذكّر. أرأيتَ كم أنتَ شبيهٌ بذلك الفتى الذي دخل عليَّ من نافذة؟ أنتَ تُخوِّفني من جديد. إياكَ أن تجعلني أهرب. أُحذّركَ من الآن. لا تجعلْني أهرب ثانيةً. لكأنّكَ لم تتغيّر...
- أتذكّر ولا أتذكّر. فأنا مثلاً لا أتذكّر أنّنا التقينا عند بوّابة مقهى في قلب هذه العاصمة. وأنّنا ذهبنا إلى مدينةٍ ذات بحرٍ وقلعة. وأنّكِ كنتِ ترتدين فستاناً حائراً وملبَّكاً. وأنّي كنتُ حائراً وملبَّكاً. لا أتذكّر أنّي طوّقتُ خصركِ بيديَّ. وأنّي قبّلْتُكِ في عنقكِ. لا أتذكّر إلاّ جهلي لكِ.
- أذكر أنّي جاهلة. أذكر أنّي خفيفة.
- إذا رأيتُكِ غداً، خفتُ أن أقع في حبّكِ. وخفتُ أن ألمسكِ وأن أنظركِ وأن أركعكِ وأن أقبّلكِ وأن أزوركِ في كنيستكِ وأن أدخل بيتَ قربانكِ وأن أشرب خمركِ. وأن أسكر.
- أنتَ مُفجَّم حقاً. غريب. كيف تختلط الأزمنة لديكَ!
- غداً عندما أراكِ، كم أخاف أن أقع فيكِ. وأن أغرقكِ. سأخاف أكثر أن تستسلمي لي. سأخاف أن تحبّيني أكثر لئلاّ تهربي أكثر وتغيبي أكثر.
- لا تقع في الغلطة نفسها. لا تُحبِبْني.
- تريدينني أن أكون على سجيّتي. حسناً. أرغب أن أعرفكِ من جديد. كما لو أنّي لم أعرفكِ من قبل. وأرغبكِ على سجيّتكِ لا على سجيّتي. وكم أريدكِ أن تقبّليني لا أن أقبّلكِ. وأن تزوريني لا أن أزوركِ. وأن تعبديني لا أن أعبدكِ. وأن تركعيني لا أن أركعكِ. وأن تكوني جاريتي. وعاهرتي. وكم أريدكِ أن تنسَي كلّ شيء لئلاّ تتذكّري شيئاً.
- من أين لكَ هذا يا شيطان؟
- أريدكِ أن تتراهقي. أن تنتظريني وراء شبّاك. أن تبكي. أن تمزّقي ثيابكِ. أن تلطمي وجهكِ. أن تتعهّري من أجلي...
- عن جدّ، من أين لكَ هذا؟
- لقد كسّرتِ صحوناً كثيرة بيننا. وطردْتِني من البيت. لقد نمتُ مثلما كنتُ أنام قبلكِ. كهرٍّ شريد. على كنبة. مطلوبٌ منكِ على الفور أن تخترعي الصحون. وأن تُعيدي الصحون إلى مكانها. وأن أعود إلى البيت. وأن أنام في الفراش. وأن تحضري فوراً. مشياً. ركوعاً. كجارية. في زحمة السير. في الشتاء. في الحَرّ. وأن تبردي قليلاً وكثيراً. وأن تُشوِّبي قليلاً وكثيراً. وأن تمرضي من أجلي. وأن ترتوي الأرض بدموعكِ. مطلوبٌ منّي أن أكسر قسوتكِ وأنانيّتكِ. وأن تُعِدّي لي الطعام كجاريةٍ لذَكَر. وأن نسافر معاً. وأن نسكر معاً. وأن نتّكئ على جسدينا معاً. وأن نجلس. وأن ننام. وأن ننسى...

***

- تريدينني على سجيّتي؟ حسناً. هذه هي سجيّتكِ، فكوني على السجيّة.

***

- في نيسانٍ ما، 21/4، قلتُ لكَ: "ستّين سني وسبعين يوم". وأضفتُ: "اطردْني منكَ". هل تتذكّر؟
- في ذاك النيسان، كسرْتِ حياتي. وكسرْتُ أنا جرّتكِ، لأنّي ضعيفٌ وهشٌّ ورومنطيقيٌّ ساذج. أحببتُكِ حبّاً يفضي إلى موت، كما يزعم قتلى الحبّ. إلى نوعٍ من موتٍ لا يكون بالجسد بل بجروح القلب.
- لا تكنْ قتيلي...
- إذا كان لي أن أُحصي المرّات التي سُجِّلتُ فيها في عداد الموتى، فسيجدر بي أن أُحصيها منذ ولادتي تحديداً. لقد قُتِلتُ في الأمكنة الغامضة، حيث لا يعرف أحدٌ أحداً. لذا تمرّ العدالة من حيث قُتِلْتُ لتقول: لقد مات قضاءً وقَدَراً.
- هل قَتَلْتُكَ حقاً؟ خبِّرْني...
- كان لا بدّ لي من أن أفعل هذا. وقد فعلتُ ما فعلتُهُ إكراماً لأقداري. حصل ذلك قبل عشرة أيام، قبل عشرة أشهر، قبل عشر سنين، قبل خمس عشرة، لستُ أدري. هذا، على كلّ حال، لم يعدْ مهمّاً. كنتُ التقيتُكِ من طريقِ مصادفةٍ نادرة. يومذاك، كنتُ تائهاً مفكَّكاً شبهَ قتيل، بعد سقوطٍ من علٍ. على غرار ما كنتُه في حياتي كلّها: ساقطاً من علٍ. كأنّني خُلِقْتُ لاجتذاب هذا السقوط، وتقمُّص روحه الممغنطة. صدِّقيني، هذا ليس دوراً مسرحيّاً. بل هو حياتي. وقد خُلِقتُ للإحساس بالسقوط أعمق. لقد جَعَلَتْني الدهشة أبدو أمامكِ مصاباً بصعقة. ذلك أنّ صورتكِ بقيتْ محفورةً في بالي طوال تلك الاعوام التي مضت على لقائي الأوّل بكِ. كنتُ أقول لنفسي لا بدّ من أن تظهري ثانيةً في حياتي، بعدما غادرْتِها، بطريقة متوحّشة، كما أنتِ تغادرينها، ولا بدّ، وتكسرينها الآن. وكما أنا أكسركِ وأغادركِ، مكسوراً ومغادِراً.

***

- سأفترض أنّكَ تتذكّر. سأفترض أنّكَ تفترض.
- كنتُ في زيارةٍ عابرة، عندما سَحَرْتِني. كنتِ امرأةً في زيّ فتاة، أما اليوم فلستُ أدري. شيطانةٌ مشمَّسة بزبيب الجسد. يومذاك، كنتِ في العشرين، في الحادية والعشرين. دخلتُ عليكِ من نافذة، وقلتُ لكِ أُحبّكِ. كنتِ تدرّسين الكيمياء، كيمياء الجسد. لا أذكر ماذا كنتِ تدرّسين. ربّما هلوسات الشبق. ربّما طلوع الفجر. ربّما كيف تكون الفتاة فاسقةً. كيف تغادر، وهي تترك ضحكتها للريح. وربّما كيف يكون الفتى فاسقاً. وكيف يبقى. ضحكْتِ لي. وها أنتِ لا تزالين تضحكين. فَتَحْتِ لي مدينتكِ ولم تقولي شيئاً. هل تتذكّرين؟! لقد دخلتُ عليكِ، ولا أزال. لستُ أدري ما إذا كنتُ لا أزال في الداخل. قامتكِ الرهيفة الطويلة، خفّتكِ الماحقة، مجونكِ الكتوم، اللكنة الغاوية على ترفّع، جَعَلَتْني أُغرَم بكِ على طريقة المغرمين الجنونيّين. حالماً ساذجاً كنتُ، ولا أزال. وكنتُ سعيداً بغرامي. كما كنتُ مأخوذاً بتألّقكِ المستخفّ، بطيرانكِ الأثيريّ، بغرائز جسدكِ الحرّ التي جعلتْني أعمق اعتداداً بجسدي. تعرفين قصص شعراء الحبّ، ولا بدّ؟! أنا واحدٌ من هؤلاء. خادمٌ في الكنيسة القلبيّة. قندلفت...
- ...
- أقع الآن من علٍ شاهق، لأرتطم بقعرٍ، يزداد نزولاً وحفراً في أعماق جحيمي. أتشلّع كثيراً، أترضرض، بسببٍ من ذلك، لكنّي لستُ نادماً على كسر جرّتكِ. كان هذا الفعل قَدَراً مُقدَّراً، كما لقائي بكِ في الحين الأوّل. كما أيضاً لقائي بكِ للمرّة الثانية.
- ها أنا أبتسم لكَ. أسناني تدعوكَ. أَلا تريد؟
- طبعاً أريد.
- تعال.
- ها أنذا...

***

- هل ألتقيكِ ثالثةً، بعد قليل، بعد كثير، بعد أفول الصيف، صيف الحياة وصيف الجسد؟
- ...
- عارفاً في الآن نفسه، أنّكِ تحبّينني، وأنّكِ لا تستطيعين في أعماقكِ، أن تعثري على ميزانٍ يجعلكِ قادرةً على إدارة هذه الفجيعة الوجوديّة، لا أجد سبيلاً لمنع الجرّة من الانكسار. لكأنّها جرّة حياتي.
أو جرّة حياتكِ.
- أنتَ وحشٌ مازوشيّ...
- لستُ وحشاً. لكنّ الوحش النائم في أعماقي، هذا الوحش الذي لم أسمح له بالاستيقاظ، وإنْ لمرةٍ واحدة، في علاقاتي الحميمة، ها هو ينهض من نومه. وقد تَرَكْتُهُ ينهض. بل جَعَلْتُهُ في حالٍ من الاستفزاز، بحيث بات من المستحيل أن لا يمارس وحشيّته الكاملة. لا عليكِ بالذات، بل عليَّ. لقد انتصر الوحش الذي فيَّ. لكنّه وحشٌ ينتصر لي. ويقتلني.

***

- أين كنتَ؟ لم تقلْ لي إنّكَ ستسافر...
- سافرتُ.
- لكأنّكَ نائم. لكأنّكَ لا تزال نائماً مذ غادرتَ قبل أسبوع، قبل أسبوعَين، قبل أكثر...
- لم أستطعْ أن أتحمّل وحوشكِ.
- لم أستطعْ أن أتحمّل كونكَ فريسة.
- إنه فجر يوم الأربعاء. النعاس يملأ عينيَّ وقلبي. غبشٌ لذيذ يغلِّف العقل. غبشٌ يشبه الغيمة. إنه الحبّ أيضاً.
- لا تحدّثْني عن الحبّ. بل عن الجنس الذي يصنع نظامه العابر: حيث الوقت يختلف. والنوم يختلف. والليل يختلف. والضوء يختلف. إيقاع الأشياء لا يعود هو الإيقاع، تاركاً المساحة لإيقاعٍ يولد من أمزجة القلب وحدوس الدماغ ونزوات الجسم.
- أريد أن أسألكِ سؤالاً، هو تتمّةٌ لرسالةٍ سابقة لم أستطع إيصالها: خفّتكِ التي تُشعِركِ بأنّكِ خالية من الثقل، تُرى ما سببُها؟
- هي خفةٌ شخصيّة تمتزج بالمكوّنات التي تصنع أسرار الكون وإيقاعاته. لولاها، ما كان توازنٌ في الكون. وما كنتُ أستطيع، ولا كنتُ أستطيعكَ...
- على سبيل السؤال، أهي بحصةٌ، كالتي تسند خابية هذا الكون، فتسند الكون الذي أنتِ، والكون الذي أنا؟ لكِ من جسدي، ما يجعل سيولتكِ في هذا اليوم الجديد، أكثر فرحاً وغبطةً وطيراناً. لكِ مرايا جديدة تضيفينها إلى مراياكِ.

***

- صباح الخير، أيّها الرجل. لقد عدتُ للتوّ من طيرانٍ عميق. تركتُ. هاجرتُ. ضحكتُ. قهقهتُ. مشيتُ. تذكّرتُ. أحببتُ خفّة شخصٍ آخر. كرهتُ. زهقتُ. نسيتُ. أأنتَ زعلان؟
- هنيئاً لكِ. لقد ربحتِ الشوط، وخسرتُ الرهان. قد كان ثمّة بوصلةٌ مربوطةٌ إلى رأسي، لكنّها وقعتْ منّي. ها أنا، وقد صرتُ تائهاً في صحراء رأسي. كان ثمّة قلبي يُرشدني، لكنّه لم يعد معي، مذ انضمّ إلى جنودكِ ضدّي. كان ثمّة دروبٌ خضراء، فوقها نجمٌ من نظرِ عينيكِ، لكن عينيكِ أخذتا النجم والدروب، فصرتُ بلا نجمٍ وبلا دروب. كان ثمّة غرائزي تنقل حياتكِ إليَّ، فتسلّيني وتُنسيني وحشتي ووحدتي. لكنّي أصبحتُ الآن بلا غرائز، مذ صرتِ دليلة الثانية، كالتي سحبتْ من شمشون سرّ غرائزه إليها.
- لكنّي عندكَ. لم أربح. لم تخسر. فأنا أحبّكَ على طريقتي.
- أقول لكِ هنيئاً. ها هي بوصلتي معكِ. وها قلبي عندكِ. وها غرائزي تتسرّب إلى مسامّ جسمكِ. كذا أقول عن النجم والدروب.
- لم أذهبْ إلى مكان. أنا عندكَ.
- ما عاد فيّي أتحمّل أمزجة غيابِك. اذهبي. اذهبي إلى حيث تشائين. لم يعد عندكِ، يا سيّدتي، مكانٌ سرّي تهرعين إليه. ابتعِدي في الليل وفي النهار. في اليقظة وفي الحلم. لم يعد يهمّني ابتعادٌ ولا اقتراب. أن تجيئي أو أن لا تجيئي. املئي وقتكِ بغيابي. أملأ وقتي بغيابكِ. صرنا متعادلَين، نوعاً ما. بعد قليل، لن يعود هناك غياب. لن يعود هناك وقتٌ للغياب فيه. فإلى أين تذهبين؟
- أُحبّ عندما تتدفّق. أُحبّ جنون النهر الذي يسيل. شيءٌ ما يعبّر عن مكانٍ دفين في كياني. قد يكون نقيضي، لكنّي أُحبّه. صحيح. أنا لا أستطيع أن أكون مثلكَ. ولا أن أكتب مثلكَ. أنتَ نهر. أنا لا أعرف مَن أنا...
- بل تعرفين. لكنّكِ لا تريدين. لذا أقول لكِ هنيئاً يا سيّدتي. ليس عندي شوطٌ لتربحيه. ليس عندي رهانٌ لأخسره. كلّ الأشواط لكِ. والرهانات كلّها لكِ. فهنيئاً. أقول: نوماً هنيئاً يا سيّدتي.

***

- ...
- مرحباً يا امرأة.
- لا تيأسْ من مزاجي النزِق. أتكهرب أستبدّ ألبط أُدمي أطير أهرب لكنّي أعود أندم. لا، ليس الندم. بل كما تعود هرّةٌ إلى كسلها الحميم. خفّتي لا تتحمّل إلاّ أن تكون خفيفة. نزواتي لئيمة غير متوقَّعة. جسمي يطالبكَ بأنْ تُعهِّره. يقول لك إنّه لا يتحمّل الحبّ. وأنتَ لا تعرف أن تُعهِّر. تعرف فقط أن تحبّ...
- لا تيأسي من ضعفي.
- أنا محروقة.
- وأنا كمان.
- أنا سعيدة...
- وأنا مغبوطٌ بكونكِ سعيدة. أشعر بنوعٍ من الزهو الخجول، المضمَر، المتواضع، المطأطئ، المغمض، المنسحق، وأنا أقرأ نزواتكِ. وخصوصاً أنّكِ خفيفة، سعيدة، طائرة، منفعلة بمحاولاتي الفاشلة في العهر. بكلماتي. وحبّي.
- كم أحببتُ أن أسمعكَ في ذلك اليوم. شعرتُ بأنّي أشلاء غيابكَ...
- كم أحببتُ...
- صوتكَ أحياناً، يذكّرني بما أشتهي أن أكونه ولا أكونه.
- عدم مخاطبتكِ هاتفياً أو محاورتكِ عبر الرسائل المتبادَلة، لا يجعلني في حالة فصامٍ أو خيبة. بل يزيدني. أنا في سَفَرٍ بعيد الغور من جرّاء سعادتكِ المتحقّقة بذاتها، منفصلةً عن أيّ سببٍ أتسبّب به. يسعدني أنّكِ تكتشفين خفّتكِ في قلب الكون. كما يسعدني أنّكِ "تستسلمين" للأمور بيننا وهي تجري بخفّتها الحرّة، لا بثقل التعهّدات والإسقاطات.
- سافرتُ بعيداً. سافرتُ مع الشرط الوجوديّ. أحببتُكَ بالفنون والأساطير والخرافات. لم أخنْكَ مع الهواء. تهتُ فقط في هلوسات أميركا اللاّتينيّة...
- لا ألمَ من جرّاء سفركِ. بل حالةٌ مضادّة، هي مزيج الوجع والجوع.
- لكنكَ تتألّم...
- لا أملك أن أشرح هذه الفكرة. لا أعرف. لا أستطيع. عجزي عن الشرح سببه الحب. يسعدني أنّكِ موجودةٌ بدوني. وأنّكِ سعيدة. هذا كلّه يسعدني أيضاً وأيضاً، لأن لا قوّة في الأرض، ولا جغرافيا، ولا أسباب، يمكنها أن تجعلكِ بعيدةً منّي. لا مسافات، أقول لا مسافات، تستطيع أن تحول دونكِ. أفسّركِ في رأسي خارج المسافات.
- لا تفسِّر. أعرف. أعرف مثلاً كم أنا بحاجةٍ إلى حبّكَ، على رغم كلّ ادعاءاتي المناقضة. أنا لا أُطاق، فكيف تطيق...
- لا أطيق. أُحبّ. لكنّي لا أستطيع أن أفسِّر. لا يهمّني تقديم البراهين. حبّي يكفيه برهانه. حبّي يكفيه أنّكِ موجودة في مكانٍ ما. وأنّكِ سعيدة. وخفيفة. لا أعرف كم يزن حبّي على سلّم العالم. ربّما ذرّة. ربّما أقلّ من ذرّة.
- بل يزن.
- هو يزن حياتي كلّها. حياتي هذه التي يصبح معناها مضاعَفاً، عندما تقترن بخفّتكِ، الخفّة التي تجعل العالم محمولاً على نظرة، أو على لهفة، أو على ضربة قلب. وتجعلكِ طائرة، وتجعل العالم طائراً، كما لا يمكن أيَّ طائرٍ في الكون أن يطير.
- أعرف كم أنا مقيمةٌ في عدمٍ عنيف. أعرف كم أنا لا أستطيع أن أتغيّر. أُحبّ حياتي المترفة. أُحبّ التوازن الكاذب الذي أَخَذَتْني إليه حياتي. حبّكَ يخربط...
- أعرف فقط كم حياتي منغمسة في هذا الحبّ، متورّطة فيه، بغرائزها وشياطينها...
- قد لا أشكّل ذرّةً واحدة في هذا الكوزموس الهائل الذي هو الكون. لكنْ، هل يستطيع الكون أن يكون مجرّداً من الآهات التي يمتلئ بها، وهي التي ترفع سماءه ونجومه وقمره وشمسه إلى الأعلى، وتفتح الدروب أمام الكواكب والمجرّات لتسبح فيه على غير هدىً من أمرها؟ آهاتي الملجومة الساكتة، لا بدّ أنّها تصِلكَ!
- تصِلني آهاتكِ. يصِلني كلّ ما تعتقدين أنّه لا يصل. نظام الكون هذا، لا تُهندسه الجاذبية فحسب، بل أيضاً هذه الآهات والأشواق والرغبات والشهوات التي لولاها ما كان ثمّة معنىً لأسطورة، أو لتاريخ، أو لجغرافيا، أو لماضٍ، أو لحاضرٍ، أو لمستقبل.
- أنتَ تُدوزنني بدون أن تدرك...
- يسعدني أنّكِ تُدوزنين ضربات البيانو الوجوديّ على إيقاع خفّتكِ، وأن لا شيء يعكّر مزاجكِ الأليف، وأنّ ما تلتمسينه هناك هو جزءٌ من الأوركسترا المتشكّلة من جزيئات الذرّات، وبعضٌ منها نظراتٌ وآهاتٌ مكتوبةٌ على جسدكِ، أرجو أن تكون من جرّائي.
- كيف تتحمّل كونكَ كاتباً حتى حين تكون تتسلّى أو تنام؟
- مَن قال لكِ إنّي أتحمّل؟ لو أردتُ أن أصف نفسي لقلتُ إنّي لا أحيا إلاّ بقوةٍ مضادّة للحياة. غريب! كيف أنّ حياتي الهشّة تكسر وحشيّة الحياة. شخصٌ مثلي لا يمكنه أن يكون سعيداً.
- هل تكتب الآن؟
- أكتب. لكن هذه ليست رسالة. محض تأوّهاتٍ تخرج للتوّ من رأسي بعدما قرأتُ رسالتكِ الأخيرة وأنتِ تستقبلين الشمس اللاّتينية الثانية، قبيل ذهابكِ النهاريّ إلى المتحف الأنتروبولوجيّ.
- اشتقتلَّك...
- أنا كمان. لكنْ بطريقة مختلفة. فأنا مشتاقٌ اشتياقَ الهواء إلى كيمياء الهواء. مشتاقٌ للإقامة في داخلكِ، ولدوزنة الولوج إلى الأعماق بما يشبه دوزنة إيقاع هذا الكون الذي تتحدّثين عنه، والذي يزن حبّي فيه، مثقال ذرّة، لكنّها الذرّة التي إذا احترقتْ، تداخلت الكواكب بعضها ببعض واختلّ نظام الكوزموس من أقصاه إلى أقصاه. لا أعرف ماذا تفعلين أيضاً.
- يكفيني أنّكَ تعرف معنى الكلمات. يكفيني أنّكَ تكتشف ما نسيتُهُ من جسدي...
- يكفيني أنّكِ تقولين لي ما تقولينه. وهو مثقال هذه الذرّة التي إذا اختفت تَخَرْبط الكون.

***

- تحبّين رجلاً آخر. قلبي يحدّثني بأنّكِ تعرّفتِ إلى أحدٍ ما.
- لا أُحبّ رجلاً آخر. تدرك جيّداً أنّه لم يعد في أرضي المحروقة مكانٌ للحبّ أو لرجلٍ آخر. أعيش فقط مغامراتٍ عابرة. ما تزعل منّي، وما تطلب تفاصيل...
- أغار من يديكِ على جسمكِ. أغار من جسمي عليكِ. فكيف من رجلٍ آخر؟!
- ليس هناك رجلٌ آخر.
- مش ممكن. بعرف...
- لا أعتقد أن شخصاً آخر، غيركَ، يعرف ما تعرفه عن جسدي وحياتي. تعرّيتُ أمامكَ كما تتعرّى مرآةٌ أمام مرآة. أو كما تتعرّى عينٌ مغمضة. شو بدّك تعرف أكتر ممّا بتعرف؟ مش مهمّ إذا نمت مع رجّال تاني. أو تالت. العلاقات العابرة شغلة بتشبه صعود الأدرينالين في الدماغ بلحظة معيّنة. بعدين كلّ شي بيرجع لمطرحو. كأنْ لم يكن.
- بغار من عينيّي، هنّي وعم يشوفوكِ. كيف بدِّك أتحمّل فكرة وجود شخص تاني، وإنْ يكن عبوره شبيهاً بخيال الظلّ؟!
- بسبب حبّك المجنون هيدا، عم تخلّيني أهرب منّك. ما بدّي تحبّني. حبّ غيري، وخلّيك معي بعلاقة خفيفة وعابرة. ما بزعل إذا بتعمل هيك. رح قلّك لوين بوصل معك: بدّي عرّفك عا حدا...
- كأنِّك ما بتعرفيني. تا نفترض إنّي قبلت معِك، كيف ممكن نرجع نحكي مع بعض؟ كيف بدّي إرجع شوفك؟ بأيّ جسم؟ بأيّ عينين؟ وبأيّ يدين؟ بعدين، إذا وافقت، بدّك تقولي إنّو حبّي كاذب. أكيد، أنتِ مجنونة. على كلّ حال: جرِّبي بتعرفي الجواب.
- مش ممكن تتغيّر!
- هل أعرف هذا الرجل الآخر؟
- لا. شخصٌ غريب من بلادٍ بعيدة. التقيتُ به في متحف فان غوغ في أمستردام. كان هو مع جماعة من السيّاح الفرنسيّين، وكان يتحدّث بلكنةٍ أريستوقراطيّة، وبحماسةٍ معرفيّة، معلِّقاً على إحدى لوحات الرسّام الملعون، وقد أعجبني تعليقه، فابتسمت. فردّ بابتسامة. ثم تبادلنا حواراً خفيفاً. كنتُ وحدي. عندما خرجتُ من المتحف، وجدتُهُ في انتظاري. فدعاني إلى كأس نبيذ في المقهى. وهكذا.
- هكذا شو؟ بعدين؟
- ما في بعدين. دعاني إلى غرفته، فوافقتُ، وأمضيتُ الليل عنده، ثمّ في الصباح ذهب كلٌّ منا إلى غايته. هو إلى حياته. وأنا إلى حياتي. كأنْ لم يكن. خبّرتك. ما بحبّ حدا.
- ...

***

- أنتَ تُخربطني. لا أريد أن أتخربط.
- صدِّقي أنّي لا أريد أن أُخربِط صباحكِ، ولا الليل. صدِّقي أنّي لن أفتح الـ"سكايب". ولن أُزعج هاتفكِ وكومبيوترك المحمول بالاتصالات البريدية. صدِّقي أنّي لن أجعلكِ تنامين على هاجس أن ثمّة شخصاً قد يكون يحبّكِ أكثر مما يحبّ ذاكرته وحاضره والمستقبل. صدِّقي أنّي لن أتسلّل إلى أسفل دماغكِ ولا إلى نومكِ العميق...
- هذا أنتَ. هذا أنتَ. لا يمكنكَ أن تتغيّر. هربتُ منكَ في المرّة الأولى. الآن تُهرّبني من جديد. لا أُحبّ أن تحبّني هكذا.
- أعدكِ بشيءٍ لا أستطيعه. كأنْ أقول لكِ صدِّقي أنّي لن أعبر الشارع أمام البيت لألتقط خيالات عبوركِ فيه. وصدِّقي أنّي لن أذهب حيث تسافرين مشياً على الأقدام. وصدِّقي أنّي لن أنام لئلاّ أحلمكِ في الليل. وصدِّقي أنّي لن أستيقظ لئلاّ أفكّر في تحضير القهوة وتدبير فنجانَين لكِ ولي. وصدِّقي أنّي لن أموت لئلاّ تقولي ها قد مات بسببي. وصدِّقي أنّي لن أحيا لئلاّ تقولي ها هو يحيا لأجلي. صدِّقي أنّ الحياة بدونكِ تسير سيراً طبيعيّاً. وصدِّقي أنّي شخصٌ طبيعيٌّ جدّاً. وصدِّقي أنّي لستُ شخصاً مجنوناً. كأنّي أقول لكِ صدِّقي كلّ شيء. ولا تصدِّقي شيئاً...
- أنا ذاهبة...
- اذهبي. لكنْ فقط صدِّقي المستحيل.

***

- عجيب. أنتَ الوحيد بين معارفي لا أضحك معه. هل تعلم أن الجامع الأساسيّ المشترَك بيني وبين هؤلاء هو الضحك؟!
- الضحك موهبةٌ لا أملكها. أعرف فقط أن أنزف. وحده النبع يُدرك ما بي.
- ضعْ يداً على جرحكَ واكبسْه ليسكت. ضعْ يدكَ الثانية على غيمةٍ تصل إلى الضحكة.
- هلمّي إليَّ من ضحكتكِ، لأكون ما تمليه عليَّ الغيمة والضحكة.
- كنْ شاعراً لا عاشقاً. عشقكَ يفسد الضحك.
- كيف لشخصٍ مثلي أن يتحمّل جمالاً كجمالكِ. كيف لجمالٍ كجمالكِ أن يتحمّل السكوت على جماله!
- كيف لعاشقٍ مثلكَ أن يعيش خارج عشقه!
- أنا تائهٌ مبعثَر، أنتِ مجتمِعة.
- أنا مجتمِعةٌ في التيه. أنتَ مبعثرٌ في الجروح.
- أنتِ كنيسة. أنا خرابُ كنيسة.
- أنتَ فجٌّ. أنا سائبة.
- أنتِ هائلة. تظهرين متصالحةً مع ذاتكِ، فيما أنتِ عدميّة. أنا ملعون ظاهراً وباطناً.
- أنتَ قدّيس. أنا مدنَّسة.
- دنسُكِ كنيسة. أريد الدنس والكنيسة.
- أنا خفيفة، أنتَ جِدّي.
- جِدّيتكِ ملغومة. أنا شظايا الجدّية الملغومة.
- أنتَ تتألّم. أنا اجتزتُ شوطَ الألم.
- ما بعد الألم، قد يكون أصعب من الألم. سَفَرٌ عميقٌ في الأرض الخراب.
- أنا الأرض بعد الحريق. أنتَ الأرض تحترق.
- يُفسِدني تجوالكِ في الخواء. يرضرض ما بقي من روح.
- هاتِ الليل. هاتِ الغريب الذي فيك، تأخذ جسدي.
- كلانا غريب. الأرض التي تحترق والأرض بعد الحريق.
- ماذا تتمنّى؟
- الغريبة التي أنتِ. كأرضٍ تتجمّر في أرضٍ بعد حريق. كحريقٍ لا يكفّ عن كونه حريقاً. وأنتِ، ماذا تتمنّين؟
- أن أضحك. أن أسترشد بتيه الغريزة.
- تضحكين كَلَيلٍ سكران.
- أضحك كما للجسد أن يضحك. ويتنفّس ناسياً أنّه يتنفّس.
- تأكلين الضحك. يأكلكِ الضحك. لحمكِ طيّب. لحمي جائع.
- وأنتَ، ماذا تأكل؟
- كوحشٍ ينمو بذاته. كسرطانٍ يتوالد في الرأس.
- واضحةٌ مراياكَ من فرط الغبش. مغبّشةٌ مراياكَ من فرط الوضوح. أيّهما أنتَ، الوضوح أم الغبش؟
- الوضوح والغبش. لستُ أدري. ربّما الطفل الذي يلدهما. أعني الطفل الميت الذي يلدهما.
- كطفلٍ تؤلمه حديقة. كحديقةٍ يؤلمها الطفل الذي يضحك لها.
- علِّميني أن أضحك أعلّمْكِ النبع.
- اضحكْ فقط. فتِّحْ وجهكَ على ضوء. ألمْ تزهق من الشتاء؟
- غرائزكِ جمّة. تختكِ عميق. تقولين إنّكِ أرض محروقة لكنّكِ خضراء كبستانٍ أحمق.
- رعونتك الجنسيّة تستفزّ. جوعكَ أكولٌ وطيّب.
- طيّبةٌ ضحكتُكِ. كامرأةٍ تحت مطر.
- طيّبٌ أنتَ، كرجلٍ في تختٍ غريب.
- كلانا غريب. لكنّكِ ساطعة. كنداء.
- اجعلْني عاهرتكَ.
- اجعليني بستاناً أحمق.
- خذْني كغيمةٍ مستخفّة.
- خذيني كحبرٍ مسموم.
- كنْ رجلَ ماخور.
- كوني كنيسة.
- كنْ رجلَ ماخور يهرع إلى كنيسة.
- كثافتكِ خفيفة. كثافتي مُهلكة.
- أريدني جاريةً. تريدني سيّدة. عنِّفْني قليلاً. اجعلْني تحتكَ. ابطحْني. كنْ وحشاً لمرّة.
- لا أعرف. يدي عليكِ نهرٌ. أنتِ تريدينها يدَ جزّار.
- بدِّدْني. لا تتركْ فيَّ موضعاً لنسمة. خذِ الهواء كلّه. وجِّعني. اطردْني إلى وهج البرهة والفسق. مرِّغْني بالجنس الأسود. لا أرغب بأوجاعٍ أخرى.
- كمرآةٍ وراء مرآةٍ وراء مرآة. كزورقٍ يستطيع أن يكون البحر، ولا يستولي على البحر.
- أنتَ تفّاح. أريدكَ سمّاً.
- لا أستطيع أن أُحبّكِ قليلاً. أنتِ بحرٌ، فكيف لي أن لا أغرق في البحر.
- فجِّمْني. فرِّغْ خواءكَ في امتلاءاتي.
- فجِّميني. غايتي أن أحيا برضوضكِ.
- خذْني كنسمةٍ آخذْكَ كجبل.
- خذيني كجبلٍ تدوّخه نسمة...
- ... فنقع في جدّيتكَ وخفّتي.

***

- تدّعين الانسياب فيما أنتِ عبثيّةٌ وصارمة. تأخذين الدنيا بالفلسفة، أما أنا فباليأس المسدود.
- أنا واقعيّة. أنتَ لا.
- أنا كائنٌ مُصابٌ بالقَدَر. لا أحد يستطيع تغيير قَدَره. يستطيع أن يتحدّاه. أن يعيشه. أو أن يشربه، على طريقة سقراط.
- بلى يستطيع. بالضحك الأبيض. بالضحك الأسود. لكنْ معكَ، أنا لا أضحك البتّة...
- كأنّكِ تُبكّتينني! لا أتحمّل التبكيت. يكفيني أنّكِ تخنقين الهواء في حبّي. كان في مقدوركِ أن تواصلي طريقكِ بدون أن تعطيني عنوان بريدكِ الإلكترونيّ ورقم الهاتف. لماذا أنتِ هنا؟
- قلتُ: لِمَ لا. فلأكتشفْ خفّتي معكَ. هذا أيضاً نوعٌ من الضحك على الحياة.
- لم أفهم هذا الضحك على الحياة؟
- أفكِّر كثيراً إلى درجة أضيق ذرعاً بحالي وبأفكاري. أكاد أقول إنّي أفقد البوصلة. التفكير يجعلني ملبّكة وتراجيديّة. يوصلني حيناً إلى طريق مسدود. كهذا الذي أنا فيه، والذي لا يعرفه أحدٌ سواكَ. لماذا أُخبِركَ بما لم أخبرْ به أحداً من أصدقائي وصديقاتي؟! عجباً، كيف وصلتَ إلى هنا، إلى البئر، بهذه السرعة!
- مضت لي أعوامٌ طويلة وأنا أنتظر مجيئكِ.
- أين كنتَ؟
- أُلملم جروحاً تساقطتْ منّي.
- أما أنا فلا أحد يدري ما بي. الجميع يقول إنّي سعيدة...
- يقولون إنّكِ سعيدة. عال. أنتِ، كيف تصفين أحوالكِ؟
- كلّما عصفتْ بي هواجس الوجود، عدتُ إلى شرنقتي الداخليّة. أحيا هناك بالانحناء على ذاتي، ثمّ أعود إلى الحياة الميتة في اليوم التالي، لأواصل أقدار الشرط البشريّ.
- كنتُ سألتُكِ أن تتزوّجيني آنذاك...
- كنتُ خائفةً منكَ. ثمّ إنّ أهلي كانوا سيرفضونك. كنتُ في العشرين وأنتَ في الثلاثين...
- أريدكِ أن تعودي.
- هل تزوّجتَ؟
- أنا لا أزال أنا. فرديّتي وعزلتي تأكلان طعامي وجسدي.
- الآن، أين أنتَ؟
- لا أعرف. جوعي إلى حبٍّ قادرٍ على الاستمرار في الزمن، لا يُكتَب له شبعٌ. لا يزال الجوع هو الجوع. أمكنتي الخرِبة هي أمكنتي الخرِبة. أهرع إلى رأسي لأختبئ فيه، على رغم أنّ رأسي ليس قادراً على إيوائي.
- ماذا كنتَ تفعل يوم التقينا؟ رأيتكَ تائهاً، كأنّكَ كنتَ تبحث عن ضائع.
- لن تصدِّقي أنّي كنتُ أبحث عنكِ. كأنّنا أمس. تذكرين أنّ ذهولاً صاعقاً بدا على وجهي، كأنّ الذي كنتُ أتوهّمه في رأسي لم يكن رغبةً بل حقيقة. كأنّه لم يكن افتراضاً بل الواقع.
- يومذاك، عرفتُ أنّكَ قد عثرتَ عليَّ فعلاً، وأنّي عثرتُ عليكَ، وأنّنا سنعود...
- من جهتي، لم أصدِّق هذه القدرة الهائلة التي يملكها القَدَر حين يردم الهوّة بين الواقع والرغبة. ثمّ اكتشفتُ عندما تمشّينا قليلاً أنّكِ أنتِ أيضاً، كنتِ في مكانَين، واحدٍ هو البيت، وثانٍ هو لامكان. لا أحد...
- أعطيتُكَ رقم هاتفي وعنوان بريدي الإلكترونيّ، وأنتَ فعلتَ. لقد أعجبني فيكَ أنّكَ لم تتّصل، وأنّكَ انتظرْتَني أسبوعاً، أسبوعَين، لأُرسل إليكَ ذلك البريد الملغوم.
- أمضيتُ ذينكَ الأسبوعين تحت الحطب.
- في السيولة أمضيتُهما. أعجَبَتْني اللعبة، ثمّ تركتُكَ تلعب. حدسُكَ رهيب، ورغبتي في غريبٍ كانت لا توصف...
- ربّما لستُ الغريبَ الذي كان من المفترض أن تذهبي إليه. كان في إمكانكِ أن تأخذي المغامرة إلى معادلتها العبثيّة القصوى...
- تذكّرتُ أنّكَ كنتَ مجنوناً، أو هكذا بدا لي. تذكّرتُ أنّي خفتُ منكَ. لكنّي تداركتُ فقلتُ أريد أن أتعرّف إلى ذاك الفتى الذي كنتَه، وخوّفني جنونه. غريزتي سَحَبَتْني إليكَ، ثم ها نحن هنا.
- يُخوّفني صدقكِ العاري...
- يخوّفني أنّكَ شقيّ...
- أُحبّ غريزتكِ...
- أُحبّ جموحكَ. يعيدني إلى أرضي المهجورة...
- تنتقمين لجسدي.
- أنتقم لجسدي.
- سَفَرُكِ طويلٌ وبعيد.
- سَفَرُكَ طويلٌ وبعيد.
- تقولين إنّنا مختلفان وإنّني أثير غضبكِ...
- أقول إنّكَ تخنقني.
- ليتني مكانكِ لأختنق.
- تقبّلني أخنقكَ...
- أقبّلكِ لكي يكون لي مكانٌ أعتّم فيه الكون فأنام.
- عتِّمني لأنّني سأجيء.

***

- ماذا تريد؟
- لا شيء.
- بل تريد.
- ماذا؟
- كلّ شيء.
- هذا ليس صحيحاً. هشاشتي توحي، ولكن...
- صحيح. ليس هناك "ولكن". قل الأشياء كما هي.
- هي كما هي. أعطيني برهاناً بالعكس.
- كان عندي الهواء فلم يعد عندي هواء. كنتُ موجودةً كأنا، فلم أعد التي أنا. صرتُ أُهلوِس بكَ. أبكيكَ. وأراكَ في تختي. في جسدي. في مرايايَ. حتى لصرتُ أشعر بأنّي أكره كلّ مَن حولي. لا أريدني أن أصل إلى ما أصل إليه.
- لا تُلقي مشكلاتكِ الوجوديّة على كتفيَّ. أنتِ هكذا. والـ هكذا التي أنتِ، لا أطلب إلاّ ظلالها. نزرها الخفيف. عبورها الذي أنتِ. تُغرِقين الآخر وتعطبينه عندما تطفحين. هذا شغبٌ لا يُحتَمل.
- لستُ هكذا. بل صرتُ. من كثرة ما نزفْتُ لم يعد عندي هواءٌ لأشرب. ومن كثرة ما رأيتُكَ لم يعد عندي نظراتٌ لأرى.
- قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. النزر الخفيف فحسب.
- بل تريد. لا أصدّق أنّكَ متزهّد. تُبدي إعراضاً لكنّكَ مُنتشٍ. تتلذّذ بي لكأنّكَ شخصان. واحدٌ يَلتهِم وآخر يُلتهَم.
- أنتِ كيميائيّة. روائيّة. ناقدة. قارئة. تأويل الأدب يُجنّنكِ. يجعلكِ لا ترَين إلاّ الشخص الشعريّ. كوني واقعيّة. الأنثى لا الكاتبة.
- ليس الأدب ما يُجنّن. بل أنتَ. تذهب بعقلي، فأصير لستُ أدري ماذا أصير. دليلي إلى ذلك، أنّي لم أعد أستطيع أن أكتبكَ. ولا أن أكتب. لقد نشّفْتَني. ألا ترى أنّ لغتكَ أقوى من كتابتي. أنّ جسدكَ الهاجم يمحق. أنّ خفّتكَ لا تُحتمَل. أنّ الخَجول الوحش الذي أنتَ، يفترس. أنتَ تفترس، لا حياتي فحسب، بل اللغة. وها أنتَ تفوز بكلّ شيء، ثم تقول: لا أريد شيئاً! هل هناك أكثر لتريد أكثر؟ قلْ شيئاً يهدِّئ ما بي. قلْ شيئاً يُقنِع...
- عم تخلّيني صدِّق إنّي دون جوان. قد لا أكون أنا هذا الرجل. ربما ينبغي لكِ أن تفتِّشي عن آخر. ثانٍ ثالث...
- هذا ما ظننْتُني أفعله منذ شهر. منذ شهرين. منذ ستة أشهر. منذ أكثر.
- إذاً، هانت.
- لا. بالعكس. كلّما فتّشْتُ وهربْتُ وتغاضيتُ، وقعتُكَ أعمق. كلّما تشاغلْتُ برجلٍ ثانٍ ثالث رابع خامس... عثرتُ عليكَ أكثر أكثر. لم يعد عندي مكانٌ أذهب إليه. استنفدتُ احتمالات الرجال كلّهم. الوهمَ كلّه. دخيلَك، خلِّصْني منَّك.
- لو كنتُ أستطيع لساعدْتُ. وبذلْتُ. أنا أيضاً أحبّكِ كثيراً. لكنْ ليس عندي هلوساتٌ أدبيّة. ولا وجوديّة. لستُ فيلسوفاً. أحبّكِ فحسب، تيمّناً بالمجنون...
- ما دمتَ هكذا، إذاً لماذا؟ لماذا أحبّكَ إلى هذا الحدّ؟
- ما دمتِ هكذا، إذاً لماذا؟ لا أعرف لماذا أحبّكِ إلى هذا الحدّ!

***

- ليتني لا أفكّر. التفكير يجعلني مبعثَرة. أُفضّل أن أكون مستسلمة. استسلامي هو نوعٌ من الانتقام. هاكَ طريقتي: أنام معكَ ثم تذهب أنتَ إلى حياتكَ، وأعود أنا إلى حياتي. كأنّنا في نزهة، أو في منام. وهكذا.
- ليس عندي حياةٌ لأعود إليها.
- تعود إلى حيث كنتَ.
- تقولين إنّكِ تحبّينني...
- صحيح. أحبّكَ.
- أَلا يؤلمكِ أنّكِ سعيدة وغير سعيدة، وأنّكِ موجودة وغير موجودة؟!
- بلى. يؤلم.
- لماذا لا تخفّفين ألمكِ بالحبّ؟
- لا أؤمن بالحبّ. هو يضاعف ألمي ولا يهدّئه. وحده، الحبّ، يقدر أن يركّعني. أنا أحبّكَ لكنْ لا تطلبْ منّي أكثر. الأكثر يجعلني أهرب، ولا أريد أن أهرب. بل أريدكَ الآن أن تُغمِض، أن تُهلْوِس. أن تفحش، أو أن تغيّر الموضوع...
- تقولين إنّكِ شهوانيّة وتحبّين الأمزجة الماجنة. لكنّكِ في واقع الأمور لا تمجنين ولا تتعهّرين. أهذه هي السيولة التي تحتمين بها؟ فقط، فسِّري لي مازوشيّتكِ الساديّة هذه؟
- أن أنام على جروحي، أفضل من أن أنكأها. لا أستطيع أن أربح كلّ شيء. لقد أخطأتُ ولم يعد في إمكاني الرجوع إلى وراء. كيف لي أن أُعيد الأمور إلى النقطة الصفر، وأن أطالب بحياةٍ تخلّيتُ عنها بمحض إرادتي؟
- أوكي. لكنْ، اربحيني في الأقلّ.
- أنا معكَ، لكنّي لا أستطيع أن أكون معكَ. أشعر بالندم كلّما حاولتُ إطلاق شياطيني وغرائزي، لإصلاح ما أفسده الدهر فيَّ. كلّما فعلتُ شيئاً من هذا، كما أفعل الآن في فراشكَ، شعرتُ أنّي أرتكب معصية. هذا الشي يُخربط حياتي. علماً أنّ فكرة الخطيئة لا تعذّبني ولا تقلقني البتّة. أنا امرأة غير مؤمنة...
- أنا مؤمنكِ.
- نحن شخصان مختلفان. أنتَ تحبّني وأنا أضحك...
- كلانا يضحك على طريقته. أنتِ بالسخريّة السوداء، وأنا بالحبّ ممزوجاً بسمّ الأدب. طريقتان في الانتقام، أعتقد أنّكِ بارعة فيهما. ربّما أكثر منّي. يكفي أن تبدئي بخطوةٍ واحدة حتّى تكتشفي اللذّة الناجمة عنهما. ثم لا يعود في إمكانكِ أن تتراجعي إلى وراء. بل لا تعودين ترغبين في العودة إلى وراء.
- لا أملك وقتاً للكيمياء، أو للكتابة. حاولتُ أن أنظّم أولويّاتي فلم أعثر على وقت. الأدب يملأ حياتي. مراراً حاولتُ أن أكتب، لكنّي لم أُكمِل. ربّما يجيء وقتٌ أكتب فيه أشياء كثيرة، سطّرتُ كثيرها يوميّاتٍ على ورق، وأخرى تقيم في باطني. صدِّقني لا أملك الوقت. عندي قضايا أكرِّس لها جانباً كبيراً من حياتي. عندي أيضاً مسؤوليّاتي في العمل، ونشاطات أخرى. أنتَ توقظ فيَّ أحلاماً وشياطين صائمة...
- أعرف أنّكِ تستطيعين. أنتِ كاتبةٌ مقيمة في منطقة الهرب والنوم. كلّما أمعنتِ في هذا النوم، زاد وجعكِ الوجوديّ. أنتِ كاتبة كيميائيّة بالفطرة. بالموهبة والثقافة. أعرف ذلك مذ كنتِ طفلة. هل تتذكّرين قصيدتكِ عن تلك القطّة التي أنتِ؟ كنتِ آنذاك في العشرين من عمركِ على ما أذكر، وكنتِ جميلة وفاتكة إلى حدّ يُعمي.
- لا أذكر شيئاً من تلك القصيدة...
- ظلّت قصاصتها معي إلى ماضٍ قريب. ثم رأيتكِ أمس، فانصعقْتُ كما في المرّة الأولى...
- لا تزال هديّتكَ عندي. أما أنتَ فقد تركْتَ تلك القصيدة تتطاير في الفراغ.
- بدل القصيدة تلك، احتفظتُ بكِ. وها أنتِ بالنزق الذي ذهب بعقلي. أطالب بكِ كما لو كنتِ حقّاً شخصيّاً.
- أخشى عليكَ.
- هل تعرفين أنّكِ تقيمين في أحد كتبي؟ هل تتذكّرين كيف اغتسلتُ بمائكِ؟ برغوة الكلمات؟
- لا.
- الأجدى أن تعرفي أنّكِ تعشِّشين في رأسي.
- أخشى أنّكَ لن تقوم لكَ قيامةٌ هذه المرّة.
- فلنكتبْ كتاباً مشترَكاً. هكذا لن يعود في إمكان الأدب أن يغادركِ، ولا قلبي.
- لا أملك الوقت.
- بل تملكين الكثير منه. أنتِ فقط كسولة. تهربين من كيمياء المرأة الثانية التي أنتِ. تهربين لأنّكِ خائفة. تخافين الكتابة لأنّكِ تريدين أن تسيطري على فعل الكتابة، حتى قبل أن تبدئي الكتابة. ليس بمثل هذه السيطرة يكون الأدب. بل بالاستسلام أوّلاً. استسْلِمي استسْلِمي. هكذا يكون الأدب. ثمّ هكذا يكون الحبّ. أعتقد أنّكِ تعرفين هذا جيّداً. عليكِ أن تخرِّبي أولويّاتكِ قليلاً.
- لا أستطيع. هذه مسألة ثقافيّة. بل مسألة تنشئة تربويّة وعقليّة.
- تستطيعين. تشتهين العقل وتخافينه. دعي جسدكِ يكُن سيّد جسدكِ. دعي غرائزكِ تنمُ. أنتِ تكبتين شياطينكِ. لا يمكنكِ أن تعيشي غرائزكِ بالإيماء إليها من بعيد، ولا أن تتصادقي مع شياطينكِ بقمعها، أو بالهرب إليها، لاتّقاء شرورها. جيئي بها إلى حياتكِ. إلى واقعكِ. إلى جسدكِ. إلى كلماتكِ. حرامٌ عليكِ...
- حياتي منظَّمة. رجاءً لا تتدخّل. لا أريد أن أُخلخِل نظام حياتي من أجل أوهامٍ أدبية وعاطفيّة وجسديّة. أنتَ تُربِك خفّتي. كنْ خفيفاً تربحْ خفّتي.
- أطالب بجميع مَن أنتِ.
- لن تقدر. أعرف نفسي جيّداً.
- تعرفينها، لكنّكِ تهربينها. تتمسّكين بما تتوهّمين أنّه يلائمكِ منها. وتسكّرين على الباقي. أنتِ جبانة. أنانيّة. تقتلين المرأة الثانية. تكسرين الجانب الخلفيّ من المرآة، لأنكِ تخافين أن ترَي صورتكِ فيه. حرامٌ عليكِ...
- لن أغيّر حياتي.
- لا تغيّريها. عيشيها. تخافين منّي...
- أنتَ لا تخيفني. أخاف عليكَ.
- أُحبّكِ كما لم أُحِبَّ من قبل.
- كلامكَ مضحِك. خطابٌ غنائيّ ذكوريّ ممجوج. ثمّ إن الحبّ مسألة بيولوجيّة. لا مشاعر ولا أوهام. عندما ينتهي المزاج ينتهي هذا الذي تسمّيه الحبّ.
- لكنّي أُحبّكِ. أستطيع أن أُحبّكِ بدون أن تكوني عمليّاً في حياتي. لتبسيط الفكرة: ها أنا أُحبّك بدون أن أنامكِ.
- أنتَ صادق، أعرف، لكنّ البيولوجيا هي التي تحرّك ما تحسَبُ أنّه الحبّ. أنتَ تتوهّم أنّك تحبّ.
- ماذا تقولين عن عدم قدرتي على التفكير؟ على العمل؟ على الكتابة؟ على النوم؟ وماذا عن رغبتي في رؤيتكِ الآن وأنتِ للتوّ هنا، وللتوّ تغادرين؟ ماذا تسمّين هذا كلّه؟ بيولوجيا؟ أليس هذا هو الحبّ؟ ثمّ، بِمَ تفسّرين هذا الذي يستمرّ في قلبي على رغم حضوركِ الطويل؟ وماذا عن غيبوبتي في غيابكِ الطويل، المقصود والدامي؟
- أنتَ مريض طفولتكَ. مراهقتكَ المتواصلة تمنعكَ من أن تكون رجلاً. انضجْ قليلاً.
- لستُ مريضاً ولا مراهقاً. أُحبّكِ فحسب. لقد مضت شهورٌ لم أركِ فيها، ولم أضعْ يدي عليكِ. حبّي يتفاقم...
- فليتفاقم. أَكَلْتَني بأسنانكَ. بفمكَ. بلسانكَ.
- كأنّني أنا الذي جئتُ لا أنتِ فقط. اهتزازاتكِ أشْعَرَتْني بأنّي وصلتُ...
- ألا تتذكّر يديَّ؟ زغبَ الروح؟ عينيَّ؟ ألا تتذكّر جسمي كم كان يطالبكَ بالولوج؟ لكنّكَ لم تفعل... لستُ أدري.
- لم أفعل. صحيح. لم أستطع. لستُ أدري. لا أملك أن أشرح لكِ ما الذي كان يجري فيَّ. أشعر بأنّ جسدي ينتهي عندما تجيئين، وأنّه لا يعود موجوداً. هل من الضروريّ أن أقول لكِ ما لا أقوله لي عن هذه الحال؟ حتى لأشعر بأن الرهز الذي ترهزينه، والاهتزاز الذي يستولي عليكِ، ومثلهما إغماضة عينيكِ، وافترار الشفتين، لكأنّ ذلك كلّه مرايا لما يجري في جسدي. هل من ضرورة لأقول لكِ وأعيد القول إني أُحبّكِ أنتِ؟!
- أعرف أن جسمكَ يرفضني أحياناً بسبب مزاجيّتي معكَ.
- أعرف فقط أن أُحبّكِ...
- غنائيّتكَ لا تستهويني. أفضّلكَ قاسياً. جلفاً. اصفعْني. سيطِرْ. امحقْني. هكذا تستولي عليَّ...
- أُحبّكِ. أعجز عن أن أكون حيواناً. أستطيع أن أكون الذّكَر، لكنّي أُحبّ الحيوانَ القتيل. أُحبّ أن أكون قتيلكِ...
- أنبّهكَ. لن تراني إلاّ مغادِرة.
- غادِري. لن أتغيّر.
- أحبّكَ لكنّي أخاف أن أقتلكَ.
- افعلي ما تشائين. كنتُ قتيلاً. فلأعدْ قتيلكِ الآن، من جديد. أمْعِني ولا تخافي. ثم اذهبي حين تشائين، ولا تُعلِميني بذهابكِ.
- مَن قال لكَ إني سأذهب؟ أنا سعيدة ومترفة معكَ. لكنّي أُعلِمكَ بأنّي لا أُحبّ الرقّة. لطافتكَ تستفزّني سلباً. موتكَ يحييني. وأنا أرغب في أن لا أموتكَ. أفضّل أن تمارس سلطتكَ عليَّ. أشعِرْني بأنّي مملوكة. بدون ذلك، لا أعرف متى ينتهي الجسد بيننا.
- تطلبين أهون السبل. أنتِ، بكلّ بساطة، تخافين حبّي. تهربين منه. تخشين أن تتعذّبي. تطالبينني بأن أكون رجلاً ذَكَراً على طريقة الرجال الذين تعرفينهم. تفضّلين أن تكوني امرأةً على طريقة النساء. أعني على طريقة أنّ كلّ شيء على ما يرام، فيما لا شيء على ما يرام. تريدين علاقةً ممسوكة، لا تخرج عن السيطرة. هيدي هيّي الكلمة: علاقة ممسوكة. وأنا أكره العلاقات الممسوكة. فلنخرجْ من الصورة. ولنصنعْ لنا صورةً لا يمكن أسرها في إطار. حتى لأقول لكِ فلنبقَ خارج الصور كلّها...
- أنا خائفةٌ عليكَ ولستُ خائفةً من حبّكَ. أُنبّهكَ مجدداً. لا تتّكل على حبّي. ليس لكَ عندي إلاّ المزاج.
- لا عليكِ منّي. توهمين نفسك بأنّكِ خائفة عليَّ، فيما أنتِ خائفة فحسب. تخشين أن تدعسي في هاوية. تغرّكِ الهاوية وتخافينها. بدِّك منّو وتفوه عليه...
- أخشى أن أتدمّر. أعجز عن أن أكون في مكانَين. كليانيّتكَ هائلة، وهي تلغيني. يمكنني أن أكون قدْر ما أكون.
- لستُ أحمق إلى حدٍّ يُعميني عن أحوالكِ. والله العظيم لا أريد شيئاً. لا أريد شيئاً على الإطلاق. فقط أن أُحبّكِ، وأن تستسلمي لهذا الحبّ. أن تكتشفي جهنّم النزق والشغف والشغب والشبق من خلال الحبّ، لا فقط من خلال البيولوجيا.
- لقد تعذّبتُ كثيراً في ما مضى، وأخشى أن أتعذّب بعد الآن.
- لماذا تدمعين؟ لا أتحمّل دموعكِ...
- ما فهمت بعد إنّي بحبّك يا حمار، وإنّو ما لازم حبّك؟ ما فيّي إطلع من حياتي. ما بقدر حبّك. كتبتُ لكَ يا سيّدي في إحدى المرّات: "أنتَ حياتي. قلبي. غرامي. بحبّك. بعشقك. بعبدك. بموت فيك. اشتقتلّك...". كنتُ صادقة حين كتبتُ ما كتبتُ، ولا أزال صادقة. لكن يجب ألاّ أحبّكَ. لا أستطيع أن أُحبّك...
- كان ذلك في 4/11. تاريخ لا يمكنني نسيانه. وبعدين؟
- أبحث عن الأدرينالين. فقط عن الأدرينالين. يحرّرني من كذبة الروح. يجعلني في الجسد. في المزاج البيولوجيّ.
- أنتِ مدرّسة الكيمياء، ألا تتذكّرين أيّ فعلٍ تفعله الكيمياء؟ ماذا تدفعين للحصول عليها؟
- أدفع.
- أريدكِ كلّكِ. أخشى أذا أخذتُ جسدكِ أنْ عندما تغادرين تشوّه الكيمياء روحكِ.
- لماذا يتغيّر صوتكَ عندما تتحدّث عن هذا الموضوع؟ لماذا ترقّ؟ كنْ فجّاً كَذَكَر...
- يتغيّر لأنّي لا أستطيع إلاّ أن أكون هشّاً. يستهويني أن أكون مزيجاً من الذكورة الفظّة والأنوثة. لا أتحمّل كوني حيواناً معكِ. روحي معطوبة.
- أُحبّ الحيوان فيكَ. وأريد عواطفكَ من خلال الحيوان الذي أنتَ. أنبّهكَ. المشاعر تستفزّني.
- هذه نقطة ضعفكِ: العواطف. كأنّها حرف ناقص. ماذا لو تستسلمين لها؟
- أخاف. تعلّمتُ ان أكون حجر غرانيت. قليلة التعبير. قليلة الأحاسيس. هذا لا يعني أنّي بلا دم. القلب عدوّي. لا أريد أن أموتكَ. ولا أن أموت.
- لن أؤذيكِ. تعرفين أنّي لا أستطيع أن أؤذيكِ.
- أعرف...
- إذاً؟
- لا أدري. توقّفْ عن التفلسف. ليتكَ تنامني. حيوانكَ يثير ويجعلني على الفوّهة. بهدوء. بقوّة. بقوّة. بهدوء. بين الاثنين. غيِّرْ موضعكَ قليلاً. قليلاً بعد. نعم، هكذا. ضعْ ثقلكَ عليَّ. اجعلْني أشعر...
- كم أُحبّ أن أكون موجوداً عبر الحيوان فيَّ، كي لا يأخذكِ ثقلي إليه، فيشرد انتباهكِ الجنسيّ.
- بل تابِعْ جسمكَ فوقي. اجعلْه ثقيلاً كأنّكَ ترميه على فراغ. على هاوية. على عدم.
- أكره أن يكون ثمّة رجلٌ عليكِ. وإنْ أكنْ أنا هو. لذا أرتفع عنكِ قليلاً ليكون هواءٌ بيننا. من أجل الخيال. وأيضاً من أجل تأليه اللحظة حيوانيّاً، فيكون قلبي الذي يسيل في الحيوان صلةَ وصلنا الوحيدة.
- جسدكَ هو الحيوان، وأنا أشتهيه بثقله. بفظاظته. بتعبيراته الفلاّحيّة. تعوّدتُ أن أكون غير ذلك. أن أنغمس في علاقاتٍ مترفة. متعهّرة. وقاسية. لذا أحبّ اختلافكَ الأهوج عن الرجال الآخرين. أرغب كونكَ تجيء من مكانٍ آخر. أرغب أنّكَ جسدٌ آخر.
- يستهويني أنّكِ لا تتذكّرين أحداً. يستهويني أنّكِ لا تذكّرينني بأحد. كأنّكِ لم تنامي من قبل مع رجل. كأنّني لم أنمْ من قبل مع امرأة. بل كأنّي لم أنمْ معكِ من قبل. كنتُ أقول إنّ جسدكِ كنيسة. كم أرغب أن أعود أصلّي. هل تذكرين يوم دخلتُ عليكِ من نافذة؟
- يعجبني أنّكَ مفكَّك. من كلّ وادٍ عصا. تخلط الأزمنة كأنّ الماضي هو اليوم، واليوم هو الماضي. هل قلتُ لكَ إنّكَ تشبه عنوان تلك القصة، "يا صبي يا أزعر يا لذيذ" لفؤاد كنعان؟ وإنّكَ...
- أُحبّ أنّكِ تغمضين. لكأنّكِ مسافرة في الحيوان الذي في داخلكِ. كَسَلُكِ ينمّي شعوري بالشيطان. يُغويني أنّكِ قاسية. ويعذّبني.
- أنتَ تحبّ أن تتعذّب.
- لا. بل أفضّل عذابي معكِ على عذابي لكوني ميتاً. هي مسألة أولويّات ليس إلاّ. أعجز عن أن أكون صحراء مفرغة من الجمر.
- غريبٌ أمري. أجهل لماذا لا أرغب أن أستسلم لكَ هكذا. شيءٌ فيكَ يذكّرني بالعدم الذي فيَّ. بالغريزة. بالشياطين التي تعود تستيقظ بعدما أوعزتُ إليها أن تتدجّن وتنام. كأنّكَ من الكائنات الأولى. كم جميلٌ أن تظلّ هكذا فلا أستيقظ. أُحبّ بدائيّتكَ العاطفيّة. لا تصدِّق أنّي لا أُحبّ جنون قلبكَ عليَّ. أعشق أنّنا مختلفان. بل أشعر بأنّي غريبة. لذا أنزلق إلى هذه الغربة اللذيذة.
- تأخذينني إلى أماكن لم أذهبْ إليها. كم غرائزكِ والعة. والشياطين، كم جميلٌ أن تسكنكِ الشياطين، فيما أنتِ تتلطّين تحت أقنعةٍ أخرى ليست من شيم شياطينكِ ومراياكِ!
- كانت شياطيني تائهة ومنوَّمة إلى أن أتيتَ. كنتُ قد قلتُ لنفسي كفى. شياطيني هي لي، ولا يهمّني أن أتقاسمها بعد الآن مع أحد. أنتَ هنا. وها شياطيني لكَ. عند قدميكَ. لكنّي لا أعرف متى تفتك بكَ، وترتدّ إلى غرائزها وغاباتها. هذا ليس بيدي. لذا، أراني محمولةً على أمزجتي التي لا تريد لي أن أبقى طويلاً هنا. أمزجتي هي فوق كلّ اعتبارٍ آخر. أترجّاك، الله يخلّيك، لا تحببْني. كنِ النزق. لا تجعلْني في حياتكَ. عشْ حياتكَ، فلن تكون حياتي حياتكَ.
- أعرض عليكِ الشغف تعرضين اللاّشيء. كم أنتِ قاسية.
- يخوّفني حبّكَ. أريد علاقةً عابرة.
- لا أستطيع. اذهبي.
- لن أذهب. لكنْ لا تحببْني.
- تحاورينني في هذا الموضوع كأنّ المسألة عقلانيّة. كأنّني قرّرتُ أن أُحبّ! تعرفين أنّ رأسي لا يعمل بهذه الطريقة. أنا أُحبّكِ فحسب. ولا أريد، بل لا أستطيع أن أمتنع عن حبّكِ. هذه مشاعر أتركها على سجيّتها فالتةً كخيولٍ برّية. كغرائز مهجوسة بمصائرها وأقدارها، ولا أملك قراري فيها.
- لا أريدكَ أن تتعذّب. صدِّقْني، لا يمكنني أن أقدّم إليكَ شيئاً. على الأقلّ أنا شفّافةٌ معك.
- أنتِ كاذبةٌ معي. لا. متناقضة. بالأحرى، منفصمة. تعاملينني كغريب بينما أنتِ هائمةٌ بي. هل تتذكّرين كيف بكيتِ بكاءً مرّاً يومَ قلتُ لكِ إنّي لا أستطيع المجيء؟ كيف يمكنكِ أن تعاملي شخصاً تحبّينه، بهذه الطريقة المخجلة؟! تصرّفاتكِ عجيبة غريبة...
- انشقاقات. وشروخ. وانفصامات. وإرادة معذَّبة تتحكّم بهذه الانشقاقات والشروخ والانفصامات. هذه هي أنا. أقتل كلّ حبّ. وأقتل مَن يحبّني بدل أن أقتل نفسي فيه...
- كذِّبي عليَّ قليلاً. فقط قليلاً. خدِّريني بكذبةٍ بيضاء.
- لا أعرف أن أكذب. أعرف فقط أنّ الحبّ يعذّبني، ولم أعد أملك أن أغامر وأتعذّب. فظٌّ هو الصدق. وقحٌ. وظالمٌ. لكنّه صادق.
- أخاف أن يأكلكِ العدم بدل أن تأكليه.
- لقد تعوّدتُ عليه. أصبح جزءاً من كياني. من حياتي. العدم في داخلي وليس في الخارج.
- كنتِ تقولين إنّ الحبّ لحظة بيولوجيّة، أو مزاج. خبِّريني كيف تعيشين بيولوجيّتكِ؟
- بين حين وحين.
- ماذا يوجد بين هذا وذاك؟ الفراغ؟ الرماد؟ الضجر الأسوَد؟ التفكّك البطيء؟ الهرب؟ الموت؟! هل هذا يعني أنّ البيولوجيا لم يعد لها مكانٌ أساسيّ في جسمكِ؟ كنتِ تقولين إنّكِ ربيبة الغرائز والشياطين...
- أنا سعيدةٌ في حياتي.
- كلامٌ مُترَف وجميل، لكنّه هارب. مثلكِ تماماً. تخافين أن تذهبي بالمغامرة إلى أقصاها.
- صحيح.
- عِيشي حياتكِ بدل تعذيبها. أأنتِ مازوشيّة؟ أأنتِ أرضٌ قاحلة، محروقة؟ دعيني أُحبّكِ حبّاً مفتوحاً على عاصفة. نخربط العدم من الداخل من دون أن نخربط شيئاً.
- لا يمكنني بعد الآن أن أحيا حياتَين. عشتُ حياتَين، أكثر من مرّة، وقتلتُ الحياتَين. لا أعرف أن أكون في مكانَين. بعد قليل ينتهي حبّكَ. فماذا أصير؟
- لن ينتهي حبّي. دليلي أنّني ظللْتُ أُحبّكِ طوال خمسة عشر عاماً من الغياب، أو الغيبوبة. كنتُ خلالها أعرف أنّكِ ستعودين.
- تصير البيولوجيا هجساً ثانوياً عندما نكبر. الآن، تعال...

***

- اذهبْ. غادِرْني. لا تتطلّعْ إلى وراء. خذْ جسدكَ لأنّه يستنفر ما فاتني من جسدي. خذْ عينيكَ أيضاً. خصوصاً عينيكَ. السفر فيهما يجعلني في جحيمَين، في جسدَين، في شخصَين، في زمنَين، في مكانَين...
- ممحوّاًً أعيش في رأسي. عارياً أعيش في جسمي. لم أعد أملك شيئاً لآخذه معي.
- خذْ كلّ شيء. خذ اللاّشيء. العدم. الفراغ. جبالكَ. أوديتكَ. حدسكَ. شتاءكَ. صيفكَ. لغتكَ. كلماتكَ. يديكَ. خذْ عريكَ الماحق. لا تتركْ أحداً يذكِّرني بكَ.
- سأذهب بلا عينَين تاركاً عينيَّ لترَي فيهما ما تتفادين رؤيته في مراياكِ.
- خذْ عينيكَ. خصوصاً عينيكَ. لم أجد أحداً يأكل بعينيه مثلما تفعل أنتَ. عيناكَ تأكلان ولا تشبعان.
- حسناً. لكنّي لا أملك عينيَّ لآخذهما. تذكّري فقط ما رواه الشخص في بداية الحوار حين قال: هكذا أنا بلا عينَين من كثرة ما أنظر إلى نجمتي المضيئة التي أنتِ، والتي تذهل عينيَّ ولا تطفئني... ثمّ، لأفترِض أنّي أخذتُ عينيَّ، كيف تطفئين جمرهما في غموض جسمكِ؟ أمس، رأيتكِ في الحريق...
- لم يكن حريقاً. كان ذكريات حريق...
- خذي نظرات يديَّ. خذي يديَّ، فقد تشفيانكِ.
- لا أستحقّ حبّكَ. لستُ أهلاً له. قلتُ لكَ من البداية، فلتكنْ علاقتنا شبيهةً بقيلولة. بغيمةِ جموحٍ خفيفة، وعابرة. بعد قليل ستقول إنّي امرأة شرّيرة. أنانية. مدمِّرة...
- أنا لستُ أبله. لا. لستِ شرّيرة ولا أنانيّة. بل حسابيّة. واقعيّة. خائفة. مدمَّرة. مازوشيّة. تفضّلين الانحناء على الجحيم لإسكات الجحيم، لا لإشهار الحريق. تتذرّعين بالحكمة. بالنضج. بعِبَر الحياة. تهربين إلى الاطمئنان. إلى الصقيع. إلى حجر الغرانيت. إلى الموت. إلى الصمت. إلى الصحراء. إلى أشباحكِ. إلى العتمة. كي تفوزي بالنوم الهارب من الحلم إلى النوم.
- اذهبْ. اذهبْ. جسدكَ ينهر. يستفزّ. يؤجّج. يجعلني أعيد ترميم مرايايَ المضمّخة بالهلوسة. بشمس الجسد.
- هذي مراياكِ، خذيها مغسولةً من عبوري. هكذا تعثرين في غيابي على ما يثبت أنّكِ لم تموتي ولم تتدمّري، وأنّ أرضكِ خصبة، مجمّرة، وصالحة للعاصفة.
- لم أعدْ أرغب أن أرى نفسي في المرايا. تلاحقني هذه المرايا حيث أذهب. في اليقظة. في النوم. في الشرود. في الانتباه. لم أعد أتحمّل أن ألاقيكَ في رأسي عندما أعود إلى رأسي. في الأرض الخراب، ليس من ذكريات ولا عطور ولا بصمات. بل أرضٌ ممعوسة. أريد أن أعود إلى البيت من دون أن أكره البيت الذي أعود إليه...
- المرايا المرايا. لن تستطيعي الفرار من المرايا، وإن شظايا.
- بحِبَّك.
- لماذا تبكين؟
- لا أبكي. بل أمسح الشتاء عن عينيَّ.
- هذه خدعة قصيدة. نحن في الصيف...
- بل هو الشتاء. أَلا ترى الغيوم كيف تنحني لتصل السماء بالأرض؟! وهذا المطر، أَلا تراه؟! تحسّسْ جسمكَ. ثيابكَ...
- ليس المطر، بل ما تستسيغينه من فائق جروحي.
- هو وجع جروحكَ في عينيَّ.
- نامي كي أفتح الليل.
- لا تُقبِّلْني. أخشى أن أنقل اليكَ ما أنا فيه، فتصير مريضاً مثلي.
- أنا مريضكِ القَدَريّ. فممَّ أهرب وأخاف؟!
- تعال إلى هناك. إلى فمي. حيث صراخي دفين. وشفتايَ هالكتان تناديان لسانكَ.
- لساني جوعٌ عطشان. أسناني جائعة.
- حيث أدفن فمي، أدفن حكمة رأسي. هناك، حيث يختبئ ما بقي من روحي.
- حيث شفتاكِ قنطرة. وأكون أنا لحم القنطرة.
- خذْني إليكَ. إلى مرضكَ. إلى جنونكَ السرّيّ والعلنيّ. إلى جسدكَ الشعريّ خذْني. كي أستعيد شعرية جسدي المهمَلة. وكي أنسى أنّ جسد النثر ليس الجسد وليس النثر.
- ليس عليكِ سوى أن تكسريني قرباناً مكسوراً فوق هاوية.
- لكنّني هاوية...
- اكسريني فوق الهاوية. وغمِّسيني بالقعر. لا طريق إليكِ إلاّ نزولاً نزولاً.
- انزِلْ أكثر. فتِّش عنّي. لا تترك كنيستي قدّيسةً. زاهدة. مرِّغْها. ولا تنسَ أن تحتفل بالذبيحة.
- أنتِ كنيسة، وجسدكِ قدّاس الكنيسة.
- صلِّ أكثر لكي تقع في تجربة. صلِّ ليستجيبكَ فمي.
- اشهقي قليلاً لتُسمَع صلاتي.
- غيِّرْ إيقاعكَ إلى أعلى. إلى أسفل. عرِّجْ يميناً. يساراً. إلى هنا. نعم هنا...
- هلِّلويا. هلِّلويا. أنا صوتٌ صارخٌ في فم البرّية...
- أنتَ اللسان والخبز في فم البرّية.
- أنتِ شبعي. ولن أشبع. أنتِ غليلي. ولن أرتوي.
- أريد أن أنام...

***

- أين كنتَ؟
- لم أكنْ...
- أهكذا؟
- كان عندي بيتٌ ولم يعدْ عندي بيت.
- خذِ الباب، فهو الطريق إلى الرحم. أُسمّيه بيتي. تسهر قليلاً، ثم تغادر.
- إلى أين تريدينني أن أغادر؟ رغبتي أن أنام. شبقي الفعليّ أن يأخذني النوم إلى طيّاته. إلى حيث لا أستيقظ إلاّ لأنام. مضى لي ما مضى من عمري لم أذق شبع لسانٍ على باب.
- أزوركَ تزورني، ثم أعود إلى حيث كنتُ، وتعود أنتَ إلى حيث كنتَ.
- لم أكنْ...
- أريدكَ عابراً. خفيفاً. كم جميلٌ أن أنسى أنّكَ عبرْتَ. أخشى أن أتعلّق بكَ.
- لا أخشى أن أتعلّق بكِ.
- لا أُحبّ أن تبقى طويلاً لئلاّ أنسى طريق العودة إلى البيت.
- أُحبّ أن تبقَي طويلاً كي أنسى من أين إلى أين. لقد قتلني البحث عن الحكمة.
- كنتُ أعتقد أنّكَ غيمةٌ هاربة. وأنّكَ نضجتَ. لقد خطئ ظنّي.
- لم يَخطأ ظنّكِ. فأنا غيمةٌ ناضجة. لكنّ غيمتي ساهرة ولا تتخلّى عن كونها غيمة.
- نزوةٌ هي الغيمة. أمّا أنتَ...
- أمّا أنا فغيمةٌ تلتهم العدم. وعدمٌ يلتهم الغيمة. ولا غاية. سوى لذّة الالتهام. أمّا أنتِ...
- أمّا أنا ففراغٌ يمتلئ. ولا نهاية.
- لو كان لي أن أملأ الوقت لكنتُ ملأْتُه فيكِ. لو كان لي أن أجمع الفراغ لكنتُ جمعْتُه من أجل أن لا يعود ثمّة فراغٌ فيكِ.
- كلامُكَ يُخوّف. كنْ خفيفاً كموجةٍ صيفيّة.
- كوني ما تريدين أن تكوني. لن أجعلكِ تخافين.
- لكنّي خائفةٌ عليكَ. فقد أغادر بعد قليل ولا تعود تراني. هل تعرف كم أُبكِّت نفسي بسبب ما ستكون عليه أحوالكَ؟ لا تعرف كم أتعذّب، مثلاً، لمجرّد التفكير أنّك مريض ولا أقدر أن أزورك؟! ليتني لم أُحبِبْكَ...
- وأنتِ، أحوالكِ ستكون كيف عندما ستذهبين؟ هل تعرفين كم أُبكِّت نفسي لأنّكِ قد ترحلين؟ ابقَي، حيث هنا، إلى أن يملأكِ الضجر منّي.
- كنْ ليّناً لا أهرب. قلتُ لكَ من البداية، لا يمكنني أن أكون كثيرة. لقد جرّبتُ من قبل وكان الأثر جارحاً. لا تتركْ أثراً جارحاً في لحم روحي...
- لا تهربي، أرجوكِ. ساعِديني لكي أنجو. ساعِديني لأكون خفيفاً، فنجوع معاً ونشبع معاً بخبز الجسد، الذي لا نهاية.
- أعطِني السيولة أُعطِكَ ما تريد، فأبقى. وأكون لكَ.
- لن تكوني لي. أعرف. هذه مسألة بديهيّة. ستكونين ما أنتِ، وستظلّين ما أنتِ: هاربةً من نفسكِ إلى ما أنتِ فيه. ترَين ما قد دمَّرَتْه الحياة فيكِ، لكنكِ تُصِمّين قلبكِ عن دويّ الدمار. تقيمين في أعماق رأسكِ ولا تستطيعين أن تستسلمي لهذه الأعماق. واصِلي التدمير. تابِعي شروركِ المازوشيّة. أوهِمي نفسكِ بأنّكِ أنانيّة. نكِّلي بحبّي، لكنّي لن أغادر. أعرف أنّي لن أغادر.
- تعرف ماذا؟
- أعرف أنّكِ لا تريدين أن أغادر.
- لن تستطيع أن تُكمِل الشوط معي.
- سأُكمِله. هيدي شغلة ليس لي يدٌ فيها. هل تحبّينني؟
- بحِبَّك.
- إذاً كيف تطلبين منّي أن أغادر؟ فمُكِ شهيّ وأسناني قويّة. سأكون أسناناً لفمكِ الشهيّ.
- ولسانكَ، ألن يكون لي؟
- لساني طريٌّ من أجل أن يكون بابكِ ليّناً ومشتاقاً كباب كنيسة.
- صلِّ لكي ندخل في تجربة...
- صلّي لتستجيبكِ أسناني وشفتايَ ولساني...

***

- إلى أين يا سيّدتي؟
- مسافرة...
- إلى أين؟
- إلى حيث وحدي.
- أنتِ دائماً وحدكِ، وإنْ مع آخرين.
- إلى حيث وحدي، يكون وحدي. إلى حيث لا أحد. لا شيء. لا ذكريات. لا حاضر. ولا ماضٍ. سوى الشعور الهائل بالرماد. بالنسيان. إلى حيث أشعر بأنّ جسدي هو وحدي. وبأنّ خفّتي...
- خذيني.
- لا. وحدي، أعني وحدي.

***

- وأنتَ، إلى أين؟
- مسافر.
- إلى أين؟
- حيث ألتقي بعضي.
- عال. وهل أنت خارج بعضكَ؟
- لا. لكنّ حالي مبعثَرة في أكثر من زمان. في أكثر من مكان.
- لم أفهم.
- ذاهبٌ إلى باريس.
- كيف تجتمع بنفسكَ هناك؟
- أُحبّ تلك المدينة. لا أكثر. اشتقت أقعد بالقهوة مع حالي.
- شيءٌ عاديّ. أين العجب في ذلك؟ بتقدر تقعد بالقهوة هون...
- لا. هناك أشعر بالغفليّة. بالتملّص المطلق من الآخر. أعشق هذا التملّص. أعشق الضعف المطلق. هناك أكون هذا الضعف. أصيره.
- لن نتّفق.
- "ستّين سني وسبعين يوم". بتتذكّري إنّك استخدمتِ ها العبارة معي يوم 21/4؟ ثمّ، لماذا يجب أن نتّفق؟
- أكره الضعف. كلّما ضعفتُ، صرتُ أكثر عرضةً للوجع الوجوديّ. الألم ينكِّل. أُفضِّل أن أحصّن نفسي بالقسوة كي لا أُصاب بالدوار.
- وهل أجمل؟
- جميلٌ ولكنْ...
- ولكنْ ماذا؟ هل تريدين ضماناً لكلّ خطوةٍ تقومين بها؟
- لا. ولكنْ...
- عجيب. تقولين لا، وتردفينها بـ لكنْ! كلّما تردّدْتِ ذهبتْ منكِ فرصة التقاط النجم الذي يجرح السماء.
- تعجبني شعريّة التهوّر. لكنّي أفضّل البقاء هنا.
- أين هنا؟
- حيث قدمايَ على الأرض. حيث لا أرتطم من جرّاء السقوط من علٍ أو من بعيد. هكذا أستطيع أن أجول في رأسي، وأن أترك جسدي هنا على سجيّته، من دون أن يتعكّر صفوي.
- أغبطكِ لأنّكِ خانعة. أغبطكِ لأنّكِ تستطيعين.
- أنتَ لا؟!
- لا.
- قلتَ إنّكَ مسافر...
- نعم. لأنّي أرغب في أن أستسلم لفراغ السفر. أشتهي الدخول في فراغاتٍ جديدة، لم أطرقها من قبل. يشغلني تلمّسُ أمكنةٍ أو أزمنةٍ تشبه النوم أو الحلم أو الافتراض.
- جيّد. لكنكَ تعرف باريس عن ظهر قلب.
- أعرفها، لكنّها لا تكفّ عن اختراع جسدها. وعن اختراعي. لم أجد شخصاً يشبه حبّي أكثر من باريس. هيدا هوّي السبب.
- وماذا تفعل في الحياة؟
- أُحبّ.
- هذا ليس عملاً. الناس جميعهم يحبّون ويكرهون.
- نعم، ولكنْ...
- أنت أيضاً تقول نعم، وتردفها بـ لكنْ.
- الحبّ هو عملي. وهو شغلي الشاغل. أُحبّ بتهوّر. بدون حساب. القمار ربّحني وخسّرني أعماراً جمّة. وأنا لا يدَ لي في أن أخسر ما أربح.
- لكنّك قد تقع في البئر فترتطم بالقعر وتتحطّم.
- بل أقع حقاً في البئر وأرتطم وأتحطّم. هذا في الواقع ما كنتُ عليه. لكنّي أُحبّ أن أُحبّ من جديد. وأن أقع. وأرتطم. وأتحطّم. ما بِقْدِر ما كون هيك. هل أجمل؟!
- ألم تُعلّمكَ أشلاؤكَ والتأوّهات أن تكفّ عن هذا الغلط؟
- ربّما هو غلط، لكني أُحبّ أن أُحبّ. أُحبّ هذا الغلط.
- لن نتّفق.
- للمرّة الثانية تقولين لن نتّفق. رحْ أكفر بكل شي إسمو اتّفاق.
- أحببتُ ووقعتُ ولم أعد أريد الوقوع.
- أتسافرين كثيراً؟
- كثيراً.
- إلى أين؟
- هنا في رأسي. وإلى حيث لا أفكّر في شيء، ولا يزعجني شيء.
- إذاً نتّفق.
- علامَ نتّفق؟
- على السفر في الرأس. في الفراغ. في اللاّتفكير. في الاستسلام للكسل. للنوم. للاّشيء. سفِّريني معكِ...
- أُفضِّل السفر وحدي. هكذا أكون حرّةً بالكامل. سافرْتُ مراراً مع آخرين، ولا يهمّني أن أُعيد التجربة.
- سافِري كما تشائين أن تسافِري. وحدكِ. في رأسكِ. مع آخرين. لكنّ الآخرين ليسوا كلّهم نسخةً طبق الأصل. قد تكتشفين أحداً يغيّر فكرتكِ السخيفة هذه. فكرتكِ عن الآخر والسفر، مسبقة وجاهزة. أزعم أنّي سَفَرٌ آخر مختلف.
- نعم، ولكنْ...
- ولكنْ ماذا؟
- أريد أن أنام. أراكَ بعد أن تعود من السفر.
- تصبحين على خير.
- سأسافر معكَ بدون أن أسافر معكَ.
- لم أفهم.
- سأنتظر رجوعكَ.
- سأنتظر رجوعي.

***

- تحبّين الشمس. العري. الوضوح. الدقّة. الاختزال. الصمت. تلجمين العقل. تحبسينه في خاتم. تعشقين الحياة. أعشق الموت في الحياة.
- تحبّ ضوء القمر. الخريف. الغيوم. الظلال. الهرب. الهاوية. الجرود العالية. الأرض المفتوحة. انفجار المشاعر. النظرة القاتلة. الشعر. أُحبّ عصر النهضة. لم أعد أريد أن أُحبّ. أريد فقط أن أعيش. لأنّي متأكدة أن لا عيشَ في الحبّ. هو موتٌ أعمى فحسب.
- أعشق اختلافاتنا. تجعلني أُلاحِق مستحيلاً لا يمكن أن يتحقّق. لو كنّا متّفقَين لكان سخيفاً جداً.
- جنونكَ قويّ. حارّ. ولافح. كزجاجة فودكا ملغومة.
- كم يثيرني هدوؤكِ... كلّما أمعنتِ في الصمت، في الإحجام، أمعنتُ في الهوس. هدوؤكِ يقتل.
- ليس عندي وقتٌ كثير. آخذكَ معي في نزهةٍ إلى بيتي.
- ليس عندي وقت. آخذكِ في رأسي.

***

- مشاعركَ غير طبيعيّة، أعني غير متوازنة. وغير عادلة. حتى لأقول إنكَ تحبّني أحياناً بدون سبب. أو لكأنكَ تحبّني مجّاناً، مع أن من المنطقيّ أن تهشل منّي بسبب مزاجيّتي. من المنطقيّ أن تنتقم. أن تخون. أن تُزوبِن. أن يكون عندكَ ردود فعل غير هذه الردود المضبوطة. شو هيدا؟
- لستُ أدري. البارحة، قلتُ لكِ أريد أن أحبّكِ أقلّ، فكان جوابكِ: هذا ما يجب أن تفعله عمليّاً. ثم قلتُ في نفسي إنّي لا أقدر...
- لماذا لا تقدر؟ أعرف أنّكَ تستطيع، وأن نساءً...
- أنا ابنُ أبي.
- شو يعني؟
- والدي أحبّ هكذا. ولا يزال على حبّه. أنا ابنه، وهو ابن أبيه. عقل بن داود بن عقل العويط. كلّنا هكذا. معطوبون بمرضٍ عائليّ، يسمّونه مرض الحبّ. ولا شفاء.
- خبِّرْني عن أبيك.
- وُلِد عاشقاً وأمضى حياته حبيباً عاشقاً. يقول دائماً إنه أحبّ امرأةً واحدة، ولطالما تحدّث عن ثلاثة أشياء مهمّة في المرأة: العقل والأناقة والجمال. هو الآن في الثالثة والتسعين من عمره. وقد قرّر في أحد الأيام، منذ ثلاثة أعوامٍ تقريباً، أنّه لم يعد يرغب في الإطلال على العالم الخارجيّ. إلى حدّ أنّه راح يفضّل الانزواء في مقعده وفراشه، على أن يمشي مستنداً إلى عصا. لم يتحمّل كونه قد صار جثّة. جثّة على قيد الحياة. لذا أصيب بانهيارٍ نفسيّ، وهو يبكي حياته باستمرار، منادياً المرأة التي يحبّها...
- شغِّلْ عقلكَ. هل يعقل أن يكون المرء مريضاً بالحبّ؟ بحبِّ امرأةٍ واحدة؟
- لا. على الأرجح. ولكنْ...
- أنتَ أحببتَ أكثر من امرأة. لستُ أنا الأولى في حياتكَ، ولن أكون الأخيرة، على ما أظن.
- صحيح. لا أعرف. لكنّي أُحبّكِ الآن كما لو كنتُ أُحبّ للمرة الأولى. لا أشعر بأنّ عندي إسقاطات. لكأنّي لم أعشْ أعماراً سابقة، ولا أقمتُ علاقاتٍ غراميّة سابقة. تحدّثتُ بيقينٍ مفجع عن هذه المسألة في كتبي، لا كزعمٍ ثقافي، بل بمثابة اعتراف. صدِّقيني، أنا كائنٌ معطوب، وليس عندي حبٌّ يتراكم فوق حبٍّ سابق. حياتي هاويةٌ بدون قعر. حبّي بدون قعر. أنا الآن معكِ، كما لو أنّي لم أكن من قبل. لا مع نفسي، ولا مع امرأة. أنا الآن ذلك الفتى الذي كنتُهُ، وتعرفينه. لا أستطيع إلاّ أن أكون هكذا. الحلّ الوحيد معي هو القتل. لم تتخلّصْ امرأةٌ من حبّي إلاّ بالقتل. نتلمّظ، تقتلني، ثم تغادر...
- كأنكَ تحرّض الآخر على ارتكاب ما لا يحبّ أن يرتكبه. أنا مثلاً، لا أريد أن أقتلكَ، ولا أن أغادر. بحِبّ كون معك، بس ما بِقدر كون معك...
- هكذا كان فعلكِ في المرّة الأولى. غادرتِ كما لو أنكِ تغلقين باباً وراءكِ. فلا تجامليني الآن. لا أطلب حنانكِ، ولا الشفقة. كوني كما ترغبين أن تكوني. فأنا لا أريدكِ نصّ عا نصّ. ولا أريدكِ أمّاً البتة، بل عشيقةً معطوبةً بالحبّ. لا أريد أمّهات بعد الآن. كوني أبي مثلاً، فقط لأنّ أبي ليس سلطةً ذكوريّة، ولا أيّ سلطةٍ أخرى. كونيه بالعشق المُعطِب، أو كوني شيئاً من هذا القبيل...
- كنتُ أخاف عليكَ من شياطيني، فصرتُ أخاف شياطينكَ. كم غلطٌ أن أستمرّ معكَ. كان معي حقّ عندما هربْتُ منكَ في المرّة الأولى. شي بيخوّف إنتو بها العيلة. كلّ يوم تذهب لمجالسة أبيكَ كما لو أنّ حياتكَ موقوفة.
- لا أفعل شيئاً يُذكَر، قياساً بما يفعله أفراد العائلة، أخواتي خصوصاً، وإخوتي. ثمّ إن حياتي ليست موقوفة. فأنا أعمل وأُحبّ وأحلم وأهلوس وأتألّم وأيأس وأتعهّر وأسافر وأختفي وأصمت وأكتب وأنشر وأُغمِض وأجلس في رأسي، مواصلاً حياتي الطبيعيّة جدّاً. لكنّي أريد أن أعرف سرّ هذا الرجل. أبي. سرّ الجينات التي يتشكّل منها عقله، والتي أعطبني بها...
- تُذكِّرني بالشعراء المجانين. أقصد شعراء الحبّ العرب. إنتو بهالعيلة شي بيخوّف...

***

أريدكَ، يا أبي، يا دواد بن عقل بن داود العويط، أن تموت. بل آمركَ، بالحبّ الذي أكنّه لكَ، وبالصداقة التي نتفرّد بها، آمركَ بأن تموت. وفوراً. وبدون أيّ إرجاء.
ويا داود أبي، من أجلكَ، لا من أجلي، يجب أن تموت. يليق بكَ، أيها الشيخ الجميل الأنوف، أن لا تظلّ تموت كما أنتَ فاعلٌ منذ ثلاث سنوات وأربعة أشهر. لكأنكَ عائشٌ أيّامكَ حقاً، بدون أن يساوركَ قنوطٌ من هذه الحياة التي لا تزال تحبّها، كما لو أنها ماثلةٌ أمامكَ في المقبل من الأيام، لا في الوراء البعيد.
وإذ أُكاتبكَ باسم نفسي، فظنّي أنّي أنوب، من باب العرفان، عن كلّ الذين لم يعد في مستطاعهم أن يسكتوا على موتكَ اليومي البطيء، وعلى شعوركَ العظيم بهذا الموت المهين.
لا أنانيةً، أريد هذه الإرادة، بل حبّاً وصداقةً. وها أنا أقول لكَ بالقلب المترع، وبالعقل المترع، إننا لم نعد نريد، لا أنا، ولا أخواتي، ولا إخوتي، ولا أمّي، ولا أحبابكَ الكثر، أن تكون شاهداً، ولا أن تكون شهيداً.
كلّ لحظةٍ من عينيكَ التائهتين، كلّ لحظةٍ من كبريائكَ الجريحة، كلّ لحظةٍ من جسدكَ المهيض، تجعلني قتيلكَ، يا أبي. فليتني أستطيع الآن، في هذا الليل بالذات، وقبل صياح الديك، أن أكون أنا قاتلكَ، يا أبي، ليكون هذا صنيعَ حياتي الذي لا يعدله صنيع. لكنّي لا أملك أن آتي عملاً عادلاً وكريماً ونبيلاً كهذا، لأني جبانٌ حقاً، وضعيفٌ حقاً، ولأني ربّما لا أستحقّ أن أُدعى لكَ ابناً. فيا لهشاشتي!.
إسألْ مسيحكَ، كم ينبغي لهذا المسيح، الذي لا تزال تؤمن بأنه يقيم في صدركَ، أن يأخذكَ إليه للتوّ. إنني لا أعرف حقاً، أيّ حكمةٍ، بشريةٍ أو سواها، في أن تُترَك على خشبة جسمكَ المفعم بالعذاب المجحف هذا.
عشية جلجلتكَ السنوية الرابعة هذه، وعشية فصحه هذا، إسأله أن يأخذكَ أخذاً رقيقاً لطيفاً سخيّاً، وعلى غفلة، لتنضمّ إليه في جبل زيتونه القدسي، فتسهر سهرتكَ الأنيقة هناك، بدون نعاسٍ أو نومٍ أو مهانة، وتكسر الخبز والخمر معه، على هدي إيمانكَ القويّ، إلى آخر الأزمان.
وإذ أكتب إليكَ هذه الرسالة الملأى بالفجاجة الغريبة، في هذا الهزيع المتأخر من الليل، فرجائي أن تكون قراءتكَ المثلى لها هي فقط مغادرتكَ المرتجاة لجسدكَ المهزوم هذا، الذي لم يعد لا المكان، ولا البيت اللائق بفروسية حياتكَ النادرة.
سلامي إليكَ.

