في رواية كائن مؤجل لفهد العتيق

عبدالله السفر
(السعودية)

الرواية في السعودية تأخذ، الآن، زخما عاليا من الحضور في المشهد الثقافي المحلي والعربي، بعد السبات الطويل والوقوف عند المحاولات الأولى أو المتعثرة لدى الجيل الأول المؤسس. وما يتبدّى في الآونة الأخيرة من انطلاقة حثيثة ومتصاعدة؛ كمّاً ونوعاً، يجعلنا نسـتقبل بفرح هذا الانهمار لـ " كائن مؤجّل " ظلّ يختمر، حتّى وافَى لحظته المناسبة في العقد الأخير، بفضل التحولات العميقة التي عاشتْها المنطقة على صُعُدِ السياسة والاقتصاد والشأن الاجتماعي، والتي وطّأتْ أرضية مناسبة وخصبة؛ لأن تغادر الكتابة حذرَها وتقاربَ المطمور والمحظور في جرأة، ربما تشرف على حدود المبالغة المصاحبة لمناخات الاحتباس الطويلة. ومهما يكن من أمر، ثمّة فرز يصفو مع الزمن ومع التجربة؛ ينقل الرواية في السعودية من كونها مجرد شاهد ووثيقة إلى بناء محكم؛ ممهور بصبغة الفن وحدها. تلك الميزة التي تجعل الرواية شاهدا فنيّاً يملك حقَّ المكوث في الضمير الثقافي والمسيرة الأدبية. وأحسب أن رواية فهد العتيق " كائن مؤجل " ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004 ـ من هذا الصنف.


تُزَاوِج هذه الرواية بين حضور المكان وحضور الذات. فعل مسترسل يطوف بين المنقوض والمُشيَّد؛ بين القطع المتناثرة لأجساد وأرواح ما فتئت؛ تتلفّتْ ممسوسةً بنار التحولات وضريبتها الباهظة، حيث الظلال الكثيفة تختفي فيها ومنها الملامح وتتأجّل. العين المغموسة في واقعٍ يتغيّر وينصرف إلى مطارح جديدة، يتبعها الجسد فيما الروح في لجة الحيرة والعناد والبحث عن " متّكَأ الحالم "؛ صيغة التوازن في مشهد يعصف بسمكاته الدائخة الحزينة، في دوّامات مائيّة ترجّ السطوح والقيعان. وَشْمُ التغيير الذي يظهر في الخارج، يحمل معه وشماً آخر أشدّ سطوعاً ومضاءً في الداخل. ولأمرٍ كانت رفرفة الحنين وإشارات انقطاع الذاكرة لبطل الرواية، بمثابة الصيغة التي تحاول أن تتوازن وأن تثبت قبالةَ ارتجاجات المشهد الخارجي وتصدعاته؛ الانقطاع بين زمنين؛ زمنِ نعمة الذاكرة في حقل الطفولة ونداوة الحارة وبهجتها، وزمنِ الانصهار المتعجّل الناتئ في طفرةٍ لم تخلخل المدينة وحدها، بل معها الإنسان الذي يسعى متشبّثاً أن يحتفظ ـ أبداً ـ بطعم السُّكَّر الذي استقرّ في تلافيف الذاكرة ومنعطفات الروح؛ يسنهضه من غائر الطفولة والفتوّة، يبقيه إلى سويّةٍ. ربما تكون جذراً، يدفع بالمؤجّل إلى كتاب الظهور؛ منعتقاً من دفتره القديم الأزرق؛ زرقة الغيم الراحل بغفوة الأحلام ونبض المشاريع الكامنة.


إن تدوين العالِق في جدار الذاكرة واستبطانه بجرعة مغدقة من المشاعر والانفعالات؛ يساهم في استحضار الماضي على إيقاع فردوسي، يزيد من أثره ويغلغله في نسيج الكتابة، تلك المفارقة المسكونة بالتضاد التي اختصرها الروائي في " الصمت الضاج "؛ البنية المشغولة بالشيء ونقيضه. المرآة المشروخة التي لا تعود فيها الأشياء أن تكون ذاتها. ثمّة وجوه وثمّة ندوب؛ طهرانية ودنس؛ استشهاد وانتحار؛ تساكن الأطراف النقيضة في لعبة الخفاء والظهور والإحلال والإبدال عند بدء الشوط أو منتهاه، بما يجعل المدينة ملتقى كبيراً للارتطامات التي تكشّفت عنها الطفرة الاقتصادية في جانب وتحولات العقد الأخير بأبعاده الفكرية والسياسية في جانبٍ آخر، حيث أحالتْ المكان إلى " قِدْرٍ مكتومة " تضج بمختلف الروائح؛ قديمها وجديدها في اختلاط واضطراب وانعدام تجانس، يفضي إلى الاختلال الذي أصاب المكانَ وأصاب سكّانه: ( ... الرائحة تريد أن تفوح، والناس ربما تعرف أن رائحةً ما سوف تفوح في أجواء المدينة، وينتشر المستور، بعد أنْ راكَمُوا الكلام ونامَوْا فوقه ـ الرواية، ص 117).

إغراء الكشف عن المستور لا يأتي مكوِّناً أوّليّاً في بناء الرواية، بمعنى الضرب العميق وعلى نحوٍ استفزازي في قوالب التابو، والذي تحوّل في بعض الروايات الأخرى المحليّة إلى هَمٍّ أوّلي، يستغرق ما عداه في شكلٍ من أشكال الاستعرائيّة EXHIBITIONISM المرضيّة التي ترغب في إدهاش الآخَر والاستحواذ على مواطن الإثارة عبر الاستعراض والتدقيق في التفاصيل المشهديّة واللفظية. هذا الخيار الذي تبنَّتْه الرواية قائمٌ على الرَّصد والتوظيف. الاستعمال الإشاري يؤثِّث لما يلي ويبني المناخ دون التورط في نَفَسٍ طويل، يقضم البناء ويضعف من تدفّق الرؤية، ويعرقل مسارها الفنّي ويعوّقه. الرَّصْد الاستكشافي واستدخاله بلا تقصّد ولا تَزَيّد؛ مجالس الأنس ومباهج الجسد ومقاربة استشراء ظاهرة التزمّت؛ وحدات لا تنفصل برأسها وتستطيل خارج السياق وعصبه المتمثِّل في المكان وتحولاته، والذات في هذا الصّدى وانعكاساته؛ تتذرّى على أديم تلك التحولات في لقطاتٍ استبصاريّة مختزلة؛ الأب، الأخت؛ الأخ؛ الجارة الصغيرة؛ الأصدقاء؛ العقاري؛ المغامر؛ الشارع؛ الحارة؛ السوق الشعبي... مرايا متعددة تحمل وَخْزَ التحولات ولسعة الروح في ظُهْر المدينة وجهامتها؛ في عتماتها وتصويباتها الخفيّة التي عبر إليها العتيق وعبّر عنها بمجاز الأطفال والعاصفة التي لفّتْ المدينةَ يوماً، ودخلتْها بـ " فمٍ ممتلئٍ بالكلام " يختفي ويهرب منها الكبار، ويتبعها الصغار وحدهم ويحتفلون بها: (ينفضون الترابَ عن شعر رؤوسهم وثيابهم وأصواتِهم القديمة (...) يرشّون الماء على التراب (...) يعجنون الطين من جديد، يتذكرون أسماءهم القديمة وتواريخ ميلادهم، يرسمونها على الجدران، الجدران التي صارتْ أكثر بريقاً تحت شمسٍ ساطعة وجديدة، في مرحلة جديدة ـ ص 114 ). هذا المجاز الفاعل في مزاج الصغار، يظلّ بنداً مؤجّلاً بالنسبة للكبار، لأن لهم ذاكرة مثخنة مثقلة، ليس من الهيّن أن تتجاوز وأن تتلاءم. ينبغي لها أن تتدربّ طويلاً وجيداً على الحياة الجديدة. ربّما تتفتّق عن ممكنات الكائن المؤجّل.