فتحي عبدالله
(مصر)

أحمد راشد ثانيتتقاطع شعرية “أحمد راشد ثاني” في ديوان “يأتي الليل ويأخذني” بدرجة كبيرة مع حداثة النص العربي، حيث يعتمد البناء على الوحدات المسرحية المتكررة، والتي تعطي دلالة جديدة، ومن هنا فالنص مفتوح ومتعدد الدلالات، وقد استخدم الشاعر أيضا الأصوات المتنوعة، والأصوات هنا ليست شخوصا بل هي رموز أو أشياء معنوية، تم تجسيدها أو تشخيصها لتؤدي أدوارا في إنتاج الشعرية.

يتكون الديوان من خمس تجارب في حالة تقاطع دائم وانسجام لا تفسد وحدته، ففي تجربته الأولى “بحر بإزاء اليابسة” يعتمد على شعرية التعريف أو تقديم ما هو مألوف ومدرك لدى الجميع في شكل جديد، وأن ما هو داخلي يشكل أساس التجربة، ويأتي بما يرسخه من الخارج، ففي قصيدة “خورفكان” وهي مدينة جبلية في الإمارات يتم تقديمها شعرا بما يسمح بتداخل الأزمان والحقب في شكل أسطوري يبدأ من الواقع الملموس.

“ماء يجري بين النميمة والرحم
مالحة القلوب
مأكولة من الهذيان
سماها النجم الميت”.

ثم تتطور الدلالة لتأخذ بعدا خرافيا يتجاوز ما هو قائم أو ما هو معروف:

“الغريان تصرخ عبر العصور
بعذاباتها
وقد عاد الجوع إلى البلدة
كي يأكل التراب”.

ثم يصل إلى ذروة الدلالة الشعرية ليمتزج ما هو أسطوري بالواقع في شعرية نادرة.

“غزاة وقراصنة يزحفون
من التاريخ
على نخيلها الخائف
على أمواج لا أساس لها
لا مبرر لهذا الشاطئ”

وفي القصيدة الثانية “دمعة البيت” تظهر الذات في صراعها مع الآخر والموجودات منذ الولادة.

“وبعدما أغلقت بوابة حياتي
ودفعت من رحم الأم
إلى هذا العالم
كمطرود وناءٍ
جلست”.

ولكي يكون الصراع حقيقيا وملموسا لا بد أن يتعين المكان “جلست أجمع وجهي، في دياك الحوش، تحت تلك العريشة”.
وفي الأول أخذ الشاعر موقف المشاهد أو السامع من دون أن يتورط، وإن كشف عن عزلته وفراغه وما يعانيه منهما:

“أسمع من خلف الجدران
إخوان الآخرين وأقران الآخرين
وصبيانهم يتراكضون
بينما أنا جالس”.

ثم تتطور الموجودات والأشياء من حوله في الفعل الإنساني دلالة على حيوية الوجود وتدفقه وإن أخذ الشاعر موقفا سلبيا.

“الشمس تلعب الكرة على السقوف
الكواكب تسير في خلخال الخليقة
المياه تشرب من جمجمة الجبل
ومن معصمي يرن قيد الميلاد”

ثم تتورط الذات في الفعل “في النار ركضت” وتتوالى أفعالها في حسية واضحة وإن جاءت في إطار من التجريد:

“سرقت البيضة من تحت الجبل
ومشيت في النهار
روحي تحمل جسدي
كصحن مكسور”.

ثم أخذت الذات في التشيؤ عندما لم تستطع أن تقاوم الواقع أو تتواءم معه، وهنا سيطر نوع من العدمية وعدم الجدوى على التجربة فانكفأت الذات إلى الداخل:

“ثم إنه قفزت نظرة
أو خرجت فجأة من خزائن عيني
ولما خرجت نظرتي
سقطت من يدي كقطرة”

ثم يحاول الشاعر مرة أخرى الخروج إلى العالم بما يملك من فعل إيجابي أو يتصور ذلك:

“وصلت أولا إلى غرفتي التي أجرتها
في هذا الفندق من “دبي”
فتحت منزل الغرفة
أنزلت السقف
وبدأت في تصفح الجدران”

إن هذه الذات تتآكل بشكل دائم وتعود إلى نفسها أو إلى موجوداتها الأولى، إنها طفولة الذات التي ترى وتشاهد من دون أن يكون لها قدرة على الفعل، فلا تملك أمام هذا الواقع العنيف إلا الهروب:

“قلت:
الآن أنزل
إلى الاستقبال
وأمحو الفندق.
نزلت،
لم أجد الشارع ولم أنتظر”.

ثم تحولت الذات إلى شيء أثيري لا يُرى (أشباح)، وتحاول في هذه الحالة الخرافية أن تحاور كل الموجودات من الجماد والمياه حتى تحقق الذات وجودها في القصيدة:

“بينما كنت أتكلم
ظهرت هذه القصيدة
قلت لها: يا قصيدة
كيف أصل الآن إلى شارع العروبة”.

في القصيدة تحققت الذات بحرية عالية، حيث قدرتها لا حدود لها في الفعل والوجود، فهي تنتقل بمجرد الرغبة وتتلبس أشياء كثيرة:

“وبينما كنت أمشي
على الطين الذي يتمزق كالأطباق
أو الأطباق التي تتحطم كالطين
رأيت من العطشى “غافة” شعثاء وحيدة
في واد لم يذهب أبدا إلى
البحر”.

وفي التجربة الثانية “كلب يعرج في مرآة” يهيمن استخدام التقنيات المسرحية في إنتاج الدلالة وفي البناء أيضا، فالنص يقوم على تتابع المشاهد التي تلعب المجردات والرموز فيه دورا فاعلا في إتمام الصراع، في حالة من التشخيص النادر وفي لغة سهلة وبسيطة وتوحي بالسخرية والعبث اللذين يحكم المصير الإنساني:

“هوى كلب أعرج على مسائي
يبدو أنه وجدني
وأنا قفزت من بين الأحضان
وطرت لهذا البيت أو ذاك
حتى لقيني”.

ثم يقوم الحوار بينهما بما يكشف خراب الذات وتدنيها وانحسار دورها في التعليق على ما يحدث:

“أتوقع أحيانا أن يتشاجر مع نفسه
حول عظائم الأمور
أن يحن إلى قيده ويتركني
لعمر آخر
أن توقفه أنقاض صراخي
وضرائب دمي المعشية”.

لكن الكلب لا يمر بالتشيؤ ولديه قدرة عالية على فعل أشيائه وتحكمه غرائزه الحيوانية فلا يتوقف عند الحوار الهادئ أو المسالم:

“لكنه يدهشني بعمق
والآن أتذكر منه
أظافره الطويلة
كان يقلم فيها روحي
بيأس”.

ومع تجريح الذات تأتي الاستجابة وإن كانت هادئة لا تتناسب مع الفعل:

“أرده عني
أتذكر أنه لم يدخل الحقيقة”.

وهذه الذات المكسورة وغير المتحققة والتي لا تقوى على المواجهة لا تملك إلا الهروب بجميع أنواعه سواء في الأفعال المادية الملموسة أو الروحية:

“وجدتني أفكر بالهرب
ثم وجدتني أدفع نفسي إلى الهرب
ثم دفعت الهرب”.

ثم يستخدم الشاعر في بقية النص تقنية “المرآة” وهي تقنية شائعة للتعرف إلى الذات أو انعكاسها، وهي إحدى الأدوات السلبية في التعرف وتعكس انكماش الذات واكتفاءها بما تملك وإن كان قليلا:

“في تلك المرآة لم يجدني
ولم أجد ما أبحث عنه
لكنه لاحقني”.

إن عدم تحقق الذات لا يعني موتها ولكن يعني أنها مأزومة.

ثم يستخدم الشاعر أيضا تقنية “البئر” وهي تعكس الذات أيضا وفي شيء من الفطرة والبدائية بما يسمح للعناصر الأولى بالوجود والفاعلية مثل المياه والشمس والحائط مما يقرب الذات من المجتمع، فأحدث من التداعي الحر الذي يجمع بين الخيال والوقائع المتعينة في مزيج أسطوري يكشف عن عذابات الذات الإنسانية المعاصرة وعدم تواصلها في سخرية لاذعة وتهكم لا حدود له:

“حتى ذلك الجوع الضارب في جسدي
طردني من حوزته
وبدأ يخرج لي لسانه
كلما اقتربت”.

وفي التجربة الرابعة “أنا سيد المقهى” في كل القصائد تجريد لا شيء من ورائه، والحوار القائم بين الموجودات لا يدل على شيء إنساني ولا يعكس انفعالات أو مشاعر أو يشير من بعيد أو قريب إلى عواطف ربما تكون عميقة لا تأتي بها اللغة الحسية القريبة فأي شعر في هذه القصية “يجلس الجبل”؟

“يجلس الجبل بضوء شخصه الغامر
يطوي السماء تحت إبطيه
ويهبط في البحر
يجلس البحر
بين يديه السماء كمرآة
يبزع منها الأفق”.

إنها ألعاب لفظية، لا دور للغة فيها ولا خيال ولا بناء شعري، إنها منطقية صارمة وتجريد لا تدل على شيء، وإنما تدل على خواء النصوص وخلوها مما هو إنساني ونسبي قابل للتحقق والقدرة المسيطرة هي النضور الذهني الذي يُحدث التبادل بين الأشياء من دون أي انفعالات أو مشاعر، مما يهدد الشعرية المطلقة.

أما التجربة الخامسة والأخيرة “عين النورس الذي ضحك” فقد جاءت معظم النصوص قصيرة وغير ملحمية وخالية من التقنيات المسرحية وتعتمد على المفارقة في البناء وهي مفارقة لغوية لا حياة فيها ولا أفعال معاشة وتعتمد على التجريدات السابقة في التجربة وإن خلت من الرؤية الشعرية التي تجمع بين ما هو محسوس ومادي وما هو مجرد في إطاره الإنساني ففي قصيدة “تخيل”:

“تخيل تسارع نبضي
وقيام الماء عليّ
تخيل ذراعيّ
تغرقان في الهواء
وفمي
يطفو”.

إن هذا ليس تخيلا إنه نفور ذهني محض، ورغم هذه الملاحظات الحادة فإن التجربة في مجملها إضافة حقيقية للشعر الجديد في الوطن العربي ونوع آخر من الأداء يزيد التجربة غنى واتساعا شرط أن ينتبه الشاعر إلى أهمية المعاش واليومي في إنتاج التجربة والتقليل قليلا من التصورات الذهنية حتى لا يصبح النص مجرد علاقات ذهنية فارغة.

الخليج
2008, 01, 19-