***

- مات أبي في الصباح تاركاً لي في عينيه التائهتين سرّ الجينات التي ورّثني إياها. اختنق بالحبّ فمات. غصّ بحشرجاته فامتنع عنه الهواء. كان عنده الحبّ كلّه. لا أدري كيف تحمّل أن يجرجر جسداً مهيباً طوال ثلاثةٍ وتسعين عاماً من الحبّ؟ لستُ أدري...
- دعه ينَمْ.
- كنتُ أرغب له أن يكون مات قبل ثلاثة أعوام. من أجل أن يحتفظ بصورته التي شيّدها لنفسه، قامةً مديدة من فروسيّات الشغف والأناقة والكبرياء. كان يجب أن تشاهديه يبكي صورته الآفلة تلك.
- فضّلْتُ أن أكتفي برؤيته في جسمكَ، في صوتكَ، وعينيكَ. أعرف أنّه يشبه كتاباتكَ. وأنّه قامر بكلّ نسمةٍ من رئتيه من أجل امرأة. صورته متكاملة عندي، ولم أكنْ أرغب في إضافة أيّ تفصيلٍ آخر.
- كان سيُغرَم بكِ...
- يجب أن تتركه ينام. قلتَ لي إنّه يبدو أشبه ما يكون بشخصٍ يحلم بعدما أخذ سرّه معه. لقد ترك لكَ أن تظلّ تحلم بسرّه. أعتقد أنّكَ يجب أن تكون سعيداً بموته.
- كنتُ أريد أن أمارس عليه الموت الرحيم، كي أُوقِف عذابه المتباطئ والمهين. كان يعشق الحياة، لكنه لم يعد يستطيع أن يعيشها. لقد هاله أن جسده أصبح مُهاناً وذليلاً.
- كنتَ تُجالسه يوميّاً، على ما أظن، وكان كأنّما الحياة تعود إلى جسده كلّما رآك...
- كما أنتِ كنتِ تفعلين، على ذلك الكرسيّ، الذي لطالما جلستِ عليه في غربة الشخص والجسد والمستشفى.
- طويلاً طويلاً تقمّصتُ ذلك الكرسيّ، حتى صرتُهُ في صمته، في بياضه، في صقيعه وليله.
وأنتَ، كم عميقٌ موتكَ البهيّ هذا.
- وأنتِ كم عميقٌ عيشكِ فيَّ...

***

- شفت مقالك اليوم بالجريدة عن بيروت، إلّلي سمّيته "المدينة الأمّ". غريب إنّو بعد في عندك أمل رغم اليأس الّلي مغرّق المقال، وإنّو بعدك بتحبّ لبنان وبتحزن عليه. صرت إكره كلّ شي إسمو لبنان لأنّو موصوم بلعنة التاريخ والجغرافيا. من وقت ما خلقت، بِشْعر إنّي عايشي بمقبرة. وين ما بتطلّع بشوف الموت. أنا وعم إقرا أو أكتب أو إمشي أو اشتغل. حتى إنّي أحياناً بصير بهلوس وبشوف قدّامي كوابيس وتخييلات. شي بيخوّف. أحياناً الجنون فشخة. ما بدّي صير مجنونة. ما بقا بِقدر إحمل. قلبي صار حجر. لازم الواحد يكون وحش منشان حالو. هيك بِشعر إنّي بِقدر كفّي حياتي. ما فيّي ضلّ بها الحلقة المفرغة إلّلي إنت عايش فيها...
- أحياناً بِطْلع من تيابي. بقول لعقلي بدّي هِجّ وفِلّ. أو بدّي ما فكِّر. يا ريت بقدر ما فكِّر. يا ريت دماغي بيصير أرض محروقة. في أجمل من الخرف أو النسيان؟! بس بالحقيقة هيدا شي أقوى منّي. ما فيّي إكره ها البلد. موجود بدمّي. متل الشبق. أو الشغف. أو الغرام. أو القمار. أو الوباء. ما بِقْدر إطلَع منّو. أحياناً بيعنّ عا بالي الانتحار. أحياناً ببْكي بالسرّ بيني وبين راسي لأنّي ما بِقْدر إعمل شي للبلد يوقّف دورة الوجع والدم.
- ما إلَك إلاّ بروست. رْجاع شوفو. هوّي وحدو بيفهم عليك وبتفهم عليه. لولا بروست كنت ضلّيت متلك، عم دور بالمطرح نفسو. بروست عرف سرّ المسألة الوجوديّة، وقال للإنسان إنّو الحلّ موجود فيه. رْجاع شوف الكتاب، هيك بتتصالح شويّ مع حالك.
- مش عم إبحث عن زمن ضايع. عم إبحث كيف بِقْدر ساهِم بوقف ها الجنون العبثيّ. وكيف بِقْدر عيش حياتي. مشكلتي هيّي مع الشرط البشريّ. مع الإنسان مطلقاً، مش بس مع حالي. ما فيّي قنِّع نفسي إنّي ما بِقْدر إعمل شي. وإنّو الشرّ لازم حكماً يربح.
- تعا معي، حاولت مبارح زور معرض إدوارد هوبر بـ"القصر الكبير"، ما قدرت شوفو بسبب العجقة. إدوارد هوبر هوّي عندي شاعر اللحظة، لحظة الحياة غير القابلة للتكرار. كمان في كتاب بدّي فلفشو بالمكتبة. يمكن اشتريه. شو رأيك نشرب قهوي ونمشي شويّ؟! هيك بينكسر جوّ الموت. أنا عازمتك عا الغدا، وعا السينما كمان. في فيلم حلو لمخرج إيراني...
- أنا بساعدك تشوفي معرض هوبر. هيك منتجنّب الوقفة بالأرتال الطويلة إلّلي ناطرة. كنت حابب شوف معرض عن الغَجَر بـ"القصر الكبير"، قبل كم يوم. هلّق خلص. يا ريت بِقْدر كون متل الغجر. بيحملو حياتن معهن وين ما يروحو. وما بيطّلّعو لَوَرا.

***

- أين كنتَ؟
- ذهبتُ إلى متحف جاكمار أندره. وقد أخَذَتْني الزيارة إلى عالمَين مختلفَين، عالم الفن الإيطاليّ، عصر النهضة، والعالم الفرعونيّ. لا أزال مشبعاً بالنقيضَين.
- هل تأملتَ كرينوس ملتهِماً أجنحة الحبّ؟
- نعم تأملت. وقفْتُ طويلاً أمام تلك اللوحة. أعتقد أنّها لفانديك. المهمّ أن تعاش اللحظة إلى آخرها.
- ماذا تفعل اليوم؟
- أذهب إلى جورج بومبيدو. هناك معرضٌ مثير أريد أن أستسلم له؟
- ماذا أيضاً؟
- تحرّشتُ بالخادمة التي تنظّف المكان، لكنْ بطريقة بالغة التهذيب.
- ماذا قلتَ لها؟
- قلتُ إنّي كاتبٌ وأُحِبّ أن أجري حواراً معها حول الحياة. دردشة من أجل تركيع الوحش...
- ماذا قالت؟
- قالت إنها تخاف الحياة لأنها متوحّشة.
- بماذا أجبتَها؟
- لم أُجِبْها. ولم أنتظرْ منها جواباً. تركتُ لها قصاصة ورق، فيها رقم هاتفي النقّال.
- هل تعتقد أنّها ستوافق؟
- لا أعرف. بل أعرف. لا، لن توافق بالطبع. هذا على كلّ حال ليس مهمّاً للغاية. المهمّ أنّي شعرتُ بالرغبة في الحديث معها. شعرُها الطويل ووجهُها الحزين أشعراني بالهشاشة البشريّة.
- أهي فرنسيّة؟
- لستُ أدري. ملامحها تدلّ بالتأكيد على أنّها أوروبية من الهوامش.
- وماذا لو وافقتْ؟ هل تدعوها إلى فراشكَ؟
- لم يخطرْ في بالي مثل هذا الأمر.
- أنتَ تكذب. لا بدّ أنّ شيئاً من هذا قد عبر في تهويماتكَ الجنسيّة.
- لستُ أدري. صدِّقيني لستُ أدري. قد يبدو هذا غريباً لكنّي لستُ من هذا النوع. أنا أُحبّكِ ولا أفكّر في أيّ علاقةٍ أخرى، وإنْ عابرة.
- كلام سخيف. مجرّد كليشيه تعميميّ على غرار ما يفعل معظم الذكور العرب.
- لكنّي لستُ ذكورياً. في هذا المعنى، لستُ عربيّاً.
- إذاً لماذا تحرّشتَ بها؟
- لم يكنْ تحرّشاً. كان يهمّني أن أسمعها تتكلّم. أن أُنصِت إلى زعل عينيها. إلى تعابير وجهها. إلى يديها وهما تتكلّمان.
- ماذا أيضاً؟ كلامكَ عنها يجعلني أُستفَزّ جنسياً. أنتَ تحرّك أحشائي. أريدكَ...
- رجوتُكِ أن تأتي. قلتُ لكِ إنها المرّة الأولى أسافر وحدي منذ أعوامٍ طويلة. كنتُ أرغب أن أجرِّب عذريّتي معكِ في باريس.
- أخبرْتَني أنّكَ كنتَ في متحف أورسي. هل أستفزّتكَ عاريات ديغا؟
- بل تألمتُ كثيراً. يؤلمني العري لأنّه يفضح.
- وتلك الفتاة السوداء التي كانت تزور المعرض، لماذا كنتَ تلاحقها؟
- لأنّ عريها كان ينافس عري اللوحات. كنتُ في منزلةٍ بين الاثنتين. كيف لي أن أُحِبّ الفنّ ولا أُحِبّ الواقع؟ كنتُ على وشك أن أقول لها ذلك، لكنّي خفتُ أن أجرحها.
- تريد أن تقول إن لوحة الواقع كانت أجمل من لوحة الفنّ.
- لا يمكن المقارنة. لقد أقلقني جمالها. وأحببتُ أن أستسلم لكونها جميلة.
- بل لكونكَ أكثر قرباً من حيوانيّتكَ...
- أُحِبّ الحيوان عندما يستيقظ. أُحِبّه عندما يسحبني من أوهام الفنّ إلى فجاجة الجسد.
- ليتكَ هنا...
- بل ليتكِ هنا...

***

- صباح الخير يا سيّدتي. لم أعدْ أرى ما أكتب. أحياناً يرتجّ الميزان. أحتاج إلى أن تقرئيني بالعقل وتسدّدي كلماتي قبل أن أتحرّر ممّا أكتب. هل تعرفين كم أشعر بالخوف والقلق والشكّ حيال ما أكتب؟ أمضيتُ حياتي في قراءة نصوص الآخرين، لكنّي في لحظةٍ ما، لا أعود قادراً على قراءة نصوصي ومقالاتي.
- قرأتُكَ عن الشرط البشريّ. رائع. هناك مقطع ربّما يُستحسَن حذفه بسبب خصوصيّته الشخصيّة. أنتَ يا سيّدي كائنٌ أعلى. الكاتب فيكَ يحتلّ الرتبة نفسها. ليس لي أن أرتفع إليكما. ليس لي سوى أن أنحني.
- كيمياؤكِ الوجوديّة. ذكاءُ أنوثتكِ. جسدكِ الذي يقول ولا يقول. شخصيّتكِ النقديّة. عقلكِ النبيه. غرائزكِ التي تنضح حكمةً. جنسكِ الذي يسيل... من أين لي أن أرتفع إليكِ؟ من أين لي أن أنزل إليكِ؟ بعد قليل، شهر، أو شهرين، أو ثلاثة، ينكشف للقرّاء كم أنتِ متواضعة، وكم كتاباتكِ الكيميائيّة تستحقّ أن تكون في متناول دور النشر والمكتبات واللغات الكبرى. قولي لشخصكِ. للجسد. لوعيكِ. للاّوعي. إن الكائن الكاتب الذي تتحدّثين عنه إنْ هو الآن سوى مرآة لما تفعلينه به، كينونةً وكتابةً.
- كيف، سنتذاكَ، لم أنتبه إلى هذا كلّه؟! كيف لم أرَ سوى خوفي منكَ؟! خَوَّفَني جنوحكَ المستفِزّ. هجومكَ الأهوج. هو، هو، الآن، أستعيده لدى رؤيتكَ والاستماع إليكَ، رجعاً لبحرٍ هربْتُ منه في أحد الأيّام...
- كلّما لمسْتُكِ تذكّرْتُ كم أنا أحمق.
- كلّما لمستُكَ تذكّرْتُ كم أنا حمقاء.
- تجعلينني أسرق الحلاّج، مؤنِّثاً دعاءه الإلهيّ: "يا دليل المتحيِّرين زيديني تحيّراً". جسدكِ الأحمق، يزداد حماقةً. رعونتكِ، النزق، الصمت، الشبق المتكبّر، المتعالي، قدماكِ العاريتان، قوامكِ الحافي، كيف لي أن أتحمّل هذا كلّه؟ كلّما عشْتُكِ، كلّما نظرتُ إلى ما كان بيننا، اعتقدْتُ أنّه كان عليَّ أن أخطفكِ. أن أضع والديكِ أمام الأمر الواقع. كان عليَّ أن أبتزّهما. أن أقول لهما إنّي أريد فديةً. كان عليَّ أن أتّخذكِ جاريةً. أن أستبدّ. أن أكبّلكِ. أن أرميكِ وراء جدرانٍ مظلمة...
- كان عليَّ أن أتّخذكَ سلطاناً يا سيّدي.
- بل كان عليكِ أن تتّخذيني عبداً. أن تنكّلي...
- استعبِدْني. جمِّحْني. تعال.
- أنا طوعكِ يا سيّدتي.
- أنا يا سيّدي جنسكَ الثاني.
- لم يعدْ يهمّني أن أكتب. أن أنقّح كتابتي. لستُ أنا مَن يعتقد القرّاء أنّه يكتب. ثمّة شخصٌ فيَّ هو جسدكِ الأهوج، وهو الذي يكتب. لستُ الشخص الذي يُعتقَد أنّي أنا. عبثاً أحاول أن أكون كاتباً...
- أرغب في مداعبتكَ بشفتيَّ.
- ها أنا آخذكِ بقوة. بعنف. بذكورة الوحش الشاهر أسنانه. لقد أُعطِيتُ نعمة أن أشرب نبضات جسمكِ. تشنّجاته. أن أُوعّي رغباته والغرائز. أن أُصبِّحه بالجنس. أن أُمسّيه بالجنس. وأن أُدلِّك نومه الدفين... ماذا تفعلين بي؟ أيُّ شيطانٍ أنتِ؟ رأسي يدور.
- لم أعدْ خائفة. كنتُ خائفة. ثمّ لا. عينايَ تنتظران وقتكَ. لم أعدْ أرغب في رؤية شيءٍ آخر. خذْني.
- أنا مريضُكِ، فممَّ أخاف؟! الكاتب يستسلم للعشيق. العشيق يستسلم للسذاجة الحلميّة. لا يُركِّع الكتابةَ الآن سوى الحبّ! فلتركع الكتابة! يا حبّ، يا حبّ، اقتلْني كاتباً. واقتلْني عشيقاً. أَعطِني عبقريّتكَ لكي لا أُنجِز هذه المرأة. لكي لا أتحمّل حضورها. ولا غيابها. تنوب عنكَ غيرتكَ عندي فأمرض بغيرتي. يا حبّ، يا حبّ، اصبِرْ على جسدي. على هلوسات الجسد. قلْ لي يا حبّ، أين أنوّم رغباتي هذه الليلة إذا لم يتيسّر لها أن تجيء؟! أو إذا تيسّر لها أن تجيء؟! في ضوء أيّ قمرٍ، تحت سقف أيّ هاجسٍ أو بيت، أنتِ الآن؟ قولي للرجل الذي قد يعتليكِ هذا الليل، إنّه ليس هو. وإنّه قناعي. أريد أن أنامكِ لأحيا بنومكِ، بعينيَّ المغمضتين ورأسي المفتوح على لاوعيه.
- كم أنتَ حدسيٌّ، ورؤيويّ! كلّما فكّرتُ في جواب، رأيتُه مكتوباً لديكَ. هل من حاجةٍ إليَّ بعد الآن؟! كلماتكَ تتفجّر. تتفجّر فيَّ. عطورها اللاّ نهاية لها تسمّم غرائزي. تصير هي غرائزكَ. فإلى أين أهرب؟!
- لا تهربي. لم يكن عندي حياة. أنتِ أعطيتِني حياةً أحياها. جمالكِ لا يُكافأ. خذي عطاءكِ فيَّ. خذيه لأموتكِ أكثر. لتكون لكِ حياةٌ مديدةٌ وحبٌّ مديد. أنتِ بعيدة. أنا بعيد. سأجيء هذه الليلة مقنَّعاً بجسد رجلٍ آخر، بكتابات رجلٍ آخر، بأعمال رجلٍ آخر. من أجل أن يكون لي أن أسهر مع عينيكِ. لا تأخذيني بطفولتي. سأنام هنا، على بوّابة الجبل. فقط لأكون على مقربة. وإذا أمعنتُ فسأكون فراشكِ. الباب. الثياب. أو أيّ شيءٍ آخر. فقط لأراكِ. لو تعلمين فقط، لو تستطيعين فقط أن تعلمي كم!
- لا أرغب أن أعلم. أنا فقط أستسلم. قاومتُ كثيراً. هربتُ كثيراً. أذللْتُكَ كثيراً. لم أعدْ أستطيع. كنْ رومنطيقيّاً. كنْ مَن تشاء.
- أجملُ ما فيكِ أنّكِ تستعبدين. وتنكّلين. فلا تتبدّلي. ولا تضعفي أمام جنوني لئلاّ أستبدّ.
- أنتَ تثير عقلانيّتي بجموحكَ. من أين لكَ هذه القدرة على الاستفزاز؟ جمِّحْني بعد.
- لا تقبلي بي مجنوناً في جنينة عقلكِ. لا ترضخي. كم عليَّ أن لا أكون مجنوناً لكي أظلّ. أعطِيني أيّتها العشيقة أن أجعلكِ تظلّين تغضّين. أعطِيني أن لا أخذلكِ في جنوني. أعطِيني أن أكون مجنونكِ لكي أظلّ قريباً من لاوعيكِ الهارب. كم أنا متناقض! غرائزكِ تفتح باباً لي على حياةٍ لم أعِشْها. هواء جسدكِ يقيمني في الأودية الماجنة. أنا قتيلكِ، فأمعِني. لستِ جميلة، لكن جمالكِ قاتل. أكثرُ جمالكِ غير ظاهر. أكثرُ جمالكِ في عمري الذي لم أعِشْه. أكثره في قلبي وفي نخاع رأسي. لكنْ، هل أنا غنيٌّ بكِ بما يجعلني أتحمّل غيابكِ هذا الليل، وكلّ ليل؟ لا تُراهِني على التعقّل...
- ليتني جارتكَ...
- ليتني جاركِ. أقلّه أراكِ. قبل قليل رأيتُكِ أمامي. هل رأيتُكِ حقاً أم رأيتُ فعلكِ فيَّ؟ بعد قليل لا أعود أنا الشخص الذي رآكِ. بعد قليل أصيركِ، لأنّي أصير ماءكِ الرطب فيَّ. كلّ مَن يراني بعد قليل سيقول إنّي هي. إنّي أنتِ. هذا خير ما يمكن أن يكون عليه هذا الليل. ليت النهار يكون هكذا. لتصيري ليلي ونهاري، فلا أحتاج بعد الآن إلى قناعٍ كهذا القناع الذي أنا. أنتِ أنايَ يا امرأة. فما أجملني. أنا لا أدري يا الله. لقد خاطبتُكَ من قبل أكثر من مرّة وقلتُ لكَ إنّي لا أدري. وها هذه المرأة تزيدني لاأدريّةً. لا بدّ أنّ إلهكَ يضمّها إلى ملكوته، أو يقيم فيها. ما أجمل أن يكون إلهي امرأة! ما أجمل أن تتخلّى ذكورة الله عن كونها ذكورةً!
- زدْني تأنيثاً. أو ألوهةً...
- أنِّثيني...
- تحت قناع السذاجة، أشعر كم أنتَ عاهر. تحت قناع العهر، أشعر كم أنتَ قدّيس. عجباً، كيف يجتمع العهر بالقداسة. كيف يتآخيان. ويتساقيان لديكَ!
- كان يجب أن أراكِ قليلاً هذا المساء. أن أراكِ من بعيد. أن أذهب في نزهة إلى جبالكِ، لكي أعبر من على مقربة. لكي أراكِ فقط. كان يجب أن أفعل هذا لأربح عينيَّ هذا المساء وأربح عينيكِ. الغيرة تأكلني لأنّي معكِ. لأنّي لا أتحمّل نفسي معكِ. برهانُ جدارتي هو عدم فوزي على غيرتي.
- جسدي برهانُكَ. لن يكون لكَ برهانٌ هذه الليلة.
- كحالة شخصٍ يفوز بقلبه الأخير. كحالة شخصٍ يلفظ قلبه الأخير...
- مُتْني أكثر.
- أَلا تَرَين، لم يبقَ فيَّ شيءٌ يُقتَل...
- لم تمتْ جيّداً. متْ أكثر. لأقهقه فوق جسدكَ المتلاشي...
- يكفي أن ترتعشي. وأن تبتسمي لأموت أكثر. كلّما افترّت أسنانكِ، سقط في جسدي قتيلٌ جديد.
- كلّما تكلّمتَ، كلّما نظرتَ، انهار فيَّ حصنٌ كنتُ أعتقد أنّه لن ينهار بعد الآن. كلامكَ قاتل. نظراتكَ فادحة. أغمضْ صوتكَ وعينيكَ عليَّ...

***

- ماذا تفعلين؟
- أشرب. لا بدّ لي من أن أشرب. من أن أتّكئ. ها أنا نافذةٌ على هاوية.
- لماذا تشربين؟ لماذا تتّكئين؟
- ... كي أراكَ.
- أنا أيضاً أشرب هذه الكأس الثالثة لأراكِ. لكنّ هذا الشراب لا يكفي. كم أحتاج إليكِ لأسكر. العرق يوقظ. أريد حليبكِ...
- أعْطِني حليبكَ لتتعهّر فيَّ أكثر.
- أنتِ بعيدة. أنا بعيد. ليس عندي بيتٌ أنام فيه. ليتكِ جسدي لتكوني لي بيت الجسد. بدِّدي رائحتكِ لأنّي أرغب أن أتخلّى. اسفكي عمركِ عليَّ، لأنّي أرغب أن أنسى عمري. اكتبي اسمكِ في دماغي لأنّي أرغب في أن أنسى اسمي. أعطيني قليلاً منكِ لأحيا. القليل فقط لكي أتمكّن من أن أقول لكِ كم قليلٌ حبّي. لا بدّ لي من أن أحتقل بكِ على طريقتي. بالصمت الذي يسيل. بالدوار الذي يخاطب، ويرسم خريطة العيش، ويمنحني أن... آه كم أنا ساذج. كم تسقط كتابتي في جحيم جسدكِ، ولا تصل إلى جحيم جسدكِ. كتابتي قليلة، تافهة. جسدكِ كثير. يا لسذاجة كتابتي، كم أنا غير قادرٍ على أن أكون كاتباً لجسدكِ.
- ما أجمل هذه النافذة. تجعلني أنسى أين أنا.
- تقفين أمام نافذة. أنتِ النافذة. وأنا أشرب النافذة.
- أنتَ شاعر.
- أنتِ امرأة.
- أنتَ جريءٌ أحياناً، لكنّكَ في الواقع خجول. لكأنّكَ في عذريّتكَ الأولى...
- أنتِ الجديرة بكلّ خجل. أنتِ الجديرة بكلّ عهر. من أين لي أن أكون جديراً بأسراركِ؟! ترفعين أسواراً، لكنّكِ سرعان ما تهدمينها، لترفعيها من جديد. لذا أنا مرتبك.
- لبِّكْني بعذريّتكَ.
- لبِّكيني بعهركِ.
- تهجم بسذاجتكَ، فلا توحي بأنّكَ ذكيّ. مع ذلك...
- أنا خجولُكِ بسبب الجهل. فكيف يمكنني أن أخاطبكِ وأن آخذكِ، وكيف يمكنني أن أفكّك عمري لأذوب أكثر. وأصير أكثر. أحتاج إلى تمارين كثيرة لأصل إليكِ. كلّما وصلتُ ظهر لي أنّي لن أصل كفايةً، وأنّي أريد أن أسافر أكثر لكي تنزلقي من نافذةٍ إلى قاع، حيث تعودين إلى الإيمان بقدرة هذا الحبّ على صنع ما لم يعدْ ممكناً صنعه في الواقع. كتابتي أقلّ من جسدكِ...
- مَن أنتَ يا رجل؟
- يذهب اليكِ كلامي، وفي ودّي أن أذهب أنا إليكِ. مَن يحملني بالجسد لكي أنامكِ. ومَن يحملني في الهواء لأكون بعض هوائكِ. ومَن يأخذني إلى القمر لكي أراكِ مثلما يراكِ صيف هذا القمر. ومَن يأخذني إلى الغيم لكي أسهر عليكِ، كغيمٍ أبيض. ومَن يأخذني إلى النجوم لكي أسامركِ قليلاً. ومَن يستطيع أن يجعلني بعضاً من حلمكِ المهلْوِس هذه الليلة لكي أكون بعضاً من حميميّات ليلكِ. ومَن يعطيني أن أكون رموشكِ لكي إذا أغمضتِ أكون هناك على مقربةٍ من عينيكِ الرافلتَين. ومَن يعطيني أن أكون أصابعكِ لكي إذا رغبتِ في زيارة مكانكِ الحميم، أكون أصابعكِ على مكانكِ الحميم. ومَن يعطيني أن أكون قناعاً لليلةٍ وحيدة لأكون جسد ذلك الرجل، فقط إذا رغب فيكِ. ومَن يعطيني أن أكون عشيقكِ السابق لكي آخذ منه بعض حبّكِ له. مَن يعطيني هذا وغيره، لأكون جديراً بوجودي وجسدكِ.
- كم جميلٌ أنّكَ تُهلوِس. كفتىً خارجٍ من المدرسة الثانوية. كم أنتَ ساذجٌ ولذيذٌ لأنّكَ هكذا. لكن هل تعتقد أنّي بسذاجتكَ المثيرة هذه أصل إليكَ، وتصل إليَّ؟
- لا أعتقد شيئاً. أنا كما أنا. لا تسخري من بداهتي. كنتُ ميتاً. الجميع يعرف ذلك. وقد كتبوا اسمي في سجلاّت الموتى. وهم قرأوا وثيقة ولادتي ووجدوني ميتاً. ها أنتِ تكذّبين وثيقة ولادتي وسجلّ موتي، وتكتبين لي الحياة مرةً أخرى. فبماذا أكافئكِ، وكيف أردّ الدَّين الذي في عنقي. ضمّي حياتي إلى حياتكِ لكي تعيشي أكثر وتكوني سعيدةً أكثر. هكذا أفي دَيني لكِ وأتابع رؤيتكِ من موتي، وأنتِ تحيين حياتكِ وحياتي. لا تعودي بي إلى البيت. لا أريد بيتاً بعد الآن. لا تعودي بي إلى الكلمات. لا أريد كلماتٍ بعد الآن. كنتِ تقولين لي إنّ الحياة حلوة وتستحقّ أن تُعاش، وها أنا أكتشف مجدّداً أن الحياة حلوة وتستحقّ أن تُعاش. فكيف كنتُ غافلاً عنكِ. كيف كنتُ غافلاً عن حياتي. كيف سُمّكِ في قلبي. في دماغي. وأنا فرحان. أشربكِ كأنّي أشرب فردوساً. فيا لجمالكِ فيَّ! أنتِ عجيبة قلبي. القلب الميت، قلبي، ينهض من قبره مثلما قام ألعازر من القبر بعد ثلاثة أيام. يدكِ عليَّ إلهٌ. أنا مؤمنكِ وتلميذكِ. خذيني إلى البحر لأمشي على بحر...
- كم أخافكَ...
- ليس من حدودٍ لحبّي. لن يكون ثمّة حدود. كلامي ساذجٌ وناقصٌ لأنّه يشرح. جمالكِ فيَّ فوق الشرح. بعد الشرح. يا خجل الكلام لأنّه لا يقدر أن يكون على مستوى ما أنتِ. أنا شخصٌ ذائبٌ تحت شمسكِ...
- يشبه صلاةً، نصّكَ الأخير. أدفع الكثير من أجل أن أمضي السهرة ملتصقةً بكَ وبكلماتكَ.
- أدفع كثيراً من أجل أن...
- عهِّرْني...
- أنتِ عاهرة. وأنا أحبّكِ يا عاهرة.
- تابِعْ سذاجتكَ. أنتَ لا تعرف أن تكون عاهراً...
- ولا أعرف أن أكون كاتباً لعهركِ. لذا يسقط كلامي في الفخاخ السهلة.
- قلْ أكثر...
- خُذي قلبي فقد تكونين جائعة، وإذا لم يكفِ، فاجرُدي لحمي عن عظمي. ويا حبيبتي، إذا كنتِ عطشى، أهديتُ إليكِ مائي. وإذا كنتِ ناعسةً، أعطيتُكِ نومي. وإذا كنتِ متأرّقةً، أهرقْتُ لكِ سريري. وإذا كنتِ متعبةً، صنعْتُ لكِ من أحلامي راحةً. وإذا كنتِ ميتةً، فليس عندي سوى أيّامي لتكون أيّام حياتكِ. لا تعامِليني بالحكمة بل بالجنون. لا تأخذيني بالهداية لأنّ إقامتي هي في بحرٍ لا على ميناء. قلبي ليّنٌ ولا يتحمّل الصيف، ولا حتّى نزول شمسٍ في بحر. ذكِّريني كيف أعود إلى البيت، فأنتِ بيتي. ذكِّريني كيف أذهب إلى العمل، فأنتِ عملي. ذكِّريني كيف أنام، لأنّكِ نومي. ذكِّريني كيف أستيقظ، لأنّكِ يقظتي. ذكِّريني فقط كيف أعيش لأنّكِ حياتي.
- ماذا تفعل بي؟
- ماذا تفعلين بي؟ تذهبين إلى السهرة وأنا في سهرتي وحفلتي.
- هؤلاء، لا شيء. لا أحد...
- لا أريد شيئاً أيّها الساهرون. لا أريد شيئاً. لا السهرة ولا الحفلة. أما مُساهِريكِ فليأخذوني بالحلم لأنّي سكران. وليأخذوني بالنوم لأنّي حالم. وليأخذوني باليقظة لأنّي مقيمٌ معكِ. الساهرون يملكون السهر، وأنا أملك أن أسهر إليكِ حيث أنتِ، وأن أسفّركِ معي حيث معي. أطالبكِ بشيءٍ واحد. أنا على وشك الهاوية. حبّكِ يُبكيني.
- هل قلتُ لكَ كم أنتَ شخصٌ استثنائيّ؟
- أنا مجنونكِ يا امرأة. فكم حضوركِ فيَّ. وكم غيابكِ. وإيقاعات مزاجكِ ومشقّات حياتكِ. هذا هو حبّي. ساذجٌ وهاجِم. كفتىً. أقلّ من ذلك لا يكون حبّاً. قولي شيئاً. من مثل: اذهبْ إلى الجحيم. أو تعال. قولي شيئاً، مهما يكن هذا الشيء. أقسمتُ لكِ من الأساس إنّي لا أريد شيئاً. فأنْ لا أريد شيئاً، يعني أنّي لا أريد شيئاً. هل تعرفين كم أنا غنيّ وحرٌّ هكذا؟ لا أعتقد أنّ أحداً غنيٌّ وحرٌّ مثلي. لا أعتقد. فأنا غنيٌّ بأنّكِ لا تريدين شيئاً وتريدين كلّ شيء. خلِّيني إسمَع صوتِك. بس، خلِّيني إسمَع صوتِك.
- ...
- ثمّ لا أريدكِ أن تحبّيني. لكي لا تتوقّفي يوماً عن حبّي. قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. بل أريد كلّ شيء. ثمّ لن أستطيع أن أراكِ اليوم ولا غداً. هذا لأنّي أريد لا شيء. وأريد كلّ شيء. تستطيعين الآن أن تذهبي إلى النافذة. إلى الغرفة. إلى المطبخ. أو أن تطلبي من خادمتكِ أن تأتيكِ بسكّين. بحبلٍ غليظ. اجعلي السكّين يحزّ عنقي، لا بدّ آنذاك أن تسمعي شهقتي بسبب اللذّة لا بسبب الألم. قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. قلتُ لك أريد كلّ شيء.
- كلِّمْني أكثر. أريد أن أسمعكَ. لأنسى الأصوات. والكلمات. كلِّمْني كلماتكَ...
- ها أنا الآن وقد قلتُ لكِ ما قلته لكِ. إذا رأيتِني فستعثرين على شخصٍ لا يريد شيئاً. ويريد كلّ شيء. أعرف أنّي قد أكون أفعل المستحيل لكي تقتليني بلا هوادة. بلا شفقة. بلا رحمة. بلا ارتجافة. أعرف أنّكِ لن تتطلّعي إلى الوراء بعد أن يمتنع المزاج. تتذكّرين ما كنتِ تقولينه لي عن المزاج البيولوجيّ. أعرف أنكِ لن تتطلّعي إلى الوراء بعد أن تضجري. هذا لا يجعلني أتوقّف عن المقامرة. عن المقامرة بنفسي إلى آخر عنقود. إلى آخر الوقت. قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. أريد كلّ شيء. صحيحٌ أنّي أغار. وأنّي أغار أولاً من نفسي. أغار من جسمكِ. وأغار من يدكِ عليه. وأغار من حكمتكِ. وأغار من قلبكِ. وأغار من مرآتكِ. لكنّي قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. أريد كلّ شيء.
- ليتكَ هنا...
- لا. ضعي يدكِ مرّةً بعد مرّةٍ بعد مرّة. لكي لا يفوتكِ وقتٌ آخر. أقول لكِ أن تفعلي عن المرّات كلّها. عن اللذّة كلّها. عن الليل. عن النهار. عنّي. عن الرجال. افعلي ذلك من أجلي. قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. أريد كلّ شيء.
- أنتَ وحشٌ تحت قناع...
- كيف لي أن أجعلكِ مقيمةً في هذه اللذّة؟ كيف أجعلكِ لا تذهبين إلى عمل؟ لا تهتمّين بطعام؟ ولا بمائدة؟ ولا بحفلة عشاء؟ ولا بأصحاب؟ ولا بأحد؟ كيف أجعل وقتكِ متخصّصاً بحديقة؟ بحديقة الجنس؟ متعبّداً لهذا الوطن الذي فرجُكِ؟ أريد أن أعرف كيف؟ قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. قلتُ لكِ أريد كلّ شيء.
- أنتَ فاجر...
- أنا حالمٌ طفوليّ وساذج. فكيف أسمع صوتكِ الآن؟ وكيف أراكِ؟ وكيف أتلمّس انفعالات جسمكِ وأنتِ بعيدة قريبة؟ وكيف أعثر على تأوّهاتكِ؟ على يدكِ؟ على أصابعكِ؟ إيّاكِ أن تسمعي ما أقول. إيّاكِ أن ترضخي لي. إيّاكِ أن تأتي إلى هنا. إيّاكِ أن تزيحي أصابعكِ عمّا أنتِ مشغولةٌ به. إيّاكِ أن لا تُكملي اللذّة. قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. أريد كلّ شيء.
- تعال...
- لا. قولي فقط أين أنتِ. أريد أن أعرف أين أنتِ. على سرير. أمام مرآة. في المطبخ. في الرواق. على الكنبة. في خيالكِ. في عريكِ الخجول. في ثيابكِ الداخليّة. في مشيتكِ العاهرة. أريد أن أعرف لكي يكون عطائي بلا ثمن. لكي لا يبقى معي خيالٌ أعطيه. قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. أريد كلّ شيء.
- تعال...
- تريدين أكثر؟ أعرف. فتِّشي عن الأكثر تجديه. لا تنظري إلى وراء. اذهبي إلى الأمام. إلى كلّ شيء. أنا لا أريد شيئاً. أريد كلّ شيء.
- تعال...
- ماذا أيضاً يا امرأة؟ ماذا أيضاً؟ إيّاكِ أن تشبعي. إيّاكِ أن تروي عطشكِ. خذي كلّ شيء. نهباً انهبي، وبلا شفقة. اشربي كلّ شيء. الماء كلّه. اللذّة كلّها. الدم كلّه. لكي لا يبقى منّي شيء. ولكي لا يبقى فيَّ شيء. قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. أريد كلّ شيء.
- كم أنتَ مخيف...
- ماذا تنتظرين؟ ماذا تنتظرين لتُلاقيني في هاوية؟ أنتِ تربحين الجبل وتنظرين إلى هاوية. أنتِ تربحين الهاوية وتنظرين إلى جبل. قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. أريد أن تربحي الهاوية وأن تربحي الجبل. وأريدكِ أن تتلذّذي بقتلي كما ستفعلين غداً. أريدكِ أن تأكلي الفريسة كلّها. ولا ندم. قلتُ لكِ أريد لا شيء. ولا ندم. وها أنا أقول لكِ: أريد كلّ شيء ولا أريد أن أندم. وأريدكِ فائزةً على الدوام. رابحة. غنيّة. وتملكين هواء اللذّة بأكمله لكي أختنق. ما أجملني أختنق. ما أجملكِ تربحين الهواء كلّه. لا أريد شيئاً. أريد أن تربحي الهواء كلّه. الجنس كلّه. اللذّة كلّها. خذيني فحسب.
- أنتَ فضيحة...
- بل أنتِ الفضيحة. هذا كلامكِ فيَّ، لا كلامي. تسكتين فأتكلّم، إلى أن أصبح عارياً كشجرةٍ بلا أوراق. كشجرةٍ تحت شمسٍ ساطعة. شمسكِ ساطعة، وأنتِ لا تبوحين.
- ...
- تقتلين وتمشين في الجنازة. ما أجملكِ تمشين في جنازة. لا كلمة. لا دمعة. ما أقوى لطافتكِ. ما أبهى رقّتكِ. أنا ثرثار، وأنتِ بليغة، فكيف لا أسقط أمام بلاغتكِ وثرثرتي؟ لغتكِ أقوى لأنّ لغتكِ صامتة. هذا هو الجنس، يقول الماجن الثرثار. ويقول الكاتب: هذا هو الأدب. لغتي تتكلّم. لغتكِ تفعل. تذهب إلى العمق. إلى الرحم. إلى الدماغ. وهذا يجعلكِ رابحة. ما أجملكِ تربحين. ما أحسنكِ وأنا خاسر. تفوزين باللذّة كلّها، وأفوز بأنّكِ تفوزين. لا أريد الربح. أريد كلّ شيء.
- لا تصمتْ. تكلّم. تابِع. أيقِظْني بالكلمات. نرفِزْني. أثِرْني. هيِّجْني باللغة...
- أيّ شيءٍ أقوله سيكون أدنى من كلمةٍ واحدة تصمتينها. كلّ ما أقوله ثرثرةٌ هو أمام بلاغتكِ الوجيزة. أنا ثرثار، وأنتِ بليغة. ليتني أسكت لأسمع بلاغتكِ وأنتِ لا تتكلّمين. لا أريد شيئاً. أريد أن أسمع صوتكِ. أريد به أن أسمع كلّ شيء. لا أريد شيئاً. أريد فقط أن أراكِ. لا أطلب شيئاً. أطلب فقط أن تنحني عليَّ. لا أسألكِ شيئاً. أسألكِ فقط أن أضع شفتيَّ عليكِ. أن أُنصِت وأنتِ تتأوّهين. أن تُغمِضي. أن تُغمِضي عينيكِ فقط. أن تفتحي فمكِ قليلاً. أن تستقبلي الجنس كلّه. أن يشهق الرذاذ متلذِّذاً بجسمكِ المتلوّي تحت يد الشهوة. قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. أريد فقط أن يغار الليل من شبق جسدكِ. وأن يغار النهار. وأن يموت الوقت غيرةً بسبب ما أنتِ. قلتُ لكِ لا أريد شيئاً. أريدكِ فقط لأنّكِ تريدين وتخافين. وأريدكِ لأنّكِ جميلة. وأريدكِ لأنّكِ تضعين الجسد فوق كلّ اعتبار. وأريدكِ لأنّكِ تصنعين خبزاً وخمراً لمائدة الجنس. وأريدكِ لأنّكِ ترفعين غيمةً إلى سماءٍ عطشى. وأريدكِ لأنّكِ تمطرين. وأريدكِ لأنّكِ لا تشبهين شيئاً ولا أحداً. ولو كنتِ تشبهين أحداً، ما كنتُ سألْتُكِ ولا طلبْتُكِ ولا أردْتُكِ. قلتُ لكِ من البداية لا أريد شيئاً. بل أريد كلّ شيء. كأنْ أريد جمالكِ الصباحيّ وأنتِ نائمة في صباحكِ الافتراضيّ.

***

- بحبّ كتير إحكي معِك. الحكي معِك إحراج، استفزاز، تحريض، تعرية. كتير من الوقت ما بِقْدر إحكي معِك. إلى درجة بتمنّى إنّي اختفي، في حين إنّو أقصى أمنياتي إنّي كون معِك. في نوع من التناقض بكلامي، بَعرِف. بس ما بتقدري تتصوّري كيف أنا خجول معِك، وملبّك، رغم كل الألفاظ إلّلي بِتدلّ على العكس. لو بتعرفي: بْحِبّ قوِّص خجلي. وسيطِر عليه. بْحِبّ كون عدواني معِك، وذكوري. بس هيدا شي فوق قدرتي ومشاعري. بْحِبّ إحكي معِك، وخبّرِك عن حالي، وبْحِبّ كتير إنِّك تخبّريني عن حالِك، وتتعرّي قدّامي، تا شوف حياتِك، وغرائزِك، وشهواتِك، ورجالِك، ومغامراتِك، وضحكاتِك، وخيباتِك، ومراراتِك، وآلامِك، وأرواحِك، وخبايا دماغِك. أشياء كتيرة نحنا مختلفين فيها. أشياء قليلة منتلاقى فيها. أشياء كتيرة بْحبّها فيكِ أكتر ممّا بتتصوّري. بس بخاف منِّك كتير. كلّ يوم بتصوَّر إنّو ما في بكرا معِك. بخاف متل طفل. بس بتجرّأ وبنسى خوفي. وبْغلِّط، إلى درجة إنّي بصير متل أعمى.
- ...
- كنتِ عم تحكيني عن الأهل. قدْر ما أنا بْحِبّ كون مستقلّ وعيش وحدي وما بتحمّل أي سلطة أو تدخُّل بحياتي، أنا ضعيف قدّام إلّلي بْحبّهن.
أنا شخص غريق. تقريباً ميّت. إنتِ الشخص الوحيد إلّلي بيعرف ها الشي. الكلام إلّلي ما قدرت قولو لحدا عن نفسي، عم قولو إلِك، وإنتِ بتعرفيه. يعني إنتِ أكتر شخص بحياتي هلّق قدر يفوت عا راسي ويفتحو. ما تخافي من ها الكلام. كلامي ما بيخوّف. أنا ما بخوِّف. بس خدي كلامي كاعتراف. كحقيقة. بيكفيني منِّك إنِّك حسّستيني بحالي. أقصى أمنياتي إنّي أخدم جسمِك. أقصى أمنياتي إنِّك تكوني. ما عندي حدا إحكيه ها الحكي.
إنتِ الحدا.

***

- سأفترض أنّي أصف نفسي. أنّي أكتب أو أقرأ. سأفترض أنّكِ امرأةٌ موجودة. وأنّكِ تُنصتين وتقرئين. بل سأفترض أنّي أمثل وراء شاشة كومبيوتر، وأنّي أُحاوركِ عبر الـ"سكايب". لكنّكِ لستِ هنا، فيما شاشتُكِ مفتوحةٌ على غرائزها وخيالاتها، أخاطبها وتخاطبني، وأحياناً تلوذ بالغياب والصمت. يُغويني أنّي أختلق ذريعةً تواصلية لأفتح شاشتي على فانتاسماتها وذكرياتها. ويُغويني أنّ شاشتكِ مفتوحةٌ هنا. هل أقول إنكِ أنتِ التي ها هنا؟
- ...
- كان ذلك في حزيران ما. ربّما في أواخر أيّار ما. كان يمشي يومذاك عندما لمحْتُهُ أمام مبنى للسينما. لم يكن يمشي. بل يسيل. ما رُئِي منه، لم يكن الظاهر، بل ما رشح من ضوء الباطن بعد كتمان. شيءٌ يشبه اطمئنان النزف إلى مسربٍ يقيه خطر الاحتقان. وصول الروح إلى منفذ، استعداداً للمغادرة.
كان شخصاً عاديّاً ككلّ شخصٍ عاديّ. كملايين يعبرون بدون أن يستفزّ عبورُهم عينَ أحد. كان ضجّةً غير مسموعة في فراغ. حجماً لا يتّخذ حجماً. شجرةً تئنّ في صمتها. فنجانَ قهوة متروكاً إلى غربته على طاولة.
رجائي أن تكوني هنا. رجائي أنّكِ تسمعين.
- ...
- سأفترض أنّكِ هنا. وأنّكِ تسمعين. قد تسألين هل من الممكن أن يكون شخصاً آخر. لا. إنّه هو. كائنٌ غير اجتماعيّ. فجّ. لكنه لا يشبه أيّ كائناتٍ أخرى. غائمٌ كغيمة. مُبارِحٌ كظلّ. قليلٌ كنسمة هواء. خفيفٌ كرائحة ليل.
ستسألينني لماذا ذهب إلى هناك؟ لماذا كان عليه أن يكون، حيث ليس ثمّة شيءٌ يفعله هناك، أو شخصٌ يمكن أن يلتقيه؟ لماذا كان عليه أن يغيب كلّ هذا الوقت، خمسة عشر عاماً، ليحضر في تلك اللحظة، ليكون في ذلك المكان بالذات؟ في ذلك الوقت بالذات، وقت خروج الاحتمالات إلى مداها الأقصى؟ هل كان عليه أن يحدس أنّ شخصاً آخر، أنّ "الشخص الآخر" ذاهبٌ إلى حيث يرتطم به؟ ثم، هل كان ثمّة "شخصٌ آخر" محدَّد، ومنتظَر، لا بدّ أن يعبر من هناك، كي يكون هذا الارتطام تدبيراً كونيّاً؟ هل كان ينتظر في اللاّشيء، في اللاّأحد؟ أهو الهرب أم اللجوء؟ العبث أم الحدس؟ حجر النرد أم الغلط الوجوديّ نفسه؟ أكان يبحث عن شخصٍ غامضٍ وهارب يمّحي فيه؟ أم كان يواصل إمعانه في إرضاء غرور العدم؟
- خلِّصْني بقا. تابِع. جَعَلْتَني أُستفَزّ. كما لو أنّكَ تكتب قصة تشويق غرامية...
- إذاً أنتِ هنا. سأتابع:
كان شيئاً غير قابلٍ للتصديق. فهو منذ أعوام كثيرة، لم يعد ينتظر حدوث شيءٍ كهذا، في جسده المهجور. كان يعتقد أنّه صار أرضاً محروقة. وأنّه بات رجلاً سابقاً، تيمّناً برواية تحمل عنواناً شبيهاً. لم يكن يصدّق فعلاً أنّ هذا يمكن أن يحدث له بالفعل. أنّ انفجاراً قد يتكهرب من جرّاء التقاء غيمتَين في الدماغ. أنّ برقاً مُعمياً للقلب قد يُعمي العقل أيضاً. أنّ غلطاً كونيّاً من شأنه أن يحرف شخصاً عن مصيره، وأن يكتب له مصيراً آخر. أنّ رجلاً هذا عمره، يمكن أن يعود فتيّاً كما لو أنّه لم يعِشْ من قبل.
- عمْ تحرقصْني. لم أعدْ أستطيع تحمّل التعميات. أوضِحْ يا سيّد. أنا جاريتكَ. بل أنا جاريتُهُ...
- حسناً، سأتابع:
كان مضى له على هذه الحال نحوٌ من ثلاثة أعوام، ربّما أكثر. هو كان يخاطب ذاته خلالها قائلاً: أنا هكذا مذ وُلدتُ. الأوقات التي مرّت ولم تكن على هذا الوجه، كانت هي الاستثناء. أما القاعدة فهي هي. مشيٌ في المتاهة إلى آخر الصحراء. حيث لا آخر. بل محض متاهةٍ داخل متاهة.
كان يمشي عندما وصل إلى هناك. إلى أمام ذلك المقهى تماماً. كان الوقت في حوالى السابعة مساءً. قُبيل ذلك بقليل. بين السادسة والنصف والسابعة. بدا عليه أنّه يبحث ولا يبحث. المقاعد شبه فارغة إلاّ من بعض الزوّار. لكأنّه كان يتمنّى أن يلقى بيتاً يؤويه، أو ظلاًّ يدخله ليغيب فيه. لكنّه كان يمشي على طريقة فطرٍ ينمو بالغريزة، لا بغريزة الحياة. كجرحٍ في أرض. كسماءٍ مثقوبة من فرط المياه.
- خلِّصْني بقا...
- كان يمشي. رأيتُه يمشي في تلك العشيّة. لم يكنْ ثمّة موعدٌ. لا أحد. لا علامات محدَّدة على وجهه. ولا الأسى. سوى أنّه كان مفكَّكاً. كان يقال دائماً إنّ تفكّكه علامة شعرية. لكنّ الأمر لم يكن كذلك في تلك العشيّة. فالتفكّك كان عميقاً ومختلفاً إلى درجة أنّه كان يستحيل إخفاؤه أمام عين. كانت ملامحه غامضة. غائرة. داخليّة. ملتبسة. وكان جسده يتحرّك بمعزلٍ عن روحه. ربّما كانت روحه تتطاير في الفراغ بحثاً عن قبر.
- عمّن تتكلّم؟
- عن الشخص الذي أنا. وعن الشخص الذي قد يكون أنتِ...
- ...
- شعر بضيقٍ في التنفّس. همّ بالخروج من الباب الزجاجيّ الذي يفصل المبنى عن الشارع العام. قال محدِّثاً نفسه إنّه لم يعد قادراً على البقاء في مكانه، خشية أن يفسد الهواء برائحة الدم الذي ينزف من شرايينه المشلّعة. لم يكن يرى شيئاً. بدا له الشارع العام مؤلماً فذهب في الفراغ. آلمه أنّه مكشوفٌ إلى هذا الحدّ الفاجع. كانت كبرياؤه تمنعه من أن يرزح. من أن يرتمي على قارعة. من أن يصرخ طالباً نجدة. لكنّه في واقع الحال كان على الوشك من ذلك.
خرج إلى الشارع العام. لا بقصد الخروج، بل بالغريزة. أقلقه أنّه لم يجد سبباً للبقاء في الداخل. أراد الارتطام بالهواء. بوجوهٍ في الشارع. بالامتلاء. بالفراغ. فازداد ارتطاماً بروحه.
- أين أنا كنتُ؟
- ستعرفين. طوِّلي بالِك.
لوهلةٍ أولى، لم يهرع إليه أحد، مع أنّه كان مضرّجاً بدمه الداخليّ. أثمّة دمٌ نازفٌ لا يُرى، وبسببٍ من ذلك لم يهرع إليه أحد ليشيله من ضيم الدم؟
كاد يقع أرضاً. أو كاد ينفصل عن جسده. ثمّ، فجأةً، ارتدّ إلى ذاته، بقوة تدخّلٍ خارجيّ مباغت. ارتدّ كما لو أنّه "انتقل" من مكانٍ افتراضيّ إلى مكانٍ واقعيّ.
أهو دمه توقّف عن النزف؟ أم هو دمٌ افتراضيّ، ارتدّ إلى شرايينه ليجري في مجاريها، تاركاً للجسد أن يواصل دماره الوجوديّ؟
لكنْ، كيف يقدر المرء أن ينزف، ثمّ يحبس نزفه؟ كيف يقدر هذا المرء أن يكون خارج ذاته، ثمّ، فجأةً، بقوة تدخّلٍ غريبة، يرتدّ إلى قعر هذه الذات؟ أهي قوةٌ واعية، أم لاواعية، تردّه إلى أرضٍ مهجورة؟ ثمّ، كيف، هناك، "ينتقل" إلى مكانٍ واقعيّ ضاع منه، أو ضيّعه بنفسه؟ وهل، حقاً، المكان الواقعيّ هو المكان الواقعيّ؟
عندما خرج إلى الشارع العام، كان ربّما يخرج، من حيث لا يدري، إلى لقاء تلك التي جَرَحَتْه برحيلها الأبديّ المفاجئ.
- عم تحكي عنّي؟
- ها أنتِ أخيراً! سأزعم أنّكِ هنا. وأنّكِ تتقمّصين إحدى مرايايَ. دورَ كاتبة. أو عشيقة عابرة. أو الاثنتين معاً. حاوِريني كما لو أنّي شخصٌ عابرٌ وخفيف. إشارةٌ واحدة منكِ تكفي لأتواصل مع نومكِ الافتراضيّ العميق. هكذا أستطيع أن أحاوركِ راوياً كيف أنّ الدنيا، هذه الدنيا، تأخذ عينيَّ من دون أن تدري، سراجَين لنجمةٍ مضيئة.
هل أنتِ هنا؟ أم أن شاشتكِ المفتوحة على غرائزها وخيالاتها، أخاطبها وتخاطبني؟
- ...
- قولي شيئاً. فبعد قليلٍ ربّما، تستعيد المواهب الماجنة أمزجتها، والكلمات سياقاتها وصفحاتها. بعد قليلٍ ربّما تصنعين فضاءً شيطانيّاً جديداً لمتاهاتي الجديدة.
- ...
- حسناً. سأفترض أنّه الفجر. أو ما بعد منتصف الليل. يحلو لي أن أُحاور أمزجتكِ كما لو أنّكِ لا تزالين نائمة. كما لو أنّكِ تحلمين. أوهِميني فقط أنّكِ هنا، وأنّ غرائزكِ تنمو في الليل، مثلما تنمو شياطين على حافة هاوية. كلِّميني، بإشارةٍ من جسدكِ، كي لا أبقى أكلّم نفسي، كما أفعل مذ وُلدتُ. وكما يفعل ممثّلٌ وحيد على خشبة مسرح... في العرض الذي يسمّونه بالانكليزية "وان مان شو".

انتهى.

استدراك: بترجّاكِ. إذا كنتِ على الطرف الآخر من هذا الحوار، فأرجو منكِ أن تعرفي أنّ في إمكانكِ، من أجل المزاج، استعادة هذه المشاهد لتباشري قراءتها من حيث تشائين، من الأخير إلى الأوّل، أو بالعكس. وإذا إلحّ عليكِ المزاج واستبدّ النزق، يكفي أن تخلعي عري عينيكِ على مشهدٍ ما، لتكون هناك البداية أو النهاية...

للشاعر

وثيقة ولادة، دار الساقي، بيروت، 2011.
إنجيل شخصي، دار النهار للنشر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2009.
سماء أخرى، مختارات شعرية، دار ميريت، القاهرة، 2002.
سراح القتيل، دار النهار للنشر، بيروت، 2001.
افتحي الأيام لأختفي وراءها، دار النهار للنشر، بيروت، 1998.
مقام السروة، دار النهار للنشر، بيروت، 1996.
لم أدعُ احداً، دار الجديد، بيروت، 1994.
تحت شمس الجسد الباطن، دار النهار للنشر، بيروت، 1991.
قراءة الظلام، دار بيبلوس للنشر والتوزيع، بيروت، 1986.
المتكئة على زهرة الجسد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1985.
ماحياً غربة الماء، دار النهار للنشر، بيروت، 1981.

الموقع على شبكة الانترنت:
www.aklawit.com

عقل العويط شاعر وناقد وصحافيّ وأستاذ جامعيّ، يعمل مسؤولاً في "ملحق النهار" الثقافيّ في بيروت، الذي بدأ بإدارة تحريره منذ عام 1997. يدرّس الأدب الحديث والصحافة في جامعة القديس يوسف في بيروت. أصدر الى الآن عشر مجموعات شعريّة، وتُرجِمت قصائده الى الفرنسيّة والإنكليزيّة والإسبانيّة والإيطاليّة والألمانيّة. مقالته "رسالة إلى الله" التي نشرت في الصفحة الأولى من جريدة "النهار"، 11 آذار 2003، عشية الحرب الأميركيّة على العراق، أثارت ردود فعل دينيّة وسياسيّة حادّة، وجدالات كثيرة في الأوساط الثقافيّة اللبنانيّة والعربيّة، وأُحيل بسببها على المحاكمة.