تشدّنا إلى صوت الشاعر زياد العناني في ديوانه (كمائن طويلة الأجل) (أمانة عمان 2002) بدائية غير مصطنعة, ارتجالية وعفوية وتكاد تكون همجية شرسة, سواء في تعاملها مع العالم ورؤيتها إليه, أم في لغة التعبير عن هذه الرؤية. فبعيداً من البلاغيات العالية والفخمة والباذخة, يأتي شعر زياد ليقارب العالم من زاوية ضيقة, وبلغة تسير على حافة الهاوية, تخدش هواء الأذن التقليدية, وتخمش فضاء الروح الجافة, لا لشيء أكثر من محاولة خلق التوازن بين عالم بدوي يسعى إلى العيش بحرية وطبيعية, وعالم يبدو مخترقاً بكل ما هو متوحش وغير إنساني.

خروج قصائد العناني على اللغة الجامدة, اللغة التي لا أحد يعرف كيف (امتثل الصمغ/ وربّطها...), وتمرد هذه القصائد على الذائقة المألوفة, يفضي بالضرورة إلى خروج على مألوف الحياة والقول والمنطق السائد. هكذا منذ بداية مجموعته الجديدة (كمائن طويلة الأجل), يبدو الشعر اقتحامياً وفجائعياً في آن. بل هو اقتحاميّ بسبب هذه المآسي والفجائع التي تنهش روح العالم والبشر. فحين يرى الشاعر أن (الحرارة شاخت) ويشهد على (موت الحواسّ!!) ويرينا التمثال يبتسم ويسخر منه ومن حياته, ويفاجئنا بالمعول (الذي تجاسر ذات يوم/ على أجداده الأقدمين), يكون وضع بعض الخطوط الأساسية في مشروعه الشعري, عبر (بضع قصائد أتركها تشهق), في عالم هو (امرأة واحدة).

تتعدد مظاهر الاحتجاج والتمرد في قصائد المجموعة, بقدر ما تطغى ظواهر تهميش الإنسان ووضعه في الزوايا الضيقة والحرجة والمعتمة. ولو أخذنا صورة الأم, كما تبدو في إحدى القصائد, مثالاً على البؤس والشقاء الإنسانيين, لوجدنا كم بلغ بها ذلك مقدار الفجيعة. فهي من شدة التصاقها بالسواد, إحدى علامات الحزن والحداد, والمؤشر إلى قسوة الحياة والانحباس في زاوية لون واحد, لم يعد في إمكانها أن تخرج من حالها (السوداوية), وحين (تورطت في الضحك), ولا يكون الضحك ورطة إلا في حال مأسوية, فقد (تمزق وجهها).

علينا هنا ألاّ نتوقف عند الدلالات المباشرة المتعينة في الضحك وفي الوجه, فما هذان سوى مؤشرين إلى ما هو أعمق. فالضحك إحدى علامات الحياة والسعادة, والوجه هو أبرز ما يحمل علاماتها الإنسانية, والتعبير الأشد فصاحة عنها, لدى المرأة خصوصاً. وتمزُّق الوجه هو تشويه أو تذويب للهوية وللذات الإنسانية. وهذا ما يؤشر إليه مجموع قصائد العناني, ليس هنا, في هذه المجموعة فحسب, بل في مجموعته السابقة (مرضى بطول البال) أيضاً. لكن التعبير هنا يبدو أشد اقتحاماً ومباشرة, وربما أقل اعتناء على صعيد اللغة وجمالياتها.

وهنا يمكن متابع هذه التجربة الشعرية الحارّة التوقف والالتفات إلى عنصر ليس جديداً على قصائد زياد العناني, لكنه هنا أشد بروزاً وتوظيفاً, هو عنصر السرد, واستخدام لغة نثرية في مقاطع من قصيدته, تذهب في اتجاه كتابة فصول قصيرة من السيرة الشعرية للفتى. سيرة فتى رافض ومتمرد ويعلن احتجاجه وغضبه, من جهة, ويعالج مشاعر الوحشة والعزلة بالكحول وبالعلاقة الحميمة مع المرأة وبالرغبة في العودة إلى الغابة, من جهة ثانية. هذه محاور أساسية تبني التجربة الشعورية للنص, وتحرك آليات الكتابة الشعرية. وهي محاور تنبني فوق بعضها بعضاً كسلسلة هرمية من (الثيمات) المولدة للحال الشعرية. فالرغبة في عودة الإنسان إلى الطبيعة متمثلة في الغابة, رغبة ليست جديدة على الشعر عموماً, ولا على شعرنا المحليّ خصوصاً, لكنها هنا تأتي في سياق بنية تركيبية/ توليدية تشوبها التجريبية والرغبة في الخروج على السائد. ففي رؤية زياد ما يشير إلى التوحد والتماهي مع عناصر من الطبيعة, وخصوصاً الشجر والماء.

لكن هذه الرغبة تنطوي, من جانب آخر, على كونها التعبير الرومانسيّ عن الرفض والتمرد. هذا على رغم أنها هنا لا تبدو رغبة عميقة, فهي عابرة على نحو ما, وتأتي في مواجهة حالات من التطرف الموجع, لأن البدائل حاضرة في صور مختلفة. بدائل الشاعر الصعلوك والمتسكع, وعلامات رفضه تتبدّى في صور رفض الكراسي, والبحث عن أوسمة الورد بدلاً من الذهب, وإعلان التحدي لقوى وعوالم يرى فيها مصدر ظلام وموت وعذاب للبشرية, القوى التي تحرِّم وتمنع وتضطهد وتقمع. ويرتبط بهذا التحدي للظلام قدر من القلق الوجودي والرغبة في استفزاز السماء.

وبالقدر نفسه من الرغبة في التحدي, نجد رغبة عارمة في البوح والشكوى وإطلاق العنان للأنين الإنساني, وما يحمل الشعر إلى مناطق غائرة من النفس حيناً, أو إلى اليومي المتجوهر حيناً آخر. وما بين حال التحدي وحال الشكوى يبدو الشعر تعبيراً عن مقدار الخيبة والخسارة والفجيعة البشرية. ويبدو شعر العناني شبيهاً بشخصه وبسلوكه. فهو يعشق الدخول في العلاقات الحادة, وذلك على غير مستوى في الحياة, وهذا ما تعبر عنه بعض نصوصه. وربما كانت العلاقة (مع النص الأول) المقدس, أحد أشكال التحدي المشار إليه. فنحن هنا إزاء علاقة متوترة تقوم على التناقض والصراع, إلى حد الصراخ (هدَّني معول التنزيل/ مثل قنطرة قديمة/.../ وضيَّع حصتي في حبور الجاهلية). والحنين الى الجاهلية هنا قد لا يكون حباً بها, بل تعبيراً عن رفض ما جاء بعدها من قوانين صارمة.

ويذهب القلق الوجودي للشاعر مذهباً فوضوياً, لا تحكمه فلسفة أو رؤية محددة, سوى فلسفة العيش ورغبة التمتع بالحياة, ورؤية الجمال وهو يتحقق. إلا أن مأساة الشاعر والشعر هي في معايشة هذا الوهم الجميل, أو الجمال المتوهم, والمأساة الأشد وقعاً هي في كونه يدرك ذلك, فيدرك أنه, منذ آدم بدء البشرية المفترض, منذور للعدم والفراغ. هذه بعض ملامح تجربة الشاعر العناني, لا كما تتمثل في (كمائن...) فقط, بل كما يمكن أن يدركها متابع تجربته عموماً. ويبقى ثمة سؤال حول مدى انهماك الشاعر في الشعر, وفي اعتقادي أنه لو أعطى الشاعر من الاهتمام بتجربته, على صعيد الاشتغال والتنقيح والحذف, لكانت قصيدته أشد تماسكاً وتكثيفاً مما جاءت عليه. ففي بعض قصائده ثمة تكثيف وشفافية, لكن في بعضها الآخر انفلاشات وتبعثراً. وحتى على صعيد الوزن ثمة ما هو ناجم عن انفلات أكثر مما هو عن تجريب نابع من وظيفته الشعرية.

عمر شبانة (16/12/2002 )