محمد العباس
(السعودية)

أي.. قونات - هيلدا تتشذّر حتى وإن انبثقت من ذات غير مؤنّثة، تبقى الكتابة فعل أنوثة، كما يستشعرها غاستون باشلار. وهي بالنسبة لهيلدا اسماعيل قيمة تعبيرية مضاعفة، إذ تستولد من الصور الشعرية ما يشبه المراودات للفرار من سجن أنوثتها الفردي، ولكن دون أن تغادره، فهي تتحقق داخله بايماءات مفرداتية مرسلة، تتكئ على كفاءة الدال اللغوي، وتحيل إلى بذخ المدلول كما يتمثل في متعلقات أنثوية مصرح بمسمياتها ( كحل، مرآة، خلخال، فستان، بنطال، عباءة ) فقصيدتها " أشياء أنثى " وكل عناصر النص تشير إلى " أنثى محلاة .. تذوب في رداء مبلل " كما تتوضح في مجموعتها الشعرية " أيقونات " الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

هكذا تتحشد هيلدا في ذات شديدة التماس بالغامض من أحاسيسها، فكل تلك المرجعيات المجسدة بحسيّة تنقل إلى النص بكثافة، أقرب إلى " الفيتشية " حسب العقيدة البارتية للذة النص. ولأن القراءة " إنجاز حسي " لا ينفصل عن الثقافي، يصعب مقاربة أيقوناتها خارج هذا المكمن الإنتقائي المركب، فلا قراءة حقيقية، دون علاقة حسيّة، وبالتالي فإن التماس مع متوالية جمل النص يلتبس مع القبض على حميميات الشاعرة، فالأيقونات كنص ليس مجرد فكرة أو عبارة، بقدر ما هو شبكة من الشفرات المنفتحة على معنى متعدد الأبعاد، أو هذا ما يفترضه فعل القراءة.

يتأكد هذا المنزع الرصدي عند تأمل المعنى المصعّد بميلودرامية، ليتحقق حسّيا من خلال كثافة الطرق على الإستيهامات التفصيلية، وصراحة التلميحات لمكونات " الأنا " ودقة التوصيف الشعوري، ومن خلال معادلة ( المرأة/الأنثى ) بالقطة، أو مماثلة ( الكتابة/القصيدة ) بالمواءات، فالمواء بتصورها " ليس ترفاً!! المواء صرير قلب " وبرأيها هو " نحيب قصيدة " وهو أيضا، أي المواء :

... صوت أنثى
تتقطر برودة
تحتمي في فراء قطة

ثمة حركة حسيّة استحواذية وكثيفة إذا داخل أحاريك النص، تحفّز الحدس للتماس به، بما هو - أي النص - جناس أو صورة تصحيفية للجسد، ففي أيقوناتها من " الإشارات الغامزة " ما يكفي لتحقيق مقروئية تنهض على الكتابة الحسية، وبالتأكيد تضع تلك العلامات القارئ قبالة جسد يتنصص من خلال كثرة التكرارات على المتشيء ماديا " شعري، عيني، فمي، أصابعي، جسدي، كتفي، يدي، قدمي، خاصرتي، جبهتي، ظهري، أظافري، ساقاي، جلدي، ركبتي، شفتي، جديلتي، صدري " خصوصا عندما تستعرض تلك العلامات بلغة تتفنن في دس المعنى داخل جرعة حسيّة مضاعفة. في هيئة قطة " تتماثل للعق " مثلا . أو امرأة تتدثر فراءً وتدر " مواااااءً ". أو طفلة تغرس قبلة لتثمر يوما " ويقضمها " رجل. هذا الرجل هو ذاته الذي همست إليه بذاتها الخطّابة:

