فرج بيرقدار *
(سوريا/ هولندا)

*وقت من حجر

فرج بيرقداربيدٌ إلى بيدٍ
تشيِّعها
بيْدٌ إذا كشفتْ فعن
بيْدِ .
لكأنها حِيَلٌ
بغيرِ يدٍ
ويدٌ تحاولُ دونَ
تأييدِ .
قالوا : أصخْ
فصرختُ : أصعبُ ما
في الولولات صدى
الزغاريدِ .

الوقتُ من حجرٍ
وحالكَ إنْ
رقَّت فمن صمِّ الجلاميدِ .
يا بأس ...
يا دنيا موزَّعةً
ما بين رعديدٍ ورعديدِ .
أأفيضُ من هلعٍ
على عطشٍ
وأغيض من قلقٍ
وتسهيدِ .
هي جمرةٌ تغفو
فيوقظها
قلبي وتحرسها مواعيدي .
هي ألف قبَّرةٍ
إذا نفرتْ
فالشمس بعضٌ من
مقاليدي .

تدمر / 1989 /

هذيان

ما الذي
بين صوتكِ والشجرةْ ؟ !
هي تغمرني بالصدى
هو يشعلني بالظلالْ .
من يرى ما أرى
لن ينامْ
قبل أن تهدل الروح
في المحبرة .

تدمر / 1992/

غرغرة

كلانا انحنى .
بعد أن أكملتْ قوسها القزحيَّ
بكت وردتين وقالت :
لقامتكَ الآن أن تكمل القنطرةْ .
كلانا تبدّل حزناً بحزنٍ
فقلتُ : أنا الشعر
قالت : أنا النهر
قلت : أنا الناي
قالت : أنا القبَّرة .
فردّوا إذن موتكم عن
ضريحي .

تأخرتُ سبع مراثٍ
على نيّة الريح
ليس لكي ترجعوني إلى
غمدكم .
إنَّ لي آية تصعدُ السفح
رؤيا تراودني
ترهف النصل بين ضلوعي
وتمنحني
سدَّة المغفرة .

صيدنايا /1993 /

سُورة الجمر

(إلى صديقي مضر الجندي لم يزل ذاهباً )

أرتِّل جمري
وأضمر أنثى الينابيع
ثم ... أحاول شيئاً
يؤلِّف بيني وبينهما
فلماذا يضيق الفضاءْ ؟!
كأني
تخطَّفني البرق من هجعتي
بعد أن شلشلتْ عرش ظلمتها
ورمتني بداء النبوَّةِ
قالت : لك الليل

واستودعتني كتاب الغيابْ .
تباركَ حزن الذي أينعت روحهُ
فوقَ أنقاضهِ
أتلومونهُ
وهو يبكي على غيرهِ ؟!
ربما لم يكن موقناً
أن خطوته تفتح الغيب
لكنَّه حينَ مدَّ يديه
تخضّبتا بالندى والسرابْ .
إذن
رتلوا جمره معهُ
سيقيس الرثاء على نفسهِ

ثم يرسله لصديق لهُ
كان يخفق ما يشبه الطيرَ
فوق مدارج ضحكتهِ ...
أيُّ ساريةٍ علَّقتهُ ؟!
سمعنا الزنازين تبكي
وكنّا نبدّل حلماً بطاغيةٍ
ونشد الصراط
على شفرتين من البرق
هل كان أطول ظلاً ؟؟
أقول لكم : لا
ولكنه نام في ظل وردتهِ
وعلى دمعتي

أن تعدَّ له كفناً
من جناح الفراشةِ
من أحرفِ الصمتِ
مني ...
فلا تربكوهُ ولا تسألوني
أحلّفكم بعيون الغزالة من بعدهِ
بعيون الغزالات
لا تقتلوني بأسئلة كالسكاكين
لم يلتفت حين مرَّ
ولم نستطعهُ
فكيف لنا أن نرى
غير هذا الذي لا نراهْ ؟!

بلى ...
قد ولدنا معاً
وأضأنا معاً
ومضينا خفافاً إلى حلمٍ
لم نجدهُ
فعدنا ثقال القيود
مضينا وعدنا
ولكنه وحدهُ ...
ظل مكتفياً بالذهابْ .

تدمر- صيدنايا /92 - 93/

مكاشفة

قال : أتدري
ما أجمل حرف في الدنيا ؟؟
أمهلني بضعة أقمار
شرَّدها الصمت بعيداً
وأضافْ :
تاءُ التأنيثْ ...
تاء التأنيث متوجةً بثلاث نقاطٍ
لا يدركُ معناها الأقصى
حتى النورْ .
قلتُ :
كأني لا أعرف تاء بثلاث نقاطٍ

أو أني ...
قاطعني وهو يسبِّح عينيه :
فطين يا ولدي
ضع روحي ثالثةً
وتعلَّمْ .

/ 1993 /

تقاسيم آسيوية

إلى جميل حتمل
ربما فات الأوان

غافياً كنتُ
قبل دخول القصيدةِ
عاريةً
في السرير القصيِّ
سريري .
إذن سوف ترتعش الآن
حرّية هي لي .
سأصارحها
أنني كنت منذ قليل
تشيعني ظلمة تدَّعي

أن للطير أسئلةً
لا يراها السجين
وأجنحة لا تراه ...
فأيقظني زغب مطمئنٌّ
أصارحها أنّ روحي بنفسجةٌ
كفكفتها الفراشات
لكنني يا نواقيس
لو ذات ولولة تستعيرين
صوتي
فقد أنهكتني الغيابات
واشتقت أن أستحمَّ
بلى ...
غافياً كنت قبل دخول القصيدة

عارية كي تراني
إلى آخر الكلمات النبيَّة
للشاعر الآن ظلان :
أيامه وقصيدتهُ
ساحلان :
الإياب الذي لا يؤوب وأحلامهُ ...
أي أرجوحةٍ
تصل الأفق بالأفق
فنجان صمتي رهيف الإشارةِ
والأبجدية هيفاء
مرصودة لأمير الكلامْ .
هل أقول سريري يسيل
وأهلي مواعيد مؤمنة بضياع المحبين ؟!

أماه ...
أصفى من الدمع
نيَّة هذا الغريب
ولكن حكمته مُرَّةٌ
ودليل براءته الهاء
وابنتهُ
وروائح أعدائهِ
أيها الشيخ
يا شيخ
رُدَّ صلاتك عني
فإن دمي لا يضلُّ
ومسرايَ أقصر من قبلةٍ
بين طيرين

يكتشفان الفضاء مصادفةً
ثم يستكملان غموضهما بالغمامْ
وأنا
طائرٌ موشكٌ
بين حرفٍ وحرفٍ
أجاهد أقصى السقوط
إلى لذةٍ لا قرار لها
ثم أنسى
ولكنني من جديدٍ
أجاهدُ أقصى الصعود
إلى خيبة الأنبياء
وأنسى
فمن يقطف الحلم

عن شجر النوم قرب القصيدةِِ ؟؟
لمَّ الأسيرُ كوابيسهُ
وهو يضمرُ منفى
ولمَّ صديقي أساريرهُ
من عيادات باريس
وهو يعد احتمالاتهِ
أتكون الحياة قراراً رخيماً
يردّ الغطاءَ عليه جوابٌ
من الموت ؟!
هذا سؤال القصيدة لي
عن سؤال سيأتي
ولكنني أرجئ الآن كأسي
وأكمل ما لا سبيل إليه ...

أمامي
سراب يراودني عن صهيل الخيول
وخلفي
سراب يراودني عن هديل الحمامْ .
قلتُ : أنزفُ أغنيةً
يشتهيها الخرابُ وتؤنسني :
آسيا ا ا ا ا ا ا آسيا ...
نفد اليأس والآس
ليس لهذا النشيج الذي قطَّع الريح
معنى
وليس لعرافة
أو دليل من الرمل
غير الذي كان .
لا ترعوي آسيا !!
وأنا ليس لي
غير ما لا أريد
ومقبرتي داخلي
كل يوم أوسّعها لصديق
يباغتني دمهُ ...
لكأني سواي !!
فلا تنكري صورتي يا ابنتي
حين أترك لحمي لهم
ثم أمضي إلي
فهذي القصيدة أيضاً
ستصبح بعدي سواها
وتنـزف ...

قلتُ : هوىً
تفتحُ الظلَّ وردتُهُ
قيل : بل طعنةٌ
تغلق الوردة المشتهاة
ويبكي النديم الأخير .
إلى أين يفضي الجنون ؟!
أفي البدء كان
أم الليل
يدرأ شبهتَهُ بالضحى
والفضيحةَ بالصلوات
وبالعلم الوطني الرجيم ؟!
إلى أين يفضي الأذان
المواويل

معنى الطريدة
أهلي ؟!
سؤالٌ شهيدٌ
يوزع أشواكه شامتاً
ثم يلقي
علينا
الشآمْ .

صيدنايا /آب 1993/

أنشوطات متقاطعة

من صدَّع أجراس الموت
على أبراج الروح !!!
أنا لا أسأل .

* * *

من أشعلها
أشعل فيها هذا المطر الشبقيّ
الدامي !!!
لا أسأل أيضاً
فالعتم المتلألئ
يهتك أكفان الذكرى

ويرد الكهل صبيّاً

* * *

تلك صباحات سمراء
تعدُّ القهوة
والأشعارُ تعدُّ نبيذاً
يختلس النجمة من فعلٍ ماضٍ
لكنَّ الحالْ
أقفالٌ تنهرها أقفال

* * *

تغمض عينيك بلا جدوى
فالوحشة يا ابن أخي

مازالت مبصرةً
وتغلّ رماداً من أزهار اللوز
بكى الحسون
فواسى عاشقة تتلفع بالكتمانْ .
كانت عيناها
تتسعان لأسراب الوروار
وحالاتي القصوى
كانت ضحكتها قوس كمانْ .
كانت هاءاتٍ موشكةً ...
صلواتٍ من قمحٍ وظلالْ .

* * *

قصَّفنا ثلج الماضي

قصَّف أشجار الليمون
ودالية تخضلُّ بوعد الخمر
ألا يبكي الحسون
على أعوام يتجشؤها الخوف
ويسلخ جلد ضحاياها
سوط النسيان ؟

* * *

نضبت أسخى الآبار
شهيداً كنت عليها
حتى آخر قطرة دمع
واسترسلت النارْ
لم يبقَ لأهلي غير الله ...

تتدلى حكمته - غفرانك ربي -
مثل سؤالٍ مشنوقٍ بسؤالْ .

* * *

من صدع هذي الأجراسْ !!!
أعلن ثالثةً
أني لا أتسول أجوبةً
فالقسمة ليست عادلةً
ما بين الموتى والأحياءْ .
لا يكفي الحبُّ ...
وليس لقلبي أن يقطر إلا ما فيهْ .
ظالمة هذي الليلةُ
والحارس في غيب البهو

يغط بنومٍ متّسقٍ
ونديمي ليس يراني حين أكون
سواهْ .

* * *

في القبر الثامن بعدي
يسأل جاري :
ما معنى أربع خطواتٍ ؟
قلتُ : زماناً ومكاناً ...
فتهشّم صمت الليل كلوح زجاجٍ
حين ارتطمت فيه الصرخةُ :
مجنووووونْ
العالم مجنونٌ مجنونْ .

* * *

كتب الطائر أفقاً
والأسماك بحاراً
والبيد العمياء سراباً
لكنَّ الإنسانْ ...
من صدع هذي الأجراسْ !!!
ناشدتك بالشجر المسفوح خريفاً
إثر خريفْ
لا تغمض روحك عن غمرات المعنى
هل يبرأ من دم قاتله مقتولْ ؟

* * *

أنا لست أخاف علي
ولكنْ دمعك يخنقني

والزرقةُ
حتى الزرقة لوثها الخذلانْ .

* * *

يا أبتي خذني منك إليكْ .
يا أبتي خذني منكْ .
يا أبتي خذني .
خذني...

صيدنايا / 10 - 1993 /

وِرد ... من أجلهنّ

هل توضأتَ يا سيدي ؟
قم
توضأ
سنبتدئ الوِرد
بالنسوة الجالسات على دكَّة البيت
سبحانهنَّ ...
يجفِّفن أشواكهن
لفصل الشتاء الوشيك
يُعدنَ الحياة إلى نفسها
ويسرّحنها في الخفاءْ .
ليس فيهنَّ من لا تقول :

أنا أمُّهُ ...
وهي تعني ضميراً رحيباً
تبدِّله ما اقتضى الحال
آن تؤوب إلى ظلم طالعها
في المساءْ .
قد يعود الضمير إلى أمل خائبٍ
أو صغير يسبّ الدراسةَ
أو رجلٍ يستحي
حين يشعر أن محدّثه كاذبٌ ...
ولقد يشرَق الظن بالظن
أن المآذن
من أمهات المراثي
وأن اليقين يصلي على قبلة الشكِّ

ما من طريقٍ ستفضي إلى غيرها
لو نرى ...
ليس فيهنَّ من لا تقول :
أنا أمُّهُ ...
ثم تنأى وراء الملاءةِ
عينان مسلمتان
إلى سدرة الحزن
مسلمتان إلى آخر الله والخوف
والإنتظارْ .
هل توضأت ؟
هذا صعيدي إذا شئتَ
هذي ينابيعُه ...

فابدأ الوِردَ من خبزهنَّ المقدّسِ
من حنطة كُنَّها
سوف تبتسم الأرض في سرها
وتمدّ الطيور
مناقير مخضوبة حنةً
ويزيد انحناء السماءْ .
أنت تسألني ؟!!
آه يا سيدي
من خواطرهنَّ تقطَّر بي عنبٌ
طافح بهواجسهِ
فلماذا إذن حين أشرب
تأخذ أمي يديَّ

وتقطف لي وردةً من عتابْ ؟!
ولماذا توسدني قمراً تشتهيه
وترفو لياليَها بالضراعة والهينمات ؟!
سلام عليها تباهى بها الله
حتّى تناهى إليها
سلامٌ عليهنّ
يغسلن روحي بأمطارهنَّ
ويضربن نحو السرابْ .
سلام عليهنّ يا سيدي
وسلام عليهنّ
حتى البكاءْ .

/ صيدنايا 1993 /

إيمان

هل يكذب الصفصاف
إن قال له النهرُ :
من الأنثى التي تعطي الندى
يدها ؟؟
هل يكذب النعناع
والحزن الخريفيُّ
وهذا القصب المجروح ؟؟
آمنّا
بما يمكن أن يبلغه القلبُ
أنا والريح آمنّا

وصحنا ملء سمع الريح :
يا غدها .

/ صيدنايا 1994 /

هو

ها ...
ألسماء قوسُهُ
والأفق الوترْ .
عيني على قامتهِ
تأهبتْ .
هل كان هذا بدُّهُ
أم شاءنا
على اسمه وباسمهِ
أن نقرأ المطرْ ؟!

* * *

ما كل من رآه قد رآه .
إنه سواه .
أما ا ا ا ا ا ه !!

* * *

مال الهوى
فمالْ
سماؤه أسماؤهُ
وظله رداؤهُ
فكيف لا نكونهُ !!!
وكلما احتفى الخريف بانطفائنا
أهدى إلينا جمرة
السؤالْ .

/ صيدنايا1994 /

نزف منفرد

أمشي
كيمام مرتعش قلبي .
قلبي وخطايْ .
أمشي
والظل صدايْ .
فابتعدي بضع غماماتٍ
كي أدخل من جهة
الأمطارْ .
كي أكمل نزفي
منفرداً

وأعيد إليك الناي .

* * *

من ألف بكاء وأنا
تستقبلني
وتودعني
الريح .

* * *
يتعبني هذا الطائرُ
هذا الليلكُ
هذا الشعر وإيقاعات
النارْ

يتعبني أنك أنت بكايْ .
وأنا وحدي
وحدي
وحدا ا ا ا ا ا يْ !!
لو عدتُ
ولم أعرف أحداً
لو عدتُ
وكنتُ أنا أحداً
أيكون سواي ؟!

/ صيدنايا 1994 /

ما بعد منتصف الهذيان

نام الحراس جميعاً
فتبسَّطنا في الهذيان
كما لا بدَّ لهذي الوحشةِ
أن تنـزفهُ في آخرة
الليلْ .
قال صديقي :
لو كان الله امرأةً
كم كنا أحببناهْ
أخذتني الحيرةُ
حتى شهق الضوء على الجدرانْ .

وانشقّ سؤال من أقصى نهر
في الروحْ :
ما الله إذن ؟!!

/ صيدنايا 1995 /

إفراج

يقول أخي
وهو يقفز هاويةً
بين هاويتين :
وداعاً .
فكيف أردُّ الجوابْ ؟!
يقول أخي
ثم يمضي ويتركني
لهوىً
يشعل النار في لغتي

وبصمتٍ
يهيلُ عليَّ الترابْ .

/صيدنايا 15 / 10 / 1995/

قبرية

إهدأ
قليلاً
أيها الرجلُ .
لا تنتهي
لا تنتهي السبلُ .

/صيدنايا 1995 /

بلا سبب

رجلٌ
فخَّخته القصيدةُ
من يرتدي ظلَّهُ
ويشقُّ معانيهِ
نحو بداهاتهِ الغامضهْ .
قال لي
كلما نامت امرأةٌ
في سريرتهِ
وهوهت خيلهُ
وأضاف بلا سببٍ

أنهُ ...
لن يفاجئهُ حتفهُ
فالحياة التي عاشها
لا تزيد على طعنةٍ
عارضهْ .

/صيدنايا 1995 /

رعشات أخيرة

لا حضور لغيركِ
هذا الغيابْ .
ولكنني
لا أقول إذا ما أردتُ انكشافي
إلى الرَعَش الآسيوي الأخير .
نعم ...
لا أقول .
فكل دليل قتيلٌ
وكل كلام حجابْ .

/ صيدنايا 1995 /

طريق

أسأل نفسي
هل أصل الأشياء الحبُّ
أم الموسيقا ؟؟
أسأل نفسي
وأشقُّ إليَّ ضريحاً
وأشق إليَّ طريقا

/ صيدنايا1996 /

تعالي

تعالي إليَّ
من النـزف والنايْ .
تعالي إليَّ
من النهر والريح
والأجنحةْ .
من الطين والبرق
والأمهاتْ .
من الصمت
والهذيان النبيِّ
من الولولات التي جمرها

يوقظ الله
والليل
والأضرحة ْ .
تعالي إلي بنفسي
تعالي إليّ بسيفي وترسي
تعالي إليّ بيأسي
لكي لا تكوني
سواي .

/ صيدنايا 1996/

وجوه

قال لي
وأنا وحدهُ
في مهب الظنونْ :
لا جواب لمن
لا سؤال له يا أخي
لا جوابْ .
قلتُ : أدري
ولكنني أشتهي الآن
أسئلةً لا جواب لها .
وأجنحةً لا طيور لها

وحروفاً منـزَّهةً عن جميع
المعاني
وحريةً ...
من أقاصي الجنونْ .
قال : طوبى
وراح يبصِّر لي في السحابْ :
ذاكَ وجهٌ غزالٌ
بعينين خائفتين
وذاك يغيب طويلاً
وآخر يشبه ما يشبه الورد
مغرورقاً بالندى .

أترى ؟!
كل وجهٍ
كتابْ .

/ صيدنايا 1996 /

نأي

وما الفائدة ؟
كبر الطفل نشيداً
وثلاثين نبياً
ودماً حراً على قوس
الغيابْ
تاركاً خطوته الأولى
كبرق فاغرٍ
أو راية خفاقةٍ
أو طعنة ذاهبةٍ حتى
السحابْ .

كبر الطفل وما زال غريراً
بجناحين أسيرين
وريح واعدة .

/ صيدنايا 1996 /

حضرة ماطرة

رقصتْ
فكل غمامة رمقُ .
وتقصَّفتْ
برقاً له نزقُ .
وتشاهقت أعطافها
رهقاً
يا ربّ إن الخصر يختنقُ .
قدمان ...
هذي الأرض راعشةٌ
ويدان ...أدنى ما هما أفقُ .
نزف الكلام

فليس من لغةٍ
لتقول كيف الظل والألقُ .
دنيا بأولها وآخرها
والغيب ...
حتى الغيب مصطفقُ .
إن لم نكن طرقاً
لها طرقٌ
فلتذهبي في الريح
يا طرقُ .

/ صيدنايا 1997 /

ذهاب

زمن مطفاٌ
وجهاتٌ مغلَّقةٌ
وإله قتيلْ .
إذن أيُّ شيءٍ
سوى قوّة اليأس
يدفع جدران هذا المكان ؟
وأيُّ دم فاضحٍ
يشخب الآن
بين القصيدة والكفر
والغيم والرمل
والحلم والمستحيلْ ؟!

لا أقول لكم
أمهلوني دماً ... أو غداً
فالهوى ذاهب أبداً
بي ومني إليّْ .
كل ما كان
ما كان .
أعرفه عدماً عدماً
غير أن الذي سوف يأتي
سيأتي .
وما من دليل لديّْ .
ولكنّ رجع صداه
يلملمني
ويظللني

ويبللني بالندى والظنونْ .
بحليب الرؤى
وغمام النبوّةِ
والوهوهات التي نزفتْ
فوق ما تستطيع الخيول
بلى ... فوق ما تستطيع
وقد شرِقتْ بالدموع
وبالحمحمات
ومزَّق أعناقها
أن بيداءها
لا تردُّ الصهيل .

/ صيدنايا 1997 /

جهات أولى

ذاكرتي
صمتي
أسمائي .

* * *

أجنحة الطير
الزرقةُ
يأسي
نفسي
أهلي
أعدائي .

* * *

موسيقا الليل
النخل الضارع نحو الغيب
يدايَ
قيودي .

* * *

نايات الرعيان
بنفسجة الحزن المطريّ
حنين الرمل
الشهوات القديسةُ
موتي .

* * *

ما أومض فيه ويضحكْ .
ما يومض فيَّ وأبكي .
ما لا يذهب
ما لا يأتي .

* * *

هل أسرفت كثيراً ؟
أبداً .
تلك جهات أولى
أتيمَّمها كل مساءٍ
خارج وقتي
كل سماءٍ

خارج بيتي
كل غيابٍ
تأتي منه امرأةٌ
راعفة الإيقاع
تسير أمامي
لأشيّعها
ثم تسير ...
ورائي .

/ صيدنايا 1998 /

دائرة

كان دليلاً
ذات امرأةٍ
صار قتيلاً
ذات إلهٍ
ما أغمضهُ !!
كان وصار
قصيدة .

/ 1999/

بصيرة نازفة

أبصر نفسي
أني كنتُ
وأني سوف أكونْ .
أبصر نفسي
ملء حنين النقطة فوق
النونْ .
أبصر نفسي
حين أهاجر مني
أبصر نفسي
حين أعود إليّّْ .
أبصر نفسي

إذ أتداعى بين يديّْ
أبصر نفسي وحدي
أبصر نفسي ضدي
أبصر نفسي
خيلاً ورمالاً وسرابا
أبصر نفسي
نخلاً وظلالاً وقبابا .
أبصر نفسي ألفا
أبصر نفسي منفى
أبصر نفسي

لا ...
لا أبصر ما أبصرهُ
لا يبصر ما أبصرهُ
لا يبصرُ
إلا المجنونْ .

/ صيدنايا 1999 /

أعداء

أوراقي أحداقي
أقلامي أيامي
كلماتي نزواتي
وأنا وأنا
أبداً أعداء .

/ صيدنايا 1999/

وحشة

أجراسٌ
يرعاها الموتْ .
سحب دامية يجلدها
برق أسودْ .
آلهة موجَعةٌ حتى الغيب
لغاتٌ
وجهاتٌ
وظلالٌ ظمأى .
قولي شيئاً ياسيدتي
قولي شيئاً

يكسر وحشة هذا الصمتْ .
فالعالم منفى
والأيام سرابٌ ينأى .

/ صيدنايا 1999 /

رجل وامرأة

ثمة امرأةٌ
من رفيف الفراشات
ضحكتها
ولها من حنين الينابيع
دمع كثيرْ .
ثمة امرأةٌ
ليلكٌ في المساء
ولكنها في الصباح تميل
إلى الياسمين .
ثمة امرأة غيرُها
رجل غيرُهُ

وطيور تسافر بينهما
موعداً موعداً
وسماءً سماءً
وقد أجهشتْ في قوادمها الريح
فاشتعلتْ
كنداء أخير .

/ صيدنايا 1999 /

أبواب

ما معنى الورد
وما معنى الأشواكْ ؟
حدَّثني " باب مصلّى "
" باب الساحةِ "
" باب الوادِ "
وحدَّثني باب الأبوابْ .
حدثني صمتي
حدّثني صاحب وقتي
حدّثني الرمل كثيراً
وأضاف دماً وسرابْ .

لكني أبداً
أبداً يا أزل الله
لم أبصر ما معناكْ .
هبني حاولت إلى أقصاي
إلى أقصاي
إلى أقصاكْ .
هبني أدركت طريقاً ما
ماذا يجديني ؟
وأنا أعرف أني
لن تدرك غاياتي الأسبابْ .

/ صيدنايا 2000 /

تقاسيم آسيوية

(ترجيعات)
إلى جميل حتمل مرة ثانية

لم يكن ثمة خيار آخر بين المنفى والسجن .
قال لي : لا أظنك ترضى أن تدفعني إلى موت عاجل ؟!
قلت : بلى ... فأنا أخاف عليك من موت أعجل .
وافقني ومضى باتجاه المصير الأول .
كان يبكي وهو يراني أنزلق بإحكام ...
على شفرة
المصير الثاني .

* * *

لا تنم
يا بقية كأسي
فبين زمانين أعمى وأطرشَ
هذا المكانُ
يرنُّ على صخرة الموت
ثم يكفكف أصداءه جثثاً
وينامْ .

* * *

لا تنم
يا بقية يأسي وحريتي
لا تدَعْني إلي
فبين مكانين

لا يبصران
ولا يسمعان
يرنُّ الزمان على أفقٍ غامضٍ ...
ليس هذا خريفكَ
لا يا قرير الهواجسِ
يا راعف الصوت ...
قل غير هذي القصيدةِ
يا ابن مراثيك
قل زنبقاً فاره الحزنِ
قلني
فقد أذِن الله لي بدمائي
وأغمض عينيه كي لا أراه
فتكسره صورتي فيهِ

قل غير هذي الفضيحةِ
قل بعضها ...
من سيشهد أن المناديل
تخفق مثل الحمام
وأن الحمام يرش على روحنا ريشَه
ويكحِّل عزبتنا بالحنينْ ؟؟
عَتَبي !!
كيف تخذلني ؟!
ضفتان لنهر الغياب الذي
يشهق الآن :
سجني ومنفاك
والنهر يجري طويلاً طويلاً
يقولون

والنهر يجري قتيلاً قتيلاً
تقول
وتدلف نحو السرير الأخير
بماذا أغطيك ؟!
لم تُبقِ لي غير أسئلتي
هل جميع الغيابات
من أجل هذي الصلاة الضريرةِ ؟!
لا ...
لا تنم يا براءة ظنّي .
أيكفي حرير من الدمع
يا لا بلادكَ
لا أنبياءكَ
لا قاتليك .

بماذا أغطيك ؟!
ما حيلتي
غير هذا القميص المطرَّز بالشوك ،
هذا الوشاح المشلشلِ بين دمي
والظلامْ .

* * *

عشتَ أبعد مما نرى الحبَّ ،
أبعد مما تضيء الكتابةُ ،
لكنك الآن أبعد
أبعد ...
فالموت أول حرية ترتديك

وآخر حرية ترتديها
وتبحر في زورق الصمت والذكريات .

* * *

لا يسيل الردى
لا يسيل السراب .
ولكنَّ هذا دم خالصٌ
أتراه ...؟
دم يهمز الغيب ،
والبرق يجرح عتمتنا
فتسيل ...
إلى أين تمضي
وتترك معناك لي ؟!

كنت أطهو قيودي
على مَهَلٍ .
كنت أقرأ ما تكتب الريح
خارج زنزانتي
وأصلّي عليك غياباً غياباً
لئلاّ تجرّدني منكَ ...
قلت انتظر نجمةً
نجمتين
سنبني سماء بزرقة عينيك .
أرجئ حنينك بضع قصائد أخرى
ونبكي معاً .
هكذا ...
دونما سبب لو أردتَ .

سنـزرع قمحاً
ونبكي .
سنكتب أحلامنا
بمناقير أحلى الطيور
ونبكي .
سندعو الذين تبقوا من الأصدقاء ،
ونرفع نخب الأمان ونبكي .
تراني سألتك معجزةً لا سبيل إليها
سوى الموت ؟!
حسناً
إمضِ بي .
إن أقصى الجسارة ،

أن لا تردّ القصيدة عن
وِردها .
لا يضركَ
على جهةِ الدمِ
أم جهةِ الدمعِ
كن شاهداً
وشهيداً
وبينهما .
كن أمير الذهاب
أمير النهايات
لا يبدأ المرء حراً
ولكنه في الطريق إلى نفسهِ
في الطريق إلى يأسهِ

في الطريق إلى غير هذا الطريق
الذي ينتهي .
في الطريقْ ...
آه يا امرأة يستحم الأذان بأسمائها
يستحم الأذانْ .
سامحيه إذا أسلمته النبوّات
سيفاً لسيف ...
وألوى بطائرهِ
لُهْلُهٌ لا سؤال له غيرهُ
لا سؤالْ .
تعبَ الظل في الهاجرهْ .
تعبتْ نخلتي ألف عامْ .
نم قليلاً إذن ،

سأغطيك بالريح والذاكرةْ .
نم ... ودعني
لعلي أحاول شيئاً
بهذا الحطامْ .

/ 1994 /

* فرج بيرقدار شاعر وصحفي سوري من مواليد حمص 1951.
حائز على إجازة في قسم اللغة العربية وآدابها / جامعة دمشق.
شارك في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي في إصدار كراس أدبي شبه دوري, بالتعاون مع عدد من الأدباء الشباب في جامعة دمشق، وقد اعتقلته المخابرات الجوية في عام 1978 بسبب ذلك، وتوقف الكراس عن الصدور بعد تسعة أعداد.
اعتقل آخر مرة في 31/3/1987 بعد مدة من التخفي والملاحقة دامت حوالي أربع سنوات، وقد كان اعتقاله هذه المرة بسبب انتمائه إلى حزب العمل الشيوعي.
أصدرت محكمة أمن الدولة العليا بدمشق (وهي محكمة استثنائية) حكماً ضده بالسجن خمسة عشر عاماً مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية. ولكن الحملة الدولية التي شارك فيها مئات الكتاب والفنانين العالميين والعديد من الشخصيات الحقوقية والسياسية بالإضافة إلى المنظمات المعنية مثل اللجنة العالمية لمناهضة القمع، منظمة صحفيين بلا حدود، نادي القلم العالمي، الأمنستي..إلخ، نجحت في إجبار النظام السوري على إطلاق سراحه بعد أن قضى قرابة أربعة عشر عاماً مابين فروع الأمن وسجن تدمر وسجن صيدنايا العسكري.
حائز على جائزة هلمان هومت التي يمنحها نادي القلم العالمي بالتعاون مع هيومن رايتس ووتش، وذلك لكتابه "حمامة مطلقة الجناحين" الذي كتبه في السجن وهرّبه إلى الخارج، ليُنشر ويترجم إلى عدة لغات.
شارك بعد الإفراج عنه في العديد من المهرجانات مثل مهرجان جرش لعام 2001، مهرجان دنيا في روتردام 2002، مهرجان الهجرة في أمستردام 2003.
كما أقام العديد من الأمسيات والندوات في دمشق وعمان وبيروت وبرلين وباريس وجنيف ولندن واستوكهولم.
أقام في ألمانيا ثمانية شهور بدعوة من مؤسسة هاينرش بول وذلك في عام 2001، كما دعي من قبل مؤسسة (شعراء من كل الأمم) للإقامة في هولندا لمدة عام اعتباراً من 24/9/2003.

كتبه المنشورة:

  1.  وماأنت وحدك، دار الحقائق، بيروت 1979.
  2.  جلسرخي" رقصة جديدة في ساحة القلب"، دار الأفق، بيروت 1981.
  3.  حمامة مطلقة الجناحين، دار مختارات، بيروت 1997.
  4.  تقاسيم آسيوية، دار حوران، دمشق 2001.
    ولديه من كتابات السجن عدد من المخطوطات الشعرية والنثرية المعدة للطبع.