ديوان حلمي سالم الجديد الغرام المسلح‏

فتحي عبدالله
(مصر)

الغرام المسلح‏تعاني المجتمعات العربية في لحظتها الراهنة صراعا شديدا ومتنوعا‏، سواء مع مكوناتها الأساسية والتي تخص مفهوم ‏(‏الهوية‏)‏ أو في علاقتها بالآخر‏.‏ ورغم أن هذا الصراع قائم وموجود في المعيشي واليومي إلا أنه في الشعر مازال متعاليا ومنفيا بدرجة كبيرة‏، وقد يرجع ذلك إلي أسباب كثيرة أهمها غلبة ما هو سياسي في هذا الصراع بشكله المباشر وثانيها موقف شعراء قصيدة النثر من الحكايات الكبرى‏، حتى أصبحت معظم التجارب الجديدة متشابهة وتعتمد علي تقليد التجارب السابقة مما أفقدها كثيرا من شعريتها وتقاطعها مع التغيرات التي تحدث في العالم بأسره‏.‏
من التجارب التي تتناول هذا الصراع وبأشكال متعددة تجربة الشاعر حلمي سالم فأحيانا يعتمد علي ما هو موضوعي خالص مما يهدد شعرية النص وأحيانا أخري يعتمد علي الاستبطان الداخلي للحدث وللانفعالات فيصيب النصوص بعض الغموض في الدلالة والتركيب‏، مما يقربها من نصوص المتصوفة والقديسين‏، وكلا الطرفين ينفي وبدرجة أو بأخرى شروط تحقق الشعرية أما الحالة التي يمزج فيها بين الذات والخارج بين المعيشي والتاريخي‏، بين اليومي والأسطوري بين الديني والمادي‏، بين الذكر والأنثى فإنه يحقق شعرية عالية تقوم علي الجمع بين التناقضات لخلق حالة جديدة أما إذا وقعت في المفارقات العقلية البسيطة والتي تعتمد اللغة فإنها تهدد شعرية النص أيضا‏.‏
وكل هذه الأداء الشعرية المتنوعة ظهرت بوضوح في ديوانه الأخير الغرام المسلح الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة عام‏2005‏ م وتتمحور التجربة كلها حول ما يسمي بالصراع مع الآخر وذلك من خلال بعض الرموز الدالة أو المتقاطعة مع الحضارتين مثل رفاعة الطهطاوي وطه حسين وبونابرت أو من خلال تجربته الشخصية في فرنسا أو من خلال بعض الأماكن الفاعلة وذات الحضور في الصراع بين الحضارتين مثل المتحف اللوفر أو البحر المتوسط‏.‏ وقد اعتمد في هذا الأداء علي رؤية متقدمة ومتجاوزة لفكرة الصراع‏، وذات طابع عالمي وكوني وإن انحازت لكل ما هو إنساني دون النظر للعرق أو الدين‏.‏ ففي قصيدة طه حسين يرصد الجانب السلفي من حياته متجاورا مع الجانب التنويري مع جزء من حياته اليومية وما حدث بها من تقلبات‏، فالشعري في النص جاء من العادي والمعروف وربما من المستهلك في سيرة طه حسين فليس لدي الشاعر رؤية جديدة لهذا الرمز‏، وإنما همه كتابة ما هو قائم‏، ربما لخلق مشترك مع القارئ‏، وربما لم يكن طه في تجربة الديوان إلا رمزا عابرا‏، فلم يتوقف أمام إرادته الخلاقة ولا قوته‏، وكل ما أراده الشاعر أن يحدث المفارقة بين العمى والإنجاز‏.‏

إن المكفوف هو المبصر
ولذلك أرجحه الليبراليون وأرجحه الضباط
ليفهم أن الكروان يساوي كارثة
وأن الحب الضائع مسعى المكسورين
فيا طه
يانصف السلفيين ونصف التنويرين
ادعك عينيك بعنف كي ينزل من قاعهما
الزيت الوسخ ص‏43‏ـ‏.44‏

أما في قصيدة مرثية العمر الجميل فإنه يعيد إنتاج قصيدة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عن الثورة العربية بطريقة جديدة‏، تستدعي العناصر الفاعلة الآن وما حدث للمجتمع من تدهور إذ أن الصفوة استغلوا ما هو سائد لتحقيق المكاسب الشخصية فيقول‏:‏

لكن الصفوة ناموا فوق الصدر ثقيلين
وثقلاء
بأيديهم تفويض الرب
فرزحوا فوق الأفئدة كأسمنت ص‏38‏

فالنص في مجمله مرثية لجيل الرواد الذين مثلوا في حقبة تاريخية سابقة دورا تقدميا وإنسانيا وهم يلعبون الآن أدوارا معاكسة لجماعتهم البشرية‏.‏
وفي قصيدة بونابرت يستسلم الشاعر لما هو شائع عن دور الحملة الفرنسية في إيقاظ وعي المصريين إذ يقول‏:‏

هذا الشاب الطامح
صاحب أول حكة شرر
بين النائم والمستيقظ
لم يؤمن أن عناق الجبة والقبعة
عناق صعب ص‏.67‏

ورغم هذا الموقف فإنه يحمل بونابرت ما حدث للمجتمع المصري من نكسات علي مستوي الوعي والمعرفة والصعود الاجتماعي حين يقول‏:‏

الشاب الطامح صاحب أول حكة شرر
بين النائم والمستيقظ
ترك هديته فينا
أن يتأسلم ضباط
أن يتأسلم علمانيون
أن يتأسلم مدراء الأمن ص‏68‏

إن هذا التناقض تجاه الحملة الفرنسية ودورها مازال قائما إلي الآن والقصيدة عكست هذا التناقض‏، مع أن دور الشعر لابد أن يتجاوز هذا الرصد الخارجي ليكشف عن الجوهري في الحدث‏.‏ لكن الشاعر ارتضي أن يتوقف أمام هذه المفارقة فقط دون انحياز وقد عمق هذه المفارقة الحضارية وأخذت بعدا أكثر في قصيدة الطهطاوي إذ يكشف عن تراتبية المجتمع المصري وسلطة رجال الدين في مواجهة عدوانية وعنف حملة نابليون يقول الشاعر‏:‏

كلانا طالب مملكة ملأى برقاب منحنيات هذي باسم القواد البحريين
وهذي باسم ملائكة من عدن ص‏.145‏

فالصراع بين المعرفتين والحضارتين لا يتعلق بالواقع وما يحدث فيه‏، فهناك تغيرات كثيرة في الصراع العالمي أخرجت الخطابين خارج اللحظة المعاشة ولم يبق إلا وحوش العولمة‏.‏
أما الجانب الآخر من الصراع‏، فهو تاريخي بكل ما يحمل من حروب وتأثيرات أيديولوجية ومعرفية‏، لعبت دورا في تطور المجتمعات البشرية بل وتطور فنونها وسلوكها الإنساني وقد مثلت رموز الحضارة الإسلامية في تجربة الشاعر نزوعا عاما إلي التجديد والخروج عن الموروث سواء في الإبداع العقلي ممثلا في ابن رشد والمعري أو في الإبداع الشعري ممثلا في المتنبي وأبي نواس أو في الإبداع النثري ممثلا في طائفة من الصوفيين الكبار مثل التوحيدي والحلاج وابن عربي والسهر وردي وكانت هذه الإشراقات مهدا لميلاد الحضارة الأوروبية وسببا في تطور فنونها ووعيها البشري بأكمله فابن رشد استطاع أن يمزج بين الفلسفة والدين واستطاع أن يكون عاملا أساسيا في تطور الوعي الأوروبي‏، يقول الشاعر‏:‏

للاقيت أحبائي صفا صفا
أولهم دانتي حارث لغة الإيطاليين
بمحراث
أوسطهم جاليليو المشنوق إذا همس‏:‏ تدور
وآخرهم لوركا الشارب من ريق البدو ص‏60‏

أما الشاعر أبو نواس فإنه يمثل المتمردين والخارجين علي منظومة القيم التي تحكم المجتمع‏، وهو الخارج أيضا علي تقاليد الشعر العربي‏، فهو الذي مدح الخمر وتغزل في المذكر وأصبح له أخلاف من كل الثقافات‏.‏
وأمامي أخلافي الموهوبون يعيدون دروس‏:‏

بنت الكرم هي الأكرم
وغلام أمرد أشهي من غانية
يلزمني صنوي قيل سيولد بعدي
يمدح أزهار الشر ولا يمدح سفاح خراسان ص‏73‏ـ‏.74‏

أما مؤسسة فلسفة القوة والإحساس الوجودي الطاغي ودور الذات في مواجهة العالم‏، فلم يكن سوي المتنبي في رؤية الشاعر حلمي سالم‏.‏

