‬محمد العباس‮
(السعودية)

علي الدمينيأطراف منتقاة من سيرته،‮ ‬أراد علي‮ ‬الدميني‮ ‬إسالتها على‮ »‬صخور الجبال،‮ ‬ومسايل نهر الوادي،‮ ‬وخطوات أهله‮«. ‬أو هذا ما حاوله بنص روائي‮ ‬مركب لم‮ »‬يهبط من عليائه ليشتغل في‮ ‬الواقع‮« ‬فقد تقاسم‮ »‬الغيمة الرصاصية‮« ‬مع بطله،‮ ‬أو تشظى هو،‮ ‬بمعنى أدق،‮ ‬إلى نصين‮ ‬يحايث المتخيل منهما أصله الواقعي‮ »‬ليفنى أحدهما في‮ ‬الآخر‮« ‬لكن الروح التشفيرية العالية للنص،‮ ‬وذاكرته الموجهة بواسطة الأيدلوجيا،‮ ‬وكذلك الذكريات المستعادة بشكل مدبّر،‮ ‬لم تسمح له بالتواري‮ ‬خلف‮ »‬سهل الجبلي‮« ‬بما‮ ‬يكفي‮ ‬ليتحول تخييله النثري‮ ‬إلى واقع حي،‮ ‬أو إلى كتابة لا زمنية‮.‬
هكذا‮ ‬يمكن فهم كثافة تدخلاته الصريحة كراوٍ،‮ ‬وكثرة الحواشي‮ ‬التفسيرية لمفردة‮ »‬النص‮« ‬فثمة إصرار مبيت على التورط في‮ ‬التزييف الجمالي‮ ‬للحياة،‮ ‬بما هي‮ ‬نص‮ ‬يقاربه الوعي‮ ‬دائما بهاجس الخوف من التدوين المحرف بأوهام الكتابة،‮ ‬فالدميني‮ ‬يريد نصاً،‮ ‬كما‮ ‬يبدو،‮ ‬وثيق الصلة بالتجربة الفردية داخل حواضنها التاريخية والاجتماعية،‮ ‬وقد حاول تعضيده بمفاصل من سيرة فرد إشكالي،‮ ‬يعاند الواقع بالرواية،‮ ‬بما هي‮ ‬الصيغة التعبيرية المضادة لكل ما هو استبدادي،‮ ‬حيث التأكيد على العلاقة المضطربة بين الرواية وكل مظاهر السلطة،‮ ‬والتجابه الحتمي‮ ‬مع مقومات المجتمع البطركي‮. ‬بنص‮ ‬يرتكبه كائن أحمق،‮ ‬كما تم وصفه بشيء من التحقير،‮ ‬لكن الراوي‮ ‬يصر على نص أصله‮ ’’ ‬ليس صخرة وإنما نسغ‮ ‬شجرة تعيد أعضاؤها الولودة‮ - ‬ما دامت حية‮ - ‬رسم الأصل من جديد‮ ’’ ‬فيما تبدو مرافعة خطابية أمام التاريخ،‮ ‬وليس مجرد حكاية‮.‬
ويبدو أن كثافة الشفرات المستزرعة في‮ ‬النص،‮ ‬أحالته إلى خطاب ملغوز،‮ ‬أقرب إلى الإبهام منه إلى التلميح،‮ ‬لدرجة أن الراوي‮ ‬اضطر لنحت علامة استفهام جوهرية هي‮ ‬بمثابة العصب المحرك للسرد عمن‮ »‬يخون النص،‮ ‬الكاتب أم الواقع؟‮« ‬أو هكذا صار السؤال‮ ‬يدور في‮ ‬رأس‮ »‬صاحب النص‮« ‬الذي‮ ‬يغامر برواية سيرية،‮ ‬تراوح بين سطوة‮ »‬النص الأيدلوجي‮« ‬والمغالاة في‮ ‬السرد بنبرة شعرية،‮ ‬أو بلغة ترميزية‮ ‬يتموضع بها على مسافة من الواقع،‮ ‬إذ لا‮ ‬يسمي‮ ‬الأشياء إلا من وراء مواربات‮ ‬غشاء أدبي،‮ ‬ومن خلال إسقاطات نفسية وتاريخية متعددة،‮ ‬وهو ما أسبغ‮ ‬على الفحوى الاجتماعية والسياسية للرواية سمة الموضوعات أو المفاهيم،‮ ‬فالذات بقدر ما تنروي‮ ‬داخل عناوين عريضة،‮ ‬تفاوض الأصدقاء والأماكن حتى على منسوب حضورهم،‮ ‬أو المسافة التي‮ ‬يتوجب عليهم قياسها نحوه،‮ ‬في‮ ‬نص الحياة،‮ ‬وما تشترطه مواضعات الرواية،‮ ‬رغم إشارات الراوي‮ ‬إلى عدم قدرته على التحكم في‮ ‬شخوصه كاندساسات عزة المباغتة،‮ ‬وغناء جعفر الهجري‮ ‬لقصائده في‮ ‬المعتقل‮.‬
إذا،‮ ‬ثمة تجاذب حاد بين ميثاق السيرة المعاش،‮ ‬وما تريد‮ »‬الأنا المثقفة‮« ‬إثباته أدبيا،‮ ‬دون أن‮ ‬ينحسم السرد لأي‮ ‬جانب،‮ ‬فالغيمة الرصاصية كنص محتشد بالخبرات اللغوية واللا لغوية،‮ ‬يتمدد خارج بناه التركيبية والتقنية‮. ‬وبمحاولات التفافية لتأوينه ضمن مدارات جمالية أوسع،‮ ‬يختبر الدميني‮ ‬منسوب حاجته إلى الوضوح والمدلولية في‮ ‬آن،‮ ‬دون انحراف عن الظروف الموضوعية التي‮ ‬استولدته،‮ ‬وذلك هو ما‮ ‬يفسر انفتاح مسامات النص على السجال كمعادل لما تطلبه الرواية من حوارية تعكس التعدد والتنوع،‮ ‬فالحداثة مثلا،‮ ‬لا تنطرح كموضوع‮ ‬يتم التجادل بشأنه داخل الرواية وحسب،‮ ‬بل هي‮ ‬النسق الذي‮ ‬تم بموجبه تركيب‮ »‬الغيمة الرصاصية‮« ‬لاختراق واقع متخثر‮.‬
ولأنها كتابة من خارج الحدث،‮ ‬تصفه بعد انقضائه،‮ ‬لم تتكامل مركبات النص في‮ ‬لحمة عضوية،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬سمح بإعادة بناء مفاصل،‮ ‬أو تدبير حوارات بشكل‮ ‬غامض،‮ ‬وإطلاق مسميات مموهة،‮ ‬لم تصمد أمام عناوين الحياة الملموسة،‮ ‬انطلاقا من وعي‮ ‬السارد بأن ما‮ ‬يقع خارج النص‮ » ‬يتماهى مع الداخل في‮ ‬لحظة مؤاتية معينة ليصبحا تشكيلة واحدة‮« ‬فروح الرواية تشير إلى انكتابها بعد انقشاع‮ ‬غيمة حرب الخليج الرصاصية،‮ ‬من خلال ذاكرة‮ - ‬لا شعورية‮ - ‬معوّقة بسطوة وعي‮ ‬أيدلوجي،‮ ‬أو مثقلة باللهاث وراء الحدث‮.‬
إنها رواية تعيش في‮ ‬قلب الأزمنة وتعكس الحداثة الاجتماعية في‮ ‬آن،‮ ‬بل إن راويها كائن مسكون بنزعة التغيير،‮ ‬وعلى درجة من الوعي‮ ‬بأنه‮ ‬يعبر لحظة اجتماعية متغيرة،‮ ‬أو هذا ما‮ ‬يحاوله داخل الرواية وخارجها،‮ ‬وبموجب هذا التعقيد الأسلوبي‮ ‬كتبت،‮ ‬حيث التقصد الصريح والدائم لتفتيت الحبكة،‮ ‬ومخاصمة السرد لمحسوسية صور الواقع،‮ ‬والميل إلى ما‮ ‬يسمى بالأساطير التأليفية أحيانا كما حاولها مع شخصية ابن عيدان،‮ ‬وكأن مادية نص الحياة أقل جاذبية مما تعكسه الأوهام على شاشة الذهن‮.‬
ولأنها رواية تنهض على النزعة الفردانية،‮ ‬تم تكديس عناصر السرد في‮ ‬تابوت ورقي‮ ‬تلتف حوله أحلام سهل الجبلي،‮ ‬الذي‮ ‬يروي‮ ‬جانبا من خيباته وتطلعاته بنبرة شخصانية،‮ ‬فيها من العناد والتحدي‮ ‬ما‮ ‬يصيب حميمية البوح الذاتي‮ ‬بشيء من الخفوت،‮ ‬حتى زوجته‮ »‬هذه المرأة المنسوجة من نصوص متعددة‮« ‬لا تحضر إلا للتدليل على التضاد بين نص أدبي‮ ‬يمارس تلفته الدائم إلى الوراء،‮ ‬ونص الحياة كما‮ ‬يتحشد في‮ ‬كائن‮ ‬يتحول السرد كلما ارتطم به إلى كتلة من المفاهيم،‮ ‬حيث الأفكار المدبرة وحالات التذكر التفصيلية،‮ ‬فيما‮ ‬يشبه المرافعة الحقوقية عن بطل‮ ‬يوحي‮ ‬اسمه اللا شخصي‮ ‬أيضا،‮ ‬بنزعة الخروج على الواقع،‮ ‬وينقسم بدوره‮ - ‬حتى على مستوى الإسم‮ - ‬إلى نصين متناظرين،‮ ‬تترتب على اثرهما دلالات سرد‮ ‬يشتق روحه من تضاريس التقابل بين الرقة والصلابة،‮ ‬كما عبر عن رمزية الاسم بشجرة لا تستحق الحياة لأنها‮ »‬لا تستطيع امتصاص الماء من قلب الصخر والرمل‮«‬‭.‬
إذاً،‮ ‬تسلط الوعي‮ ‬السياسي‮ ‬على السرد،‮ ‬مرتدا إلى جدلية تاريخية،‮ ‬تعزز من ارتباط النص الكلي‮ ‬بشخصية نضالية مطمورة تحت طيات كثيفة من التوريات المجازية،‮ ‬فسهيل الجبلي‮ ‬هو الشكل الاستظهاري‮ ‬لشخصية مقدودة من الواقع،‮ ‬تمتلك من الطباع والأفكار وإلحاحية الرغبة في‮ ‬الممارسة ما‮ ‬يستوجب فرض سلطتها المعنوية على شبكة العلاقات الرابطة بين الشخصيات،‮ ‬وهو ما‮ ‬يفسر انفراطها،‮ ‬أو تبددها في‮ ‬الضمائر،‮ ‬بأنوية أقرب إلى‮ »‬الأنا الغفل‮« ‬أو الكائن كلي‮ ‬القوة والدراية‮.‬
هكذا استقطبت أنا الدميني‮ ‬كل عناصر السرد،‮ ‬لدرجة أن شخصية سهل الجبلي‮ ‬كانت تطفو فوق النص ولا تذوب داخل سياقاته،‮ ‬فيما‮ ‬يبدو انقلاباً‮ ‬على شاعرية نص أريد أن‮ ‬يحتله الأطفال بحراكهم في‮ ‬كل مكان حتى في‮ ‬حبر الكتابة‮ »‬فالنص لم‮ ‬يهبط من عليائه ليجادل الواقع،‮ ‬ولم‮ ‬يتلاش فيه،‮ ‬بقدر ما أبقى السؤال معلقا‮« ‬عمن‮ ‬يخون النص ومن‮ ‬يفي‮ ‬له،‮ ‬الذي‮ ‬حرض عليه؟ كاتبه‮.. ‬بطل حكايته‮.. ‬أم هو مؤوله؟

الأيام
19 – 6 - 2005


أقرأ أيضا: