عناية جابر
(لبنان)

ياسين عدنانالشاعر ياسين عدنان يأتي إلى الشعر بدوره أيضا، من خسارة فادحة. هكذا الخسارات الماثلة في أعمارنا تحيلنا شعراء، فليست بعد بخسارة هذه التي تستنطق الشعر. في (رصيف القيامة) المجموعة الشعرية الجديدة لياسين عدنان، الصادرة عن (دار المدى)، يأتي الشاعر بإضافة على ما نعرفه من الكتابات الشعرية الجيّدة، ويخوض سبيله الشعري في قصائد خاطفة وفاتنة، جذرها وحدة وخوف ورعب بشريين.

نقرأ ياسين عدنان في ما يحققه من شعر عبر مونولوغ شعري يكاد يُدرك كل القصائد ما عدا استثناءات بسيطة: (بحيرة العميان) (صيادون بقمصان الحداد) (حديقة المهملات) (زهرة عبّاد اليأس) (في الطريق إلى عام ألفين) و(رصيف القيامة). نحبّ منه قصائد أكثر من سواها، بيد أن الشاعر لا يترك لك أن تحب (حديقة المهملات) و(بحيرة العميان) إلى درجة تمييزها عن سواها، فهو موجود بنشيجه الطويل، الدسم والمكثف والأنيق في قصائده كافة، ما يجزم بأنه نجح باصطياد ذائقتك إلى كتابه بالكامل.

من الشعور القاتم وكابوسية الحياة: /أنا المتعب أبدا/ حمّال حطب الندم/، يكتب عدنان ياسين بنبرة رسولية احتجاجية، لا تسعى إلى تغيير العالم أو تفسيره، بل تتهاوى في بؤسه مكللة بالغربة والشعر، في اختيارات جمالية مكتسبة من كتابات الرواد في تأثيرات تبدّت فلسفية وتأملية حداثوية.

عزلة

قصائد ياسين عدنان في (رصيف القيامة) هي مزيج متجانس من عزلة بشرية تعصف بها أحداث عاطفية حادة ومؤلمة، إلى مواقف ساخرة من مظاهر بعينها، بما فيها الكتابة والشعر. إن ما يحدث في قصائد عدنان، يحدث في الخفاء وكأنه إعمال الروح في ما ينتابها، وفي محاولتها المضنية لخلق نوع من الألفة بينها وبين العالم الذي تستوطنه. كتابته هي نوع من الإفلات الشعري من عبء ما يتناوب على روحه من استلاب يومي، في محاولة الشاعر لملمة بعض الدفء من فكّي الوقت الذي سطا على العمر. من (زهرة عبّاد اليأس) يقول الشاعر:

رصيف القيامة(لكنني لست محايداً مثلك
أيها العالم
إنني مهموم فقط

?

أيتها السنوات العجولة
التي مضت
كقطارات مجنونة لا تلوي..
وتركت معاطفي الأولى
تشخر في دولاب العمر
هل تذكرين تلك السحاقية 1990؟
لقد فتحت شبابيكي
على الأصص الحزينة وبقايا النساء
على الرياح الفاجرة وغريب المصادفات
الخبيثة بددّتني
وها مواعيدي تتكبّد الخيبات
في ألبوم ميت
خارج رخاوتها. (ص25)

يكتب ياسين عدنان من جرح وخلل في القلب والعيش، مستخدما لغة نظيفة متحررة من تبعات الإطالة، رغم سرديتها في العمق. وهي سردية تنتمي إلى لغة المشافهة الشعرية في كلامها عن الحياة وأشخاصها. عدنان في بوحه الذاتي الخاص، يعرف كيف يرتقي به إلى الإنساني العام من خلال انتقائه الذكي لمواضيعه وصوره، بصوت رهيف وخافت تحميه لغة بصرية قوامها الصور والمشاهد المتعاقبة:

(أما زلت تنزّين كرذاذ مخذول/ وتصمتين كقيلولة/ وكمساء ناعس/ تتثاءبين؟/ دعي الأجراس تسقط/ من رنينك/ لأسمع نداءك المزعوم عميقا/ واعترفي بالأجنحة/ بحشائش عزلتك/ وبأسرار الفلكيين/. (ص8)

ثمة تداخل بين (الأنا) الشعرية وبين عوالمها في (رصيف القيامة) لياسين عدنان.

الحطام الذي يشكّل عالم (رصيف القيامة) لا يحجب متعة الاسترسال في قراءتها حتى السطر الأخير، من حركة البناء الشعري المضبوطة التي تُرخي نوعا من الرضى في الدخول الليّن إلى عوالمها.

عدم التداخل، ومن ثم قوة الربط التي تشدّ السطور إلى بؤرة مركزية، يبدو خالياً من التزيينية جميلا ومشفوعاً بإغراءات الصور السحرية، وبشوق لكشف مغالق كلام سرّي وذاتي.

الاستسلام للجمالية اللافتة في (رصيف القيامة) نابع من قدرة الشاعر على منح دلالات القصائد طابع الانبثاق الطوعي والصدود الطبيعي عن واقعها. عدنان يضبط بحرفة خواتيم قصائده وتقطيعاتها فيأتي إيقاعها مزدوجا في جوانّيته وشكله. والشاعر إلى اعتماده اللغة البسيطة والمباشرة يمنح أحيانا بعض سطور قصائده ترميزية تتراوح بين تدوين الأماكن، وبين التنقّل في الزمان بأبعاده الثلاثة.

نكاد نقول في السيرة الذاتية الشعرية في (رصيف القيامة). بيد أنها سيرة ألوان ورؤى وعلاقة بالمدن وناسها، وارتسامهم في ذاكرة الشاعر. وفي اللعبة الفنية للمجموعة، يبدو الشاعر مرجعية قصائده، ويبدو قوله الشعري، حقيقة رغم الوجع والتعب.

الكتاب: (رصيف القيامة)
الكاتب: ياسين عدنان
الناشر: (دار المدى)

(قصائد) رصيف القيامة
لـ ياسين عدنان مشبعة بالسوريالية

(رصيف القيامة)

ياسين عدنانتشكل مجموعة الشاعر المغربي ياسين عدنان "رصيف القيامة" نموذجا لخط من خطوط الشعر العربي الحديث لم يفقد ميزة التوتر الشعري والموسيقي الداخلية المجسدة لهذا التوتر.
وإذا كان كثير من الشعر الحديث، أي ما يدخل في نطاق قصيدة النثر، يتميز حاليا بتركيز شبه ميكانيكي على الصورة خاصة تلك المشبعة بالغرابة السوريالية الملامح فشعر ياسين في غزارة صوره وتنوعها ينبض بحرارة التجربة الشعورية وبموسيقا داخلية عالية دون صخب ومحركة للنفس.
صدرت المجموعة عن دار "المدى" الدمشقية في 63 صفحة. وياسين عدنان مولود في المغرب سنة 1970 هو احد شاعرين توأمين فشقيقه التوأم طه عدنان شاعر أيضا.
ياسين أستاذ للغة الإنجليزية في بلده وهو كاتب قصة وصحافي. له مجموعة شعرية صدرت في المغرب سنة 2001 بعنوان "مانيكان" وفازت بجائزة اتحاد كتاب المغرب وله أيضا مجموعة قصصية صدرت في القاهرة في السنة ذاتها بعنوان "من يصدق الرسائل.." وأصدر في مراكش مجلة "أصوات معاصرة" لمدة ثم أسهم مع الشعراء سعد سرحان وطه عدنان ورشيد نيني في إصدار نشرة "الغارة الشعرية" ابتداء من 1994.
وقد حصل على جائزة مفدي زكريا المغاربية للشعر في الجزائر سنة 1991 كما حصل سنة 2003 على جائزة بلند الحيدري للشعراء العرب التي يمنحها مهرجان أصيلة الدولي.
يستهل ياسين مجموعة "رصيف القيامة" بقصيدة "بحيرة العميان" ويصور فيها بحزن ينفذ الى الأسرار المخبأة في الأعماق ما يفعله الزمن والأحداث والخيبات والخيانة في النفوس. يقول:

"هناك قرب بحيرة العميان
حيث كنا نلتقي
نبتت زهرة سوداء...
لنكن صرحاء
فالحب الذي كنا نحكي عنه
في فندق البستان
ليس
ليس هو ما نفعله اليوم بأجسادنا المنهكة
بعد ان ينام الأطفال...
أنت لم تتغيري كثيرا وأنا ربما ما زلت أهفو
لكن جثة بيننا / تتعفن وحيدة
عزلاء
في الخلاء البعيد هناك. قرب
بحيرة العميان".

وفي قصيدة "صيادون بقمصان الحصاد" ينقل بدفق المشاعر وبالنبض الموسيقي عينهما وبما بين الرمزي والواقعي حالة البؤس الإنساني عند هؤلاء الصيادين "المقتلعين" من الماضي والمستقبل. إنها حالة بؤس لا تتمثل في الفقر فقط بل كذلك في انسداد أفق الأحلام أمام هؤلاء الناس حيث يكون الحلم وسيلة تعزية عبر خداع النفس. يقول:

"بحارة بأمزجة برية
نزحوا منذ أعوام بعيدة الى هنا
وها هم يدفنون أعقاب مصائرهم
في الموج
ويتذكرون دائما
ان آباءهم كانوا فلاحين...
كنت بينهم
حينما تحلقوا في الليل
حول ضوئهم البارد
البطيء
أنت تحفظ أغانيهم الحزينة
تلك التي لا تشبه أغاني الرعاة
وحكاياهم عن الحيتان
رغم أنهم لا يصطادون غير الأسماك الصغيرة".

وعنده انه ليس لهؤلاء من تعويض أو"متنفس" إلا باجتماعهم بعضهم الى بعض والتحدث في ما بينهم.

"حين يكون الطقس كلبا
يجرون كالسناجب الى جذعهم الدافئ
عند مدخل الميناء
ويثرثرون لساعات
كما لو ان الكلام رئة العالم
ومجالسهم أنفاس عافيته..".

ويرى الشاعر أنهم يطردون الخوف بتجمعهم ليعود إليهم خوفهم عندما يصبحون وحيدين فيخلص الى القول:

"هؤلاء الصيادون يبالغون بالتأكيد
حينما يحكون عن أنفسهم كما لو غيلان بشرية تغزو البحر يوميا
لتأديب الأعماق
طبعا يبالغون
فحين فرادى يعودون الى بيوتهم
ليلا من الميناء
يبدو الواحد منهم خائفا مضطربا
كشجرة طرية العود
نبتت عريانة في خلاء".

في قصيدة "حديقة المهملات" -التي تنتشر فيها أحيانا سحب من بعض أجواء ت.اس اليوت- تصوير مؤثر لوحدة الانسان وغربته في هذا العصر. ويورد الشاعر ذلك في صور وفي رموز يومية بسيطة.
يقول:

"الأهم
هو ان تسبق الطيور باكرا الى الحديقة
ولا تقطف الأزهار
فقط حدق في حوض الأقحوان
حيث تنكة بيرة
فارغة
سقطت من ثمالة الأمس...
الأهم هو ان تسير بثبات
نحو الألبوم الأخير لالتون جون
دون ان تنسى ان السادسة صباحا
ليست باردة تماما
وان الأشجار
قلما تنسى قبعاتها في سوق الفواكه
الأهم
هو ان تقتنع أخيرا بضرورة البكاء
عاريا
بعد منتصف الليل
كي يتحقق الانسجام بين السرير والمنفضة
وتعود ساعة المنبه الى سالف عويلها.

جريدة الخليج - 28-10-2003


رصيف القيامة

ياسين عدنان
(المغرب)

كنت أظن و أنا أعبر شارع الموتى
أن القيامة مجّرد حكاية في كتاب
حتى جاءت الساعة بغتة
وانفلقت الجبال العظيمة عن فئران
صغيرة سوداء
ورياح شديدة الفتك

فجاء الملوك و المنجمون
وجاء الحكماء من الكتب القديمة
وجاء أدونيس وادّعى أنه المتنبي
وجاء عبد المنعم رمضان فسألته العصفورة
عن ناريمان
وجاء قاسم حداد
ليدل الوعول على قبره
وجاء الصّدّيقون فكذبوا
وجاءت مدام إدواردة عارية فتغوطت أمام الخلق
وجاء إسرافيل وملائكة الحراسة
وجاء الكهربائيّ وبائع الطاقيات المطرزة بألوان الفرح
وجاء باعة السجائر بالتقسيط
وجاءت سيارة الإسعاف
وجاءت الطفلة بتنّورتها البيضاء
وجاء العاشقان على متن وردة
وجاء الجابي و البهلوان و المهرّج ذو الرنين المرّ
وجاء حلمي سالم فبدا رومانتيكيا للغاية
وجاء ابن سيرين عاريا من أحلامه
وجاء أسامة بن لادن و مجاهدو بيشاور و الملاّ عمر
أمير قندهار
وجاءت حاملات الطائرات و صواريخ الكاتيوشا
وعميلات الموساد الشقراوات
وجاءت الناقة فعقروها
وجاء الكسعيّ ولم يكن نادما على الإطلاق
وجاء معاوية بن أبي سفيان
وكان محرجا للغاية
وجاءت مرام المصري وبيلين خواريث و سوزان عليوان
ورحنا جميعا ننفخ على النار لتصير بردا
ونعض بأسناننا على لهب مطّاطي قديم