ورصفائي انتشروا في الطرقات
فهذا كورني وهذا راسين وهذا ذو القرنين
أمامي نيتشه لص في الصف
سيسرق قولي حول ضعيف يتقاوى وقصير يتطاول
ليكون فلسفة القوة ص‏.123‏

أما التوحيدي فكان مؤسس العزلة والاغتراب وعدم القدرة علي التعايش مع السلطة فعاش مهمشا ومنبوذا إلي أن مات إلا أنه أثمر في الحضارة الغربية وكان مصدرا أوليا للأفكار الوجودية‏.‏
يقول الشاعر في قصيدة التوحيدي‏:‏

أنا جد المنبوذين
ولكن كلماتي لم تصلح شأن الوزراء
ولم تمنحني غير الموجدة وذل المسألة
برغم وجود السيد كامو بفراشي كل غروب
ألمح بعض بذوري في صفحات الغثيان
وفي مصيدة الجسر الواصل بين الكاتب والسلطة ص‏.137‏

وقد لعبت هذه الشخوص دورا مركزيا في إنتاج شعرية النص‏، بما تملك من فاعلية تاريخية واجتماعية‏، وهذه الشعرية تكاد تكون غالبة ومسيطرة علي قصيدة النثر بما تستدعيه من سرد وآليات جديدة في كتابة النص الشعري وإن استطاع الشاعر حلمي سالم أن يحررها مما هو شخصي ليعلي من قيمة الموقف الحضاري والسياسي للشخصية حتى اقتربت النصوص من الحالة الموضوعية والمعرفية إذا انتفت المشاعر والعواطف أو جاءت في سياق أيدلويوجي يخفف من ذاتيتها لتمثل الجماعة أو الدولة أو حضارة بكاملها‏.‏
ومن وسائل إنتاج الشعرية الجديدة أيضا الاحتفاء بالمكان لخلق حالة متميزة‏، إذ لا سرد ولا شخوص بدون مكان والمكان لدي الشاعر حلمي سالم لا خصوصية له وإنما الأماكن كلها صالحة لتوليد ما هو شعري وفي الديوان عدد من الأماكن الدالة مثل آرل‏، مارسيليا‏،اللوفر ففي آرل يرصد التشابه الخارجي بين آرل وقريته الراهب من خلال القمح إذ يقول‏:‏

حقل القمح هنا
يشبه حقل القمح بغيطان الراهب
الصفرة نفس الصفرة
وتمايله في النسمة ذات تمايله في النسمة
والسنبلة هي السنبلةص‏29‏

إلا أن الاختلاف الحضاري بين البلدتين يكمن في أن قمح الراهب مسقي بدماء الفلاحين المتمردين ضد الاستعمار أما قمح آرل فمسقي بترف المحبة والجمال‏.‏

لكن الفاصل بينهما
أن القمح هنا
مروي بدم الأذن اليسرى
للسيد فان جوخ
وقمح بلادي
مروي بدم فلاحي كمشيش‏.29‏

إن المكان هنا لم يخلق حالة شعرية قائمة علي التمايزات الحقيقية بين الحضارتين‏، لقد اختصرها الشاعر في مفارقة لغوية لم تحدث شيئا من السخرية أو التهكم‏.‏ أما قصيدة مارسيليا فإنه يكشف فيها عن خصائص مدن الأبيض المتوسط ويعقد مقارنة بين الإسكندرية ومارسيليا‏.‏

حواليك امرأتان تقاسمتا زبد المتوسط
فهذي ترعي النوتين ومخنوقي النوة
وضحايا القرش
وهذي تغوي القبطان بسرتها وحريق مسرتها والقنص
كأن السيدتين تناصفتا حق الأخوة
كي تحصد واحدة ميراث الريح وحرب السيطرة على الحوض‏.81‏

إن شعرية حلمي سالم في هذا الديوان قائمة علي الجمع بين التناقضات‏، وتعتمد آلية الكولاج وهذا ينفي نقاء النص ومثاليته‏، مما دفع النصوص إلي منطقة جديدة أقرب ما تكون إلي شعرية ما بعد الحداثة وإن استمر أداؤه اللغوي القائم علي الإيقاعات المتوازية أو الموروثة من الأداء النثري في الثقافة العربية‏.

الأهرام العربي
2005 مايو 14