كلمة ما ..
نفختها في فمي
تمثّلت لنا..
( شعراً ) سوياٍّ

هكذا تتصعد العلامات الحسية لتتمازج أو تتعادل ربما مع جوهر عاطفتها، إذا ما تم تفكيك نظام العلاقات داخل النص، وعدم الاكتفاء بتقصي الملفوظات وحسب، فهنالك بذخ مفرداتي، مؤكد عليه باستئناس لفظي " لوح الشوكولا، القهوة، الحلوى، السكر، الشاي، السجائر، الخبز، والليمون ". وكل تلك المتوالية من المذاقات ( التعبيرية/الحسيّة ) المتباينة معبر عنها بلغة فارطة في الحسيّة أيضا، فهي ليست مجرد طعوم منذورة للفم واللسان، بل معادِلات شعورية وحسيّة لامرأة " تصرخ شعرا " وتتعمد إرباك الحواس بالحديث عن الإرتشاف، وتدخين إكليل من الورد، أو بتسييل القرنفل من جنباتها، وفتح مسامات جلدها كل ليلة، لتتبادل مع ذاتها المعطّلة فائض أحاسيسها، أو تنادم رجلا " سكر الحديث يذوب في حواراته " فالقضم، واللعق، والارتشاف، والنفخ أفعال ذات دلالة تعمل كمكونات بنيوية داخل البنية الحسيّة، وربما لهذا تعلن بشيء من الإباء الأنثوي:

سأشعل
كل الحرائق..
كي
تتبعنـ..ي

ويبدو أن تلك الخفة الشعورية، هي وسيلتها لصد كآبة متأتية في الأصل من المفارقة ما بين الواقعي والمحلوم به كما تتمتم باعتداد المنكسر مثلا " بعض الجروح .. أهنتها بابتسامة ". وإن كانت تموضع النصوص على حافة تكاد أن تؤدي إلى " تلفيظ الأنوثة " نتيجة المكوث في البؤرة الحسيّة حيث يكمن فيها السر الأدبي، أو الطزاجة اللغوية بمعنى أدق، ففي أنسجة النصوص امرأة تعيش " هزيمة مؤقتة " فشلت لمرات " في حياكة حب جديد ". قلبها يسكن " بين الجرح والجرح ". روحها " مدعوكة بالضوء ". تتقاسم الألم مع نفسها، وهو ما يجعلها " تموووء .. كأنثى وحيدة ". تلوم جسدها الذي " من أجله ترتكب البدايات ". فهذا الديالكتيك العاطفي، بكل تموجاته وتعرجاته، الخفي منه والمرئي، هو ما يحرضها على توليد المفارقات العباراتية:

على نعش حلم ..
أحفر دعابة ..
أفقأ أمنياتي
وأجهش
بالضحك

هكذا تترهف كلما اقتربت من مكامن نرجسية الجرح الأنثوي " حتى الهواء يجلدني ". وتترقق كلما أشارت إلى أنآها المتضورة بالألم " اعزفني .. أوتاري مشدودة .. للوجع ". إلا أنها لا تسلم النص لمطلق الحسّي، بقدر ما ترفع توتراته العاطفية بالتأكيد على طابعه الإيجازي، وبالإلماح إلى طرف الذات وهي تتنصص في " توقيعات " أقرب إلى النزق السيوراني، ولكن بتشاؤوم أنثوي رهيف. إذ تعبره بإيقاع خاطف، وتؤدي طقس الكتابة بمجازية باترة لتختصر ( مزاجها/وعيها ) الشعري في " أيقونات " تتهيّل من ذات تعتقد بالنص الإختصاري وتتماسك من خلاله، فبرأيها:

أرذل الشعر ..
نص طويييل

لكن هذه العبارة المرسلة، المحمّلة بالدلالات الفنية والشعورية، لا تعني اكتفائها بتقصيف الشريط اللغوي للنص وحسب، بل تصفيته من أي تعبير لا يتطلبه الإحساس، وإن بدى نصها أحيانا عرضة لفورات كلامية، كما تشي بها تلك المساحات الواسعة من الشقوق والسكتات، وكما يتوضح ذلك من خلال استهلال المجموعة الشعرية بنص وثيق الصلة بدلالات " المحو " فبتلك البياضات المستصلحة بالقليل من اللغة تختصر حراكها الشعري، كما تتمثل في امرأة مصلوبة ببهجة منقوصة قبالة رجل وقصيدة:

قصائدي القصيرة
أحلتها شباكا

كم أحب اصطيادك
في ( الشعر ) العكر

هكذا تتكثف - مجازيا - امرأة مصنوعة " من كل النساء " فيما يبدو انحيازا لطراز من الكتابة الشعرية الناهضة على الصورة الشعرية الخاطفة، وابتناء نص شديد التقشف والإقتصاد اللغوي، والتواطؤ مع مخزون القارئ المعرفي وخبراته العاطفية، فيما يعرف بشعرية " اللقطة " أو قصيدة " الومضة " المتناغمة بنيويا مع القصة القصيرة جدا، من حيث اشتراكهما في استبطان السردية، بما هي الركيزة أو الوسيط الدلالي للنصوص الشذرية، مع تأكيدها على التكثيف بما هو اختصار لظاهر المضمون المسبوك لغويا، وغنى المضمر كما يتمثل في المعنى، واستحضار الجرس، كما يبدو ذلك جليا في نص، أشبه بالعبارات الإشرافية:

عزفك ..
أسرع من رقصاتي
لن نلتقي

ضمن هذا التصميم البنائي للجمل، يتأسس مدار لغوي شبيه بالبرقية، أو الرسالة النصية المشفّرة، التي تستمد طاقتها من خبراتها اللغوية واللالغوية، بمعنى أن هذا ( النص/الفلاش ) هو مساحة تداولية بين هيلدا كمنتج للنص والقارئ كمستهلك، فالمعنى مبيت أصلا وموارب ليس في ملفوظات النص وحسب بل فيما يختزنه من خبرات ضمنية تتأكد في مثل هذه العبارات المباغتة " سوى المزاج .. لا شيء يخوووون " حيث رهافة التمازج بين مضمون العبارة وما يذوب في أليافها من إحساس، المؤكد عليه بشكل الكتابة التوقيعية المصوّرة، وهو ما يستدعي تأوين الذات المنتجة للأيقونة/النص لحظة تهجيه، أو ما يعتبره باشلار، قراءة نفسِية ونفَسية، لمقاربته - أي النص - منطوقا من داخله.

ولأن فعل القراءة يستلزم وعيين، تراهن هيلدا من ذات المنطلق التشاركي على اختبار القارئ بانفعالين في آن، من خلال نبرة موغلة في الحسّية، تحيل على الدوام إلى ما يعترض مرغوبية " الأنا " كنقطة ارتكاز للنص، فالقارئ كما تجادله ضمنيا، هو ذات يفترض مراودتها بمختلف المرغبات، إذ من طبيعة هذا النص إغواء الذات القارئة بالقبض على ذات الشاعرة من خلال منطوقها، لإعادة تركيب صورتها وفق استيهاماته، عندما يرتطم بنص يثير الفضول:

عندما أعبر المقهى..
في حقائبهن تفتش الإناث ..
عن مرآة
وإصبع من كحل!!

بموجب ذلك الوعي تنبعث شعائرية نداءاتها إلى صوتين، صوتها كمنتج للنص، وصوت المتلقي كمؤلف تكميلي أو " تأويلي " لخميرة النص، بما يستسر من خبرات واستيهامات، وفي هذا ما يفسر اكتفائها بتصدير نصف المعنى فيما تسلم نصفه الآخر للقارئ ليتأوله داخل ذلك التساوق البنائي، خصوصا عند تأمل الشكل الخطي للأيقونات، فهي منضدة فنيا كعلامة ( تكنو-ثقافية ) بحيث يتأسس النص بمستوى لغوي على درجة من المحايثة بمستوى خطي، له أكبر الأثر في شكل المقروئية، بالنظر إلى كون المجموعة قد كتبت ضمن حاضن نتّي أصلا.

ويبدو أن الروح التصويرية، تستحوذ على المجموعة، حيث الإلحاح على الأيقنة ( Iconography ) من خلال التكرارات الدائمة للحروف، وتشكيلها في فضاء حر يسمح لها بالتردد والرنين، وفرط الكتابة بتقطيعات إيقاعية، للتعبير التصويري عن " الإصاتة " أو التأكيد على الدال اللساني، فعلى مستوى عنوان المجموعة " أي .. قونات " ثمة ما يشبه خارطة المواقع الالكتروني، أو الفهرس الذي يتضمن ( أنثى مواربة - تناهيد - مواءات ) حتى مفردة " أيقونات " مكتوبة بميلودية تقوم على إيقاع وتقطيع لفظي يقود القارئ بسادية ناعمة، ويتأكد هذا المغزى داخل المجموعة من خلال تنويعات نفَسِية خطية فمرة ترسلها فيما يشبه الزفرة " أيقونة..ة ة " وتارة تبترها كوجع " أي .. قونة " وثالثة تغنيها بطرب " أيقوناتـ..ي " وهكذا.

النصوص أيضا مرسومة في هيئة خطية مماثلة، فهي مفتوحة على فراغات، ومكامن قطع ذات صلة بالإيقاع، إذ تواشج بين الكلمات المتضادة لتجهش بالضحك، وتدخن إكليلا من الورد، وتتقيأ بظل يردمه بكاء، وتنام في سرير أعمى، وتغرق في مياه ياقة كحلية، وتقهقه قبالة عربة بلا فخذين، وتنشد تفعيلات لا تغني، فهكذا تنتج نصا سريالي النزعة ولو في حده الأدنى من الهلوسة، ربما لأنه لا يتأتى مما تحت الوعي، أو مما فوق الواقع ، ولا من الحلم أيضا، أو فتنة اللغة حتى، بل من مفارقة المعاش، وهذا ما يعلل دفقة الإحساس التي تتقدم الفكرة " مبقعة بالألم .. قصائدي إليك " حيث الانزياح عن تراتبية التوصيل الكلامي إلى المشعرن من اللغة.

وأحيانا تحشّد كل تلك الطاقة الشعورية واللغوية، وبشيء من الحساسية اللفظية لتفك الإشتباك بين مفردة وأخرى بميكانزم الوصل والفصل، رهانا على استشعار النص منطوقا، وعلى ذلك تتحرك في كل مساحته لإدارة الفراغ والبياضات، بالإستفادة من تقنيات الطباعة وتوظيف علامات الترقيم لتصعيد الأثر الجمالي وإدخال مجمل النصوص، في علاقة بصرية مع المتلقي، أو تفعيله ليقرأ بكافة الحواس، مع التأكيد على تلك المفارقة الشعورية:

آآآهٍ ..
بـ(حِذَائِكَ) ..
دُسْتَ على قلبٍ ..
حَمَلَكَ (حافيًا )

ووفق ذلك التشكيل البنائي تبدو " الأيقونات " بمثابة المعادل النفسي واللغوي والموضوعي لمفهوم " الشذرات " فلا هي بالحكمة أو المثل المغلق على معناه، ولا هي بالنادرة المفتوحة على استرسال الحكاية، إنما هي مخزون هيلدا الحياتي والذاتي، أو مزاجها ومحصلة تجاربها وخبراتها اللغوية واللالغوية، أو بمعنى أدق هي " مأثوراتها " الشخصية بكل ما تعكسه من تلقائية ومن لهجة مبرّأة من الإفتعال والتفخيم اللغوي، خصوصا في إمعانها لتأنيث أنساغ النص الجوانية، بضمير يشير إلى " أنا " مرقوبة على الدوام، ومهجوسة بمرغوبية " الآخر " الذكوري، وبمؤازرة تعبيرية صريحة على المستوى اللغوي، وهي سمة الكتابة الشعرية الأحدث من حيث تأكيدها على الإنهمام بالذات أو انكتابها، ولو باحتشام لفظي، له من المبررات الفنية ما يعادله من الوقار الشخصي:

يا سميني..
رنة خلخالي
تفاصيلي ( العسلية ) ..
كلي الدافئ
لعناااات.. لا تنطفئ

يتحقق ذلك الإنكتاب الصميمي في روح النص، أي في بناه الدلالية، وليس في بناه الشكلية والخطية وحسب، فالأنوثة تتسمى من خلال عناوينها ومدلولاتها، لكنها لا تتلفظ، ربما لأنها مارست في جوهر النص شيئا من الرهان المدبّر على لعبة الخفاء والتجلي الأنثوي، حيث التعبير المراوغ عن الإحساس الأنثوي الغائر بالمظلومية الذكورية " الشوق .. يجعل مني .. ضحية ممكنة " والحلم برجل " يتعلق بأقدام أنثى نائمة!! " أو يحيلها إلى لفافة ممضوغة " بين شفاهك لن تطفئنـ..ي " فيما يبدو مفارقة تجيدها أنثى مضادة لمغازي الأنوثة والتباساتها، إذ تفر منها إليها:

قلبي؟!
أحبه خاويا
أنثى أنا ..
كلما تضوّرت ..
صرت أشهى

أما عناوين الأيقونات فهي جزء من النص، إذ تبدو دائما مستدمجة بلحمة عضوية داخل بنية كلامية موحدة، وتعمل كجمل رحمية يتناسل منها النص في سردية لها من الدلالة الفنية والشعورية ما يرفع من كفاءة النصوص، فالسرد هنا متقشف وغير مقصود لذاته، إنما هو تابع، وبالتالي فهو مفارق لحس القص، انحيازا للرؤية أو المعنى الشعري، حيث الإقتصاد في اللغة والتخفف من الشروحات التدليلية، والإتكاء على التعيينات فأيقوناتها تحاول التداني إلى رنين وكثافة الإشارة في " المخاطبات " كما أرادها النفري في المعنى المتولد من رؤية تتسع وعبارة تضيق، فهنا يكمن سر مزاجها الإختزالي، ومجازها المفارق للمستخدم من اللغة، أو الاستعمالي من الكلام، فذلك التضييق العباراتي هو ما يوسع معنى بنطال الجينز، ورنة الخلخال،والكحل المتثائب وهكذا.

من واقع هذه المفارقة، ولتجاوز المعنى الأفقي لمفهوم " الأيقونات " يمكن تفكيك البنية العنوانية للمجموعة، بما هي عتبة النص المؤسسة على آلية المحو، ومساحات البياض والسكتات كما تتعمدها بقصدية، فالأيقونة من الوجهة الفنية تدخل حيز المماثلة والموازاة من الخارج، كما تختزن - ضمنا - خصائص المعنى المشار إليه، وهي بالنسبة لهيلدا معززة بالكتابة الرقمية، الناهضة على إغواء العين بقيم الرؤية حيث الإخلاص للبيئة النتيّة، كما تتمثل في هذا التشكيل البصري مثلا:

أيقونة ..ة
ة
ة
تلجني
توقدني قصيدة

ولكنها لا تذهب بالنص إلى حد التطرف أو المغامرة بقصيدة محض الكترونية مضادة للحسّي والشفاهي، فهي أميل إلى مسرحة شكل الكتابة بما يتناسب مع النص منطوقا، مع مراعاة مكامن الشعور، على اعتبار أن المبدأ الأيقوني ينهض على الشبه، المرئي والخفي منه، وهكذا هي أيقوناتها تتحدد بموضوعها وديناميتها الخاصة كما تتمثل في العلامات الترقيمية والكتابة التصويرية بشكل عام، بحيث تبدو بمثابة التشكيل في المقام الأول، المؤازر بالمعنى، وليس على الفكرنة الصرفة، المثقلة بالرمزية، فهي كتابة مهجوسة بالمجانسة بين النص والذات.

إذا، هي تجسد الفكرة بتعبير حسي، وتشاكل أحاسيسها بكتابة تصويرية لتتمثل موضوعها الشعري، وتماثله في الآن نفسه كمتن نصي، ففي كل أيقونة ثمة شبه بين حامل العلامة ومدلولها، وعبر ذلك الشبه بين العلامة والموضوع تنتج تلك العلاقة الأيقونية، حتى على المستوى الشعوري كما يتبدى في مثل هذه الخطفة، حيث تراهن على مغويات " التصغير " و جاذبية " الخفة " الحركية أو الشعورية، دون أن تسمي ذلك الشيء المتضائل الملذوذ أو المعذب الذي آلت إليه:

قلّبني بين أصبعيك
ق
لّ
ب
ِن
ي
أريد أن أعتاد الدّوران ..
والموت النّبيل

هكذا تتجلى، أي عندما تنسرد من داخل اللغة، وليس بها، وحين تسك أيقوناتها كاستجابة عفوية لغرائزها وإيقاعاتها وليس بوحي من الفكرة، بحيث تختزل أناها وتستدعيها لتكون هي خاصية النص، أو البصمة التي تعكس كل تموجاتها الشعورية والذهنية، كتجسيد بنيوي لمبدأ " وحدات البناء البيوغرافية " كما يسمي بارت ذلك التحشّد أو التكثف الذاتي، فكل أيقونة هي سيرة مختصرة لما كانت عليه، أو الكيفية التي تحدث بها الآن هيلدا.

هذا ما تبثه بتنضيد خطي وبتلقائية لغوية أقرب إلى طهورية الكلام، لتنتج نصا لا يعاني من الاستلاب ولا يتعوّق بالإفتعالات، أو هذا ما تحاوله، فقاموسها اللغوي محدود وبسيط، بل هو أقرب إلى اليومي، وأبعد ما يكون عن الإثقالات المعجمية، ولكنها تجيد تدويره، وتوليد الدلالات من أصغر المتعلقات الهامشية، فهي لا تستخدم المفردة المستوية، بقدر ما تميل إلى توظيف النيء منها أو أطيافها، بمعنى جمالي حيث التوسد، والتماثل، والتعلق، والتدليل، والإتكاء، والتنهد، حتى اللمعة الحسية لا تعبر عنها بالكشف البورنوغرافي، أو البوح المجاني، بل بشيء من التراسل الايروتيكي المراوغ " أزح قماش الليل عن آآآهاتي " ، خصوصا عند تأمل الكيفية التي تدير بها توقيعات النص ليكون الجرس فيه لازمة بنيوية " ككل الأسرار الصغيرة أفشيتني " والمنسوب الذي تراعي بموجبه مقدار اللغة المتوجبة لإنتاج المعنى " ولم أقل أنك أعشبتني ".

تلك هي " أناها " المنكشفة تحت ضوء الصورة، فهيلدا تسك " الأيقونة " من خلال التعامل بثلاثة مستويات متباينة لفاعليتها، كما ميّزها بيرس، أي الصورة والتخطيط والإستعارة، فأيقوناتها تتشكل كعلامة بصرية، وتقوم على تدريم الحدث الشعري، حيث تبث المعنى دفعة واحدة من خلال التعاطي مع العين كلاقط، كما تنرسم كعلامة خطية تتحرك في فراغ أو فضاء تدويني متعمد، وتنكتب بإيقاع فيه من أساليب القطع والوصل، وتحريك أو إدارة علامات التعجب والاستفهام والنقاط والأقواس فيما يبدو تأكيدا على " العلامة اللسانية " بحيث تكون الدلالة الصوتية على درجة من الوضوح والتأثير، وهو ما يعطي نصها فرصة تقويض الروح الخطابية والإنشائية، وإن بدت " الأيقونات " أحيانا متصلبة بعض الشيء، وغير قابلة للتثني والتخفف من المدلول، كما تفترض الكتابة الشذرية.

وككل الذوات التي تمارس الإنكتاب، تجهد هيلدا لتحويل " أناها " إلى شذرة، بالنظر إلى أن الكتابة ضمن هذا المدار، هي استحضار الذات لتخط نظامها الاستثنائي، وتفرض متخيلها ( أيقوناتها ) فذلك هو أسلوبها كما يتبدى في الأيقونة الناهضة على الاستعارة، أي معادلة البنية الأدبية بالبنية الحسيّة، فهذا النص هو الشكل المتاح لها لاشتهاء الذات والآخر والوجود، ولو في صورة مستعارة ذات سمة مضمونية، وبترميزات ليست ذاتية تماما، حيث تعتمد على فاعلية الموضوع ونقاء الفكرة، فالشبه الأيقوني هنا لا ينهض على الاستعارة البلاغية بقدر ما يؤكد على المدلول، وهذه هي طبيعة الكتابة ( الشذرية/الأيقونية ) كما حاولتها هيلدا بدموع مكتوبة، في زمن " بقع الحبر الجميل " كما يسمي باشلار ذلك المتكأ التعبيري:

اطرقني أيقونة ..
أي .. قونة

****

m_alabbas@hotmail.com
www.m-alabbas.com