لن يكون في وسعنا الطيران
ما لم نحمل أجنحة كثيرة
وأحلاماً تمسّ طيراننا.
ولأننا نكتبُ بالطيران
تمسنا أحلامنا
وهي تنسربُ من بين أصابعنا
1- نعناع الأهل
نعناع الأهل
من بعيد نهتدي بالأهل
نشمُّ روائحهم
كأنا ما غرفنا من ثوابٍ
غير أصواتهِم في حناجرنا.
من بعيدٍ نهتدي بالصوت، بحَّةٌ تردُّ الصدرَ إلى الصدرِ، نبكي تلهينا عن بكائنا، وننخطف خلسةً لنكون يد الأهل.
نهتدي بالظلال التي وارينا
بمواسم زرع وحصاد
وبعرق لم نستمهله فينا.
من بعيد ترسم الزرقةُ أنهارَها
تنحو إلى ماضينا؛
وكأنما ننهضُ من غبارٍ لنستعيدَ سيرةَ الغبار
نصعقُ للشجرة التي توالدت مرارا
فما أثمرتْ غير ثمرتها الأولى.
الصوتُ والملاعب، الأرجاء تلك ودهاليز الضحك، الولع بالنسيان، والولع بالتذكّر، النار وخمودها، أيضا الصور الكثيرة، (...) كل هذا العشب وطأناه.
وما كان من بعيد غير صوتنا فينا
نهضنا
وأشعلنا في الفتائل زيت البيوت الجديدة،
قُلنا ابتنينا أرجاءنا
ضحكنا في صور جديدة
تزيّنا بالابتسامات
وغالبنا المرايا على سماتنا.
الأهل يأتون بالهال
بالرائحة وقمحها
ولما يكبر الموت فينا
الأهل يحصدون بمناجلهم جبال ظهورنا.
من بعيد يأتون، يستدرجوننا بالآمال؛ فنرتفع إليهم وننحفر على امتداد حبالهم؛ هكذا نتعرف على تاريخ بصمتنا.
الآخرُ فينا آخر وبعيد
ميتٌ قبل أن يصحو
حجرٌ قبل أن يبللنا المطر
سمتٌ وعتمةٌ
وترتيلة غريبةٌ لمعبد قديم
الآخر فينا غريب قبل أن نشتاق صوته.
الأهل يأتون بالضحكة
يهنئوننا على حكمة لم تراودنا
يكنزون فينا العويل
وينطقون صدورنا في الصراخ.
الأهل يطلقون بكاءنا
يدانوننا برعشة الصدور؛
ولما تمتدُّ أياديهم لتمسح عن جباهنا أقواس الألم
ينهض الأهل فينا
تنهض الزرقة سماء في فجوات أصابعنا.
الأمل في شمس الأهل.
من بعيد أصواتهم
الترجي والبكاء
الدمعة وملامات الشوق،
نحن وقع خطاياهم
نحتُ أناملهم
والصعقةُ التي تتمرأى في أعينهم
نحن الرجاء الذي لم يعتنقهم.
الأمل في ضحكة الأهل.
وبعد الأهل، من ذا يشعلُ في قميص المساء غرفة الكستناء، من ذا يُطوِّفُ بخور الورد في أسَّرة الليل، من ذا يقطف الزهرة عن شرفة الدار ليزيّن بحبق الأصابع ولادة الصباح، من ذا ينوِّمنا عند ترتيلة ويوقظنا على الهالِ، من ذا بعد الأهل يزرعُ في تُربتنا الضحكة التي استبقتنا.
الأملُ في ضحكة الأهل.
أصواتهم تَحفر وتحفر،
أصواتهم تأخذ أيادينا وتمرُّ على أيادينا،
أصواتهم تهبُّ
يقينٌ عذبٌ وجرحٌ في التاريخ ينهضُ.
نهضنا بالذي فينا.
الشاي يملأ ضحكتنا، ونعناعٌ، نعناعٌ كثيرٌ في السكَّر، والرائحةُ لله تلك الرائحة، أصابعنا تفركُ النعناع.
الأهل في أصواتنا
في دمعتنا
في اشتياقنا، وعند اليأس.
الأهل في التاريخ
في تساقط الروزنامة
وفي ذبول الزهرة
والأهل عند نومنا.
الأهل ينخرطون في مهام أحلامنا.
ينهض الأهل فينا، يتناسلون في دمعة أعيننا، يربتون على ألواح أكتافنا، ويأخذوننا في أعينهم ننام في نومنا، وعلى نومنا جيادٌ تصهل وتأخذ أجنحتنا إلى نوم الأهل.
عاليةٌ أصواتهم
ينسلون الغبطة من كؤوس ساخنة.
يرتقون ثقوب أصابعنا
ويأتوننا بتواقيعنا.
نحن الذين افترقنا في الوسائد
وفررنا بحيواتنا،
تنصلنا من سمعة أياديهم
وهدهدتنا الأمسيات السعيدة
نحن الذين قتلنا الأهل.
الأهل في البعيد يستعيدون ذكرياتنا
يستنطقون الحجر في غيبة أصواتنا.
نحن في بعيد الأهل.
اهتدى القمر ونزل إلى صلواتنا
وتلمسنا من بعيد البعيد
صوت اللمسةِ
فارتجفنا
وكأنهم ما عرفوا غير خطواتنا على صدورهم
مرروا الأيدي على طلل الصدور،
وندهونا بالصوت
تلمستْ شفاهنا عرق الصوت.
الأهل يتنادون ليجمعوا أشلاء خطوتنا.
سقط حاضرنا في حديقة الماضي
ونامت أحلامنا في عصفِ الليل
الطلل يُرحلنا إليه
نحن ربيبو الأهل.
مرّر المرج أعيننا على أجنحة عصافيره.
*****
نوم
(إلى جدي)
لسوف يؤجل نومكَ الطويل
قهوة الصباح،
ولن يكون في وسعنا أن نتأمل زرقة عينيك
بينما تغفو وتستيقظ مراراً،
سريركَ سيظلُّ دافئاً
لكن الوسادة لن يبللها رضابكَ.
سنسمع عنك القصص الكثيرة؛
نحن الذين سهرنا المساءات
نستمع إلى حكاياكَ عن العفاريت والقطط والجدات،
ولن تبدلنا الأيام كثيراً
إذ أن حنوك سيظلّ فينا؛
نحن الذين أكلنا مراراً من تعب يديكَ
ومراراً شاغلتنا بأزهار شرفتنا والحبق
ونحن الذين أحببناكَ.
غداً عند الصباح
سيأتي الصباح،
ينشغل الجميع
وتبقى أنتَ في نومكَ
لن يوقظكَ أحد؛
إذ أن المارة
لن يلحظوا خفة العين
وهي تذرف دمعها؛
ولن تكفكفَ أنتَ ما تساقطَ
إذ أن أصابعك تتوضأ بأزرق البرد.
****************
2- صمتٌ يتمّم ركعتي
أمنية
لو بوسعي..
لو بوسعي فقط أن أطير بلا جناحين،
وبلا فوضى تهبّب الرياش.
لو بوسعي
أن أمضي في السماء مثل قوس قزح وحيد؛
لليلة واحدة
أضيء،
ومن ثم
يحرقني
المغيب.
*****
أهزّ الحياة
من بعيد وقفتُ
أُحدق بالممرات الكثيرة التي تركتُ
بالأشجار التي تمايلتْ عند خطوتي
بالماء الذي موجته أحجاري الصغيرة
بالسفن التي عبثت بأحلامي
بالشمس تجدل أسمرها
بالقمر يضوي
وبالنجمة تنحدر لتلامس ما كان شباكي
من بعيد نظرتُ
يدي تهزّ الحياة
وقلبي ينتفض
ومن بعيد رأيتني أهرب مما كانت حياتي
أُودِعُ أسراري الصغيرة في سماء تواريني؛
أرتوي بماء عيني
وأهتدي بالمطر يلامس ما كان لي.
من بعيد،
ومن صخرة يدي
ومن هُتاف جريح
من تطلع الشمس إلى بريقها
من خفوت الرعد
ومن هواء مدّد صوتي.
من بعيد،
ومن خط في السماء لامس الأزرق ونهض في قبلة فمي
من صوت فلَّق الموسيقى
تركني عند وحشتي
من تهامس الصوت
من بعيد
طيوفي تتراقص
ورأسي تميلُ
غبطتي كل ما تبقى مني.
صمتٌ يتمِّم ركعتي
عندما أعبر الصمت
أتعرف وجهك في الظلال الكثيفة
أتركك إلى يدي
تتلمس خطوتك على التراب
صيفك المشغول بالليلك.
والناي الذي يرجِّف الأنفاسَ
يفتحُ العين على لؤلؤها
يخطفُ القلبَ بنداء يسطع كالألم،
يندى البلورُ
فأفلتُ هدبي يغفو ويبكيني.
كنتَ أحلامي، وكنتُ أجتازُ ما وددت،
أتركُ لكل يوم شمعة
وأمشط الصور بتسريحتي؛
أؤجلُ شغفي بالممرات المعتمة
وأسدل الستائر
لأتقمص وحدتي.
كانت الشجرةُ في تكسُّر ضحكتها
تردّني إلى الخريف في جبيني،
فأجمعُ زجاجاً تكسَّر وشظى صورتي
أُلملم الجروح الصغيرة والقبل
وأرتدُّ إليَّ.
في كل مرة حلمتُ
ردّني الله إلى ركبتي
جلستُ، وصليتُ
وتساقط تعب عن كتفي
كنتُ حلمتُ بالسنونوة
تخطفُ قمحها من راحتي
أتلمسُ جناحيّ
وأتلمسُ الطيران في جناحيها.
الله كان يحبني.
مراراً تَخَطَّفتُ بصور رسَمَتها أصابعي
نديةً؛ كما لو أنها خرجت من موجة البحر.
كنتُ رأيتُ القمر يتوارى في راحتي
فأتحسّسُ أصابعي خشية أن يفلتَ
ولما أُباعدها
كان نهر عظيم يستدلُّ على اليباس
فأرتوي.
عندما صهيلك المفرد يضجُّ في العراء
يخطُ خطوتي
ويطلقني هامسة؛
أنكمش إلى صدري
كي لا أفلتكَ
آخذ خطوتي لأميل بها
لأقف عند شارع
وأستنجد بالصمت يُتَّمِمُ ركعتي.
*****
ناهض الألم
كان لا بدَّ من ثلج كثير، من أرضٍ بيضاء بحجم السماء،
كان لا بدَّ من نسيان يُرهقُ نسيانكِ فلا تتذكري.
الألمُ في ما يتبدى من الألمِ
في الصورِ
وفي خطوة تُشعلُ موطئَها.
كان لا بدَّ من سيف عاجل، ومن ممر طويل، ومن سخرية سوداء تجرح ماضيها، كان لا بدَّ من أحزان تمسُّ الشواطئ وتلازمها، ولا بدّ من رمل ينزاح كلما اكتمل.
عَبَرَ الدمع خفة العين
عَبَرَ رمشها
ومشى على الخدِّ.
كان لا بدّ أن نزرع في الضحكة موتها العجول، أن نسري في العتمة لندركها، وبلا أمل في نور نتخاطفه كان لا بدّ أن ننكسر في خيلاء الليل.
مرَّ الليل،
مرَّ كما يمر مستوطنون بغربة التراب،
مرّ مكلفا لأن الروح التي اندلعت سرتْ في تاريخها
ومالت على مولدها.
ولأنه كان لا بدّ من موج عظيم
يهيل على الذكريات ألواح الماء؛
ولأنه كان لا بدّ من أن نولد من أيامنا،
ضحكنا في ما يشبه التشنج
وتكشف لنا الموت
هكذا
حديقة تشبه أصائل الوقت
عند انبجاس العتمة وهرولة الأحمر.
كان لا بدّ من تاريخ لا يشبهنا.
حلمت أكتافنا بالأجنحة
وأقدامنا بخطوات على الغيم
حلمنا بتوجس أحلامنا من مطر كثير ومن غرقٍ.
كان لا بدّ إذاً أن نصلي.
وإذن، بعد حرقة العين
وبعد ولاء لم يدركْ؛
وبعدَ ما بعدُ؛
من ذا الذي يقسو على غروبه باليقظة.
نام الجسد وحده
عداهُ كان يجوس وراء الباب
يطفئ الشعلات كيما لا ينتبه إليه.
مرّت الأيام في ما يشبه النومَ
سريعة لأن ما يراه النائم هو انخطاف نومه.
العراء يشبه ولادتنا
نمشي بخفة تلوذ بخفتها
ونُخفقُ.
أجنحتنا تلهب لازوردها
وتُلتَقطُ صورنا.
كم من صيف يضحك في شمسنا
وكم من يد ستمتد إلى جباهنا بالتمتمات!
وإذن، كان لا بدّ من قدر يحتفي بوصولنا.
بلا أمل.. وبلا يأس؛
بلا راحة.. وبلا تعب،
الصدى يردّد الغياب
وما طالته يدي
نام في يدي
وما ضحكت له ضحكتي
نام في صمته،
وها أنني أعود إلى الأشجار؛
إلى اصفرارها وتكسرها؛
إلى الشمس تأخذ ماءها
إلى العطش.
اشتدّ عليّ الألمُ بالألمِ
اشتدّ عمري في غفلة
وما تُركَ لي
لم يكن لي،
وانكسرت في مهب يقيني.
كان لا بدّ من سماء تفرط وحدتها في أزرق الصيف، تهذي في نوم البياض، كان لا بدّ من سهم يفلق الغيمة عن مطرها، ولا بدّ من ارتجاف عظيم ينهض عند حافة الأرض ليبلِّل يباس الصخرة حيث ينتحر العابرون كما أمواج الغبطة.
هيأني النوم لقبلته
رَكَضت فيَّ أيائل
وجمدني البرد
وبلا منادين
عجلت باسمي
ودّونتُ رأسي حيث ينهال التراب شقياً.
كان لا بدّ من ولع ترسمه المرايا لنحدّق فيه مراراً؛ ونرى إلى وجوهنا على صفحته مرسومة بألوان يتخاطفها الأسود.
أغرق المطر ألوانه
واجتمع الماء إلى بعضه كما الصلاة
عُلقتْ صورنا باكيةً وضاحكةً
وذهب الخريف يلمُّ أقدامنا
ولم يكن ماضينا بلا تاج؛
سوَّرنا من أكاليله حيواتنا.
وها أننا في لمعة الموت تأخذ رقتنا
وها أننا بعد ما صرنا
عدنا إلى كنا
كأنما صيفنا التهبَ
وكأننا في عراء يشبه الولادة.
الكلمات تؤجلنا.
لم تكن وجوهنا التي تعرتْ
غير وجوهنا التي تعرت
ولم يكن شعاعنا غير الشعاع
لم يكن موتنا غير موتنا
ولم نكن أكثر مما..
جمع الماضي انفراطه في راحاتنا.
ما أجلّ من قسوة علينا هي قسوتنا.
كان لا بدّ من القدر، من ابتسامته تمرُّ سريعاً في مروره، ومن شغفه بنا.
صرختُ في اليباس
فتكسَّر اليباس؛
صرختُ في المغيب
وتبدّد
وصرختُ في الألم
عيني في ناهض الألم
ترقرقت
وما هبّ من ضياء
هبّبه الضياء.
كان لا بدّ من سطوع عالٍ يحمل أجنحتنا ويميل بها، كان لا بدّ من ضحك وضحك وضحك.. كان لا بدّ من لمعان ينقصم في ظهر الجبل.
أينع الأخضر في غفلة مني.
أعود إلى الأشجار
إلى مرآها من نافذتي
إلى حفيفها موجعا في الستائر
إليها لأرى الخريفَ بعد الخريفِ
والمطر يتساقط ويضوع
واللحاء تتقشر
إليها تنهض وقوفاً
وتحفُّ الأحزان
موتهُا الصاعق
عراء الولادة.
********************
3- أطياف أيلول
أطياف أيلول
هبّتْ السماء في موعدها
تساقط الخريفُ؛
تلاطفَ أيلولُ وهو يمسحُ جبهتي،
كنتُ شعري وكتفُكَ
وكان النور يشرب صمتي.
هبّتْ السماءُ في موعدها عاصفةً؛
تبدّدت الزرقةُ في شمس الغياب؛
تألق القمر وحيداً
يوزعُ على النجمات
ضحكته التي ما راودتني.
أُسعفتُ بذكريات ونتف من مخيلة،
نُدهتُ في صمت الصرخة.
وأفقتُ .. كأن بي لم أنمْ أبداً.
ما تركَ لي هذا الخريفُ سراً
تراخى على ذكرياتي وتركني في عراء.
جاء أيلولُ
وذهب أيلول..
لم أكن هذا الجدار
فبكيتُ،
ولم أشبْه حائطاً
فتكسّرتُ
وما كنتُ نجمة لأنطفئ وأشتعل
فانطفأتُ.
ذهب أيلول
لا
لم يذهبْ
تساقط شعري على جبيني
ولم يعدْ يوسع أصابعي
أن تزيح هذا الجبل.
شُغلتُ بالوهم
وشُغلتُ باليقين،
صرتُ خائفة
خفيفة كالظل
صامتة وذاهلة.
كان أيلول شقياً
امتدت ساعاته لتحالف الوقت،
كان طويلاً وأغبرَ
تساقطت أوراقه صفراء
لفرط ما اخضرتْ،
أقام في دفاتري
وحدّق في وجهي
فاشتعلتُ
ولما اشتعل انطفأتُ.
الجيادُ بأقدام مالحة
وبأكعاب تشبه الهدير
كانت تخطف الزمن
تعدو.. وتعدو
كانت الجيادُ تُهرق صوري
كنتُ أراها
وامتلأ دفترُ ذكرياتي بالمطر.
لم يعدْ بوسع أُذناي أن تسمعاني
رحتُ أصرخ وأصرخ
كانت الجيادُ تكسرُ في عبور حوافرها
ما تبقى
من صوتي.
بالرأفة التي تشبه مطراً
في صيفٍ لاهبٍ
رحتُ أُلملم ما تناثرَ؛
أجمعُ النتفَ الصغيرة؛
لكن الجياد ما توقفتْ،
ظلت تعدو
وكنتُ ألملم
وكانت تعدو.
ما تبدلتُ
لكن المطر ملأ خزائني.
أكنتُ أنا سالومي
وهي ترقص وتتدحرج
وتخطف العين
لتموت على مرأى من حجر.
أتعرف تلك الحائكة العمياء
ظلت تنسج وتنسج
وما عرفت أبداً
أن ما اكتمل بين أصابعها
كان أكثر من ثوب
ولا يليق بعرس،
أكانت هي نفسها بينالوب
التي ضفرت جدائل شعري!
كنتُ أعرفها من الصور
ولما ناديتها
جاءتْ تسبين
ملفوفة بتوت أحمر؛
أسلمتني منديل حبيبها
كانت تثقب الجدار
جائعة إلى رغيف بيرام
تساقط الجدار
وظلّ الثقب وحيداً
في دفتر قديم
دفتر أصفر.
ثم جاءت هيرا
كانت عارية وفي يدها وعد زوس
وبطرفة عين ارتفعت إلى الجبل؛
كان الزنبق يفوِّح أبيضه
ونامت هيرا لثلاث مئة سنة،
ولما استفاقت
وضعت يدها على كتفي
فاستدرت
كان زوس قد مضى في طريقه
باحثاً مجنوناً عن الخضرة.
أسلمتُ لهن جميعاً أقداري
ورحتُ أُصلي خفية.
كانت الجياد تمدّد العراء
كان العراء أكثر من أن يُحتمل
وكان أيلول ينام في وسادتي
ويسكن غرفتي
وكنتُ خائفة
وكان الألم يسطع بإبرته
وكنت أصرخُ:
لله
للهِ
ما أسطع تلك الإبرة.
جلستُ على مقعد.. البحرُ يهدر في أذنيَّ، وقلبي ينبض بجنون من لم يعرف النبض.. كانت الغرفة تهتز بالزلازل، والصور تتساقط من على الجدران، وكان بوسع المارة أن لا يروني، إذ أن صوري، صوري كلها، لم تعدْ، لكنني لم أتبدل.
أنا ما تبدلتُ أبداً
هذه الغرفة بأركانها الأربعة..
تعرفني
هذه المرآة
وأيلول يجالسني
وقمر شاحب،
هذا الدهليز
والكرسي
وما تبقى،
أنا لم أتبدلْ
ما تبدلتُ أبداً..
كانت الجياد تصهل، ترفع أعناقها الطويلة، وتشرئب إلى السماء، فيما سحب من غبار كانت تنفض العرق عن أقدامها وتيّبسه، تزلزل بوقع الحوافر كل ما تبقى من صور.
أنا لم أقوَ على هذا الخريف
لم أقوَ عليه أبداً..
ما استطعته
كان أقسى من مزحة
لم يحمله اليقين
ولم يحمله الوهم
كان يذهب من كتف إلى كتف
ولا يجلس طويلا
غير أنه كان طويلا
طويلاً وأغبرَ.
من رسمه هذا الأيلول؟ من ذا الذي قسم لي إرثاً فيه؟ من ذا الذي خطف ضحكتي وأشعلني كنار قديمة تداعت بالمرايا وانطفأت بالرماد.
أتعرفينها تلك الحائكة العمياء؟ هل كانت هي نفسها بينالوب، حاكت لكِ شالاً طويلاً وزينتكِ لليلة العرس؟ هل كنتِ أنتِ تعرفينها وهي تغرز إبرتها في دمكِ وتسهر طويلاً.. بل أنها لا تنام.. هل كنتِ تعرفينها لما امتدت يد تسبين بمنديل بيرام؟ هل كان هذا الأحمر من دمكِ؟ أكنتِ أنتِ من صيَّر أبيضَ التوت أحمر؟ هل كنتِ تعرفين بينالوب؟ هل رأيتِ سالومي وهي تهبط الأدراج راقصة؟ أرأيتِ رأس بيرام يتدحرج؟ هل كنتِ أنتِ هيرا وهي تستيقظ بعد ليلة طويلة على إثم الحقول؟ هل رأيتِ زوس وهو يقطف زنبقة ليزيّن صدر سالومي؟
لم أتبدل
كانت السماء مقفلة بلا أمل
كان الخريف أشيبَ
كانت الصور أكثر من ذكرى
وكانت الدفاتر تنمو تحت المطر
وكان الماء يثقلها
وكان الخريف بصراخ تكسره أكثر حنواً من ايلوله.
ذهب أيلول.. لا .. لم يذهب.. أفتحُ الأدراج فأراه، أغلقها وأراه، في الخزائن أراه.. وعلى وسادتي أسمعه يصرخ في أذنيّ.
لم يكن صوتي
لم يكن صوتكَ
ما كان لي أبداً أن أسمع
ما كان لي أن أسمعه
كنتُ أصرخُ
والصدى يردد:
للهِ
للهِ
ما أسطع تلك الإبرة
كانت ملتمعة
وكنتُ خائفة
ولم يزلْ أيلول
جاء في موعده
وتساقطت أوراقه يابسة على رأسي
ولما ذهب
كنت أنا بلا دفتر
بلا مطر.
**************************
4 - أهز الحياة
حياة
بحياة صغيرة،
حياة يتيمة وجائعة،
و.. بحياة لم تولد بعد
حياة اختزنت في ضحكتها موتها،
بحياة طرية
أستأذن لأختبئ وراءها
هي الحياة
التي ساقتني بقدمين من خشب
وفم وحيد
وراية
أقبلُ عليها لأشهد ولادتها.
*****
على حافة الحياة
عالياً..
عالياً
أريد أن أموت
برفة وحيدة
وعلى جناح مائل
في سماء عطوف
تمدّد لي بين الغيمة والغيمة سريراً
وتوسدني في ارتجافتي الأخيرة
جناح غبطتها
تاركة لي أن أحلم
بالمطر يتنزل
هيناً
يبلّل
ما تساقط
من رياش يقظتي.
*****
لا أعني
عندما أقول أنا
لا أعني ذلك أبداً.
أنني أـحدث دائما عن الرئة الأخرى
عن دخان يتنفسني.
عندما أقول أنا
لا أعني أبدا ما أقول
انني أتحدث عن الصفاء
عن المرآة التي تقتسم غموض وجهي.
أحياناً..
عندما أقول أنا
أدخل في جلال الظلِّ.
*****
إكتشاف
أترك أشيائي الجميلة
مفاتيحي وصوتي،
أتركُ المطر الذي تعجل بي،
أترُكُ النسيان في غرفتي.
أتركُ ابتساماتي التي وزعتها على المرايا
شغفي بالخزائن والشموس
والستائر التي تكسر الضوء.
أتركُ ضحكتي
أتركُ ما أحببتُ كثيراً
ما كان في ميلانه خافقاً
ما تدللّ بين يدي.
أتركُ كتبي ودفاتري وأوراقي المطوية
أترك أحلام يقظتي
والشجرة ذابلة عند شباكي.
أتركُ ما أحببتُ كثيرا
لأنني دائما ما أُُكتَشَفُ في غيابي.
*****
وضوح
المزهرية عطشى
وأنا لا أحدْ،
لا أحد أبداً،
وليس في وسعي
غير أن أنظر ذبول الزنبقة
وميلانها نحو كف الأرض.
أنا لا أحد،
أبداً
لا أحدْ،
فتحتُ الباب
وخرجت
صفقتُ الباب ورائي
وتركت خطوتي خفيفة تلامسُ مسجد الأرض.
أنا لا أحدْ،
وليس بوسعي في نهار كهذا
إلا أن أكون في غيابي
نجمة النهار
لا أُرى
ولا أَرى
مسحة حزينة
لقبلة لم تلتئم.
************************
5- مدى الحب
شفاف
ترقُّ في دمي وتشفُّ
صورتكَ
وتلك اللوعةُ
وهذا الصدر
إذ يرتفع ويهبط
يحاولكَ
يضيء بك ليعلو
فيسجد.
هذا الضوء ينير أكثر مما ينبغي.
*****
كثرة
كأنها واحدة وأنتَ الكثيرُ
ندىً يرعشُ في طلاوته؛
وإذ تناديكَ
تبتسمُ ظلالها
صوتكَ يرسم ابتسامتها.
كأنها واحدة
وتلك في الحب تتعددُ
تأخذكَ إلى صدرها،
برد الليل ينام.
تترنم باسمكَ
أنتَ صانعها.
ولأنك الكثيرُ
تسهرُ في صمتها
على ضحكة الصور.
ولأنك الكثيرُ
ترتعشُ أمامكَ
تصيرُ سمكتكَ
تلونُ ابتسامتكَ
وتضيء قنديلها.
وحدكَ أنتَ العالم في كثرته.
*****
صور
الستائر بلا كثيرِ اهتمامٍ
تنسدلُ بيضاء
تبحث بعينين متخيلتين عن أوراقٍ أفلتتها أصابعكَ،
الجدران.. هي أيضاً.. تنبضُ
بقلب يدّعي السكينة
لكنه بهلع يصرخ وهو يتشمم غيابكَ.
كل ما حولي يسأل عنكَ.
وحدي بكتفين مرخيتين متعبتين
أتأمل الصور؛
أنسج في الأحلام
قفل باب يدور
وخطوات تقترب
وجبين يصحو على قبلة خاطفة
تضحك لها الستائر
وتئن الجدران؛
الجدران نفسها تلك التي بكت لكثرة غيابكَ.
*****
بنفسج الأصابع
أشاركك صورتكَ في المرآة
تبدل أصابعكَ
وانغماسها في تحليق الصور
أراقب جناحين من مطر
ناما عند الانحناءة
وضوء يدكَ الغامر.
أنشغلُ بالممرات الكثيرة
وبالستائر التي تهذي بالعزلة
وانشغل بقوس قزح
رسَمَ مراراً بنفسج الأصابع
صار ألواناً ترسمُ ألوانها
غبطة الكون بشجن العين.
أشارككَ في المرآة
وجهكَ
وتوتر يدي
صوتك إذ يشعلُ النبض.
من ذا الذي يعودُ من أصابعكَ فلا ينهضُ بكَ؟
من ذا الذي لا يرتدُّ منكَ إليكَ؟
من ذا الذي يشجيه الألم فلا ترتجفُ روحه عندكَ؟
أشارككَ أصابعكَ،
أناملكَ إذ تهدهد النبض فتربكه.
أجلس ويهوي بي كل ما أهوى بكَ
أسجدُ على ركبة تنده هذيان الوتر
أندهكَ
وأُحمل لإلى بعيد السماء فأقربكَ.
هدهدني لحظة تجلس على كرسيك
الجميع يتملى من أصابعكَ
لما أنا أرتجف
مثلما شجرة تكاثرت أوراقها
وأمطرها المطر.
من ذا الذي يراك
فلا يرى ميلان الأفق عند رؤياك؟
من ذا الذي ينجو من خفة الأصابع
ترسم الإسراء إليك؟
هذا المساء انفرطت أمامكَ
فاجمعني.
*****
حلم
بالأمس حلمتُ بك
ولأن أصابعكَ كانت تلامس شعري
بلّلني المطر،
وخرجت بلا مظلة
بلا منديل ولا قبعة
ناديتكَ
والمطر كان دليل صوتي
ولما استغرقني الحلم
صعدتُ على موجة
أعلى بكثير من بياض القلب
وهبطت كسيل جارف
غير أني بنعومة هبطتُ
وكانت رأسي على الوسادة
وأغنيتك تُرعش سمعي
بمقام من الورد.
عدتُ إلى النوم
غير أن الحلم كان نهاراً ساطعاً
والقبلة التي على جبيني
كانت أعلى من موجة القلب.
حرتُ بين أن أحلم
وبين أن أسترق الليل كله في يقظة الحلم.
*****
مقتطفات من سيرةٍ طويلة لتاريخ الروح
لو أن بوسع الحب أن يقول لقلتُ
لكنني هربتُ من الكلمات
وذهبتُ إلى مطر
هكذا ارتجفت
فصليتُ،
القول وحده غالبني
فغُلبتُ.
أنا لا أؤرخ
لكنني أكتبُ سيرة الروح
كما تكتبُ زنبقة
موت البهجة في البياض.
بأملٍ ميت.. وأملٍ شقي
برؤى تتوهم
بماءٍ وزورق وأحلام
أستعيدكَ من كل طريق
لأجوسَ عتمة حياتي
لآخذ بنومٍ ما عجزت عنه يدي،
وأسطع ببريق يحفر في وسادة الألم.
أرتفع لأرتفع.
أنا لا أؤرخ
لكنني أضمُ أصابعي
لأتقي رغبتي بالطيران
أكوّر جناحي
وأسجد عند غبطة الحلم
يأتي بالصور
ويكدس الذكرى.
بيننا كف وكف
قمر يتنزه ويتركنا بلا مرايا
بيننا الأحلام
إشراقة النهار
ومضي الليل
بيننا زهو الغياب يرسمنا ونرسمه
عتمة وحائط وماء ليس ينتهي
وبيننا أصابع طاقت وانطوت.
أنا لا أؤرخ
لكنني أكتب سيرة تنتزعني
وأدلق البياض لأتطهر من كل إثم
أرسم ذكرياتي على جدار كبير
لأمحو كل ما مضى
لأستقبل الآتي بنشوة الحلم
وبالماء والماء والماء.
أزيّن فوضى الرفوف
وأهبط
لأكتب من جديد:
هذا التاريخ أنتَ
صنعته وصنعتني
وحفرت به الألم
وأنهضته بالسطوع
وواريتني.
أنا ما كتبتُ
غير أنني بنعمة تَنَـزَلَّتْ وأُنزِلتْ
ذهبتُ في الأصابع
وفتحتُ كفي
ولما اليباس
رأيت المطر،
ولما الموت
رأيت الحياة،
ولما الطوفان
رأيتُ النجاة،
ولما الخسران
كان الله قد أحبني.
أنا ما كتبتُ سيرة
وما أشعلت بداية غير أنني فتحتُ الكتاب
ونظرت المرآة
ولما تبدّد الخوف
تسمرت بالحب
فنطقتُ
وما كتبت.ُ
سيرتي نهضتْ وبنتْ وارتأتْ
وعند النهر
سرى الجدول
وتألق رذاذٌ
زبدٌ
غطى رمال الذكرى
وأضاء في العتمة
ما خسره النهار.
أنا ما أكتبُ
بل أنسجُ كحائكة عمياء
رداء ليلتي
أَضيء غفوتي بالتذكر
وأنام لألتمع عند الحلم
أصرخ لينفتح العبور
لتشرئبَ من بين المرايا
ليكون صوتكَ صرخة الممر عند ميلانه.
أنا ما كتبتُ
ما دوّنت
ولا رسمتُ
حللتُ شعري وأغمضتُ
قلتُ رأيت دنيا
وجلستُ بينها
كانت الأنامل مشغولة
والماضي كما السبحة.. ينفلت ويتدحرج.
هكذا أضأتُ بشعلةٍ خفيضة
أياما سوداء كانت،
هكذا،
وكما قبلة منسية تيبسَتْ عند الشفة
ابتسمتُ
وهزأتُ من صور قديمة.
كنتُ أجرحُ الألمَ بأشدِّ منه.
لو أن بوسع الحب أن يقول
لكنتُ ارتعشت في موتي
وعنده،
لكنتُ صوته
وصرختُ به،
لناديته،
لو أنه بوسعه
لو أنه أنطقني
لو أنني قلته
لكنني في القول غلبتُ
وما استطعتُ.
أزين صورتي لأحلّ به
لأشتعل وأُشعلُ
لأضيء في هذا اليباب
أرضا تدور وتدور
ولا تأخذ بي.
لو أن بوسع الحب أن يقول لقلتُ
لكن المطر كان أسرع
والموج الذي علا كان يُرَّجفني
والنسمة كانت كالهبوب.
لو أن بوسعه
لو أنني قلته
لكن المساء كان يدرك شمس الصباح
والليل ينفرط
لتحل الذكريات.
لو كان بوسعه
لو أنه أنطقني
لكن القول وحده غالبني
فغُلبتُ.
*****
موت
جياد كثيرة وقفت تصهل بالموت
وقع حوافرها يصاعد
والأرض في ما امتد منها ترجفت
نداء الموت يتألق.
جياد كثيرة كأنما لا موت إلا بعبور رؤوسها
عالية ترفع السماء في النفير
حادٌ هو هذا الصوت
يقيم ولا يعبر.
جياد وما أكثرها على التراب
عبرت في أكعابها زرافات غبار
وانشقت السماء لصوتها
لم يُتركْ للأرض أن تدرك ساعتها
لم يُتركْ لها أن تستنجد بالصلوات.
جياد كثيرة عبرت وتركت في عبورها
خياماً سوداء
رفرفت أعلامها بالصهيل.
بلا رأفة أمطر الموت
وضاءت الأزهار في نوم الموتى.
*****
نزوة
لأجل نزوةٍ صغيرةٍ
عابرة، ربما
تركتَ يدي إلى مقتل
وروحي في مهب شقاء
وقلبي إلى فحمةٍ سوداءَ
تشعله
وتطفئ بدخانها
ما تصاعد من نداء.
لأجل نزوة صغيرةٍ
أقفلتَ الستائر
وأزحتَ الشمس
وأهلتَ التراب على الذكريات والصور،
ولأجل نزوة
جمعتَ الخواتم
وسوَّرتَ حفيف البكاء بصرخة مكتومة.
ولأجل نزوة
أمضى قتلاً من عبورها
ذهبتَ بالماضي الى مقبرة الموتى
وأقفلتَ المستقبل بمفتاح الخيانة.
ولأجل نزوة
عابرة، ربما
أطلقت طيوركَ
في سماء الزرقة
ترخي بأجنحتها
على ما تفاءل من أمل
تنثره بالرياش التي تتطاير
من غبطة الطيران.
ولأجل نزوة
أسلمت الضحكة
إلى أزميل حدَّاد
يقرع فيها
ويرقق ضجيجها إلى صفائح من ملح.
ولأجل نزوة،
لن تروي شبق الحرائق الكثيرة
قطفتَ الياسمين
وضّوعت رائحته في يد غريبة
ابتسمتْ لليلة
واستبقتكَ عند مقتل يدكَ الأخرى
يدي التي أسلمتها
للذكريات
التي تُنسجُ بإبر دامية.
لأجل نزوة
أشدّ حلكة من ليلتها
أسلمتَ قلبي إلى بأس الوجيب
ورحتَ تعصف بالكلمات
كما تعصف ريح بشقائق النعمان.
ولأجل نزوة
تركتَ قلبي يخون ذكرياته
ويكّذب ضحكاته
ويصفع رقته
بخنجر من موت.
*****
غياب
كل ما حولي يؤجج الغياب
الستائر المنكشفة بلا معنى
الضوء المنهار
بخارُ الأنفاس
والغبارُ الذي مضى بالليل.
كل ما حولي يغيب ويشتبك
الغرفة أيضا في هذيان مراياها
الملاءات التي تلامس الأرض
سكون التسريحة
أبواب الخزائن المقفلة
انفلات الروح نحو سماء تناديها
هلاك الصور في شرائطها
والساعة
تلك الساعة
ما عادت تدور
إلا كي تمرر الوقت.
إقرأ أيضاً: