فرج بيرقدار
(سوريا)
1997
***
الحرية التي في داخلنا
أقوى من السجون التي نحن في داخلها
***
آيتان
ليست كأي فراشة خفقت
لتوقظ قلبَهُ
ناقوسةٌ من جلّنارْ.
ليست سواهُ
فهل يقول لها:
كفاك فراشةً زرقاءْ
وكفى حنيني
أن يكون بلا ضفافْ!!
* * * * *
الظلّ متّكئٌ على الأشجارْ
والذكرياتُ على التعبْ.
لا أنتِ أطلالٌ فأبكيها
ولا الشعراء مثلي عندما يبكونْ.
رُدّي عليّ الريح
بعد مرورها بالقمحْ.
الريح سيدة الحقولْ
الريح سيدة الخيولْ
الريح.. سيدة القصبْ.
* * * * *
ليست كأي حمامة هدلت
لتخضلَّ السماءْ
ألله يا امرأتي!
ألله يا ابنتنا!
ألله إن غزالتين طريدتين
تقبّلان بآيتين من الندى
روحي وتبتعدانْ.
يا برقُ
كن ظلاً لخطوهما.
يا أفْقُ
خذ قلبي وضُمَّهما
فلربما.. يتأخر الطوفانْ.
1987
*******
حكاية
كان يا ما كانْ.
حدّثني زمن بن زمانْ.
أن النار دليلْ
فتزوّد ما يكفي منها
لطريق وعْرٍ وطويلْ.
* * * * *
حاولْ مهما الليلْ
فإذا دقّ اليأس عليك البابْ
لا بأسْ
إنهضْ
واكتب فوق الجدرانْ
من غير شروحٍ أو تفصيلْ:
السيد يأسْ
أبلغ مولاك السلطانْ
أن الزنزانة ليست أضيق
من قبرِهْ
أن الزنزانة ليست أقصر
من عمرِهْ
هذا..
إن قبلتْ أرض جيفتَهُ
محفوفاً بالأقدام
ومحروساً بالنسيانْ.
نيسان 1987
*******************
هديل
هديلك يتعبني في المساءْ.
إذن.. أتعبيني.
كخمر القصيدة إذ تهدلين
وبي منكِ
ما يستحثُّ الخيولَ على الدمعِ
ما يثقل الطير أجنحةً
ما يليه الغناءْ.
هديلك أرجوحةٌ
والمدى ضيقٌ
ضيق في الغيابْ.
فهل شجر القلب يكفي
إذا انكسرت ريحُنا
وانكسرنا مع الريح؟
هل شجر القلب من دمنا
أم سرابْ؟!
سؤالٌ يراودني نيزكاً نيزكاً
وردةً وردتينِ
تنامان فوق ذراعي
فينسرب الفجر أزرقَ
كي يستحمَّ الندى
كي أراهْ.
ومن أجل هذا السؤالِ الغزالِ
وما سوف يأسرنا
في شِباك الجوابْ
ومن أجل أن لا تضيق السماءْ.
سأطلق سرب حمامٍ غريرٍ
وأفتح أبراج روحي على غدها
فإن أغرقتني هديلاً
غرقتُ
وإن أيقظتني
سأترك نافذة الحلم مفتوحةً
وأنامْ.
1987
*******************
عواء
لم يكن غيرنا
جثة تتدلّى غداً
وأنا.
لا المدينة أمٌّ لتوقف موتي الطويل
ولا نجمةٌ لأصير ابنها.
ـ من على الباب؟
هل جثتي معكم؟
ربما جثة الطالب الجامعي الذي فوقنا.
كانت الريح أنشوطةً
والحياد السمائيُّ
والنهرُ..
ـ من يطرق البابْ؟
منذ ألف خراب لكم
نحن لسنا هنا.
أغلق الخوف آخر نافذةٍ
في هدوء الجبلْ.
قلت أسند ظهري
إلى حجرٍ أو جدارٍ
فما كان غير السهول
سأعوي إذن..
ربَّ ذئب على السهل يسمعني
فيجيبْ.
لنبكِ معاً أولاً
ذئبُ يا ذئبُ
إبك معي ثانياً
ليست الأرض زنزانةً
غير أنك مستفرد وحزينْ
وأنا ليس لي طائر أزرقٌ
وهوى بيننا!!
يومها.. لم يكن يا صديقي
سوى جثةٍ تتدلّى غداً
جثةٌ.. وأنا.
*******************
محاذاة شعرية للرقص
أجل..
وحده ينبش الروح
يخلعها من زنازينها الجسديةِ
حتى إذا بلغتْ عريها
شابهتها النيازكُ
وانهمرت في فراغ الشروط
لتشترط المطلقاتْ.
أجل..
من حضوراته أن تغيب
فتبصرهُ
يستوي فوق مجد العروش
ولا غيره يوقظ الأرض
لا سرّ أوضح منهُ
ويربكني أنه الغامض الفردُ
أشهد أن الضلالة مؤمنة معَهُ
ثم أشهد
أن الطيور خلاياهُ
مَنْ وحده كلُّ هذا سواهُ؟!
أناديه من حافةِ الكون:
هل أُمَّةُ النهر أنتَ؟
فيستنكف الغيب
أم سُربةٌ من وعولٍ
إذا نفرتْ ليس لي جسدٌ؟!
لكأن النجوم شظاياك
وامرأتي كل حين تجمّعها
مثلما جمّعتني.
أنا داخل فيكَ
حتى يكون السرابْ.
أنا خارجٌ منكَ
حتى أرى لا حدودكَ
يا مطلقَ الضدِّ
يا مطلق الإرتهان
أحاذيك بُدّاً
وأترك للوحش قلبي
وللنار ظنّي.
أحاذيك بُدّاً
وأترك للبحر غربته وانطفائي.
أحاذيك بدّاً
وأترك للأصدقاء اكتشاف القصيدة.
*******************
رؤيا
خلتُني وهناً
صديقي مالك بن الريب
حيّاني وأعطاني الأمانْ.
لم أكن حياً
ولا ميتاً
فأفسحت لهُ..
آهِ كم أخجلني ضيق المكانْ.
كنت مهدوماً ومحمولاً
على آخر جرح أو حجرْ
فتدثرتُ بنزفي وهوايْ.
قلت: هل وسّعت لي
شطراً بمرثاتك يامالكُ
فالموت جبانْ
وأنا حزنٌ إلى حزنٍ
وبي ما يوحش الموتَ مع الموتى
فقالْ:
تذكرتُ من يبكي عليكَ فقيل لي
سوانا كثــيرٌ.. والسحاب قليلُ
كأنك والرايـات أفـقٌ مخضّبٌ
تميل إليـــه الشمس وهو يميلُ
أمَا والتي ناغــتك نهراً و أنجماً
ونسراً مهيضاه رؤى و طلــولُ
لأنت جميع الناس همّــاً وهمّـةً
و كل محال ما عداك يحــولُ
فإمّا لواك الدهــر حينـاً فإنه
عناق خيول يرتجى و صهيــلُ
نيسان 1987
*******************
إضراب عن الطعام
في الهزيع الأخير
من الدم والذكرياتْ.
في الصهيل الأخير
من المعد الخاويهْ.
يعلن الشجر الآدميُّ
نبوّتهُ..
ويفيض بقاماتنا الضاويهْ.
تدمر 12ـ23 تشرين أول 1989
*******************
صهيل
قفا.. وابكيا.
ليس حزناً
على جثة من بقايا إله بعيدْ.
إذن ليس حزناً
على طائر مثقلٍ بالفضاءْ.
ولا تأخذاني
ولا تتركاني
لعل خراباً بلا لغة صاحبيَّ
لعلكما ترجئان احتمالات موتي قليلاً
فزنزانتي جسدي
والقصيدة حرية طارئة.
* * * * *
نفضتْ نخلة طلعها
وهي تجهشُ:
من أعتريه إذا ضل حادي البروق
ومن يعتريني؟
أيصعدُ؟
تتبعه الأرضُ
يهبطُ؟
لا بد أن السماء التي يبتغي
واطئة.
* * * * *
قلتُ هذي رؤايَ
ونزفي يصدّقها
ليس للنهر أن ينثني
دون هذا الرهانْ.
ولكنني عندما تهطل امرأةٌ
آخر الليل..
أنسى يديَّ على صوتها
ثم تعزب تاركة لي قيودي
لأكتب شيئاً أخيراً
ولكنني..
كلما اجتهدت بي طيور مؤجّلةٌ
شرِق الأفقُ
واعتكرت ساعةٌ من سرابٍ تغرغرتُه
أيّهذان..
رُدّا علي فضاء صغيراً
فزنزانتي جسد أقتضيهِ
وحرية تقتضيني
وردّا عليَّ سؤالاً
لأجوبة بعثرتها القبائلُ
أو بعثرتني عليها
ولا ضير..
إن غداً فائضاً سوف يجمعني
دمعة دمعةً
كالقصيدة في مهدها
ثم يومضني فجأةً
كالقصيدة في أوجها
ويباركني بالنقيضْ.
* * * * *
آهِ يا أختُ
يا أمُّ
يا أيَّ عاشقةٍ
لو رأى الله صورته في عناقاتنا
لتجلّى
ولكنه لا يرى
غير أبوابها المقفلات،
وأغلالها،
والسماءَ مطأطئةً تحت أحذية الجندِ،
غيرَ سماء مضفّرةٍ
عرشها من دمٍ
شرعها من أسيدْ.
أهي الروح تشهق
من شجر في "الدجيل"*
يرنّحه الوصف والقصف
ثم تردّ الشهيق دماً
في الرباطْ!؟
تلك مئذنةٌ طعنةٌ في الفراغْ
تلك سارية كعبها في التراب
و لا تنتهي في السماءْ
تلك جلجلةٌ..
ودم يغسل النيل من مائهِ
بردى من كوابيسهِ
والفراتْ.
* * * * *
قلتُ هذي رؤاي
وها أنتما تشهدانْ.
جمرةً.. جمرتين.. ثلاثاً
ويندلع الفجر
زرقته لا تضلُّ
صهيلاً صهيلاً ويكتمل الشوطُ
يعلن قسمة هذا الزمانْ:
كلنا ذاهبون على ما سيأتي
أجل..
كلهم ذاهبون إلى ما مضى.
وسّداني حنان جراحي إذن
وانهضا.
كتب الطفل بالبحر في رأس دفترهِ:
وقفا خطوةً
نزفا دمعةً
نهضا.
تدمر 1992
*******************
قصيدة الحزن
زرقة العمق هو الحزنُ
وعمق الزرقة الحزنُ
ونجمٌ راعش الدمعة في هذا الفضاءْ
لغة في ذروة الصحوِ
تشيع الليل
من أجل اكتمال الأسئلهْ.
يجرح اللحظة بالحلم ويمضي
مثقلاً بالأنبياءْ
وصهيل الذكريات المقبلهْ.
* * * * *
زرقة العمق هو الحزنُ
وعمق الزرقة الحزنُ
وما لسنا سواهْ.
نحن في مرآتهِ
أم هو في مرآتنا؟
سيّان..
صمتُ امرأتي ملحٌ على صوتي
الذي يأخذ معنى الجرح
واسم النهر
لكنّ يديها ضفتايْ.
صمتُها سفح من الفيروز
كم يغتالني صوتي على قِبلتهِ ليلاً
ويرتدّ شهيداً
فيرى ما لا أراهْ!
شفقٌ من وردةٍ يجرحها النسيان
هذا الحزنُ
أمّي أمُّهُ
ريحٌ على آخر نايٍ
تتهجّى النهر كي نجري
فيجري خلفنا صفصافه الطفلُ
كترجيع الأذانْ.
قلت: يا أماهُ
من أكثر حزناً بيننا
أنتِ
أم النهرُ
أم البرقُ الذي بين يديّْ.
همستْ لي
وهي تطويني على رمشٍ بَليلٍ:
ـ بعدنا يأتي الحمامْ.
ـ بعدنا؟!
خضّبها صوتي
فردّت قمراً عن وقتِه
أحنتْ سماءين بكفيها
أرادت: يا بنيّْ
بدأ الحزن بنا أسماءه الأولى
وفاضْ
منذ بِيْدٍ تهدل الرملَ
على الذكرى
وذكرى تهدل الأسودَ
فوق الأبيضِ الخاشعِ
والأبيضَ فوق الأسودِ الشائعِ
كي تحرس جمراً بالرمادْ.
منذ أشجارٍ تخطُّ الشعرَ والعمرَ
على كرّاسة الأرضِ
أجل منذ اغترابٍ واغترابٍ
طال ما بينهما
شرحُ البلادْ.
منذ شرْقٍٍ دمه شُقَّ
ليعطينا الشآمْ.
ولهذا نوجز الحنطة والحكمةَ
سيفين على ريثى..
نعيد الخلق من أوّلهِ
كي لا ينامْ.
* * * * *
أيُّ روح
يخفق الليلة في أشرعة المطلقِ
أو فوق صواريهِ؟
لقد مرّ القطا في البالْ
ويمرّ الله في الحزنِ
تمر امرأة قصوى
يمر الصمت والمعنى
وقد مرّ شراعٌ
أعلن الرحلة في يوم مطيرْ.
أيّهذا الطين
من يحصي ظنوني؟
لابنتي عينان من رجع الزغاريدِ
إذا كان المساءْ
ووشاح من تراتيل الغمامْ
ولها أن توقظ الرؤيةَ والدمعَ
بعيني الضريرْ.
أسبلت هدبين أشهى من نعاسٍ
يسرق الطائرَ من بين جناحيهِ
وقلباً من يدَيْ أمي
وقيداً من يديّْ
وارتأت حلماً
على نيّة أن يبتسم الحزن قليلاً
فرأت أُمّاً
تداعى خلفها الماضي
أباً تجهد في ترميمه الأطلال
هذا ليله يذهل عن أنجمِه
ستةَ أعواد تدلّى شجرٌ منها
وخيل وقصائدْ.
أيهذا الطين من غيركَ
لا يبدأ إلا في الختامْ!
آسِرٌ هذا الذي تضمره روحُكَ
والنبعُ
فيخضلّ به العاشقُ
والصوت العراقي البعيدْ.
آسر يهطله الظل رخيماً
فيضيءْ.
هكذا قال الأسير الإحتماليُّ
رآني ساهماً، أردفَ:
هل دقّت يد الحزن على بابكَ؟
حَلّ العروة الصعبةَ
عن ذاكرة تلمع كالفضةِ:
تلك امرأتي حزني
فكم تأتي
وكم أمضي إليهْ!
ليله البرق الذي يوقظ أسرار النبوّاتِ
ويتلوها مطرْ.
كان في البدءِ
وكُنّاهُ
فأسموه إذن عزفاً
وأسموني وترْ.
قلتُ: ما زلتَ على الضفةِ
والنهرُ يسيرْ.
كن مع النهر ترَ الحزنَ
كما الله يراهْ.
أمّه تنأى وراء الشرفاتْ
شجراً يكتشف الريحَ
ويمتد عميقاً في تراب الروحْ.
كأسه الغفران ما يمكنُ
والطوفان ما يمكنُ
والشعر صداهْ.
كأسه أن يمطر الداخلُ
حتى يستوي الآثم والقديس
في هذا الرداءْ
وله نخبٌ من البركان
في البدّ الأخيرْ.
تدمر 1992
*******************
تشكيل أبجدي
ـ أ ـ
أنت لا تبدأُ
هذا أزل يومضُ
أعني: أبد ينبضُ
أعني أننا ظلهما في الماء
هل تبصر ما أبصرُ؟
ها أنت إذن تضرب في اللجة
كالعاشقِ
والريح تواتيكَ
وها أنت غداً
فارفع سواريك وراء الغيب
لا تترك على الأفق أو البحر أو الطين
سطوراً للبدايات
وأكملني على رسلكَ
أنت الآن لا تبدأُ
حاذرْ ..
كل من يبدأ واهمْ.
ـ ب ـ
بعد لم نكمل مراثي القرن
لم نشرح دماً
فاض من الشعرِ
ولا دمعاً من النثرِ
وما من شرفات، لنرى منها، سوانا
وسوانا نحنُ
هل يختصر الميّت حياً؟
حسناً.. هل جرّب الأسرُ
جناحين هوى الطائرُ
من بينهما حراً
فلم يكتشف المعنى بعيداً
عن معانيه التوائمْ؟
ـ ت ـ
تلك مرآةٌ
وهذي امرأةٌ
تنتصب المرأةُ
فلتنكسر المرآة والحاكمُ
والسرُّ الذي بينهما
تنتصب المرأةُ
كي نبصر ما قبلُ وما بعدُ
من الداخل والخارجِ
أغمضنا سماءً
وتوضأنا شروقاً
ثم صلّينا على ركبتها حتى الضحى.
مرّ السلاطين بلا أحلامهم
كانوا يجرّون توابيتَ
نسمّيها عروشاً
أنرى حقاً؟!
تساءلنا
وكيف انتصروا؟!
لم ينتصر إلا الهزائمْ.
ـ خ ـ
خمرة أولها الظلُّ
ولا تقنعُ بالبركان
مشّطنا لغات الصحو
كي نرفعَ
كأسَ الشجر العاري/ بقايانا
فمن يجمع ما يكفي
من الصمت الذي يضمر جمراً
لم نزل نقبضهُ؟
عدنا ومشّطنا حروفاً
حَذِلتْ أعينها حزناً
على صمتٍ جليلٍ طعنوا خلوتهُ..
يتّهم الصمتُ جيوشاً
وقضاةً.. ومريدينَ.. وألقاباً
ولا ينسى.
دعوهُ من تعازيم مواليكم
ومن عَقْد الرتائمْ.
ـ ذ ـ
ذاهل النية هذا الغدُ
والأمس الذي يشهقُ
من آدمنا الأولِ
بل من دمنا الأول ذاهلْ.
دخل الليلك في معناهُ
والليلك لا معنى لهُ
مَنْ غيرنا؟
أيُّ حنين يغسل الرؤيا من الصحوِ؟
أنا الخطوة ما تجرح في الأرض
اليبابِ
وأنا ريح بلا سرجٍ
وأحلامي حمامٌ
كلما أرسلتُه قال سماءً
لتنامي يا ابنتي في ظلها حتى إيابي
لم أقل بعد سؤالي
لم أقل غير ظلالي
لم أقل غير نشيد فاجعٍ
كان ومازال يقاومْ.
ـ ن ـ
نخلةٌ ضلعي
وروحي فرس سمراء
والذكرى خيامي.
فلمن أترك رَحْلي؟
ولمن أوصي بشوقي لسرابٍ
لم يخن صاحبه يوماً
كما خانت أهاليها العواصمْ.
ـ ي ـ
ينتهي؟
لا ..
هو لا يعرف هذا الفعل
لا يقبل تصريفاتهِ
يبحر فينا..
فإذا صار إلى الشاطئ
قال: اعتذروا لي منهُ
حولي زرقة أوسع من أحلامكم
كان امرؤ القيس يغاويها
فتغويهِ
انتهى الشاعر، أما الشعرُ
قلنا: لا
وقلنا: سنحاولْ.
3/7 / 1992
*******************
زيارة
أخيراً..
وعلى غير ما لم تكن عليه
العادة
ابتسمت حبيبتي عن اسمها.
احتفل الكون بسماءين إضافيتين
ولبست الفراشات أجنحة من
الحرية الخالصة.
شكراً.. قالت الغابات
وسرّحت شعرها بالريح.
شكراً.. قالت النوارس
ونفضت عن أجنحتها
تعب الهجرات الأولى.
شكراً.. قالت الأمواج
وهي تؤدي رقصتها
على مقامٍ بحري عاشق.
تراكضت حقول القمح
وروّضت الأحلامُ العواصف
ثم استوى الله
على عرشه من جديد.
أخيراً..
وعلى ما هي عليه العادة
غرغر صوت الشرطي
معلناً انتهاء الزيارة
فأغلقت نوافذ السجن عيونها
واتّشحت الجدران
بلونٍ شديد الخجل.
26 / 1/ 1993
*******************
بورتريه
قالت له اللعنة كن
فكان.
عيناه زرّان
من نحاسٍ متّسخ.
أنفه شارة تعجب
مرسومة بشكل رديء.
فمه على هيئة كاتم صوت
ولسانه في بيت النار.
على كتفيه
طواويس منفوخة بالهزائم
وفي ذمته ديون
تتهدد بنوك الدم
بإفلاس فاضح.
يرعانا.. بقلبٍ ضرير
ويحرسنا.. بأسلاكٍ شائكة.
نواياه مفخخة
وابتسامته نذير مجزرة.
حكمته موت
وعدالته جهنّم.
عذراً.. سأتوقف
إني أشعر بالغثيان
ربما هو ليس كذلك تماماً
بيد أنهُ..
شباط/1993
*******************
وَهْوَهات
ها أنا وحدكَ
في هذا الجحيم الفاغر
المجنونْ.
هاأنا وحدك، والموت جميعاً
بضواريه.. وعرّافاته.. والمخبرينْ.
ربما أفضي
إلى أقصى احتمالاتي
لكي تفضي إلى الحلم
الأخيرْ.
فاشتعل حتى تراني
واكتمل حتى أراكْ.
وردتي بين حريقين
وتنخوني
لعلي أوقظ الحكمة في هذا
الخرابْ.
ولقد حاولتُ.
حتى آخر الوردة والنارِ
فكيف استفردوا صوتي
وصمتكْ؟!
هل توكأتَ على سيفٍ مؤجّلْ؟
أم تبدّلتَ غياباً بغياب؟!
* * * * *
هاأنا وحدك ما أنت سوايْ
لم أكن قبلي، ولكنك بعدكْ.
سفح الظل دم الشمس على الأفقِ
وفحّ الليل
فحّ الليل
كم تأخرتَ..
تغيّرتَ..
وما كنت لتعرى، لا تؤاخذني، وأكفانكَ
عندكْ.
* * * * *
مسّد الحارس بالشوك عصافيركَ
والدولة أهدت لك موتاً
إحتياطياً
وما يكفي من العتمةِ
كي تذهب
فاذهب.
أنت أدرى بجنون الموت
إذ يندلع العزف
وترتجّ أساطيركَ
هذا جسدٌ آخرُ في الساحةِ
هل تسألني من "طرطش" اسم الله
والعرش دماً؟
لا وقتَ..
هذا جسدٌ آخرُ
من يأخذه مني
ومن يأخذني منهُ
ومن يشهد أن الموت
يتعبْ؟
مسّد الغامض بالأسلاك والكفر ِ
فضاءاتكَ
حاولتُ كثيراً
وبكى نجم على أفق القصيدهْ.
قلتُ حاولت كثيراً
ولقد مسّدتُ بالليلك ليلكْ.
* * * * *
شرِق النهر بدمع امرأةٍ،
كان ابنها أعذب مما تشتهي.
وانكسرت أحلامها في الليل.
كان الله في سابع نومٍ
وابنها أيضاً
فمن روّعه قبل أذان الفجر؟
من يا أختهُ
يهدي إليك الآن من قامته نخلاًًً،
ومن ضحكته غيماً،
وأفقاً من يديهْ؟
شرق النهر بدمع امرأةٍ
تشبه أمي
مثلما تشبهني أنتَ
وأنت الآن وحدكْ.
* * * * *
شرّدتكَ البيد
يا "ضوّا" عليك الليل
والنوّار أظلمْ.
وطوتك الريح
يا صلّى عليك التيه
والنسيان سَلََّمْ.
فإلى أين سأمضي بمواعيدكَ؟
لا أسأل عن أمكنةٍ
سجني مكانٌ
غير أن الأزمنهْ
جُرّدت من حقها بالسفر الحرّ
ومن حق المكانْ.
يبست في معطفي
سبع غمامات وذكراكَ.
أتبكي؟!
مالحٌ دمعكَ
والشاعر في مرمى القصيدهْ.
إنه يكتبها
أو لأقل تكتبهُ
أو يكتبانْ:
ربما تحمل لي ورداً
ولكن.. دُلّني
بعدك من يحمل وردكْ؟
ليلنا تطفو مراثيهِ
على البحر الطويلْ
وأرى وجهيَ فوق الموج
أم وجهك هذا؟!
مالح دمعكَ
فأذن لي بأن أغمض عينيّ قليلاً
وقليلاً
وقليلاً.
بعدُ لم أسلم جهاتي
لقضاء الرمل.
خلفي زمن يخجل
من أكذوبة الجغرافيا.
شكراً لعصفور بنى أفقاً
على النافذة الأخرى
وطارْ.
آهِ يا كاسر ظهري
ظلك الآن غدٌ محترقٌ
أنشر أمطاري عليهْ
وأناديك بما في الروح
من وهوهة الخيلِ
فهل تسمعني؟
إني أنادي
أنا لا أبحث عن قبر جماعيٍّ
ولكن .. عن بلادي.
شباط /1993
*******************
هذا هو الآن
إلى محمد عبود
أيّ مرثيةٍ
حين قامته رمحهُ
وجناحاه سرب من الطير؟!
هذا دمٌ ساحليٌّ
فلا تغلقوا الشرفات
وهذا صباحٌ دؤوبٌ
يدق الزنازين..
سيل من الخيل يعدو إلى جهة القلب
والليل يشرح أكفانه البيض
ماءٌ سريرة هذا السراب
وفي دمه كوكب فائض
وسهول من القمح لا تنتهي
ويدان مشاعيتان.
خذوه إلى غده نخلةً
واقرؤوا ما تيسر منهُ
هو المصحف المَطَريُّ المؤجلُ
يا حادي العيس ماذا ستحدو؟!
وقامته نهره حين يجري
وقامته شارع في البلاد
أجل.. تبدأ الأرض من شارعٍ
يبدأ البحر من موجةٍ
والسماوات من نجمة القطب
هذا هو الآن..
ليس لمرآته أفق مستتبٌّ
فعيناه واسعتان
وتتسعان.
أَعِدْ أيها السهل سهلك
مُرَّ على قرية في ثياب القتيل.
هوى نيزك من مجرّتنا
فانحنى قوس نصر على قدميه
وبلّله ببياض النوارسِ
كم قالت الكلمات:
نواياه أجنحتي
ثم طارت.
وقالت له الطالبات: سلاماً
فمدّ يديه إلى الطالبات
وأهدى لهن شرائط حمراء
من راية يرتديها
فطرنَ..
ودقّت على الباب ريح الشمال،
ودقّت عليه الجريدةُ،
ساعي البريد،
يدا أمه والرفاق،
فطارَ.. ومازال محتشداً بيننا
فاقرؤوا جسداً مثخناً بالجراح
كل جرح بيان.
*******************
التكوين
تركتْ في الريح خصراً
ويدينْ.
لم أكن من قبل ناياً
لم تكن أجنحة الطيرِ
ومن يعرف أن البحر
في البدء بكاءٌ
فائض عن عاشقين
افترقا دمعاً
وحين التقيا
هجس الدمع بأقواس قزحْ
وبليلٍ موغلِ اللحظة عينْ.
* * * * *
تركت في الريح منديلاً
وحقلاً من قصبْ.
أيّهذا الولد الهارب نحو الأربعينْ
ينتهي الحب إلى أولهِ
وإلى آخره يمضي التعبْ.
قيل لي..
أنا لا أذكرُ!
أو أذكر لكن قيل لي
وسّدتني أول الصبح يماماً راعشاً
حتى إذا ما اكتحل الشاطئ بالموجِ
هطلنا.
آية الخلق مطرْ
مصحف الخلق حنينْ
أيهذا الولد الهارب نحو الأربعين
ما الذي يفضي إليكْ؟
ما الذي تفضي إليهْ؟
* * * * *
تركت في الريح أسراراً
فكان القلبْ
حجراً حيناً وحيناً ياسمينْ
أهي الضدان.. أم أنتَ؟
أجبني
أيها المفتون بالريح مع المرأةِ
بالدمع مع الضحكةِ
بالظل ووهج الأربعينْ
أهي الضدان أم عصفورة مالت
على غصن السؤالْ:
كيف يا رب وأينْ؟!
تركت مغفورةُ الأهواء
خصراً.. ويدينْ.
أيار 1987
*******************
صدى
أنا طائر الوعد مهما الغيابْ
وأنت التي حين أخفقُ
أنت السماءْ
فلا تسأليني كثيراً كثيراً
كأني أسوق أمامي جنوني
كأني أسوق السحابْ.
*******************
اغتيال
عرش القصيدة وردةٌ
تغتال صاحبها
وتسعفه ليمنحها الكلامْ.
وله إذا أخذته أن يمضي
إلى أقصى السؤالْ:
برقاً تقصّفه الرواية والغوايةُ
والظلالْ.
وله النبوة كلها
من جمرة الرؤيا
إلى أنثى الغمامْ.
تدمر 1991
*******************
تشخيص
العاشق بنصف قلب
لأنه أهدى النصف الآخر
إلى الحب.
الجلاد بقلبين
الأول: ليكره الآخرين إلى النهاية
والثاني: ليكره نفسه إلى النهاية
ويحدث أن يتعب أحياناً
فيُضطر للعمل
على قلب واحد.
شباط 1993
*******************
محراب الحكمة
الأشجار
أسئلة الغابة
وأنتِ أسئلتي.
أحببتِني جواب الشجرة
الأولى
وأحببتك سرّ الشجرة
الأخيرة
ثم قبلة وراء قبلة
راح يعلو
محراب الحكمة.
*******************
مادمتِ.. أكون
لك أن تدخلي
بغير استئذان
وتخرجي بغير استئذان
مادام قلبي مشاعاً
ولي أن أكون اعترافكِ
مادمتِ غفراني
سؤالكِ
مادمتِ جوابي
أمطاركِ
مادمتِ برقي
زمانكِ
مادمتِ مكاني
فهل عليّ أن أعتذر
إذا كان مصيري ملفّعاً
بالغموض
وحياتي محفوفة.. بالقصائد؟!
*******************
الدمعة
يمكن للدمعة
أن تكون حجراً
وأن تكون وردةً
قولي لهم
أنا وأنت شاهدان
منذ بكاء طويل.
آذار 1993
*******************
درس في الإملاء
لأنها تكتبني بعينيها
فإني عندما تخطئ
في الإملاء
ولاسيما في كتابة همزاتي المتوسطة
أعيرها قلبي
لتمحو..
ثم نبدأ من أول السطر.
*******************
انقلاب
قبل اعتقالي
كلما سهرنا كنت أقول:
هذه ليلة من العمر.
أما الآن..
فكلّما سهرت أقول:
هذا عمر من الليل.
يا إلهي..
حتى تاء التأنيث!!
* هُرّبت قصائد هذه المجموعة من السجن مكتوبة على ورق السجائر، ونشرت بعد خمس سنوات من تهريبها، وهذا ما جعل طبعتها الأولى مليئة بالأخطاء المطبعية والفراغات الناجمة عن عدم إمكانية قراءة بعض الكلمات. هذا بالإضافة إلى نشر الكتابة الأولى لقصيدتين رغم تهريبهما لاحقاً معدّلتين. قام الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي بترجمتها إلى الفرنسية تحت عنوان آخر "لا حيّ، لا ميّت"، ونشرها عن دار الدانتي. فازت في عام 1998 بجائزة هيلمان هومت التي يمنحها نادي القلم العالمي بالتعاون مع منظمة هيومن رايتس ووتش. |
إقرأ أيضاُ