لم يلتفت أي منّا نحو شجرة الخروب
حيث كان بن حزم يمسك بخناق شاعر مغربي حديث

لم نلتفت فقد خذلتنا الأعناق
والعيون صارت مجرد سحائب غامقة على الوجوه
لم نعد نرى
ولم نعد نتبين سحنة العالم
لكن الحكماء بيننا قالوا إن الأشجار صارت رمادية
والشرفات التي على الجدران
سالت كما تسيل العيون التي كانت
تتوسّط الأحداق.
لم نعد قادرين على الفرح. ولا على التعب
من الوقوف
لأن أرجلنا تقلّصت بالتدريج
ذابت الأصابع أوّلا..ثم انمحت الأقدام
ولم تعد هناك في العربية كلمة اسمها الخطى
قلوبنا هي الأخرى صارت مثل مجوّفات فضية صغيرة
فغرقت كلمة الحب في القاموس المحيط
وصرنا ننظر إلى بعضنا دون أن نشعر بأي شيء
ودون أن نتذكر أسماءنا ولون أعيننا
فظننت مثلا أن المعرّي الذي كان ينفخ بجواري
على النار لتصير بردا
هو الذي كتب "أنا باز"
و أن عبد الرحمن بن ملجم من اغتال السادات.

لم أكن جذلناً ولا ناقماً
كنت مشدوها فقط
حيث اختلطت في الجو روائح كثيرة
قال بعضنا: هذه رائحة السماء التي كانت فوقنا
وقال آخرون: هذه رائحة الأطفال
وقد كبروا بغتة
و أضاف جنين من بطن أمه: هذه مصائرنا تشوى
فهمست لعريشة القصب:
متى يأتي رجال الإطفاء ؟
لكن الحكماء الذين كانوا يتأمّلون مصير العالم
في الكتب القديمة
بدوا منشغلين بمشاهدة فيلم (بازيك انستانكت)
على جهاز فيديو
حتى أن (شارون ستون) منعتهم من مواصلة النفخ
مع رفاقهم
على النار الموقدة في أرواحنا
لكأنما اكتشفوا داخلهم نارا أخرى
فصارت الأولى سلاما دون نفخ.

وكان العازفون ينفخون في النايات أيضا
من مكانهم على غرّة التّل
كان بعضهم ينزف وهو يعزف على أوتار مجندلة
في نوتاتها
وكان الآخرون يراقبون الكهرباء وهي تطعن
ضوءها الأخير
بشمع القيامة الفتاك.
فعم ّالظلام قلوب الرّضّع والغرقى
وحلقت طيور عظيمة الأجنحة على علوّ عشرة أقدام.
وعمّ الظلام.

فجاء المصلّون على النبي الأمّي.
وجاء الدكاترة العاطلون
جاء الملثمون على بعرانهم
والساحرات على مكنسة كهربائية
جاء الضباط في سيارات مصفّحة
وضباط الصف راجلين
جاءت المواعيد في وقتها بالضبط
وجاءت الساعة وجرس المنبه
والنواقيس عادت من حيث رنّت
فجاء أهل الكهف يتبعهم كلبهم
وجاء رجال الأمن يسبقهم المخبرون
وجاء من أقصى المدينة صحفيون مستقلون
حتى عن ضمائرهم
وكتبوا…

فقال الشعراء إنهم لم يسمعوا النفخ في الصور
وقال شهود عيان إن ضوءا دافقا غسل السماء
ثم عرّش مثل لبلاب في الأرواح
وقال راع أعمى إن ريحاً عظيمة مرت
ولم يسمع دويّها أحد
لكنّ امرأة بعيدة شهقت
فعمّ لغط وسادت جلبة
وتعب الواقفون ممّا تبقّى من أقدامهم
والنائمون من جنوبهم
والموتى من فكرة البعث.

كانت الشمس نارا صادقة اللّهب
لذا سالت الأعضاء
على رصيف القيامة
فاكتشف الكثيرون أن الذوبان ليس مجرد استعارة
و أنه ليس منذورا للشمع وحده
فبدؤوا ينفخون من جديد

لم يبصروا وردة اللّهب العظيمة وهي تتصبب
حمماً فوق الرؤوس
ولا رأوا الريح تلهث حيرانة خلف نوايا الجبل
كانوا منهكين تماما
ولم يسمعوا شيئا مما قالته شجرة الخرّوب لظلها

كانت كل المحلات المجاورة مغلقة
باستثناء مقهى صغير في زقاق
وكان صبي المقهى يقطع الساحة لاهثا
وهو يحمل صينية الشاي لملائكة الحراسة
على الجانب الآخر من المحشر
فيما أعضاؤه و أحلامه الأولى تسيل
على تراب قديم

وكان ملوك قصيرو القامة يتلون خطباً مطوّلة
بتفان و نكران ذات
لم يكن واضحا أنهم معنيون بما طرأ على الكون
كانوا مهتمين فقط باحترام قواعد النحو ومخارج الحروف
وكان واضحا أنهم يقرؤون نصوصاً مشكولة بلون مغاير

وفيم الملوك يقرؤون والرعية تنفخ
حلّقت قبرة داكنة اللون فوق رؤوس الخلق
ففكر الشيوخ في الهدهد
وغمغموا بكلام غامض لم تفهمه الريح
وقالت امرأة في سرها: لكل محنة طيرها الأثير
وقال العرافون: لكنها المحنة التي لا محنة بعدها
و استغفروا الله.

ومثلما كان يحدث قبل الموت
حين كان للعشاق دوما رأي آخر
فإن عاشقين انتبذا ظل زيتونة قصية
وتمازجا تحتها
بعد أن صارت الأجساد مائعة
بسبب وردة اللهب التي تقصف الكون
تمازج العاشقان تماما
وكانا متعانقين
ربما لم يقتنعا بجدوى النفخ
فآثرا العناق.

وكانت الفراشات تحوم حول الكتلة اللّزجة
التي خلّفها تمازج جسديهما
فتحلّق من حولهما خلق كثير
وهكذا اغتاظ الملوك و مزّقوا خطبهم
و اغتاظت النار فلم تكن بردا
وتحكي المرأة التي شهقت أن العاشقين
كانا يبتسمان
ومن عناقهما سال دفق بنفسجي
انسرب كجدول من بين أرجل الرجال
وعند البئر المهجورة
استوى نبتة بزهرة شفيفة
حتى لكأنها ضفيرة ماء

فقالت المرأة التي شهقت لابنتها
اشربي من عين الزهرة
قالت البنت
أنا لا اشرب من عين معلّقة في السماء
قالت الأم للهواء
كن هدنة النار ودع ماءك يجري على تراب اليقين
قال الهواء
أنا إسكافي المحبة. سادن زهرة العشاق
ولن أسقط في حبائل الطين
فقالت البنت
سأتسلق الهواء لأشرب من العين، وشربت.

لكن الشيوخ الذين كانوا تحت الجمّيزة
المأهولة بالأرواح العطشى
لم يصدقوا الماء و لا الهواء ولا بركة العاشقين
وواصلوا النفخ
على النار التي تأكل أحلامهم

وحينما اختارت بنت في عمر فراشة
البكاء لتبرد نارها
لم يسعفها الدمع
فحفرت حيث كانت العينان
إنما كمن يحفر في ريح
و إذ حفرت أعلى قليلا
فارت من رأسها بعض الوصايا
شهقات غرقى
وليل قتيل

و أفرغت نسوة ما في صدورهن
عدى الرئتين
عسى الهواء يرضى
ووضعن أحشائهن في صندوق زجاجي معقّم
وعلقن أرواحهن قرب عمارة الكهّان
لكن الأرواح أورقت في غفلة منهن
على حبل الغسيل
ثم استطالت الأوراق وصار لها رفيف
كانت تبدو مثل أحصنة خضراء مجنّحة

فتساءلت إحداهن و كانت تشكيلية قبل الموت
أين رأيت مثل هده اللّوحة؟
أين؟
فأجابتها عجوز قرأت الكتب
و أدركت ما في الأسفار:
ليست لوحة. إنها المشيئة وقد أطبقت على مصائرنا
الآن يمكنك أن تهبي جسدك للنار
فقد صارت الحياة مجرد حكاية تروى

وكان ثلّة من مروّضي المصائر في طريقهم
إلى حانة القيامة
حينما استوقفتهم ريح مجندلة
عند قدم الجبل
كان واضحا أن البرق الأعمى اغتصبها
فجرحها ينزف غيوما و عواصف
في لون الفضة
لكن الهدوء المخادع لذئبة الظهيرة
جعل المروّضين يرتابون قليلا
فتركوا الريح للرّيح
وواصلوا صعودهم باتجاه النبيذ الأخير
كانت ألسنتهم تسيل على صدورهم
من فرط اللّهفة

وحين مروا بمحاذاة البحيرة الحكيمة
نادتهم شجرة سرو :
أيها الراكضون إلى حتفكم
إلعقوا الألسنة من على صدوركم
وعودوا إلى هدنة الظهيرة
قبل أن تحوّلكم القدرة الجبّارة إلى ربوة آثام

لكنّ المروّضين كانوا جادّين في صعودهم الصّادق
نحو المعصية

لم تكن الطريق ما يشغل بالهم
ولا باب الحانة الدي صار ريحا
لم تكن الكؤوس
ولا الصّفرة التي طالعت وجه الغيب

كانوا مستغرقين في السّير
دون أن يبالوا بمواطئ أقدامهم
وكانت النار تجري من تحتهم أنهارا
وكانت سماؤهم
قد استحالت كبّة لهب صفراء
تحجب الغيب
لكن لا شيء يشغل بالهم
فقد كان رنين الخطى
كلّ زادهم في الطريق إلى فضّة المعاصي

لم يسمعوا وهم يصعدون لا النفخ الدي كان
ولا غرق المجرّات في مداراتها
لم يسمعوا الرضيع يصرخ في القماط
أمّاه إني أجفّ.أريد دموعا لأبكي
أريد حليبا لكيلا تغادرني
نجوم الله
لكن الأمّ دفنت وجهه في صدرها
فغاص الصبي بالداخل
حتى لم يبق منه شيء
بلى
كانت رجلاه تتدلّيان من بين نهديها
فقالت الأم
بشرى لك يا بني
الأعضاء التي تحرض على المعاصي غادرتك
فطوبي لروحك يا قرة عيني
ستعود إلى السّدرة البيضاء
بيضاء

وفي طريقها إلى النور الشاهق
استوقف الروح نيزك ضجر
قال:
ياروح الصبي
التقطي أنفاسك عند سفح ناري
إنها برد منذ كانت
و ياروح الصبي من أي البلاد أنت؟ من أمك؟ من أبوك؟
ومن علّمك الطيران؟
قالت الروح
لا اعرف لي أمّا ولا وطنا
كل ما أذكر أني كنت محبوسة في طين عفن
وكان لي قلب وعينان
و أعضاء أخرى لم أعد أذكرها
فيا نيزك الشؤم دعني إن لي عمرا هناك
ومضت
تحرسها النجوم و العين التي لا تدركها الأفلاك

وما إن غابت الروح الطفلة حتى تدفّقت
المزيد من النيران
تدفق المزيد من اللّزج اللاّهب
والمزيد من عشب القيامة الضّاري
فإذا جرار اللّغة تتهشم
على صخرة العدم
وأظلم صوتي بعد أن زلزلت تحت سقيفته
اللّغات

فلم أعد أعرف الفرق بين الشاهق وسيارة نقل اللحوم
ولا بين عواء الذئبة والحب
لم أعد أعرف هل هي بابل أم نيويورك
هل وردة الرمل أم زهرة الكهرباء؟

كان العالم قد أغلق كتابه و انسحب إلى الخارج الأعمى
وبقيت نهبا لذئاب الحيرة
فالأحاسيس غادرتني تباعا
الإحساس بأنني كنت.
و الإحساس بأنني لن أعود
و الإحساس بأن هناك
شيئا اسمه الجسد كنت أرتديه

كانت ألسنة اللّهب تنهش الرّمق الباقي
فيما الدّويّ الأخير يتغمّد الألباب.@


أقرأ أيضا: