لينا الطيبي

(قصيدة)

أرمز لسيرتي بالمرايا
وأرسم لصورتي دهاليز من الضوء

1

لينا الطيبييذهبُ أيارُ
تذهبُ حدائقُه,
ولا يبقى لي غيرُ يدي التي شُلََّتْ.
حينما يأتي الماضي دفعةَ أسىً
تضجُ ملاهيكِ
أمسكُ طرفَه, ولا أهتدي,
القبلةُ غبطةٌ نائمةٌ
أفلتُه,
طيفكِ يظللُ الفراغَ
أُنطِقُ به موجوداتٍ خرساءَ
وأحدثكِ.

في ايار تتلفتين نحو الماءِ
ولا أراكِ,
أمُدُّ يدي ولا ألتقطُ سوى الصوتِ
الألوانُ تنطقُ
وأصابعي الطريةُ تلتهبُ بالملح.

حدثيني في اليوم الغائبِ والرقةِ المكسورةِ.
زورقي ينجو.

ليلةََ أمسِ خرجتُ برداءٍ أسودَ
وسويتُ الترابَ
قلتُ لمرةٍ أكونُ الصخرةَ التي تتحطمُ عليها حياتي
والآن أهبطُ على عوالمَ اخرى
وأقطعُ اخشاباً هي سريري.

الموتُ تذكارٌ نُسوِّي عرائشَه
ونرفعُه على هذه الأرض.
السائرونَ يقفون كموجٍ هلعٍ
لا سميرَ
لا شريطَ يُقصُّ
لا شاشةَ بيضاءَ
لا سماءَ..
نُسدلُ الستائرَ
ونقتصُ من اليوم.

والآن أعودُ
في كل صوت وهواء
وفي الشمس إذ تتآكلُ كحيواتٍ ميتةٍ
في الموتِ, نعودُ
ضحكَ أوقاتٍ سعيدة.

شرقٌ نحيلٌ يهوي على الأرض
أزهارٌ تَرشقُ الموتَ,
أقولُ تلك سمائيَ
وليمونتي التي هي قسمتي
إرثيَ المكتوبُ
نَصْلُ النهارِ الطويلِ المسافرُ في العروق الهشة.

2

أدخلُ البحرَ وأنجو من تهلكةِ التراب,
الوقتُ زبدُ المرايا
والرؤيا سلَّم الدهشة.
لا شيء لأن لا وقتَ؛
صورتي أعلى من الموجة
ورائحةُ البحر تخدشُ حيرةَ الماءِ,
الملحُ يأكل قدميَّ
والسرابُ يحتفي بمجيئي.
وحديَ لأن لا صلاةَ
صرتُ أرى الماضي.

ولأن البحرَ يحملُ موتاهُ
رأيتُ زبدَ السيوفِ,
وفي القاعِ تَشَقَّقَ القاعُ,
القِدَمُ يعبقُ بالرائحة
والصور أطيافُ نساءٍ
جميلاتٍ بما حُمِّلن.
في قلوبهن ظمأ,
وفي أصواتهِن تَرجُّف الماءِ.

ما كان لي أن أخطو في اليفاعة,
في البرج المائي لعقارب الساعة,
في الزمنِ الغابرِ,
كن في صفٍ واحدٍ
مزوداتٍ بآلات نامت عند وسائدهن طويلاً,
ولما صَحَون كان الرملُ يبتعدُ.

رأيتُ كل هذا بعين مثلومةٍ هي عينُ اليقظةِ.

البحرُ يخبىء توابيتَه
والصليلُ يمزِّقُ الهدأةَ,

تَرفَعُ نساءٌ زينةَ أرواحهِن,
ويصّاعدُ نحيبٌ يؤرقُ القارئين.

الليلكُ في البحر يهذي,
والموج يحملُ الرائحة,
المساء مقفل؛
كذا البحر,
والريح تُهلِكُ الشُعلاتِ.

الماضي ينفرطُ كما البنفسج.
والمُغنّي وحده في الظلِّ.

قلتُ لهم: مَزِّقوا الستارةَ
يتبددُ جرحُ الظلامِ.

رفعتُ رأسي ومشَطتُ شعري؛
ناداني أناسٌ
وقالوا أنهم أحبوني
لكنهم برقّة العارفِ جَرَّحوا روحي, وتنصلوا من يدي.

أتكأتُ على بياضٍ
ورأيتهم يُلمِّعون وجوههم, وكانوا يجلسون.

الخفاء عطرُ الليلِ,
ولأنني أحببتُ اللهَ
فتحتُ المرآةَ ورسمتُ له وجهي.

ولأنني أرتقيتُ السلَّم,
رأيتُ الجنة
ولما دخلتُ
كان اللهُ جميلاً يُحِبُّ.

هبَّتْ الحيرةُ ولمَعَ نصلٌ جَرَّحَ الوسادةَ,
نامتْ رأسي في الشقِّ
وارتفعَ صوتٌ شجيٌ.
الناي وحده كان يعزف,
صار اللهُ حُلُمَ النساءِ اللواتي أحببن وجوهَهَن في المرايا.

خرجتُ من تابوتٍ, ومشيتُ عند البحرِ.

مجدداً كانوا,
أجلسوني وأتوا بوشاحٍ
ولم أمْسَسْهُ,

كانت حواء تلهو بقدمها, وآدم يَحفرُ في الرمل.

جاء رجالٌ,
حدثوني.. وسمعتُ حشرجةٌ تخرجُ من حناجرهم:
الأخرس
        الأصَّم
             الأعمى.

الفطرةُ صفحةٌ مفتوحةٌ,
والصحبةُ وجهٌ يتماوجُ,
ثم,
رأيتُ اللطفَ يُوزَّعُ
والقسمةَ تُحتسبُ,
بسطتُ كفي
وفي البراءة, ما قبل اليوم, رسمتُ مساري,
في الفجر, أيضاً, وأيضاً,
صعدتُ الهواءَ العالي
وتلقفني فراغٌ,
كل ما معي مرآةٌ
وشَعرٌ مقصوصٌ تهبُّ به أحلامٌ؛
جنةُ أرضٍ تنفستْ الخلاء.
حينما, وحدك
على الأرض
يتطاولُ البنفسج,
وتفوح في الندى رقَّةُ الورد.
التراثُ ملكاتٌ جميلاتٌ
وأطيافٌ تحرثُ,
صوتُكَ
يأتي بالغائبين
حينها أنت ملكٌ
والسُحبُ سكينكَ تُقَطِّعُ بها وحدتكَ.

أستعيدُ نفسي
أقفلُ عليها,

تمرُّ بي الأمُ التي رحلتْ كما الموجة
الأبُ الذي نام وحيداً..
والأخ الذي أسلم زورقه للخسران..

العائلةُ السعيدةُ.

ما الذي يعودُ بي وأنا أجري
وألهبُ خطواتي بملح البحر؟
البابُ مرتجٌ بالأغاني
والمخيلةُ سلَّمٌ يُشَقِّقُ العالي
تتنزلُ السور
ويلمعُ ندى الغبطة,
قلتُ: أكونُ سوايَ
أسمعُ كلاماً قديماً
وألبسُ أثواباً أخرى,
رنَّ في الخلاء صوتٌ, غادرني الأصدقاءُ.
صوتي والماء
الرحيقُ يفوِّح الخلاء.

والآن
لا شأن لي بأزهار ذبلتْ
لا شأنَ لي بيومٍ عشته
لا شأن لي بمطرٍ
بموجٍ علا
ووسادةٍحملتْ رأسي الصغيرة.

الصمتُ ينبشُ دفائنه,
تخرجُ روحي من غبطة الانصياعِ
مذاهبَ جديدة وعَرَاء.

والبحر, بمدائنه الغريقة, يؤلم كما الشروخُ في اليوم البِكْرِ,
اللطيفونَ وحدهم يعبرون,
ثمَّة صوتٌ,
ثمَّ أمل,
ثمَّة بكاءاتٌ متقطعةٌ للأرضِ.

أعودُ الآنَ
أُقفلُ على آباءٍ مساكينَ
رأوا اللمعانَ
وأزاحوا الستائرَ بقلوب خافقةٍ,
وإذْ صعدوا
أيضاً...
هكذا رأيتهم يتساقطون.

المطرُ يجلو الأرضَ,
أُودِّعُ, بفرحٍ, بطغيانٍ’ شقائقَ قديمة.

موتٌ في الظلماتِ.

والآن, برفعة الصوتِ
أنظرُ أياماً جديدةً
أنهضُ,
وإذ لا أطيقُ القناعَ في المرآةِ
أُضيء غفوتي.

البحرُ يُطلقُ نوارسَه
والماء يلامسُ القضبانَ.

3

وها أنا معولُ حياتي
أحرثُ كبستانيٍ وحيدٍ أرضاً مضروبةً هي أرضي؛
وأتنبَّتُ كحشائشَ رعناءَ,
مجدداً أقتلعُني,
أحملُ معولي, حياتي الثقيلةَ
وأمضي بما لم أهوَ
أحرثُ أرضا أخرى, حدائقَ ليست لي..

ولأن الفوزَ دائماً ضربةٌ مسمومةٌ
أمضي إلى البحر
الأمواجُ تتساقطُ من علٍ
أتقهقرُ كدفعةٍ من ترابٍ شقيٍ,
أُبطلُ الصورةَ,
أمحو بوقت مستقطع, ونجاة أكيدة
مواسمَ الحسدِ.

الماءُ لعبتي,
أجمعهُ في خرق من نسيج يتهاوى
وبعلوِّ الشهقة أرفعُ الشمسَ
يتلقفها فضاءٌ
أصحو... ولا أستسلمُ
أجرَحُ يأسي بالألم
ولما يتوسعُ فيّ
أطوي مظلةً كانت مفتوحةً.

خلفي أرائكُ وحيدةٌ
مسمرةٌ غلى حوافٍ في الظلِّ.

4

كُنا هواءً يأتي من تخومٍ بعيدةٍ؛
والآن ندبُّ كأيتام,
المسيلُ يجرفُ أوهامَنا
وفي السحيقِ من الخيانةِ
نستثمرُ الأوجاعَ.

ايها الأصدقاءُ,
كنا انتظرناكم بجيوبٍ مقفرةٍ
والآنَ بيأس العارفِ
اشتبهنا بوحدتكم.
ميلوا كأغصانٍ من ذاكرةٍ خرفةٍ,
الآن..
نفتحُ لكم المساربَ بما لا يتاحُ,
هواءاتٍ,
ونحنُ الغرقى الموجوعينَ بالماءِ
ارتوينا
ومن قبل كانت لنا آفاقُنا
ولأننا ناديناكم بالصوتِ وهو طريٌ
خرجتْ ديارُنا من الصدور.

هنا..
في أرضٍ وطيئةٍ
يكفنوننا بميتات فلوات بعيدة
وينحدرون بنا إلى مساكن الأهلِ
يرفعون عنا السماء, ولا تأخذُهم رحمةٌ.

5

وفي الأرضِ, حيث نقفُ؛
في مكان ما؛
نقرأُ الصحفَ,
ولأن الموتَ رأفةٌ
تتنزلُ علينا ملائكةٌ.
لسنا أندادَ الصمتِ,
نطلقُ الظلالَ في أمسياتٍ ناعسةٍ
ونهللُ لتلال عاليةٍ
وبالولاءِ البارد نحجُّ.

المأساةُ حَجرُنا في صيفٍ فارغٍ
نجوبُ الدموعَ ونستقبلُ عوائلَ من ايامٍ قديمةٍ
في ايدينا رسائلُ بيضاءُ
عُذرُنا أننا في أرضٍ, وحنيننا يهفهفُ.

تركْنا مدناً صغيرةً
وبكانا غائبونَ من منحدراتٍ.
مائدتُنا ليمونٌ
وأطباقُنا مرايا
هكذا رأينا غياهبَ سوداءَ.

لكننا لا نعودُ
كالنصلِ نشققُ الهواءَ
ومن كوىً صغيرةً نرحلُ.

صحوٌ في قفارٍ..

والنمرُ وحدَه
ذلك الذي أطلقَ مخيلتي
رمى بي في البرية, في الفسيح من الشجر,

غافلني ونام.

الآن, أمضي نحو الزمنِ
ولأني حارسةُ هذا الممرِ
أُرتجُ بواباتٍ عالية
وأنظرُ قوسَ قزحٍ يكسرُ الرأفةَ..

ولأن الأهلَ غمسوا لقمتي بالزيت,
عبرتُ حياتي كما الظلُّ الخائنُ,
ولأنني في الأرض,وعليها
أقبضُ بيدي على ماضٍ أطبقتْ عليه أزهارُه.

6

حياتي التي انفرطتْ,
أناملي وهي تلملمُ,
صوتي يخرجُ في الهباءِ,
عتمتي,
يومي الذي ارتسم شمعةً في الظلِّ.
تلك أسماءٌ أخرى لأشيائي,
الحقيقةُ وحدها تلتمعُ في السرابِ
تموجُ بأحلامٍ صغيرةٍ
وترتقي سلَّم الشهواتِ إلى المصارع.

ولأنني هبطتُ, تلقفني شغفٌ ونسيانٌ؛
وكما أني هبطتُ
ظللتُ في سِنة من الخوفِ.

أسمائي التي توهمتُ؛
عائلتي,
هؤلاء الذين مزقوا حُجبي وأولموا الصِلاتَ..
أحبُ تلك المزهريات التي لَوَّنوا
الضحكات
والوعودَ الصغيرةَ.
قلتُ أحبهم وأقفلتُ النافذةَ,
وما كان لي في الحبِ,
ما كان لي في الوقت,
ساقتني خطىً في حذرٍ شقيٍ,
صرتُ أتلفتُ جهة الصوت
وأيما انطَلَقَ رحتُ أعدو كسهمٍ طائشٍ في سماء طليقةٍ..
الآنَ,
كما الأمسُ.. كما الليلُ
كلماتُ البحر رسائلُ طيَّرها سعاةٌ.

الأصدقاءُ الذين تركتُ
تابعوا آثارَ خطوتي على الماء,
تأملوا التربةَ وهي تتشققُ
ورأوا رماداً قالوا إنه الذكرى,
هكذا صرفتُ أيامي.

7

الآن, مُسلَّماتٌ للنسيانِ,
صوتيَ وحدَه يحفرُ
وكما بنفسجةٌ.. أشربُ سَقْطَ الموسيقى.

مُذ عَرَفْتُهُ صار صوتيَ يُشبِهه,
تغضنَ منزلي, وصارَ لي حقلٌ في الطبيعة.
مشيتُ لما مشى
ولما توقفتُ
أكملَ المسيرَ’
علمُ النهارِ يرفرفُ وصوتي يعود من نزهتي.

بيدٍ وحيدةٍ نمتُ
الأخرى كانت ترعى فصلاً من الوردِ,
الآن أصفقُ بيدين في حفلٍ.

8

لأن الموجةَ تلوذُ بالشاطئ.. وتموتُ
أسوقُ قدميَّ إلى الهجران
اسافرُ في مدن بعيدة,
وحيثُ أرضٌ شبيهةٌ
الغابةُ موحشةٌ والألمُ يلكزُ الجسدَ
لا شيَْ,
الآنَ أفقٌ مسطورٌ
شغفٌ بماضٍ ورؤىً تُنَزِّه مفاتنَها؛
الجغرافيا تنهضُ في الأرض
وأرى في مطلعِ الصمتِ روحيَ, بعيدةً وقاسيةً..
ما تَرَكتُ
وما تُرِكتُ
لكن الزرقةَ ابتعدتْ بي.

ما حلَّ بالأشجار؟
بالمطر على تخوم الصيف؟
بليلٍ وليل؟ ما حلَّ بي؟
هوائيَ مقذوفٌ في مدارٍ مضيءٍ
وحيثُ يتنزه غالبون بمصائرهم
أتَطَلَّعُ
كهذا الوهمِ, كثوبه أنا بينَهم.

النسيانُ والصرخةُ,
يعيشان في الحنجرة,
أخرجُ من هزيمةٍ وأشقى,
ولأن الملح يموتُ في البحر
أزرعُ الترقبَ بالماء.

ولا أحصدُ

مدني غائرةٌ
والجبهةُ صيفٌ.

اتقوا الله في النبأ
في الهمزة حين الوصل
في الرعشة حين الدم
في الأبيضِ .. لما..

اسدلُ ستائري لأرتقي سمائيَ
ومن حيث ظلٌّ غامرٌ
أرى شمساً لاعبةً,
ولما يَخرجُ نهارٌ
تكونُ تلك بلادي.

9

ولأنني رأيتُ ما رأيتُ
أقفلتُ صوتاً على المساء
وحلمتُ..
تلك الملاعبُ خضراءُ الطفولةِ
ما كنتُها, وما عرفتُها,
مشيتُ على القسوة
خانتني فسحاتي
انسللتُ من الوقت
وحيثُ الهواءُ يلاعبُ موتاهُ
كانت تلك وقفتي..

المدينةُ..
حيث الماءُ ينسكبُ مجروحاً
يُنَزِّه غبطتَهُ
سوداءُ
تلك هي.
ولأنني في مساء ما
وقتٌ يولدُ ليفرَّ,
أنظرُ مرآتي
وأرى خطواتي المهزومةَ أصواتاً بعيدةً,
تلك طبولٌ تقرعُ
وفي الحقل حيث أحذيةٌ لرجالٍ كثرٍ
أموتُ,
وفي النبأ
أن مدينةً..
تلك كانت مدينةُ اليومِ.

قسمتي أن أقبضَ الهواءَ
أن أجرؤ ولا أقولَ,
أن تهمسَ شفتايَ,
أن لا أدمعَ, حين العدلُ روايةُ الظالمِ.

10

خفَّ الوجلُ,
شعاعٌ كَسَرَ إبريقي,
تهشمتْ الغفوةُ
والمرئياتُ تهيأت لتعتيق معالمها.
الأثرُ بالأثرِ
والمدينةُ تغادرُ البصيصَ,
ما كان موتاً غادرَ الخرائبَ
وخرجَ يلهو بتطيراتٍ مشؤومةٍ؛
تلك كانت الهزيمةُ...
السُمعةُ تتمردُ على الحائكينَ
والمشاعلُ تمورُ,
الكهوفُ خلت من بطائنها
ونَسَجَ روائيونَ جدد مداخلَ الأزهارِ,
الأثرُ بالأثرِ.
التحيةُ توقظُ تمائمَها
تغزو مطالعَ السبلِ,
النومُ لما يصحو تنطقُ خسائرُه.

في العميقِ من الموت
غادرني الموتُ؛
خرجتُ وفي قلبي كِسَرُ الصدى
حدائقي تتوارى.

والآن, هنا, رقعةُ الصمتِ
الشارعُ يضجُّ
المدينةُ سَفَرٌ مقفلٌ؛
أيّما اتجهنا ذلك البحرُ
أصدافه تلهو بالقيعانِ.

مجدداً.. تلتمعُ أقدامُهن بالحناءِ
يخرجن من ألف ليلة إلاّ
يأخذن المدينةَ إلى النوم
ذلك كان صدري, وغفوتُ.

11

الحيرةُ ماٌ
يَقْطرُ كما الحبُ البخيلُ؛
تموجُ في الغيابة
تهذي إذ يطلعُ فجرٌ,
تلك وردةُ الليلِ؛
مساكبُه؛
عمياءُ؛
لا لغةَ بيننا,
تلك كانت حجبٌ, وتَنزَّلتْ,

جاء نحاسونَ أشقياُ ونشروا مناديلهم
بيضاءَ المشقةِ,
وفي المسارب انتشرَ الجندُ
وماتت تمائمُ خضراءُ,
ولشدّةِ الموتِ صار الجدارُ شاهداً مجنوناً.
كنا أطفالَ الهلاكِ
ألعابَه التي يلهو بها, أشياءَه الضائعةَ.

خرجتْ المدينةُ,
ساقها جندٌ مرتشون
وفي الحضيض من الليل
هُتكتْ الوردةُ,
أغنياتُهم انقصمتْ في آذاننا؛
خرجتْ هي الأخرى,
والموتُ الذي عَرْشُهُ أبيضُ
ظلَّ في الفجر,
مخلفاتٍ قديمةً لمارَّةٍ هالكين.

أُودِّعُ الليل وأَدخُلُهُ
أنام في دعة,
الحنين يتآكل في الصمت,
أبترُ حيرتي بمنجل صدىءٍ.

في الروايات النوارسُ خرجتْ من ظلالها
وتكسرتْ على الماء,
في الطليق من الهواء, على الموج
أسماكٌ متوحشةٌ عامتْ قريباً من الشمس.

أبتعدُ وتصلني مسموعاتٌ جديدةٌ..
الصدى مطلعُ الحال,
وإذ أموتُ
يتلى على جسدي حنينٌ مهترىءٌ.

وإذ يصمتُ الهواءُ
تلوحُ ذكرياتٌ هشةٌ,
عراكُ كلامٍ,
غبطاتٌ تعودُ من مصرعها,
ألم يسطع كأبرة,
صاعقةٌ تُشَقِقُ الكمائن.
هنا, أهبطُ,
المثلُ شبابيكي ومساربي
وفي الغضِّ من الخيال رأسي تشتعلُ.

12

عامٌ على الأحوال
سَقْطَ المتاعِ في حديقة المسافر.
السعفةُ في بيت يتهاوى
أراها من هنا
مائلةً لأنها وحيدةٌ؛
ولا مطرَ, لا تؤدةَ في الهطل,
لا شمس على مغرب.

عامٌ على السفينة,
البحر المترع الأهواء
وفي الوحشة.. تموت الليالي.

تلك نصوصي المهدورةَ على الوقت.,
والنزوةُ جُرح الفلك
ليلٌ ينجو؛
وقبلةٌ في الغمرِ.
هبَّ صوتي في هبوبي
سمعتُ الهمسُ يقرعُ,
ورايتُ الجدرانَ تميلُ
أرجوحتي ترتدُ
ما مَسَستُ ولا مُسِستُ
ذلك كان الهواءُ يرتجفُ.

أصواتٌ, عصفٌ في حدائقِ الماضي؛
ذئابٌ تعوي متعاً صفراءَ
جنونٌ يطبقُ على الخيال,
تلك مختاراتٌ من القص؛
رغائبُ تؤوب مهزومةً...

المدينةُ تناومُ الرملَ,
حلُّوا البنفسجَ من الوكرِ
نرهة للمفاتن.

الآن,
ينهضُ القاعُ
ملساءٌ هي المدينةُ,
والمحسوساتُ التي هي أختُنا حدثتنا,
ذلك تكوينٌ للبدائع
غير أنّأ في مكانٍ لنا فيه خبزٌ, وماءٌ زلالٌ ووحشةٌ.

أجلس في هواء كئيب,
الظلال تؤوب إلى الجدران؛
وجاري يتسَقَّطُ الهمسَ,
الشجرةُ سري المفضوحُ؛
وغريمي الإسمنتُ,
كنتُ حدثتُ الوسادةَ؛
ولما صحوتُ, قيل لي كلامي,
لا أسمعكَ
لأن الصيفَ يصرخُ
وذكرياتي خضراءُ كهذا الرغيفِ.

13

أعلمُ أن لا مغفرةَ للحجرِ,
لا صديقَ, ولا ذاكرةَ,
أُغلقُ نزهاتي القديمةَ..
وأفتحُ قدرةَ الصوتِ,
الماءُ ينسابُ كالنوم
يُرقرقُ عشبَ الهواء, ويُندي الجبين.
تلك ولادات لأموات ضاقتْ بهم السبلُ.

لا وقتَ للماء..
للحمرة المأخوذة بنزول البحر,
لا وقت لأجنَّ,
سمائي تهاجرني, وأحلامي قطيعٌ تَوجَّس الزلازل.

مازلتُ في مطلع الحال,
أغرسُ في الرمل أصابعي ويطويها الزَبَد.
ربما هو النسيانُ طاقةُ المرايا على التجمّل.

الفقدان يأتي بالعائلة؛
تلك أوهامي التي قَدَّستُ,
أمشي على كوكب هو أرضٌ,
وإذ تهربُ مني خطواتي, أتشبث بالهلاك,
الباطنُ مني يؤكد نبوءتي؛
والخارجُ نسرٌ يُبسطُ جناحيه,
لا أنقضُّ,
تلك العائلةُ أصابتْ بي الموتَ؛
أخرجتْ من ودائع كتمانها محبة سوداء
وسوَّرتني,
الوحشة تَنَزَلتْ لي كما القدر,
وكُتِبَتْ على فمي أسماءٌ؛
ولما أقولُ تنطق بي خسائري.

بين الماء والماء أحملُ ميلادي,
أمدُّ يدي لألتقط الغورَ بعينين مطفأتين وفم حبيس.
ولما كانت البداياتُ, اتسَع همسي بالرجاء,
تكلفتُ الصوتَ, والضحكةُ بلا مرسى,
ولما ضاقت بي الحمى, أطلقتُ نجدتي, نشيدي الواحدَ..
وبغناء أجوفَ, رأيتُ الماء يتبخرُ
وظلي تحرقه الشمسُ.

تلك علاماتٌ تستوحي يومي؛
تعودُ بي في كل مرةٍ,
ولذلك, تلك هي نجاتي من اللوح.

الماضي بلا سمعة بريئةٍ, ولا فرحٍ,
الماضي ليكون سريرنا,
لنجلسَ وتضربنا الزلازلُ,
تحيكُ بنا الهزائمُ برامجها,
والماضي إذ ننساهُ, ينسابُ إلينا برقة الفراشة.

أضربُ الضوءَ بيدً هي نصفُ روحي,
أطأُ العتبةَ وأزهقُ المداخلَ,
بغتة, شمسٌ مؤقتةٌ تحلّ في دمي,
شمسٌ ذاهبةٌ تغادرُ,
أختمُ الحيرةَ..
وفي الفجر, إذ يصعقني الانكشافُ
أقبضُ على ما تبقى,
أسقطُ كوهج على ظلٍّ
وأنظرُ هواءً, فضاءً بلا صورةٍ.

هكذا نَفَرتُ من أيامي
استوعبتُ حياتي, وثقبتُ معرفتي,
ولما يتلاشى الزمانُ
أصعدُ إلى برج
وهناك, كالسمكةِ, أموتُ تحت الشمس.

لا سماء إذنْ..
ولمَ نموتُ ركوعاً
لمَ نبوحُ بالعزلة لمرايا تهشمت؟

14

موجةً وراء موجة جاء الطوفانُ,
والأرضُ التي أقفُ عليها تنهارُ كميتات مفردة,
الأرضُ التي أغادرها؛
الشرقُ حيث هو المشرقُ, والبهو حيثُ يستطيلُ الرخامُ؛
تحت الأسرَّةِ..
وفي الوقت بين الجدران
بين العقربين
وفي الحجر الواقف كالزمان
وفي الموت؛
أرمزُ لسيرتي بالمرايا
وأرسمُ لصورتي دهاليزَ من الضوء.

الكلامُ ينهض بالمعرفة.
وعندما مشيتُ تلقفني شغفٌ,
وما أن وَطِئْتُ الترابَ حتى شممتُ الموتَ,
ولما ضرب السماءَ قوسُ قزحٍ ارتعدت مخيلتي,
وفي العميق من الغفوة تكشفتْ لي البصيرةُ.

الوحشةُ نادتني,
غنَّتْ لي بحنان تَبَدَّى, فاعتزلتُ لها؛
وبها رسمتُ الآتي من الأيام,
لما ضحكةٌ نفرتْ؛ انهزمت قصوري
وفي سراديب السهادِ استقبلتُ دهشتي.

الوحشةُ منزلي,
أفقي الظلام.

انفرط عنبٌ وتألقَ العشبُ,
مددتُ يدي لأستكملَ حضوري
لأكون في يومي الهارب.

رقةٌ تحفرُ الفرحَ, والقهوةُ تنتظرني,
أنا بطغيان الصوت
والآخر لئلا يسمعني.
تبدلت الأماكنُ
ورفوتُ كائناً أخضرَ.. أجلستُه
وفي التعارف قَدَّمتنا الوحشةُ,

تلك بدايات النوم.

15

الآن من بعيد.. الصورةُ مقلوبةٌ كما القَدَرِ,
مرَّ عليّ يوم,
أزهاري بيضاءُ, وسريري..
سريعاً نهضتُ,
وإذ أقفُ.. محمولات كالودائع ظلّت معي.

الأمهات حين يَتَبَسَّمنَ ترخجُ الغبطةُ من أرحامهن,
يُصعقُ الترابُ لمرأى الطفل يسقطُ من الألم,
تحت القمر تتنزه ملائكتهن,
ولأنهن حَمَلنَ تعاويذَ الحسد؛ ظللن في منأى عن العيون
ذوّبن الليل, وأضأنَ بالسهر؛
الحكايات في أصواتهن تمايلتْ؛
والسكون الذي هو نوم وحلمٌ خرج من صرخته,
تلك ألعابُ الماضي,
سحلياتٌ ترسمُ في الحائطِ مسارَ النهارِ.

16

حين توضأ الحاضرون باسمكَ ظننتُ الصلاة صلاتي
ولما خرجوا.. ذهب مني الصوت
الوجلُ دبّ في حنجرتي
وحشودٌ من الكلمات ودَّعتْ أذنيّ.

عندما أمدُّ يدي, إنما أعنيكَ
وعندما أقولُ اسمي أنطقُ بصوتكَ
لكن الكلامَ يخونُ
وإذْ أتوضأ بالصمت,
محبتي أن أجلسَ وحدي,
والروحُ إذ تكبرُ
أكرهُ مني جسدي,
لذلك أطردكَ
وبحنان هو كل ما أوتيتُ
أصونُ اسمكَ.
مرةً أخرى اجالسكَ ويجالسني تاريخي,
لا أنسى..
أطردُ النواقيسَ,
الوحدةُ لا تستقيمُ بي
وأنا لا شيء من غيرها..

فقط, يلتمعُ النسيانُ كفكرةٍ حين أتذكرُ.

يخرجُ الموتُ من الدفائن,
أدخله,
ذلك كان تاريخي.

مرجٌ على البحر غطى البحرَ,
والزبدُ سماء طليقةٌ,
هشةٌ, وذاهبةٌ,
في المطلق أرى الأزرقَ,
وفي العميق منه لا أرى,
تحيطُ بي جنياتٌ يقرأنَ..
تبصَّرن في الغد سريري,
توجستُ,
البحر يهلكُ في المساء.
وفي الندهة من الألم
رايتُ الطالعَ,
أخبرني قادمون بمنجلِ السفر؛
حدثني نقادٌ دقيقون عن منافذَ مغلقةٍ,
ولما هممتُ..
البحرُ سورٌ.

17

هنا, لا مدارك,
لا حدائق للتأمل,
أصحو على مناديلَ تنتحبُ,
ألملم ملابسي..
الليلكُ لليلكوالأحمرُ له..
الأبيضُ لا
والأسودُ مَلك,
هكذا أرتبُ حياتي في حذاء تحت السرير,
وإذا أخرجُ من الباب
يرمي بي السؤال,
ولما أعودُ
يضيقُ بي المنزل.. أوسِّعهُ بصوتي.
وبينا أنظرُ وجهي
أرى بقعتين سوداوين
هاتان عيناي,
ولأن النوم مسكونٌ بالجرح..
أفلتُه
ولا أطأ الأرض إلاّ حين الخدر.

رغبتي أن أقبضَ الهواءَ,
أن أشظيه بكفي,
وإن كان لا يُرى,
أُجسِّمهُ كمخلوقٍ تعس,
أذهبُ في نحوله..
وأختنقُ.

18

يخافُ عليّ صوتيَ من صرخة تشقُ قلبَ الليل,
وإذ لا أجيزُ لصمتي أن يكسرني
أفسحُ لمنازلَ تتصدعُ..
وبالصوت المطعوج,
بالرأفة,
أطردُ الهشاشةَ, وأقولُ:
ليست هذه حياتي, ليس قاربي الذي حملني.
إجتزت ضفة ورميت السؤالَ
وفي الضفة الأخرى رنوتُ نحو ثالثة.
حائرة بين قبلتين
واحدة تنأى وأخرى تموتُ على فمي,
ولما أُسألُ يَحارُ بي جوابي.
أقبضُ بكلتا كفيَّ على الضحكة,
أخافُ أن تذبلَ من انفراط الماءِ,
أندِّيها بأوقات مستقطعة, بهمسات الليل.
ما شئتُ لقاربي أن يتكسرَ
ما شئتُ لحياتي,
تلك أزمنةٌ لا أنتمي إليها,
مصارعُ لعشاقٍ تبددتْ قصصهم في الماء.

القدرةُ لما لامستني بخلتْ عليّ بالجميل,
أهرقتْ أباريقها في الكتب,
ولما استنجدتُ,
البحرُ فتحَ لي بين الموجة والموجة سريراً
ووهبتني شجرةٌ تموتُ جذَعَها الكَهلَ.

أحفرُ ليلاً بعد ليل,
ولما تكلُّ يداي أستريحُ إلى لطائف اليقظة,
أنسجُ مخلوقاتها الجميلة, أُحَدِّثُها..

وضعتُ رأسي في العميق من النوم, وعشته,
ما أشبهني بقطرة ندىً تواجه قيظَ الظهيرةِ
ما أشبهني بشقائقِ النعمانِ لما يتطير هواء.

الآن, كما في كل مرة,
أُخلصُ لمدائن فيّ
أبني قصوراً والأرضُ تميدُ,
أحرقُ بإخلاص, ايضاً, قراءاتي؛
أتسمرُ.

هكذا أدخرُ روحي.

ولأنني بيد أريدُ أن أشقَ الصخرَ
يُشفقُ عليّ صوتي..
لا أصرخُ, إذ ما إن أقولَ حتى يرقَّ لي قلبي.
هكذا يثمرُ بي الخسرانُ.

لكنها لم تكن دائماً هكذا
ضحكتُ مرات, وغنيتُ للمرآة,
تزينتُ أحياناً,
تواطأتُ والشمس,
غير أنني ما إن أقولَ حتى يرقَّ لي قلبي.

تلك ساعاتُ الخطرِ
أتنازلُ عن رفعةِ الصمتِ, أهزأ بالمقتضياتِ.

19

الهدأةُ زَلْزلَتْ
ودبّ الهلاكُ وشيكاً,
وفي الكتب أن نساءً من جيلٍ وجيل
هبطن السلالمَ؛
ولما كَشَّفنَ عن أفخاذِهن
مادَ البحرُ,
هكذا خرجن من أزمانهن
وتزاوجن والماءَ..

الأرجوحةُ ما قبل الوقت.

ما كان لي في الهجران غيره
حديقتي
مظلمةُ اللون..
جاءَ رعاةٌ وأسقطوا مناديلهم
مَسَّدوا الترابَ, وخرجوا,
ولما دخلتُ,
ضاءتْ الفسحةُ وخلتْ بي أغنياتٌ قديمةٌ
رحتُ أرقصُ,
خطواتي على تراب خفيفٍ
أنفاسي وهي تؤوبُ,
روحيَ إذ تنتفضُ.
تلك خلجةٌ, ربما, وحدها,
وفي زمن مضى تلك, ربما, أغنياتٌ أولى
أو, ربما, وقتٌ مستقطعٌ,
سماءٌ.

20

عمري مسكوبٌ كشهقة حبيسٍ
عيناي مغمضتان وعلى فمي رقَّةُ الموتِ,
قوس أطلقَ صوتي في بريةٍ
ولما عبرتُ, هجرني الماء..
تلك كانت رقتي وتكسرتُ,
ساومتُ الموتَ,
مشيتُ وفي الخطو مدارسُ رحتُ أودعها,
وبالشفاعة, بالقدر الكتوب, والزمنِ,
اشتددتُ على نفسي.

في المطر تعود بي أيامي
كل قطرة سماء,
والأرضُ لما تفوحُ.. هكذا الانتظار.
لذلك اصحو وفي قلبي مساكني
يا بلاد... يا.. بلا..د!
ويذوبُ صوتي.ز
هنا رنةُ الصدى
والخلاءُ في الناي يصهلُ,
أمدّ يدي, تلك يدي, هات يدك,
الآن تسّاقطُ أوراقٌ, تلك عالقةٌ في دمي..

يا..بلا.. د!
وتعودُ بي أصائل
أصحو على ديار بعيدةٍ, شمس وسماء..
تلك ليست سمائي,
قلتُ اشقُّ قلبَ تينٍ لدنٍ
وآكلُ
ذلك, كان طعامي.

النساءُ لا يتركنني
يزرعن في حديقتي اسم الوردة.

21

في السنة الأولى مُزِّقتْ الحجبُ
جئتهم في لفافة بيضاءَ, ونمتُ في أيدٍ كثيرة,
نطقتُ بنقاوة الصوتِ.

في سنة تلتها
مشيتُ,
سُرّتْ العائلة
وتربَّص بي وعدٌ..

في التالي من السنوات
نهضت بي الحيرة
وتكفلني معلمون أسوياءُ,

في السابعة
تهاوتْ شجرتنا
صار قاربنا نصفين,
وما تلاهما كان رأفة.

الشتات بسبحته المفروطة رسمَ للمخيلة زهرة الموت, تلك كانت بداياتٌ هشمتْ وشائجَ الصوت, ثم كان المسارُ خشيةَ التلفتِ, وتلك كانت شفقةٌ أستدرجتْ أوهاماً صغيرةً, لكن المشقَّة كَبُرت في المرآة.. ولما كان الصبا انهمرتْ بنفسجاتٌ على السور, انهمر الكلام, وفي الفيض نُخطىء, لذا نتطلعُ إلى المغفرة. سوداءَ كانت.

لأن الآخرينَ يعرفوننا بأسماء ليست لنا
كسرتُ السياجَ, وما عرفوني,
ولأنني الغريبةُ تلقفتني المسائلُ,
وغادرَ النهارُ, صحوي الذي لا أفارقُ..
وإذ أغفو, يأخذني زورقُ النوم إلى جنتي؛
ولأن الـ"حرام" طوَّقتني
خرجتُ ألمع كسكينٍ.

مراراً سدَّدتُ تسويات قديمة, خرجتُ من جدران حياتي, وقلتُ: أكتُبني. ولأنني ما عرفتُ سوى الهزيمة فيّ, ظلّت معي هزائمي, ولما أتفلتْ, اسـمعُ الهسـيسَ يخرجُ من الجوار. معلمات المدرسة, والأمُ التي تأتي من بعيد وفي يدها قرطٌ لأذني أو خاتمٌ لأكون لها, وأبٌ يقول لا, وتمتدُ يدي, تلك كانت حيرتي.

لما همسَ القلبُ, استرجعتُ الوصايا
كتبتُ الحب بأصابعي
ورأيته يراقصني
لم أكلمه
عشتُ الليل, وفي الصباح حَنَتْ عليّ كراريسي,
وكسرني الضوءُ.

لمَ عليّ أن أسرَّ الآن؟
الليل يملأ الممرات
والسحبُ تظلّل الأرضَ.

22

أخطو والليلُ سيّافُ الهدأة معي,
خيطُ عتمته مخطوفٌ بالقبضة
اليقظةُ تدبُّ في عرائسِ المنزلِ,
أقفُ..
ومن برد إلى برد,
النايُ يُشَقِّقُ الصرخةَ,
وإذ أتلَفَّتُ أتَسقَّطُ الكلامَ في الغيابة,
أذوي, هكذا, نهاراً قديماً في خشَبِ الصندوق.

لا, تلك يدكَ,
مذْ مُدّتْ إليّ صلاتي أزهرَ الصوتُ وبكيتُ,
القرآنُ في المدِّ من الساعةِ, والوحيُ مسكونٌ بالوحي,
أنحني للداخل مني, وأجوسُ
أثقبُ لؤلؤَ صرختي,
نجاتي في التفلّتِ,
في النورس فوق البحر إذ يلطمُ الموجةَ بجناحهِ المتهدل.

اجتزتُ صوتكَ إلى دياري, وخرجتُ,
العالمُ يومضُ في الغياب, وصوري عندهم.

تُركتْ يدي مذْ كانت لي في الرواية؛
وتُركتُ على النزهة من البحر,
تُركتُ في عبور المسلحين, لما كان صدري وصوتي,
تُركتُ في الذي بقيَ مني, أجمعُ الصورَ
قدماي صنيعتا ألمٍ.

تلك نهايتُها, الغريبةُ إذ تدركُ الأدراجَ,
إذ تسلمُ هزائمها للسماحة,
إذ تهبطُ القاعَ, ظلَّ القاعِ,
البددُ يوافقُ العينَ,
ولا هسيس لقدم تخرجُ من نومها,
تُقبل على المدينة.

لما عددتُ أصابعي سقطَ مني الغضبُ,
تبددَ في السكون جنوني,
وسمعتُ وقعَ أقدامهم,
الإطارُ الضاحكُ ظلّ يعرفُهم,
الآخرون تقصَّفوا في المشهدِ,
شُلّتْ الصورُ.

الأجسادُ في الجدار, وإكليلُ الحصان يتفلتُ, الزئيرُ يوغلُ في دم الغابة, والمناديلُ متربةٌ. الساعةُ شمسٌ, والنهارُ مقفلٌ, بلا أفقٍ يهتدي الجسدُ إلى ألم الخبرِ.

تيك يدي, والسكاكينُ تهزُّ ركبتي,
الفجرُ دامٍ عند السطوع,
تُهزَمُ الغريبةُ في فجوة روحِها,
يُمسحُ عن جبيني الماءُ,
أنا لستُ أنا ما لم تُمسكْ يدي,
أنا لستُ ما أعرفُ.

موتي في الذكرى عند الصحيفة والخبر.

23

فقدتُ وجهي
صار لي في المرآة شبيهٌ
وتساقطتْ ورود مزهريتي..
ألَّقَني الليل..
برقتُ مثل سيفٍ
دمي على يدي
وصوتكَ صوتي الذي به عرفتني.
الزنبقةُ في مهبِّ الخَيال,
أؤخذُ بالألوان,
وإذ أتساقطُ أعودُ إلى دميتي.

كنتُ طفل’ً, وكان الههو سؤالاً,
خرجتُ من كل استغماية أبرقُ باللعب,
وكنتُ إذ أُدركُ بالنوم, أذهبُ في خدره وتأخذني عربته,
كنتُ أُهدْهدُ في طيفي مكسوراً عند حافة حلمي,
وأعرفُ أن الصباحَ شتاءُ الضحك..

لم أُتركُ أكثر مما تُركتُ,
خرجتُ, ولما عدتُ كان الهواء هواءين,
مذ ذاك ذهبتْ صرختي طفلةً إليّ.

وها إنني إذ أدخلُ يسبقني طيفي إلى غرفتي فأجلسُ وأرمي على صفحة الخزانة ذهبَ ايامي. كنتُ وحدي.
وفي الظلال تتكشفُُ السماتُ كما ينبغي لها أن تذهبَ في الغموض, تُجلى في فرع معرفة واجفة الخوض, كنتُ السمة في مبلغ زوالها, وفي انحدارها نحوها.
كبُرتْ غرفتي, وتوسعتُ, وذهبتُ صوبَ اسمين, واحدٌ في دمشقَ وواحدٌ في بيروت, وبين ظلين من الارتجافة كانت تُخطفُ صورتي, كنتُ أكبرُ في غرفتي.

صيفٌ وهبوبه لافحٌ,
زمردةٌ توسعُ اسم الله لأبتهلَ,
ولأصيرَ دعاءَ النهضةِ,
كنتُ أُشلُّ لما أؤخذُ,
وأُشلُّ لما يعادُ بي,
كنتُ أُشلُّ في الواسع من الطريق, وفي الطريق إليه.

ظللتُ حيث القسوة شجرٌ من التين, يُجنُّ المساء فيأتي الحفيف مترعاً بالخوفِ, وكنتُ أعودُ إلى يدي, أُقبِّل تخففي من ثقل اليوم.
جُنَّ المنزل, وجُنَّ اليوم,
وخرجتُ في كل خميس, عند أول كل شهر, أدخلُ بقدم تُودِّع السنونو, وتستقبلني قاعة بكاء, كنّ في الأسود كثيرات, وكنّ يُقبِّلن أطفالهن, وكنتُ أُحملُ غلى البكوة, وأسترشدُ بالله.
قدمي تُجنُّ بالبكاء.

خرجتُ عصفورة الأسودِ,
تَخَفَّفَ الماءُ وخففني,
منزلٌ مصروعٌ بمعارفَ كثيرة,
بابان,
للضيوف واحدٌ,
ولنا في بكاء أقدامنا الصغيرة واحدٌ,
فُتح بابٌ, وخرجت أمي بزوج,
ولما عادت كان لها في غبطة المرايا طفلان,
ذهبتُ في السهل, نحو السهل,
اللام فَرَّغَتْ خطوتي, ونهضتُ في نظرة الحيرة, المنازلُ أقفلتْ صوتي, وجرحني سهمٌ لامعٌ. وكنتُ في عرس أبي اضحكُ لما اجتمعَ له جبلٌ صغيرٌ, وخرجت منه. كلي يهجرني, وقلتُ أكونني. مذ ذاك دللتُ في المرآة شبيهي.

صوتي يمررُ العناق هبةً للتفتح,
للغفران على أرض سمحة,
كنتُ أكرزُ في الشرق,
أولدُ في لمعة المنسيّ,
طاقتي دهشتي لما يسورني الماء,
كنتُ أُغبطُ.

ملتُ في أول الربيع, وحملني صيفٌ,
كسّرتُ الأوراقَ في لهيب خطوتي,
جمعتُ الإشارةَ,
ندائي يقفلُ الموجة, ولما يعود بها تغرقني.

كبرتُ.

24

كنتُ, مُجَاوزةً أُ سحرُ بالكلمات,
آخذُ سيف الحروف وأعبرُ إلى المواضع,
انشقَّتْ لغتي,
الماردُ في يد الصِبية يذيعُ القصائد,
يوحي بامرأة, يُغنيها,
أنام في وسادتي جرس الشِعر,
البناتُ في الباحة قرأن, سريري ورقٌ كبيرٌ.

إن كان للحلم أجنحةٌ اصطبرتُ على الطيران. ومذْ خاطبتُ الله عانقتُ اللفتة سراجاً لليل يُطلقُ الجفن. الهدبُ في الإفاءة والممشى يذهب بالضحى. الحصان يصهلُ في ياسمينات الغريب.

كل ضفةٍ تشبُّ وتتقصَّفُ.
شاعرٌ ظلّ يلعبُ بالكلمات ويحملُ رأسي, يجوسُ الموسيقى, ويراقصُ الحب. وكنتُ في شتاء الذكريات مشرقية الهوى, غائمة الوجد. هتفت بي الأغنية, ورحتُ في غرفتي اضاء بالزهرية. ذهبتُ في المرآة, طيفي يخطف الوهج, وإذْ كتبتُ قلتُ أحبُ, ورحتُ في زقاق الحيرة ألتقطُ ندى الفكْر, أُشرِّد الحواس وأُوجزُ. مذ ذاك أُنبئتُ بالحلم, وذهبتُ في الرقم بلا نصير.

مبتلةٌ وجسري ذهبٌ’
عشائي يروحُ ويأتي في وليمة الكلمات,
وطنٌ في الأغنية, موسيقى تُرَتِّـلُ الغائبَ,
تمجدُ نهاية مهزومٍ.
الهندسةُ تقفلُ الضفائرَ.

مدٌ وجزرٌ,
سيرةٌ تهوي كقطار بعضه يتكسرُ في بعضه,
المنجمُ يخرجُ بالشمس إلى الرصيف,
وضلعُ الصحراء برقٌ.

لا أزهار في حضور العنبر,
البيتُ قوس قزح الأسطورة, والفقه حاجز النقصان.

رأيتُ الله في مفصل الأنشودة.
نجمةٌ تخلفتْ عن ضحاها
مالتْ الدعوة, وشقَّقَ القنديلُ عصف الحافة,
رحتُ في أبجدية السطر..
نصفَ إغفاءةٍ, نصفَ بستان
ملعباً من قصبٍ.

لا معجم لعبور الحب,
ولا كلمات ترفّعُ بالآسر جهة اليقظة,
الحلقةُ تُراغب تحليقها. صوتي شراعُ البهاء.

أقفلُ الباب وأكتبُ الشِعرَ.

25

اسمها ظلّ في ذاكرتي كالحجر,
ذهبَ اسمي في غرفة لي وحدي,
خطواتي تكتبُ الهمسة,
ويدي تخفقُ في خفة الدمعة,
أقفلتُ البا,
وظللتُ في العراء أقتحمُ صورتي.

كنتُ حَدَّثتُ صوتي, وذهبتُ في حنجرتي ألامعُ الفضةَ وأزهو بالبرد, يخطفُ الضياء ويرميني إلى غطاء أواري به وجهي. أتحننُ إلى يقظتي تأخذني بأحلامها. جنودي يسطعون في إبرة الليل فأركض في السهم يشقُّ اليومَ ويخرجُ بي.

ضاقت يدُ المعلمة بكفي الصغيرة,
أُلهبتُ بالنار تلسعني,
وكتبتُ اسمي في دفتر الغياب,
كنتُ الشاهد على المطرِ
وكان المطرُ يهطل من جسدي.

الليلُ موكولٌ إلى رأسي.

26

كلُ حنين يخرجُ من السحر
كلُ سحر ينامُ على سرير هو هلاكه,
هل أنني مأخوذةٌ بصوغ الموت؟
هل أنني ولدتُ فيه؟

أنامُ وينام معي تشابهي,
بيرقان يلتمعان وينكسران.
رعشةٌ تنهضُ بالدمعة, صوتٌ يدخلُ ويخرجُ,
يصفحُ عني, أُصفحُ عنه؛
غير أن الهواء يقتتلُ

غمرني بياضٌ مأخوذٌ بالدهشة,
بياضٌ له رفعة الطهارة,
وما اقترفته
ما كانت لي سوى أصابع لم تلامسه,
ما كنتُ بيد ولا بعين تُؤخَذُ باللون,
ما كان صوتي غيرَ فرقعة في النسيان,
في العميق من هبوب الذاكرة؛
وما كان اسمي غير فلقتين
واحدٌ يغرقُ في النوم,
وواحدٌ يؤخِّره.

تلامسٌ كان فضاءً قالني,
خمَّنتُ يدي؛
خمَّنتُ النبض في الصوت,
تأمَّلتُ خياليَ يتكسرُ
يتلملمُ ويجتمعُ,

تأملتُ وحدتي في التلاقي, في الانغمار,
في الموت على سرير هو بياضي.

الموتُ وحده يُؤخذُ بي’
يُفتتنُ, ويكون محقاً,
يأخذني, يصوغني في جملة,
يَمتدحُ ويؤصِّلُ فيّ قبلته.

الماءُ في الجفاف يهبطُ كالوداع
يُشربني كأسه المترعة,
يفيضُ بي,
الماء وحده يسبقني إلى النزول؛
يتركني في غبطة صوته,
يكتمل باكتمال طريقه؛
وأظلُّ مهدورةً في الوقت
أبقى حيث يسطع موتي
قبل أن يكون لي مثله.

لبيكَ وهو صوتي,
إذ لا أُغْمَرُ حتى النسيان,
إذ لا أقوى ولا تقوى عليّ صورتي,
لبيك إذ أضعفُ
لما أُسحرُ بموتي؛
في المرآة التي لا تعكسني,
في موضعِ القُبلة الأول حيث يَهلكُ الضوء.

مساءٌ وهو واحدٌ ويتشظى,
سحرٌ وهو كثيرٌ ويجتمعُ
صوتٌ وهو قوتي,
سماءٌ وهي صورتي
لوعةٌ رابضةٌ حيث الهواءُ حديقة
أمٌ تتمثلُ بي,
هل أنني أسير في اتجاه هو قريني؟

ليلكٌ يهوي وأرضٌ تستقبلُ الهلاكَ,
ليلكٌ ساطعٌ كأرجوحة في صحراء
يهبطُ إليّ دفعة واحدةً
أتلقَّاهُ بيدين عاجزتين,
بفم يوحِّدُ القسوة,
بعينين تكتبان البرنامجَ؛
عصفورٌ في الشجرة
وحشةٌ.. ولا غيرها,
هواءٌ كلُ ما أملكُ.

هل حدثتك بصوتي, هل قلتُ لكَ يومي؟
هل تراجعتْ بي الزرقةُ؟
أنني أخلو إلى موائدَ تمتدُ,
إلى يباس يُزهرُ,
ها إنني في حقل النسيان أقطفُ وردةً.

أمدّ يدي.. تلك وإن كانتْ يدي.
القبضةُ تَحكمُ الآلهةَ,
السماءُ تتسلطُ على الهواء,
والقائمُ بالبنفسج يرعشُ بي؛
تلك قدرةٌ على الاجتراح,
هجرةٌ تأخذكَ من سوق إلى أخرى,
حديقةٌ لا تقولُ إلاّ نقائضَها,
وهمُ التذكرِ,
الهذيانُ بالأسماء, تقديسها,
وافتعالُ معجزات لأجل بريق ميت.

إنني أتذكركَ,
كل ممشىً يوحدني ويَجتزئُ,
ولما أذهب يأخذني قاربٌ إلى المسارب,
يروح ويغدو بي,
أصيرُ رهينةَ اللجَّةِ,
مقذوفةً في الحمى, وأهذي..

هو الوقت يمر بطيئاً وسريعاً,
يُزهرُ في قميصي,
أقفُ على الشرفة العالية,
أغمرُ بالموت وداعَ المدنِ.

العزلةُ التي تضيء وتؤلّقُ بالطاغي,
تُوَرِّدُ السهمَ,
تَفتتحُ مناخَ المسامِ,
تتركني أتأملُ الأكوابَ المقلوبةَ,
العتمةُ تورقُ, والزهريات تَسرِقُ حضورَ الآنية,
أسقطُ كرخامٍ صوته واحدٌ,
أتفتتُ في المرمر على أرض الله,
أرتقي سلّمي إلى الخواتم..
وأشتعلُ كالبرق.

أنا لا أقوى على القول.

قّصتْ صورتي وتفرَّقتُ في المشهد,
لم أكن واحدةً ولا كثيرةً,

غير أنني كنتُ أصعدُ ويصعدُ معي الموتُ,
لم أكنْ أحداً,
غير أنني أحدثكَ بما انكسرَ مني.. بما ظلّ بي,
باللؤلؤ المنثور,
وأنتَ تمشي خشيةَ أن لا أراكَ وما أراكَ,
يَنسجُ النشيجُ أغنيتَه البِكر,
سمعتُها مراراً لكنها المرةَ أصبحت صوتي
و.. ما أراكَ,
هي يدي ترتجفُ.

هل سمعتَ صوتي؟
تَفَلَّتَ مني وخرجَ, ولم تكنْ صورتكَ,
غمرني ضياءٌ أبطلَ بي مخيلتي,
وقفتُ كالمشلولة,
ولم أحبُ حياتي.

واحدةٌ وتكسرتُ,
ولم أقوَ على النهوض,
ظلّت ركبتي تؤلمني,
وظللتلإ في الهواء الذي شُغِفَ بتكسري,
رأيتُ الحائط يُجنُ وما كسرتُ رأسي,
أنا لم أقوَ على الموت,
لم اقوَ عليه ابداً.

في المرئيات, في الذاكرة التي تَنهبُ طريقي,
أتخيرُ وقفتي وأراكَ,
وليست هي صورتي, ليس صوتي,
غير أنني بعد أن تكسرتُ أرى ظلّي مائلاً ووحيداً.

أنا لا أريدُ الجناحَ النائمَ,
ولا النومَ في خفقة الطيران,
لا الورقةَ التي تجرحُ بخفة النصل,
أنا لا أريدُ حياتي.

ولأنني ظللتُ على حافة الوقت أنظرهُ,
أجفلُ بالعراء المتكشف,
تأخرتُ في المجيء,
ولأنني حرستُ هذا البا, ظللتُ أقفله,
طرقني الألمُ,
ولأنه واحدٌ رأيتني أوزعه,
وها إنني من بعيد أنظرهُ,
ليقوى بساعدي الذي اشتَدَّ وبكى.

لا بدّ من طيف ولا بدّ من مطر,
لا بدّ من اسمكَ لتنفلقَ الحدود,
لأكون في عتمتي على أبيض الشراع,
هادئةً كهذا النهار.. مولعةً بالرجاء,
أتنصلُ من الموت بخفة طيفٍ.

ما كان لي تَركْتُه للحائط,
ولأنني صغيرةٌ على الأرض تلفظني كتاريخ قديمٍ.
وبعدُ, ما أنا غير شفاعةٍ تتوحدُ بمصرعها.

مدّ لي يدكَ لأقتلَ الوحشةَ,
خلني في هذا العراء أنشغلُ بكَ كيومٍ ممتدٍ,
كحياة بلا صاحب,
وإذْ أنامُ على الوفاق,
أنطلقُ كموج يهدرُ في الجدران,
مائلةً في العراء.

هبَّ الهواء, أُمسككَ بيدي كي لا أتأخرَ,
أكسرُ حيرتي, وقلبي أُكسِّره في الوميض,
الغفوة مسفوحة, والخلاء ينهمر بي.
ما أراني إلاي,
ما جرحني سوى سريري الذي بكيتُ.

خلّصْ العطرَ من اليباس
لأرى قبلةَ النحلة على الفم المنتعش,
ولليلة غطِّني بسهركَ.. ويدكَ على رأسي بالقرآن.
سهري يميل.

قليلاً من الشغف,
قليلاً من المعرفة,
أعطني قليلاً من سُكّر الموت.

صورتكَ مائلة في اليباس,
وأنتَ تنحدرُ على الأكمة,
أظلُّ حيث تنهض بي الزرقةُ,
ويغمر اللؤلؤ البحرَ,
العراءُ يختلي باسمي,
أخضبُ يدي بحناء الرمل,
أحرقها بالشمس الممتلئة,
أنهضُ بالذي كاان مني, بالذي ظلّ معي,
والهواء في البحر, على البحر,
في الضحكة,
وعلى الناصية المحتجبة.

27

كنتُ أخطو في الإرتجافة,
أتركُ ورائي صيفاً وشتاءً,
أقفلُ السريرةَ,
كان ندائي عالياً.
غير أنني أرتويتُ بالصمت, وذلك صوتي,
تلك قسوتي التي تبنتني في الوقت,
وإذ أمشي وأتقصفُ,
يمر الهواء سريعاً,
يختطفُ زغبَ الطفولة.
اللمعة تصرخُ بالشبّاك وتقصمه,
قبضة الزمن وما مرّ,
رجفةُ الماء.

وحدي في الهاوية أتسَـقَّطُ الأخبارَ.
هات يدكَ..
الهواءُ يوغلُ في النوم,
يفتحُ نافذتي ويتركها لانقسام الليل,
ولا أ{يدُ لروحي أن تعبُرَ,
لا أن تزولَ, ولا أن تُقاسَ بالحمى.
فقط تلك فكرةٌ,
أن تكونَ لك يدٌ أخرى بينما أنتَ تموتُ,

أنا ما أحببتُ حياتي إلاّ وهي تسمعكَ.

28

هل كان الليلكُ يذهبُ بالمساء؟
هل أضأتُ لك مصباح فتنتي؟
لكنني في الأرجوحة المبكرة تباطأتُ,
هكذا جمعتُ فردوساً من الالم ظلّ يعصفُ
حتى لكأنني في هذه المرثاة خطوتها..

أُخفقُ في الماء, ولا أرى غيرَ ما تَركتهُ أصابعي’
ما قَصصتُهُ, ما لم يكنْ لي.

أكثرُ مما تشتهي حياتي,
أمضى من الألم,
القُبلة في المستحق من الهدأة
ليلٌ يطوي روضةً
وما أُقطفُ.. ما أجرؤ أن أقْطُفَ.

الماءُ ينفرُ متلاطفاً يَرشقُ التعبَ,
ويدي في المطاف مختومةٌ بالذكاء,
كنتُ أردتُ أن أولدَ في الياسمين,
أن أمدّ يدي,
أزهرتْ يدكَ,
ما قُطفتُ, ولا جُرفتُ بالنسيان,
كنتُ مرسومةً بالماء في المرايا.

مجنونٌ هو الورد لما ينحني؛
نائمٌ في التندي,
وحواسه تهبُّ لينفرجَ الألمُ,
لتصير له مصارعُ تتفتحُ.

أعطيكَ الماءَ ملَّء كفي, سائلاً كفقدان طويل.
وتلك طاقتي,
الحنينُ يحصدُ الهجرةَ, والزمان يلبي الوحشةَ.
قُبلةٌ لأستدلَّ على جبينيو لأمسكَ بخدي في الماء.
وليمةٌ تستحقُ التسامحَ.

ها إن مطراً كثيراً تنزّلَ.

غزلانٌ رشيقةٌ مرتْ سريعاً,
شَقَّقَت الغيمَ ووسَّعتْ الرؤيا,
وما كانت غير مخيلة في الهواء على الوسادة.

كنتُ في الماضي, وكنتُ أجوزُ الهُوية وأعبرُ الحلم.

رأسي مَفرَق الوسادةِ.

29

حمَّلتُ حياتي ما لم أقوَ عليه,
وظلّ ميلُ الوداعة يُسَيِّرني,
في الوسن كنتُ أُوَحِّدُ جبيني
أراه كزارع يظلُّ يحرثُ وأمسحه,
الفضةُ تلتمعُ..
الشمس كثيرةٌ وصغيرة,
وحياتي ضوء عتبة تُزهِرُ وتموِّهُ.

بعد بردى, جمعتُ القطن
خادعتُ البياضَ بانكسار الأسود, دلّلته,
وفي القبلة المهدورة في العماء مرّ زماني,
غير أنني أسقطتُ تفاحةً ومشيتُ..

خفيةً أحببتُ حياتي.
صار لي زورقٌ وجزتُ,
هُيئَّت غليّ صلاة تُوحِّدُ
المقابض خرجتْ ومشيتُ حتى الباب,
هدأةٌ من البنفسج.

الجزلُ هواء النسيان,
الماء لما يَغمرُ تطوف الروح,
الصعقةُ تأكلُ.

كنتُ أردتُ الحبَ.. قلتُ أُحَبُ وأُحِبُ
كنتُ على النزهة منه ووقفت أرتجفُ,
ما عرفتُ.

قُبلةٌ ليكون لي وسامٌ,
لأتشققَ وأحبَ وأنعقد كما الصلاة, وأتفرقَ,
لأعطشَ,
ولأنظرَ من علٍ حصاد الربيع ينفرطُ.

وحديَ في الغبطة.

هات يدك.. من بعيد.. بيضاءَ,
إنني في الهواء الذي تركني..
غير أنني جُرحتُ مراراً بالذي كان مني.

مالت الخضرةُ, وانطفأتْ شمسٌ في سريري,
انزحتُ,
وكنتُ وحدي مأخوذةً بالماء,
إبريقي يشفُّ.. ولوحتي تنزلقُ.

أسألكَ النرجسَ والماء’
اسألكَ اللطف,
تباطأتَ حتى خرجَ مني جنودي,
رحتُ أُشاغلهم وما جئت
ظلّت يدي في العراء تكتبني بالنسيان.

مأخوذةٌ بالموت الذي هو طفلي.
الذاكرةُ تسطعُ كأبرة تشرف على هلاكي
ظللت في الخوف.

والآن قبلة مسفوحةٌ كالنسيان على البياض,
مشفوعٌ لها بالموت,
وأنا أضعفُ من يدٍ تومي,
أشدُّ نحولاً من شمعة عاليةٍ,
أقسى من موج يلطمُ.
غير أنني تهيأتُ يالألم.

مقبلةٌ على الساعة.

30

مذْ لمستْ يدي الظلَّ أشعَلَتهُ,
ظللتُ حيث الهواء ينكسرُ ويعودُ قوياً,
حيث الفكرة تومضُ بالإنكشاف,
هُيئتْ إليّ مساربُ مقفلةٌ
وسرتُ حيث رفعني مجيئي
غيرَ أنني في حيرتي فُزتُ بالمنافذ.

قُلتُ نامي..

ولا أنام, أظلُّ في دهليزي,
حيث الهواء سجادة المرور,
أعصفُ, ويكون لي مُضيٌّ,
ولا من يضيءُ, لا من يُضيعني.
مرورٌ حتى يسجى الزمانُ,
حتى يرتفعَ ويتقصَّفَ على الظلِّ,
حتى يعودَ كالبرق فارغاً من المطر.

إنني أتساقطُ كتفاحة مهزومة بالقوانين,
غلِّبني على الهواء.

مذْ أخذني الماءُ بلا منادٍ يَهَبُ الطريقَ صوتَه
خرجتُ

وفي اليقظة تكشَّفتُ.

البحر طوفان أجنحة,
يدي في الإغفاءة ترتجفُ.

31

أنا ومظلتي خَطفةٌ في هواء.
اليقظةُ تؤلمُ الإنخطافَ.. تشدُّه,
غير أننا نصعدُ مصحوبين بالذعر,
نطلقُ السكون وتمرُّ في المخيلة سماءٌ,
ذلك عصفٌ.
وإذْ أمرُ بكَ في الليل,
أظلّ حيث القرآنُ يتلو أصحافَه,
أرتدُّ ولا أتركك.

أخسرُ وأربحُ رهاني.

ولما أجوزُ لأُخطفَ يأخذني المسارُ,
تظلّ يدكَ في الإنبهار الفالت,
يسقطُ فيَّ الصوتُ,
أغمرُني وأعبرُ.

هل صوروا لكَ البنفسج؟
كان يمل عن الشمس,
يذبل وأطوِّق المنجلَ
ظلّت يدي
وكبرتُ خشية أن لا أراكَ.

الرغيفُ ينقسمُ في الشمس.

أحبكَ بانكسار الصوت
بالفالت مني
بالميت والقاتل
وأحبكَ بالموت
أُنجّيكَ من سريره وأنامُ,
يهلكُ ليليَ معي.

32

رأفةٌ وهي ماضٍ,
ولا صفةَ للتماهي,
وإذ أمدّ يدي..
طاقتي أُسيِّركَ عليها
ويحفظني التاريخُ في الماء..

البحرُ ينتفضُ ويتوهجُ
هكذا خفقتُ على الأرض.

قبِّلني لأهتزَ,
لتكون لي وجنةٌ مشغولة بالتورق,
لأرعى المداخل,
ليكون لي يوم يضاهي إمتداد يدي,
لأعودَ برغيفي كاملاً.
أقولُ لك صوتي,
فمي يُقبِّلُ المعرفةَ ورجائي يذهبُ,
أهمسُ بالردهة تخرجُ وتتركني,
كنتُ رأيتُ السماءَ تُفتتحُ؛
الماء يتنزلُ والسرابُ يلتمعُ,
كنتُ رأيتُ جبيني منتشراً على القدر.

غمرةٌ من الأسى إلتقطتني.

الشراع ذهبَ مذهبَ الأرجوحة,
والوقتُ مال ليمدِّدَ طاقتي
نامَ الغبارُ.

33

الماضي في السفح يُشلّ في الخدر,
وأنا أهَبُ الطريقَ الرجاءَ..

أرى أمي تعودُ
قبلتها مدفونة في جبيني
رأسي تقيدني.
يدها تطوق زهوَ الغريبِ
أفلتُ وتفلتُ
مسمرةٌ وأُقتلُ.

أعودُ بالحجر.

34

كم تعوزني حياتي
ليتأكد لي إرتفاعُ قدميّ عن الأرض,
طيراني في الليل إلأى فضاء الصباح.

كم تعوزني حياتي لأُقطفَ في الهمس,
لأرتطمَ بالخارجين مني,
لأستقبلني بينما أستقبلُ سماحتي,
لأكون وحدي.

كم منها, وهي حياتي.. وأنا أسافرُ بالهجر,
كم منها وأنا أخطو جهةَ البحر.

الذاكرة تملأني بالهبوب..
أطوي حفرةَ النسيان,
أُوقِعُ بالطفولة المداخل,
كم هو أزرقُ هذا الباُب!

أُسلمكَ يدي
قبلةَ الماء على الموت,
وأصحو بالخدر,
كم هو أزرقُ هذا الخدر!

إنني أكبرُ,
أنمو كدفترٍ تحت المطر,
أصحو على الحدائق,
ولما أموتُ أُؤخذُ
تأخذني حياتي.

مشيتُ في الشارع الأبيض,
يدي في المسار تخطفُ يدكَ,
نزلتُ الأبيض,
وما تُركتُ من حياتي,
الماء لامس عينيّ..
والمدينة تفرُّ,
الهواءُ يؤلم الزرقةَ,
وأصعدُ الأدراجَ,
كنتُ أمشِّيكَ معي,
أخطو والهواءُ يجرحني,
ضوءٌ
وهو تذكار صلاة,
مسارٌ يجرحُ إبتكار الحب,
وإذ أتكىء على جمهور
أنظرُ السماء وأتلقاكَ.

الماء ينفرطُ في التذكر.

كم أشبهكَ وأنا في هذا المنحدر,
كم أشبه الإلتفاتة, نهضةَ الشقاء في الولع.
لألتمعَ في العالي من الرزق
في الدامع من اللطف.

إنني استقربُكَ, أرفع كأسي وأدنيه, وأرى,
كم أشبهُ ضحكتي.

أحبكَ لحظةَ الإنفراطِ,
في المساء الذاهب,
في الدمعة التي تتجاوزُ,
أحبكَ في المرور.. وفي مائه,
في النزهة,
أحبُ فيك النواس
تمام الوقت, وزواله,
لما النومُ,
اما أُحرسُ, ولما أندى,
أحبكَ لما الجمع يكبرُ.

تعالَ, المطالعَ تحيطُ, والنقصانُ يهرق النومَ,
الشارعُ مفتون بالضحك.

إنني أُرسَمُ,
أُقبِلُ على يومي.
أنا في هذه الأقصوصة رافلةٌ بالبرد.

أحدثكَ عن الليل, أحدثكَ عني,
قبلتي تنام على يدي,
وأغنيتي تربكُ الخارجين مني,
ونهضتي أكبرُ من عبوري.

صورتي تأخذ الحائطَ, تضربه,
ويدي في الكِسر تنعمُ بالبياض,
ما أكثر الكِسَرَ.

مقفلٌ هو العري, لما يغادر الخفوتَ,
عرشُه مُندىً,
لذَّته تذهبُ في البوق,
ولا وردَ ليستظلّ ميتٌ,
لا قرآنَ ليهتدي.

هات يدكَ,
الظلام هيأ المائدة.
أحرزتُ في الخفية موسماً.

وكنتُ مزروعة بجائزة,
كنتُ أخسرُ,
وما شئتُ للناي الرحيلَ,
غير أن الدهليز تمرأى في غرفتي.

لا ماء, وآب يواجه الغياب,
يتدحرجُ النسيان كسقطة وشيكة,
يدي في يدي,
وأتلاشى بالفكرة,
بالومضة تأخذني إلى جسر أُسوِّي عليه حياتي,
كنتُ أُنادى بالصوت’
كان طرياً,
كنتُ أُزرعُ على ممر لأكون.

35

آخذُ قبلتكَ وأركضُ,
أشعلها مراراً, وأخطو بالوقت,
الزمان يتبناني, وأنقسم في التلاطف,
آخذُ ما تبقى لي,
وأعود بالرغيف كاملاً.

إمامي في الليل, رسولي في المنبع,
غبطتي لما أستوي خفيفةً,
الهدى يؤلِّف القلب,
والعابرون يأخذون من طريقي.

ساكني,
والهواء كفايةُ الباب,
موتي في يديكَ وفي المئذنة العالية,
نومي إشارة تحرككَ.
مدينتي تنتفضُ
أُثقلُ بالتمني.

ساكني, ولا مطرَ أشدُّ, لا عتمة تواري وتَختطفُ,
بيتي في القبلة المهموسة,
حصاني إذ يعدو وأعدو,
إنتشاري في اليوم, إذ يمتدُ.

أجرحُ رأفة الموسيقى.
زورقي عبوري في السهم.

ساكني, إذ يميلُ مائي, وأنحدرُ شلالاً في الحنين العالي,
إذ أهب بقائي إلى زوال,
إذ أنجو في التقطر, وأُحمَلُ في صلاتي.

ساكني, إذْ أُخطفُ ولا أكون,
مرآتي تُوهّج مخيلتي.

أرتعشُ وذلك مائي في السكنة.

36

أرفع صورتكِ, ويختطفني صيف آب.

لما لا أكون,
لما يُنتجُ الحنينُ خسائره,
لما تُتركين نزهةً عائدةً.

تمررِّين المنازل بقصب الشرق
ويلتمعُ مرمرٌ يعبر دهليزك
يأخذلك في الولع إلى دفاتر قديمة,

تنفرطُ الصورُ في الحيطان العالية,
نُؤخذُ غفلة..
ويُطوى الطريق..
مضمومةٌ إلى النسيان, حائرةٌ,
أُطلقكَ في المشهد وأقصُّ شَعري.

برهةً, وعبرنا جبلاً,
صار لنا حديقة همسٍ.. وأشياء كثيرة محفوظةٌ للتذكر’
خطوتكِ وهي تميلُ عن الرصيف وتأخذني إليها,
خطوتكِ وأنتِ تتوارين بالسلّم,
خاتمكِ وهو يلتمعُ,
كم أُشبهكِ.. كم تمنيتُ لو أشبهكِ.

أنا ما قصصتُ عليكِ,
إلا ليكون لنا شعبٌ بيننا,
أنا ما قلتُ إلاّ لتأخذني رأسي, لأنامَ,
لأرجِّح الحزن.. لأعود به.

هاتي البوقَ ليتردد الصوتُ,
أغنية تخرج وتصفكِ,
زهرة الصبار
ريما

أسترسلُ وأكتبُ الأخبارَ..
أسميها منازلي,
وأقصّها.
المراسيم تحتفي بالجنائز,
ٍونسترشدُ بالمعرفة سهماً يُشَقِّقنا,
نُرشقُ بالتعب,
يخوننا,

لا شيءَ.. وكلُ شيء,
نكتبُ خواتمَ الأشياء.. مبادئها,
نستهلُ الوقتَ مديحاً لآخرين عبروا,
ولما نُمَرِّره.. يأخذنا بريق مستعجلّ,
لأجله نوسع المسافة,
المساءُ يعبرنا.

غداً لا مطرَ, تموزُ يغفلُ عنا,
يتركنا لمعارفَ قاسيةٍ,
السكونُ يعصم الزلة,
كم تهيأنا للقول؟
أرصادٌ ورعيلٌ يسوقون الخطى,
الشمسُ ترصِّعُ المداخلَ,
والماءُ يرضخُ للرصانة.
الهدأة ترضى بالجموح.

تذهبين في المداخل الكثيرة,
تؤخرين ضحكتكِ
تمددين الوقت,
ليكون لكِ السهرُ طرفاً آخر للإستفاقة.

مذْ ذهبتِ إمتلأتْ صورتكِ,
صوتكِ في اللقاء المجروحِ,
لما العتمة نزهة,
مدينتك بعيدة,
وهذا الذي بيننا يشبه الرسائل التي تَشفُّ,
شكوى للمطر.

من ذا الذي يخطفُ صيفً الكلمة؟

ندائي هاويةٌ,
وصوتكِ ولعُ العبورِ,
المسافة تُقبلُ في الصور,
والغائب في حضوركِ مجازٌ بالتمني,

كنتُ رأيتكِ على الأدراج.

ربما, إذ يهلكُ الرجاءُ في مقتبل الإسم,
صيفكِ صيفٌ.. وشتاؤكِ بلا حسابٌ.

37

أدخلُ البحرَ وعنده منارتكَ,
أنعكسُ وتنعكسُ,
يصرخُ الماءُ.

يدي في الذي اسرني مضمومةٌ
وأنا أُطوَحُ بالشغف,
أتبددُ. لمستُ الماء.

الألوانُ تَجرحُ الذاكرة,
سيفكَ أعلى من المعرض.

الشعلةُ بائدةٌ, والعتمة مسروقةٌ من القسمة,
العصفُ إشتباكُ المعرفة,
وقتي مشغولٌ,
وإذ أجاوزكَ غلى الردهة البعيدة,
صوتيَ مرورٌ مقفلٌ.

الباقةُ نزهةُ الزورق,
وأنا بلا يدين أقطفُ المشهدَ,
روحي فجوة ناي, وهمسي بلا رجاءٍ يذهبُ.

عندَ البحر, وفيه,
عند التلاطم, وفي الزرقة,
لا لون لي,
أزرعُ وأحصدُ,
حديقتي مأوى للطيوف.

ولأنني خرجتُ بلا أمل.. رحتُ أمشي,
وفي الإلتفاتةِ إنفراط الرؤية.

نشيدٌ واحدٌ لأمرِّرَ يدي وأمسحَ لنهارَ,
أتمسكُ بالهبوب ساعةَ يَهَبُ الهواء مسعاهُ,
ساعة أُتركُ بالأسرِ إذ أجرؤ.

تلك طاقتي في الكسَرِ
توهجي في الإنسكاب الأول.

مرئياتي إذ تَستقبلُ حروبها بالهزائم.

نما الخلاءُ يقتسمُ رزقي.

الصوتُ صهيلٌ يُطيّشُ دمَ الرغباتِ,
العطشُ موحلٌ وواحٌ,
والحجر أعصى من مُمتحّنٍ في غياب مليكته.

إضمنْ ليّ الهدأ’.

صوتي مشبوكٌ بالشوكِ,
وحياتي جدران تَذهلُ في المرايا
بابي مقفلٌ بالخوف,
والضحكُ وثيقةُ الولع بالنسيان,
تلك صورتكَ.. وهي صوتي,
لو أنكَ قرأـَ.

يدي تلهو بالخراب
سمائي أوسعُ مما أوتيتُ,
والموتُ سلّم الرائي, خسارةُ الشاهد.
من بعيد,
الشارعُ يأخذُ بالمشاهد إلى الحتوف, والفينة صيفٌ؛
الرجعيتصدى للهجران, والنفير يرعب أذنيّ,
سفري كتاب مفتوح. مخيلتي باب الكوكب,
أعبرُ.. وأهوي,

ليس لي أن أُهجَرَ,
السنونو يَفتح صوته المجروح بالبكاء,
والمساكبُ تنعطفُ لتُبَدِّلَ طريقي,
أعبرُ الأوهام خفةً واصطبارا,
المعراجُ أسى دربي, والسبلُ توحدني
نومي في الأجراسِ, وفي العصفِ.

أضيء منزلي وأُطيِّرُ الغبارَ,
أُشققُ كالنصل إكتمالَ الدائرة,
وأوسمُ بالنسيان.
الثغرة تنفذ من الكلمة,
والخرائبُ تجتاحُ القدرات,
الهذيان صمتي في الضجة الممكنة.

شققتُ البحر إذ خطوتُ,
وفي الخطوة, نوم الساعة,

جاءني ألمٌ وسطعتُ, ضئتُ,
لم أكنْ أبداً و ما شُغلتُ,
تلقفني الليلُ على حدِّ السيف,
وأسلمتُ له شعري,
وفي القبلة, وما قبلها, كان لي ما كان للرعدِ,
وإذْ إشتددَتُ.. حنوتُ على تكسري,
تلك يدي..
نامي في الجروح الصغيرة,
فمي مقبرةُ النسيان.

38

لستُ في هوى الحم ولستُ أحلمُ,

لستُ في العشيَّة, ولستُ في اليتم,
غير أنني في سحر العقد.. أذهبُ.

شاغلْ يدي..
كأس النور إنسكابُ الزمن,
شاغلْ يدي..
الباقة في ندرة ولادتها تمزجُ الألوان.

الآنَ, من على سلّم صاعد وارتجافة هي أصفى الصوتِ,
من ولعٍ, ومن خيال صاعد,
من إيحاء,
الآنّ,
إذْ أذهبُ في اليقظة,
أُمسكُ بما ضلّ,
بالذوبان في جذوة الروح,
أُمررُ يدي على سياج انكشافي,
أذهبُ في البحر أصعقُ طاقتي بلطف الموجة.

سَقطتُ في وضحِ النهار,
وإذ لمعني اليأسُ, صعدتُ بالذي فيّ,
تبدلتُ في الذي يشبهني.

الأملُ الآن, بعد الموت, وقبله,
وفي الخاسر منه, وفي الساطع,
الأمل الآنَ في الضحكة, وفي اللُبنة الصاعدة,
في اليباس, وفي الأقفال,
وإذْ أضجُ في السباق, يأخذني الموكب إلى زهو الأسماءِ,
الأملُ الآن, بعد التذكر,
وفي الخالصِ من الجبينِ.

مذْ فطنتُ إلى الحب إنكسَر قلبي,
غير أن يدي وهي يدي,
إذ تنام على سرير,
تنهضُ في الوسادة,
ولأن عتمتي أكبر من أن تجوزَ باباً وتخرجُ,
أظلّ في النوم.

ليلٌ وليل,
والأرجوانات تأخذُ التمائمَ,
أضيء أصابعي لأقرأ القرآنَ,
وإذْ أوسده رأسي, أُحملُ بالهمس.

واحدةٌ وظللتُ,
تندتْ روحي بشفافٍ, ورحتُ أمشي,
أُخذتُ في العتمة وما خفتُ,
كانت يدي, وتلك ايضاً يدي,
ورحتُ أُخبئها,
عنقي في إلتفاتة الخوف,
ويدي, تنفلتُ وتعودُ,
ومضة, ومضة,
أخسرُ إذْ أُتركُ,
شمعتي مضاءة وأجوسُ الأرضَ.

ما كنتُ لأراكَ لو لم تكنْ,
حَدَقَةَ السؤال ومهبَّ الرؤيا,
إنني أحرسُ نومكَ.

وحدي بين هاجسين وظلّ, في شمس راعشة, وفي إنقباضة, أخرجُ وأدخلُ. الغيبوبةُ تضاهي اليقينَ, وإذ أراني في الفجر, متروكة دوني, والليل فمّ وصوتٌ, إذ يعود ندائي متفلتاً من المدى’ إذ أستوي في الخدر.

ساومني على الرغيف؛
السُكّر يذوِّب القهوة,
الفراشات تُطوى في الضوء.

لا ريبَ في هذا المساء
في أسوده الأسود, وفي ضربة الرمح عند الكحل العالي.
لا ريبَ في هسهسة تفوِّح حصتها,
في ألق الحيرة وذبولها,
في ليلك الغياب, وفي الأقمار لحظة إنفكاك الأسر.
في شمس تُرجِّفُ النبض, في حماسة مرمّدة.
لا ريبَ في الصلاة عالية الترجي,
عند إنفلات خطِ الوضوء.
لا ريبَ فيك,
لا ريبَ في الطيران رسولُ النوم.
لا ريبَ في أغنية توحي, وفي عازف يُشنِّج أوتاره,
في ضربة موسيقي أعمى.
لا ريبَ في العتمة تلامسُ عريّ الفجر.

عيناي على الشقِّ, ويدي تَفرطُ ياسمينات الوحدة,
وأراك الليلة, في الكأس عند الصمت,
أتركُ بصمتي,
وأنتظرُ.

من ذا الذي يراني ما لمْ يرَكَ.

39

قليلٌ من مشرقٍ والأرضُ تغتربُ,
المرايا تذهبُ باليقظة وتعودُ بالوسائد.
وحشةٌ وغيابٌ.

خذْ الماءَ ملء كفيكَ
الصدفةُ تُرجِّع الصوتَ, والأرض تنهضُ وراء السهم,
الفجرُ يقطر بخيلاً
الظِلال مسبوقة بالألوان.

أنا ما جاوزتكَ.
كان الوقتُ يمرُ, وكان برتقالاً,
كنتُ في الموعد همسَ الرجاء
بلادي تبتعدُ.. وصوتيَ في الحديقة,
السماءُ كبيرةٌ وكثيرةٌ, والماء يتشبهُ,
أرتطمُ كما الريحُ لما ينسدُّ لها جبلٌ,
جانحة بالأرجوحة, أُقطفُ من على مقعدي وأُزرعُ في فجرٍ.

لا قمرَ يقتسمُ ويُشحِّب الصور,
لا غبشَ,
الحصانُ يعبرُ ويكسرُ نظرتي.

أصفرُ الورد يجرحني بالخريف, وأقفُ في مطلع مملكة مضاءة,
الرماد يهرقُ الرؤيا.
أخاف الحصادَ يأخذ موسمَ البنفسجَ.

أوصَدُ في خاطري, يظلّ ينظركَ,
أُبشَّرُ برؤيا,
تنذرني شمسٌ باليقظة.. تأخذني إلى مقعد لأجفَّ.

كم أحبكَ وهذا الفجرُ يتشققُ
آخذُ خاتمي إليكَ,
ألبسهُ,
أكونُ معك ريثما أكون معكَ,
شالي في الحب حياتي, ولما ارتجفتُ صرتَ ديواني,
مشيتُ تجاه الشريطة’
أنزلُ على ركبة أُشقِّقها إليكَ,
وأنجو بدمعة,
آخذُ حبل يوم أشدّه ليظلّ, ليكون أطول,
ولما يشتد الليل, حيرتي تُقبِّل فمي.

أنا ما تُركتُ لكَ إلاّ لأني تُركتُ من قلبي,
أساومكَ العينَ وآخذكَ معي’
كم أخذتكَ معي.

إذْ يتشققُ الهواء قاسياً ويُسيرني, أقفُ أمام المرآة لآراني, لأكون روحي في ضربة الإنعكاس, لأرى ظلّك, وأكونكَ, وأكون معكَ, لأشبِّهكَ بقصيدتي ولأشبه شِعري, كم أشبه شِعري, كم أنا منه, لما يخرجُ, لما يدخلُ, لما يتكسرُ, لما يعودُ لي, لما أشبهكَ, لما ما أعود سواكَ.

هوذا متنُ معرفة, وهو ذا أيضاً مَتنُ حقيقةٍ,
وتلك لك عاريةً ليتدخل ولع ويشفقُ عليّ,
كم اُسقِطَ في يدي.

الماء يبارحني,
وأقرأ البحيرة, أحبها, على علو سماء,
وإذْ أقتربُ وأبتعدُ,
جبينكَ على يدي, وتلك حياتي.

جميلاتٌ حائراتٌ يترددن بي, يُغلقن عليّ خطوتي,
أمشي وألاقيكَ,
الجميلات يتنازعنني,
أخرجُ وألاقيكَ.

صيَّرتني أرجوحتكَ واختُطِفتُ
مالَ هوائي وكنتُ في يدكَ.

قُبلتكَ شَقَّقتْ المرايا عند الإغفاءة.

40

أرأيتَ ما رأيتُ؟
بين صيحة ورجفتها,
أُمرِّرُ الشمس لأؤلق دهشتي, لأشغفَ بالذي ذهبَ,
لأركض أبعد مني, لأتلقفَ الصوت.

الضوء لامعاً يخطفكَ,
والمنافذُ في الهبوط إرتطام الضحكِ.
الهواء ذهول الحنجرة,
الروحُ تفرّ من جرف النافذة,
مصروعةٌ بالنهضة أشعلها.

المقاعدُ تزهو لأنها تعرفُ
والعراءُ صوتُ إخفاق الرغبات,
السماء طغيانٌ, وأنا مجروفةٌ بالغبش,
أقفُ في العالي من الزمن
القرى تخطفُ خطوتي,
الآنَ, على هشيم النار, على الرماد الذي لوَّن بيتي,
أصرخُ في الزمن,
القسوة تجرح غيابكَ بالموت.

أنا هنا..
ذهب الأصحابُ,
وتلك البسمة راحت ترعى زهراً تقصَّف,
أمدّ يدي حيث كان,
أُجاذبُ صوتكَ,
تلك فضَّتكَ, يدك التي مررتها,

تلك يدي بيضاء بلا دليل.

أجزى بخدِّ الذهول,
الممر طويلٌ, كله ماء, أمشي وأقيس عمري.
خطوتي إخفاقة الممشى وتَهيُّمي حيرةٌ تصطفي الطيفَ,
تُنِيله سجدتها..

التفتُ,
الأهواء تُمَرِّرُ اليومَ, وأخاف الخبر,
العينُ نهاية الأدراج عند التنزيل..
ومن ثم ما الذي يشبهني!

هات ما تبقى مني لأستظلّ وأخرج من طاقتي,
هات المداخل في التسرع إلى النواصي,
هات الكلمات تزور رجاءها بلا جدوى, هبة كلها تؤلِّفُ,
هات المئذنة روحي تنفجر بالصلوات.

كاشفةٌ كغيمة, لها حجَّتها عند البراءة,
وتلك حياتي في الشكوى,
أنسكبُ في النغم, أفيضُ.. وأستشفي بالعبرات,
حديقتي وارفة السهر.

مضيتُ بي ومضيتُ,
أدمنت ما بي, صرتُ محارة تخافُ اللؤلؤة, ضممتها,
ظللتُ في الترصُّد أضمرُ الماء,
الجمان يسحب سجادة الرمل,
قدمي, بلا خطيئة, ترفع الموجة.

41

أكونُ ما لي ويكون ما بي دوني,
كياني وتلك ساعتي تؤخر,
كلي دمعة موصوفة
وفي الكِسَرِ شجنٌ,
أُقطِّرُ الكلمة,
أخرجُ بإخفاقة المصلي لحظة يخطرُ سؤال, لحظة يُختطفُ,
لحظة لا تكتمل صلاته..

أنا أخافُ,
وتلك الهدأة تُشعلُ اليباسَ, تنديه بالجمرة,
النعمة تُسدلُ على الطريق الذكرى..
والعين في الإحاطة عائدةٌ من الصور..

أنا أُجنُّ..
أُخطفُ من الملهى, أُحاطُ بندرة الهواء,
أبلغُ الخريفَ يابس التكسر,
ويكون لي أن أغتبط بالنوم لأقصِّرَ عمري,
لأُحمِّلَ الوسادة رأسي.

ولستُ أنا ما لم أكن في السجدة.. هيامَ الخطوة,
ولستُ ما بي ما لم أكنْ معي, ولستُ أعرفني.

مشيتُ ومشيتُ.. وتلك طريقي,
قدرتي على القول لما استظلُّ بالذاهب.
أنا لا أ{يد مقتلة النهر عند الشرفة,
لا الماء يسري في عتمتي؛
ولا المنزلة ترسمُ حياتي.

تلك كفي..

ومن ثمَّ من يسمِّيني,
ترابي أشقى من نعمتي,
صوتي يرصِّع البياض.. وأنا مائلة أنحدر بخاطري..

جُنَّ خاطري.

42

لُطفكَ لتكتملَ ساعةُ الممشى,
أكادُ أُسألُ في عمري,
يُرجِّفُ الماءُ كأسَ يدي,
أكادُ أعود من صلاتي..
وما كنتُ غير صفوة تزهو بالصوت منكسراً على المهبِّ.

لي أن آخذَ الوقتَ, أميلُ به وأنحدرُ,
وحدتي شعاعٌ شقّ نفسه على مقعدي.

إليّ بالماء.

والآن, من هواء ينأى بقتلاه, من ماء, ومن شكوى,
من هنا.. الآن, من حيث موسيقى تُشغلُ بالهوية,
ومن حيث ممشى يمحو ذاكرته,
والآن, مرة أخرى, من مفترق غائم,
وعلى ضفة تنجو بأرجوحتها,

الآن, ما الذي لي؟

مشيتُ ورحتُ أزرعُ الصدى,
سمعي يعبر الدفاترَ, ويدي تميلُ بي,
هيامي مجروحٌ بالعلم, وإذ تَبطلُ حِجَّة صيحتي.. من أنا؟

43

غضٌ هو تقلبُ الماء في بحيرة توسِّعُ الوقتَ,
ولا شيء أكبر من احتمال القاع, من الذوبان في معرفته,
من القول عند الإجازة.
رحتُ أعدو وفي يدي مرآتي,
مائي يزرع الهواء بالندى.. وجملتي تسبقني,
كنتُ أعرفُ وأميلُ,
الحقيقة صلاة السراب في ألأثر,
ليتَ الذي توضأ خرجَ بالحيّ على الفلاح.

أنا في الممر ومرآته,
صوتي أضعفُ من نهايته, وحياتي تتكسر في جملة العبور.
يدي تمرُّ على جبيني بالحلم,
تقوى.. لأسترد المعرفة..
ليكون لي كتابي الذي أشقى,
لأُغمَرَ بالمعروف,
لأطيل من سجدتي, لتطول بي, لتكون غيمتي زرقاء,
لأجزى بالمنبت, لأزهر بالبطاقة.
ذلك إسمي.

44

عن الألم الذي يحفر في الجبين, ويُطبق على الصرخة
يأخذها إلى حافة العين,
الألم المجنون الذي يرعش,
وأنا عود القصب المائل مأخوذة بالخدر يشلني,
أُمسكُ بيدي يدي, أضغطُ على صدغي, أكاد أصلي لآلهة كثيرة, ولإله واحد,
بعين واحدة أكتبُ, الأخرى تُفلتُ خيطها,
وأنا صريعة فأس يشقني,
يأخذ نصفي ويَلمَعُ على الآخر,
يدي على ما ضاع, وقلبي في الخطوة المائلة.

الآن لا شيء أقسى,
الوتيرة تجمع القلب بقبضتها,
المسافةُ تضيقُ,
وحديَ في العاصفة, يدي تتنملُ.
الألم المدروسُ, صاحب الخريطة, راسمُ الجغرافيا, الألم الذي يدبّ كالهلاك, كموسم فاتَ حُصَّادُهُ, الألم الذي يطفىء النهايات, يذوبها بأقفاله, ويتحكمُ.
الآن هو, ولا شأن لخارج بالفكر يهتزُ, بالعقل يتأرجحُ بين مهبين.. قسوة وجنونها.

إجمع لي الياسمينات لأمتلىء بالهواء, هذا الحبل يأخذ عنقي إلى حافته, إنني في العراء أسيرة الهبوط إلى قمته, يصعد وأنزل, ويكون له يدٌ تشدّني.

لا أنام,
فقطْ أنظرُ عينيَ السوداء, كُحلُها يسيلُ, أورِّقُ بأصابعي جمان الحلم, ولا أستطيع.
الماء خفة الطوفان, وصوتي سُكّر السفرجل, مخنوق وحلو, المذاق يجلو المرارة والهدأة لأستوي في الألم.
لا هزيمة للوتيرة تأخذني, غير أنني, في هذا المساء, قرصي أصغرُ من الألم.
فاتكٌ وقاتلٌ, شاحبٌ في توسلاته لعيني التي لا ترى,
لا أرى,
تلك عينٌ ولها جفنٌ ورمشٌ راعشٌ
ولا أرى,
العتمةُ تُسوِّر حافة البياض لتضيق الحدقةُ, والضوء ينفرُ ليقصم السطوع على منكسر البؤبؤ.
يائسة في دهليز الألم, أركضُ ولا فضاء أعلى من جدار يميل, عند جبيني.
شَقَقْتُهُ,
تركت لي ندبيت الساعة, محفورة في الوقت, تنبض وأعدِّد نبضاتها, تركتني في الموجة وهلاكها, ورحتِ بيد راعشة تمسدين جبيني.. كم أهلكتكِ يدُكِ.
خلّكِ في هذا الجرف صعودَ الوحدة نحو زهرتها, خلّكِ ليلكها المقطوف من لؤلؤ الفجر, خلّكِ على الشرفة تجسِّمينَ الهواء لتأتي به غليّ.. أنا أريدُه.

عاليةٌ, وعالٍ هو الألم,
وجبهتي إذ تُشعلُ النار, تضرب بوسادة من ريش, تحاولُ الغرق في الرقة, تُسائلُ النعاس خلاصها.
يدي تبتهل الله.
مطوقةٌ ولا شيْ يعيدني إلى ما كنتُ,
ضحكتُ وضحكت ساعتي,
غير أنني ترنحتُ,
الآن أنزلُ السلّم العالي’
أهبط درجاته ممسكةً ببريق ينفرطُ,
أنفرطُ.

ما أشدَّني, ما أضعفني,
إذْ أنني لا أكثر من يدٍ تناجي الخدر.

نصفان,
ولا إكتمال لموسيقى بنصف سُلَّمها,
نصفان,
ضاحكٌ وباكٍ,
وتلك قدرتي, تلك بطاقتي التي أعبر بها اليوم.
انتصفتُ,
وها إنني بعد المنزل, أجلسُ على الحافةِ, القمرُ يولّد أغنياته, صوتي يُنشِدُ المرثية.

خفتُ عليكِ.
هاتي رأسك لأستدل على حفرة جبيني.

45

أعيدُ على نفسي.
كنتُ خرجتُ,
و كنتُ أخرجُ,
كان النسيانُ حجرَ الذاكرة,
والسراب يجمع كتلة العالم,
وأنا بلا ترجيع لهمس أبسطُ راحتي.
وكنتُ أخرجُ.

مرةً في رعشة الهبوب,
وعند الماء.. عند التوقع.. وعند الخوف,
في اللقطة وفي الصورة,
في الشجرة المخطوفة بفتنة المنظر.
لحظة أُفلتتْ يدي, ورحتُ أركضُ,
كنتُ أجوز شارعاً, وأجمعُ شعري لأراه يطول.

تركتُ الباب يذهب,
كان الفجرُ يلتمعُ..

العراء أخَّر مجيئي,
خفتُ أن تيّبس قدماي,
ولم تكنْ حكاية.
الهواء يرعش بي, والبرد يوددُ أسناني,
أحنو عليّ بالمعطف,
أبدأ ولا أعودُ.

دخلتُ وجئتُ بي..
ما تلمستُ خطوتي,

مذ ذاكَ نجوتُ بالخوف معي,
ورحتُ أعصفُ بالأزهار توقظ نهاري.

لما لا أكون لأروي, تتجسدُ طاقتي وأُروى.
البهو ينحرفُ ويستطيلُ.
أنزل على ركبتي,
وأخافُ الزمان يزورُ السجدة,
كان الهواء يملأ الستائر, والبرق كان يذهلُ الروح,
أزهر الرمان على صفحة الماء,
ومرّ الوقت. سيفه وشم مروره,
ظللتُ في الوحي يخطفُ ملهاتي,
كان العنقود يجرحُ حباته
والندى يجمع تعرّقه, وكان السُكّرُ.
عدتُ باهواء يفرِّغُ كفي.

خرجتُ ولم أكنْ,
مدّت المائدة لواحد.
وجلستُ أنظرُ الصحون فارغة.
مررتُ بيدي حيث كان الخبزُولم أكن.
كنتُ أمددُ طاقتي لأاسمِّر النوم..
ولم يكن رنينٌ,
غير أن قدمي طوَّحتْ إنهاكة اليوم.
مذْ ذاكَ فُتحَ الباب ودخلوا, وكانوا كثراً..
ولما تلفَّتُ,
كان الهواء عند صرخة الأرجوحة,
تلفَّتُ
الأشجارُ تتحركُ,
والشارع يفيض بالقصص
ضاءت يدي وعبرتُ في الضوء
كنتُ أصعدُ الأدراج,
والمطر يأتي عالياً ولما أمسسه يذهبُ لوني.
كان المطر ينسكب, وكنتُ أحمي زهرات ذبلتْ,
ولما جنّ الليل ذهب الزئبق في الممر واتسعَ,
خفتُ أن أذهب.

والخوف كان جائزتي إذْ أعبرُ, الصرخةُ تهدر دم الواقف, والنزهة تميلُ. رأسي, إلى كل هذا, مشغولةٌ بعتمة عينيّ, وإذ أفيضُ بالضوء, الممر يخفقُ في الخاطر.

ولم أكن أروي. أصابعي كانت تمرُ على الكلمات,
والرواية تروى من الصور.

46

الوادي لحظة البعث يولدُ من قفر.

لما الصخرةُ تهلكُ في العطش
ويكون لحجارة بيضاء أن تُمرِّرَ الرمالَ في غفلاتة الضرير
يُفلتُ الفارسُ جذوتُهُ في إرث الخيل,
ويكونُ لانقضاء الخريف وجع الطبيعة
شكوى السدِّ وهو يترددُ بالمطر العالي.

لما أسردُ انهيار النمر
يصرخُ بي الأزرق
وقعُ الرصيف على حافة النفق.

لا أُهادن..
أعقدُ في الظلال تَجنِّي الساحة على الخيال
يكونُ لثعلب أفكاري أن يُطلقَ حياته,
أصعدُ إلى العاصفة
وسامي لؤلؤةُ العزلةِ في قبضة الملاك.

صورتي تذهبُ في البحر,
و وسادتي في متاهة الوحشة.

خفةٌ ومصباحٌ, وسكونٌ علَّم القرآن,
علَّم الشَّكَ في الجَرس,
أطلق الفجر سربَ طيور تذهبُ دائماً.
وإن كان يأسُ ليلة القدر مفتاحَ الصمتِ
إلا أنني في الظلال التي تنجو من العاصفة
ألتزمُ بصيف الصحراء,
بالورقة الخضراء تعبر جبينَ التائهِ.

أرضٌ وتلك ثمرةُ إياب إلى مبتدأ,
تَرمُّدٌ لذاكرة تستحضر المختارَ,
وإذْ أقولُ أنجو مرةً بحياتي,
ومرةً بحيوات أخرى.

الفؤوس تعبرُ رأسي.

وهو زمنٌ يُقاسُ بفضة العبور
بالنوم عند الساعة,
بالرغيف إذ يتنادى متخففاً.
الحجرُ مجنونٌ وحاكمٌ
به أوجز لحظةَ الشتاءِ أوراقَ الغيابِ.

قد يُجازُ شهرٌ من معرفة, وقد يعود حالمٌ لينفقَ اللطفَ,
يُسبَقُ الولعُ ببلاد بعيدة’
أنحني لأرض في تاريخ قديم,
وإذ أُخْطَفُ بقدمي
رأسي عتمةُ القافلة
هديرُ البحر عند نوم الملائكة.

حافيةٌ أتدللُ في مأتم الغرباءِ.

47

فوق سوريا, على جناح مائلٍ يقصُّ الغيم,
السورُ يلفُّ الماءَ
والمدينةُ نهضةُ القاع في إشفاقة العالي,
أُلامسُ عُري الفضة في فجوة الفلق,
الماء يسحب السماء متطاوعاً,
سوريا في الهواء الذي يُتَجَنَبُ.

أميلُ بمصيري يؤوبُ إلى يدي,
والتبرُ يرمشُ في التراب.
كنتُ أخفقتُ. المطرُ يقصفُ الوردة.
ومن قبل, فوق البحر, النجمةُ لمعتْ وتخَطَفَتْ.
فوق شقاء البنفسج هارباً في هشاشة شوقه,
أرعشُ في سجادة الزرقة
شتائي في صيف العالم يغيبُ,
الليلُ يُبْرِقُ شعلاته,
وإذ أسألُ.. من أنا؟
الحنين أغنيةُ عائدٍ لا مطرَ يجمعُ خطوتَهُ.

فوق تلال يعبرُ رؤوسها تَكَسُّر الظلالِ
وهتافُ الشمس في أوبة النهار,
فوق الأرض.. والسهل, وفوق الكلمات الخاسرات,
فوق الندرة
وفوق ياسميناتٍ تَقَصَّفَتْ على المشهد
نثرتْ غرورها في لمعة الجبل
فوق سوريا,
الحصانُ ينفضُ عَرَقَ قوائمه
يشتتُ ألوانَ صهيله في ذُهُلِ العبور..

أعبركِ سوريا.

الواحةُ تخضلُّ في شغف العين.

48

والآن, قبالةَ البحر, على مسرح هو آخرُ الأعمدة
أجلسُ مثل موسيقي أعمى,
أحصي دقائق الصمت, الهواء وهو يصطفقُ,
الدوي الهائل لقبلة النهار.
الكرسي ينظرُ معي إلى الماء,
الموجُ يضربُ الرأفة ويفتتُ الذكرى,
المغفرةُ سبحةٌ تنفرطُ, والرذاذ يوقظُ غبطات نائمة..
هكذا.ز ينسابُ الماءُ وتخرجُ أزقةٌ من ماضٍ سحيق.

أكتبُ الشعرَ لأن لي منزلاً يهبُ؛
أكتبه لأقتل حياتي
الصورُ.. شهادات تواطئي ضدَّ نفسي.
الصفحةُ مفتوحةٌ ومرآتي تُموِّجُ وجهي,
أقتلُني.. وأولدُ,
ولأن للمعرفة حيواتٌ,
تصحو معي في كل ليلة ملكاتٌ قديماتٌ
يحدثنني بأصوات رهيفة وكلهن ماءُ ينسابُ في فراغ
وحين يختفين أُغمضُ عينيّ
وأنام.

أكتبُ الزمن وأعبرُ..
أكتبُ نرجس الإفاءة لأستفيقَ,
وإذْ تضيء الصلاة,
كم تعوزني ليغتسل دمي.

المطرُ الوضوء.

***

كُتبت هذه القصيدة ما بين 1993 – 1995

أقرأ أيضاً: