لاسكندر حبش

أشكو الخريف"شكوتَ فلاناً... إذا أخبرت عنه بسوء فعله بك فهو مشكوّ... والاشتكاء إظهار ما بك من مكروه أو مرض ونحوه... والشكو المرض نفسه"، قال ابن منظور في لسانه.
"أشكو الخريف" يطلقه اسكندر حبش في عمله الأخير عنواناً، على رموزيته وأبعاده، مباشراً يتساءل معه القارئ أهو مريض الخريف أم الوجود برمّته؟ وهل العلّة فيه أم في المشكوّ؟    
وإذا كانت اللغة أفقا وليست زاداً من المواد، على رأي رولان بارت، وإذا كان معيار الشعرية، كما هو معروف، في خلق الحالة من جديد وليس في نقلها، اذا كان الأمر كذلك فعمّ تكشف قراءة داخلية لهذا العمل الشعري؟
حين تشد اللغة بصفتها حضوراً ذاتياً، تشكّل عنصراً تكوينياً في حقل التجربة وفي صنع خصوصيتها، فتخلق بمفاصلها وشرايينها وفطنتها معاني تلك التجربة المعيشة لتحييها فتحلّق في ابهى جماليتها وأصدق حميميتها الى المنظور الكلياني، حينذاك أنت في حضرة شاعر. "أشكو الخريف" كتابة تفرض عليك هذه النظرة الى طبيعة اللغة نفسها وهي لا تجاهر، لا تصرخ بل توحي وتومىء وبهدوء فتدرك أنها اغتسلت في منابع الشاعر الجوانية التي تغدو الركيزة الثقل في بنية القصيدة (والمجموعة قصيدة طويلة) فتلتقط أدق أسرارها وأعمقها لترفع الشعرية الى جوهر الحالة، فتنعتق اللغة من جمود مضمونها منصهرةً بإيقاع الداخل فتنتشي وتومض ضمن تكوين دلالي له خصوصيته، يتكشف عن عمل فني شديد الحضور في حد ذاته، يسير في حركة تواصلية ومحوِّلة عن مألوفها. ولا غرو في ذلك ما دامت تنمو في رحم الرؤيا وكأن الدوال هجرت هويتها الجاهزة الثابتة لتحقق ولادتها القشيبة المنسوجة من خيوط التجربة والتي تجلّت في التضمينات والشيفرات، في الصور المجردة والحسية، في الانزياح الأسلوبي، في السرد والخبر والإنشاء... أقول في تلك الهيكلية المدروسة للعلاقات القائمة بين العناصر المكونة لتوظيف القلق الوجودي (ص 7 - 16 - 43 - 44 - 48 - 52 وغيرها).
"أشكو الخريف" محاولة درامية شفيفة للخروج من جلدها ولكن ليس بالصراخ والعويل بل بهمس وسكون يعلنان منذ المطلع خصوصية أفق لا يكشف الحدث ولا يراوح إنما هو الحقيقة الخبيئة في باطن الحدث، يخلقها ويحركها في تصوّر جلي متكامل ناضج لا محض عبث. ومع تعدد أصوات القصيدة فإنها لا تبتعد عن مركزية اللوغوس التي وضحها دريدا. مركزية النقطة التي منها يبدأ كل شيء ليعود إليها أو الى اللاشيء فتنكشف شبكة من الأناشيد الدالة على حقل مفهومي واحد يجسد موقف الشاعر من الوجود، تغلفه غلالة شفافة من المناجاة أو الهمس المتبادل بين النفس وذاتها، هي مقاطع ترتاح في حركتها الساكنة والخفيفة والرشيقة، ترتاح بإيقاعها العفوي الحميم وهو يتولد من ذاته، بل الشديد الحميمية بذاك الترابط الداخلي للسياق المشرع. والنشيد منبع النشيد واللغة مولّدة لذاتها تتناسل بغنائية ساطعة جذابة وبحساسية فنية عالية، أبانتها المهارة في لعبة الهندسة الكلامية التي تشدها بنية متينة تربط المقاطع في فيض من اليقين وبتلك الجاذبية التي تسكنك إزاء كلمات واثقة من نفسها تمسك بالقول وتترقرق... مهذبة خالصة من الثقل أو الطفيليات، وبصفائها تصفو التجربة وتتبلور في تكافؤ بنيوي. إذ ان المرسلة اللغوية تخطت ذاتها الى تضميناتها ومؤشراتها في الحقول المعجمية فتبدو أدوات التأليف حريصة على الدقة والأحكام في دلاليتها على التناوب بين خطين: الأنا (وليس الذات) والعالم.

النشيج الجواني

منذ المطلع تجلو ترسيمة النص في ذلك النشيج الجواني والذي يدور حول شرط تتواصل أفعاله في تنغيمة خصوصية أمدّته بلون متميز وحوّلت الصور بمحمولها الرمزي الآني الى ديمومة، ووجع الشاعر الذاتي الى حالة كونية محورها السراب لتندرج حوله تيمات الحياة والموت وتسلط القدر: "من يستطيع ان يرد العتمة". الحروب والحب والأصدقاء "لم يعد سوى حريق رسائل".
المنفى والألم الغربة والوحشة كلها مطية لنبش الذات واضاءة قراراتها السحيقة المليئة بفقدان المعنى، والشرط ذاك، لم يلقَ جوابه. "إن أنت أتممت جسدي" (ص7) في مجموعته "تلك المدن" قال اسكندر حبش:
"أأستطيع النوم وأنا أبحث عن سراب أسمعه؟
سراب يمد يديه ليدفعني باتجاه هذا الموت؟".

ما زال السراب إياه هو الحالة، وفي ظلاله نسيج مشدود - على اختلاف أزمنته - الى أدوات الشاعر القادرة على تذويب الأحشاء المقرورة في جوهر المعنى. والمعنى هو الغياب، والعالم هو العدمية، وهل بغير العدمية ينكشف الوجود؟ وعليه يبدو الحافز الأول للتساؤل هو المكان وتتردد الرغبة في السؤال العديم الجواب، لا بل في أسئلة لا مدى لها ولا نهاية وكأنها مرثية الحياة والأمكنة. وغالباً يتكرر معجم الموت بأدواته (المنفى، الموت، المقابر، الغيوم، الليل، العتمة، الوحشة...). أوَليس ترداد محاورة انكيدو إشارة الى الزوال؟ ومن المفارقات ان الحياة نفسها تقدم الموتَ: "لا حزن يكفي كي نعيد/ بقية الليل/ أعدك/ إن عادت السومرية/ من مصادفات الهضاب/ سأنسج لك غابات لتبحث عن موت جديد" (ص37). أو ليست السومرية هي الحياة نفسها؟ إما المعجم المكاني المحتفي بمفردات الطبيعة (القرى، النهر، السهول، النخلة، الصفصاف، الهضاب، الصحراء...) فينقله الى حنين موجع عميق يشبه التلاشي ويشفّ بالمونولوغ الثري بإلايحاء، الطري مع اللغة يحنو إليها بليونة وليس بالحفر المدمِّر، يبدّل ثوبها بآخر أشد رومنسية ومسلوخاً من أحشائه. إنها رومنسية طازجة تشعر إزاءها إنها سيرتك وانك في صميم التجربة وأنها لغتك أنت: "كم من ضفاف لن ترجع إليها/... لا تدوّن لي رسائل/ فقط/ صدّق هذا الربيع الذي/ لن يأتي" (ص34-35) و"ان الألم/لم يعد سوى هذا الألم" (ص26). محاصر هو في منفى داخلي، قابع في أعماق النفس ولا منفذ (وهو المنفى الحقيقي): "ليس لهذا الفضاء/ من ارضٍ/ تقينا/ سيرة الغابات"، يقول (ص41).

روح الفقدان والموت

تنكشف لغة مغمّسة حتى الإشباع بروح الموت من فقدان المطارح الى غياب الحياة: "هي مدن متشابهة/ أصدقاء محروسون بقوة المقابر/ لا تومئ للأشجار/ غريب أنت عن يديك" (ص38)، "هي السومرية/ هي الحياة/ التي غادرت ذات عتمة". وقد تكون هذه العبارة دليل الأناشيد مجتمعة، كل شيء مطبق فإلى العدمية: "ثم تمضي كالليل" ليختم بسراب الكتابة. أقول لغة تنفح جسد النص بالحياة فتسمع ذياك الصوت الداخلي في لعبة الخلق والذي هو إيقاع البنية المكوّن لها ولجوهر الرؤية. فهو الى جانب جماليته يبدو حاجة ملحة لنفسية الشاعر وطاقة معنوية ومساحة إيحائية تحمل الى مناخ غنائي مؤثر قائم على الترداد حيناً أو التوازي والانطلاق والعودة أحيانا اخرى. بسكون ينسرب في انطباعات موقّعة مكثفة أمدت الأناشيد بمدلول إضافي مفتوح، يلزمه تعميق وشمولية. فالقصيدة استجماع لأزمنة هي حاضر مستمر من دون الإشاحة بالآتي أو امكان بتر الماضي. فالنسيان قصي "كهذا الشحوب/ الذي ينسى أطرافه/ على صدى النسيان" (ص69). ولكن حالة الحاضر الكتابية هي التجربة الشاملة زمنياً والتي تمر في دروب الذاكرة: "هناك/ حيث القرى تتناثر/ بين ذاكرتين..." (ص7). هل هما القدس وحيفا المذكورتان في "تلك المدن". من نافل القول ان العلاقات الأساسية التي تحكم المقاطع أو الأناشيد حالة من التفاعل الرؤيوي فتكاد المعاني الغائبة تذوب في كل فني متجدد. من مقطع الى آخر تنمو لغته كما سبقت الإشارة من رحم الرؤيا وكأنها نزعت عنها قشرتها البالية لتصل في منعطفات مشغولة بدقة ورهافة حس، في دراية شفيفة بسيطة على عمقها لا تعرف الغموض المفبرك. وحدها اللغة هذه (بمفهوم سوسيير) تنظم الحالة، والشاعر بارع في لجم ما يحول دون الشعرية الحقة. فلا التاريخ ولا الأسطورة ولا ثقافته حالت دون توظيفها لاستكشاف هموم ترتفع الى هشاشة الانسان وعبثية الوجود في انعكاس يذكّر بشفافية الرومنسية من دون ان يسقط فيها.
هي تجربة قلق وجودي ومصيري وكوني اختمرت في ذهن الشاعر اختماراً مزمناً وحفرت في الكيان فتمردت وتجاوزت الى ترميز الصراع الأبدي بين الانسان والعالم، فتضحي التجربة هي الأنا الكبرى وتغدو الكتابة "المكان المحايد المركب المعتّم الذي تضيع فيه ذواتنا"، على قول رولان بارت. والشعر أكثر حقيقة من التاريخ، قال أرسطو، وبهذا تكتسب الكتابة بُعدها الإنساني.
بلى، "أشكو الخريف" نشيد يختزل تجارب حياتية ومصيرية، بنغمية تجلّى فيها الشعر أعمق من حواس ظاهرة بل شعور حي ووجدان وليس هذياناً ودوراناً في اللاشيء. انه شعر الحقيقة الجوهرية يرد الى اللفظ حياته الأولى وهو يُطلق أول مرة ليصور حالة حية قبل ان يصير له معنى ذهني مجرد.

النهار -  بيروت


أقرأ أيضا: