-1-
سيُقالُ للشاعر: ماذا تفعل في هذا الصباح ؟
سيقول الشاعر: أحرّرُ خطاباً في المودة.
*
كلُّ منفى لا يغيّرُ منفيَّهُ: علامة استفهام.,
يجرّ المنفى معذبيه عادة إلى واحدة من حالتيه: الخواء التام.. أو الامتلاء المعرفيّ..
*
الشاعر ليس بطلاً أسطورياً.
الشاعر: خوفٌ من كلّ شيءٍ، وردّ فعلٍ يائسٍ لكلّ شيء.
الشاعر ليس ذلك الفارسَ الهمام، الذي لا يخشى الصعاب. فتضافُ مغامراته البطولية إلى تجربته الشعرية.
لا. هذه كذبة.
أعود منذ أيام إلى رامبو، بل أنا منشغلٌ به هذه الأيام. أتذكره حين أذهب إلى الجامعة، وفي العودة إلى البيت، وحين أبدأ الكتابة، أتذكّره أيضاً، فأحاول أن أخصّه بشيء. ثمّ أغيّر فكرتي، قائلاً: ليس هذا وقتَ رامبو.
وهو وقته، كلّ وقتٍ نعيشه هو وقت رامبو. غير أنّ تاريخ القمع الذي تربينا عليه منذ الصغر يقمع فينا تلك الرغبة الدائمة: التلذذ بكتابة شيء إلى ذلك الشاعر.
كتابة شيء في الصباح إلى رامبو: لجوءٌ روحيّ إليه، يسعفنا من كلّ منفى.
" الحياة الحقّة غائبةٌ "، قال رامبو. سأحاولُ ثانية أن أتذكّرَه ببراءة نصه وعدوانيته..
سأحاول ثانية أن أتذكّره، لاجئاً إليه.. وسامعاً نشيدَ السفر.
*
سيُقال للشاعر: ماذا تفعلُ في الصباح ؟
سيقول الشاعرُ: أحرِّرُ خطاباً في المودّة.
*
أكتبُ:تُ ذلك الشاعر الذي يحترف المنفى وامرأته عدّادَةَ النقود وهي تحدّق في عينيّ، مستغربة من خروج شعريّ، غير حزبيّ، وأنا أكتبُ كلَّ يومٍ عن فرحٍ الخروج الشعريّ. أكتبُ :
كلّ خروج لا يعي شعريته: سفرٌ سياحيّ.
-2-
ذات مرة، جلسَ حكيمٌ صينيّ ليفكّر في الشاعر فقال: لن تكونَ شاعراً حتى ترى الصينَ كلّها.
إِذاكَ،اعرُ من شنغهاي مسافراً إلى المدن كلّها، إلى الناس كلّهم، ليعود بالحكمة إلى شنغهاي. إِذاكَ ، سيُسمّى شاعراً.
لم يخطر ببال الحكمة الصينية، أنّ السفرَ الطويلَ قد يحمل معه موتاً طويلاً للشعر. كانت الحكمة الصينية ترى في الحياة عاملاً حاسماً في تكوّن المعرفة الشعرية. وعلى الشاعر حتى يسمّى شاعرا أنْ يختبرَها في السفرِ الطويل، ورؤيةِ الصين كلّها.
ربطت الحكمة منحَ لقبِ شاعرٍ بالسفر.
تمنحُ الحكمة لقبَ شاعرٍ بعد العودة من السفر.
ما همَّها أن يكونَ السفرُ طويلاً وهو طويلٌ طولَ الصين كلّها.
ومن الحكمة هذه، استعرتُ عنوانَ مجموعتي الشعرية الثالثة "حكيمٌ بلا مدن".
غير أنَّ العودة، وهي هنا فعلٌ أوديسيوسي، قد لا تتحقق. سنعود إلى رامبو في رسالة الرائي: إذا لم تر المجهول، فإنك حاولت الذهاب إليه، والطريق إليه تجربة أيضاً.
لم تقل الحكمة الصينية إنّ على الشاعر أن يُنفى.
لم تقلْ هذا أبداً.
النفيُ عقابٌ، ولم يشأ الحكيمُ الصينيّ أنْ يعاقبَ الشاعر. لقد أراد أن ينصحَهُ بتعلم الحياةِ مع الحكمة المقروءة.
وفي تذكّر آخر لقصة تُروى عن مكانٍ آخر غير الصين، نتعرّفُ على حاكم كان يريد التخلصَ من شاعر يكتبُ عنه - ضدّه، ليلَ نهار، فاستشار الحاشية، ليدلّوه على سجن انفراديّ في مكانٍ قصيّ، في هذا العالم..
ساقوا الشاعر إلى سجنه القصيّ وحيداً متوحداً، تفصلُ بينه وبين الحاكم مسافاتٌ بعيدة. كان الوقت يمرّ هنيئاً على الحاكم حتى سمعَ قصيدة جديدة ضدّه، كتبها الشاعرُ نفسه. لم ينم الليلَ، كما تقول القصة، فأرسل إلى الحاشية سريعاً: تعالوا، قولوا لي: ماذا أفعل ؟
أحدُ رجال الحاشية، وكان داهية، قال:
لقد أرسلناه إلى سجنٍ انفراديّ، في مكانٍ قصيّ، ولكنّ الفصول الأربعة توالت عليه، فكتبَ شعراً.
فأمر الحاكم أنْ يُساقَ الشاعرُ إلى مكانٍ لا تمرُّ عليه الفصول ألأربعة، كيما يكفّ عن كتابة الشعر، ويموت. وتقول القصة: لقد تحقّقَ للحاكم ما كان يريده.
حين لا يرى الشاعرُ الفصولَ الأربعة يموت.
وحين يموت الشاعر ينام الحاكمُ ليلَهُ سعيداً.
يموتُ الشاعرُ عند كتابته قصيدةً في مدحِ صفات الحاكم، فإذاك سيقول الحاكم: لقد تخلّصتُ منه، ليفعل الآن ما يشاء. أو حين يُنفى إلى مكان لا يرى فيه الفصولَ الأربعة.
أبريل 1994 مدريد
كتابةٌ تحتَ الصفر
-1-
لم أكتب رسالة إليك، الهاتف الذي لم يرنّ إلاّ ساعة التفكير بمستشفى الطوارئ، سيرنُّ بعد مغادرة البيت.
تلك عادة جديدة.
*
فكرتُ في زيارة لندن. ثمّ أزحتُها ، أعني لندن ، عن طاولة الكتابة.
لم أكتب قصيدة إِلاّ لأحمد.
*
في درس الفلسفة، كان الأستاذ الأسباني يحدثنا عن ديكارت. وكنت تَعِسينا،ان ابنُ سينا، الشيخ الرئيس، وحده، يحاول إيقاظي بالفلسفة المشرقية، قلتُ في نفسي لقد قرأ الفارابي حتى يعرفَ أرسطو. تذكّرتُ نهراً بعيداً، ومقهى خرباً كنتُ ألتقي فيه صحابَ المدرسة الأولى. لم تكن الطفولة النهرية: قصيدة. قلت هذا، وبدأت أستمعُ إلى أستاذ الفلسفة، قاطعته: لقد سُجِنَ ابن رشد، ولم يقل الغزاليّ شيئاً عن دخول الصليبيين إلى القدس، وأماتَ الفلسفة.
كنتُ تعِباً، وكانت " براهين ديكارت لإثباتِ وجودِ الله" تنهارُ عليّ كانهيار ذلك الجسر الوحيد أيّام الحرب، الجسرِ الذي عرفته أيام القراءة الأولى.
هل أنتَ معنا ؟ قال أستاذ الفلسفة.
لم أقلْ شيئاً، غادرتُ الدرسَ، قانعاً بكلّ ما سمعت.
*
لم أكتبْ رسالة إليك. الهاتف الذي رنّ بعد رحيلي إلى مستشفى الطوارىء: عادة يومية لي، تذكرني بالثورة: قصيدة بريتون التي لم تكتمل.
-2-
كم الوقت الآن أيها السيد ؟
لا أعرف..
في أية مدينة نحن ؟
لا أعرف..
*
جلسَ الشاعرُ وحيداً يتذكرُ تأملاتٍ قديمة. كان يتآخى معها في بغداد التي أصبحت ماضياً وذكرى لا تحين.
قالَ في نفسِهِ: أنا وحيد..
قال في نفسه: بغداد.. وحيدة أيضاً.
*
لكنه تذكّرَ فجأةً مدينة طفولته: الناصرية.
كان يمضي ليله أحياناً في محطة القطار، منتظراً وصولَ القطار النازل من بغداد، أو الصاعد إليها. كان يحبّ مشهد السفر وهو فتى يانع، في الخامسة عشرة من عمره.
وحزنَ إذ تذكّرَ الآن مشهدَ قطارٍ آخرَ بين نيرودا واهرنبورغ في رحلة من روسيا إلى الصين. كان القطارُ يمرّ بالمدن السوفيتية ، فيرى المسافران من خللِ نافذة العربة تماثيلَ ستالين المنتصبة وصورَه ، فأمّا اهرنبورغ القريب من ستالين فكان غاضباً ، في لحظةِ المكاشفة مع النفس. وأمّا نيرودا فلم يقل شيئاً كما يقول هو نفسه في مذكراته. ويضيف : لم يكن الحزبُ قد قرّرَ شيئاً في شأن ستالين ، فانتظرتُ حتى المؤتمر العشرين ، عندما دانَ الحزبُ ستالين.
المشهدانِ مشهدا قطار.
المشهدُ الأوّلُ بريءٌ وحالمٌ بالسفر.
والمشهدُ الثاني ملوّثٌ بالحزب.
تموز 1994 مدريد
سوليداد
بورخس الذي كان أعمى ويديرُ مكتبة في بوينوس آيريس، كان يرى كلّ شيءٍ، إِلاّ دمَ سوليداد* في سريرها مع زوجها.
أيّدَ بورخس الانقلابيين العسكرَ في الأرجنتين علناً، عندما وصفهم بأنهم فرسانٌ، فلطّخَ جانباً من حياته الشاقة.
دهمَ العسكرُ سوليداد وزوجَها بالرمّانات اليدويةِ وبالرشاشات.
أبقتْ سوليداد وزوجها طفلين: أحدهما كان عمره سنة وستة أشهر، والثاني كان عمره ستة أشهر.
شبّ الطفلانِ وأصبحا صديقينِ لشاعر عراقيّ قادمٍ من الجهة الأخرى من العالم.
ومات بورخس في قلبِ الشاعر العراقيّ..
كم كان بورخس قريباً مني.
كم كنتُ أحبّه.
هل خطرَ في بالي ذاتَ مرةٍ بأنني سأمتنعُ عن ذكرِ اسمِهِ حتى لا أؤذي المرأةَ التي أحبّ ؟
شباط 1994 مدريد
* سوليداد، الشقيقة الكبرى لزوجتي السابقة ماريا شير، الأرجنتينية من أمّ أسبانية، قتلها العسكر مع زوجها في بيتهما ببوينوس آيريس، عقب الانقلاب الدامي في الأرجنتين الذي قاده بيديلا في الرابع والعشرين من آذار عام 1976. فغادرت العائلة كلّها، بعد المقتل، إلى إسبانيا.
فندق الصياد
يقع فندق الصياد في منتصف ساحة الميدان. سكنتُه عندما كنتُ جندياً ، وحتى هربتُ من البلاد . كان لي فيه سريرٌ في غرفةٍ ذاتَ سريرين.
فمرةً إذن كنتُ أنامُ وحدي في الغرفة، ومرة كان يشاركني الغرفة زائرٌ لا أعرفه، لينامَ في السرير الآخرِ ليلة أو ليلتين أو ثلاثاً..
كنتُ أخرجُ منه كلَّ يومٍ إلى مقهى حسن عجمي الذي يقع في شارع الرشيد غير بعيدٍ من الفندق. وفي المقهى كنتُ أرى موسى كريدي وجاسب وجان دمّو وسيف الدين قاطع وزاهر الجيزاني وآخرين من الأصدقاء وقتَ الظهر من كلّ يوم..
وزيارتي للمقهى يومية كما كانت لمقهى البرلمان قبل تغييره إلى مطعم وإلى محلّ تجاريّ..
كنتُ أناكدُ صديقي موسى كريدي فيها، فآتي بأخبارٍ تزعم قبول الإيرانيين بوقف إطلاق النار، وكان هو يناكدني أيضاً فيأتيني بأخبار هجومٍ إيرانيٍّ قادم. وقد كنتُ جندياً، فكان يحزنُ لهذا كلّ يومٍ..
وكان جاسب وسيف صديقيَّ اليوميين، أراهُما كلَّ يوم في المقهى ثمّ نذهب معاً إلى إتحاد الأدباء أو إلى بارٍ في شارع أبي نؤاس.
وقد رثيتُ جاسب عقبَ وفاته بنصٍّ عن حياتنا المهدورةِ الأصليّ،تِ، تَصدَّرَهُ إهداءٌ: إلى "م.ع" وقد كان الحرفانِ يعنيانِ موسى عبد وهما اسمُ جاسب الأصليّ، فظنّ بعضهم بأنَّ ميشيل عفلق قد مات، وهو لم يكن قد ماتَ إلاّ بعد عامٍ تقريباً من رحيلِ جاسب.
وكان زاهر يرافقني أحياناً إلى فندق الصياد حين نخرج من المقهى لنستمرَّ في حوارنا حولَ نادي الشعر الذي تسلمناه أنا وهو بعد انتخاباتٍ جرتْ بشأن تأسيسه، لكننا بعد أنْ تدخّلَ قائدُ شعراء اِنقلاب 1968 حميد سعيد في منهاجنا الشعريّ، تركنا النادي.
وإما جان فقد كان فندقي مأواهُ إذا لم يجدْ مبيتاً له في آخر الليل. تماماً كما كان يفعل في أقسامي الداخلية العديدة.
قال لي جان مرةً عندما حثثته بقوة على الكتابة: اعطني خُرْفة "غرفة" أعطِكَ رواية.
قلت له مازحاّ: وإنْ أعطيتُكَ مشتملاً، ماذا تُعطيني ؟ ثلاثية ؟
وجان صديقٌ قريبٌ إلى نفسي كثيراً. تعرفتُ إليه عام1975 عندما كان يسكن في شقة، في الشارع الضيق المحاذي للبرلمان. ولازمني بعد خروجه من الشقة طويلاً.
مرة رأيتُهُ جالساً على أريكةٍ في مدخل فندق المنصور ميليا، وكان ثمة مهرجانٌ ما. ابتسمَ وناداني، تعال: اِسمعْ، وأخذ يقرأ لي قصيدة مليئة بمفردات شعر جماعة كركوك: اللامتناهي، اللازوردي، اللاشيء، الكينونة..إلخ
ففرحتُ به يكتبُ شعراً من جديد. لكنَّ قصيدته تغيرتْ في ما بعد وأصبحت قصيدة معارضة للخميني.
قلتُ له ما شأنكَ بالخميني ؟
قال: تشاجَرَ مصريان، في البيت الذي أعيشُ فيه، بالحيدرخانة، فتغيَّرَ مسارُ القصيدة !
دخلتُ إلى مقهى حسن عجمي لأرى جان للمرة الأخيرة قبل الهرب، فلم أره.
رأيتُ بعضاً من أصدقائي، فودّعتهُ في نفسي. ولم أرَ جاسب!
ودّعتُ المقهى. وفي الفندق هيأتُ حقيبتي وذهبتُ إلى اِتحاد الأدباء.
كنتُ أوّدعُ الإتحادَ في نفسي كلَّ لحظةٍ ، في آخر جلسةٍ ، مخبئاً عن صحبي أمراً جللاً. وأمام بابه الخارجيِّ بكيت.
وأمام فندقِ الصيّادِ في الصباحِ، كنت ُ أستقلّ التاكسي الأخيرَ في بغداد.
أيلول 1994 مدريد
شكلٌ..
شكلٌ ممحوٌّ أراهُ في كلّ مرآة.
أستعينُ بكافكا لأعرفَهُ، فأراني أزيدُ الأمرَ غموضاً.
هل الشكلُ معنى ؟
وأيّ شكلٍ هذا الذي أنا فيه، أو الذي هُوَ فيّ ؟
الشكلُ الأبيضُ يُعْلمُني بغربةٍ مّا.
ويتركني وحدي غيرَ متلذذٍ بصداقةِ الصدفة.
لم أتكلّمْ في إسبانيا عن أيّ شكلٍ، كنتُ شبيهاً بها !
يُعْلمَني رولان بارت بأنَّ المصريّ توت عنخ آمون قد رتّبَ الأجناسَ هكذا: الأسمرُ، الأسودُ، الأصفرُ، الأبيض.
فأتذكّرُ أبا الطيّبِ في لحظةِ العاطفةِ اللغوية: " ولكنَّ الفتى العربيَّ فيها.."
آب 1997 هولندا
عالم..
العالمُ هذا ليسَ عالمَ شعراء.
أحملُ حقيبتينِ بمعنى بيتٍ وماضٍ.
أحملُ بيتاً وماضياً..
بيتٌ لا أرضَ له ولا سقف. لا مطبخ ولا سريرَ نومٍ. لكنّهُ عمر.
وكلّ عمرٍ هو ماضٍ.
وكلّ ماضٍ هو ندم.
منْ أنتظر ؟
برابرةُ كافافي ؟
خلاصٌ كوميديٌّ..
أتجوّلُ في أوروبا،
فلا أبصرُ غيرَ رامبو وأفريقياه.
لماذا رحلتَ إلى أفريقيا يا آرثور رامبو ؟
لبيعِ الأسلحةِ قالوا..
أيها التاجرُ المسلمُ بقرآنِ أبيك قالوا..
أيها العربيّ بـ "الله كريم" على السريرِ في المستشفى..
كم بقيَ لي من وقتٍ كيْ أقوى على الكلام
وقد نسيتُ الكلام ؟
أبصرُكَ في هذه البلادِ المنخفضةِ غاضباً مني
أبصرُكَ شاتماً
وقد نسيتُ الكلام.
آب 1997 هولندا
* "بريد عاجلٌ للموتى" كتاب توثيقي ، سرديّ وشعريّ ، يصدر قريباً عن دار مخطوطات في هولندا.
إقرأ أيضاُ