شاكر الأنباري
(العراق)

شعراء البصرة يتوارثون الرحيل والألم والحزن, وهم بلا ألقاب, وينشدون دائماً من دون وصايا. شعراء الجنوب العتيد الذين يغرقون في عزلتهم الزمردية, بعد ان هدمت البصرة مرات ثم أعيد بناؤها. الزبير وأم قصر والفاو والأزقة العتيقة, وهي على مر أزمانها كثيراً ما تبنى في البدء عبر النص واللغة, منذ رفعها الحسن البصري الى رحاب التصوف, مروراً بالسياب الذي أوصل نهر جيكور الى تخوم الأسطورة, ومنذ ان احتال سعدي يوسف على شناشيلها, دائراً بها بين المدن والقارات. شعراء البصرة هؤلاء معظمهم لم يبلغ الأربعين, لكن دماءهم معتقة برحيل الموانئ وهي تفجع الأحياء بأحبتهم, حيث يحكمهم فضاء شعري واحد تقريباً, له النكهة ذاتها. ابتعدوا جميعاً عن بنية القصيدة الموزونة فجاءت القصائد نثرية, تقدم نفسها الى القارئ عبر الصورة الشعرية واللقطة والمفارقة وبلاغة اللغة. تلك البلاغة الحاملة روح الشعر داخل القصائد أضفت سمة متشابهة على مجملها.

الشعراء الستة: كريم جخيور وفرات الصالح وعمار علي كاصد وعلي عيدان عبدالله وهاشم تايه وعادل مردان, عنونوا كتابهم الشعري"عزلة من زمرد", وصدر عن "اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين" في البصرة, 2004. إنهم كتبوا نصوصهم بعد انهيارات العراق الاجتماعية والروحية, ويترشح من شعرهم, وان في شكل خافت, تاريخ طويل من الماضي, يمتد أحيانا كي يصل الى انكيدو وأوروك وبطل سومر الأسطوري جلجامش. ورموز مثل عبدالكريم قاسم وسيدوري السومرية ووحش العوجة تحضر في النص لتعطيه بعداً بصرياً واضحاً, بل وعراقياً لا يغفل... "ها هي ذي اوروك/ مدينة في فضاء/ من السحر والأنوار/ أبراج عالية/ حرس/ وآلة حرب/ وشعب مطي...ع", يقول عمار علي كاصد في قصيدته "انكيدو", وكأنه يربط الليلة العراقية الحاضرة بذلك الزمن البعيد, زمن أوروك التي خنعت طويلاً تحت نير جلجامش, انه يشبه ابن العوجة, الذي تحدث العالم عن سقوطه المدوي, في قصيدة فرات صالح المعنونة "وحش الأسماء": "ثلاثة أشهر مرت/ ولم يعد ابني يتذكر/ شكل وحش العوجة/ أربعون عاماً/ وعلى رغم أني ولدت يوم مقتله/ لم انس صورة الزعيم". والزعيم هو عبدالكريم قاسم, أما وحش العوجة فمعروف.

"عزلة من زمرد" ديوان شعري جماعي, يعكس آخر ما وصلته القصيدة العراقية من طرائق الكتابة ولها علاقة واضحة بقصيدة النثر العربية, الشائعة اليوم, وفي وجه التحديد في الجو اللبناني, مع لمسات ادونيسية لا تغفل, مع تأثير ملحوظ لتراجم قصيدة النثر العالمية. فهي تقطع مع الموروث السيابي على مستوى الجملة والإيقاع, وان ظلت وفية للإحزان الجنوبية ولتوق الانسان البصري خصوصاً الى الانفلات من زمنيـــة الصـــورة الشعرية. والشعراء الستة خرجوا من بيداء قصائد المديح والرثاء والتبجح ومقص الرقيب, وكل ما حكم الشعر العراقي من أوبئة نشرتها سلطة ثقافية جاهلة ومسخّرة لخدمة الحكام, ليتجهوا الى كتابة نص شعـــري خالـــص, لا يحمل أي رسالة سياسـيـة أو إيديولوجية.

شعر خال من الشعارات الكبيرة, بل ومن مآسي الحروب الفاقعة, اذ نبذها خلفه متجهاً, لدى معظم الشعراء, الى حزن شفيف, والى بوح شخصي لآلام روحية غائرة, لا تخاف العودة الى أحداث التاريخ لتستوحي تشابهاتها. ثمة غربة روحية لدى الجميع وليست استعادة "أوروك" كمدينة للحلم في عدد من النصوص سوى تأبيد لتلك الغربة عن حاضر لا يحبذ الشعر.

الشاعر سيموت يأساً, ويموت حباً, فالواقع يطلب منه ان يتناثر رماداً لكي يرتفع بهذا الانسان فوق جحيمه اليومية, الجحيم المصنوعة من فوضى عارمة, من دماء وانفجارات وهجرات ودورات للموت والعنف. إنها محاولة للارتقاء نحو عالم صاف, من الغزل والقبل والانسجام. كريم جخيور يحلم بالحبيبة, بالمرقد الدافئ الذي ينام فيه بعيداً من بؤس الوطن وحروبه وتفاصيل حياته المصنوعة من شظايا تخترم الشعر كل يوم. الشعر في حياة غير شعرية على الإطلاق, والإنسان يسقط كل لحظة في أفخاخ موت معلن. إذا, ما الذي يتبقى للقصيدة؟ ما الذي يفعله الشعراء إذا تعذرت الحياة؟ هذا مـا يريد ان يحققه شعراء البصرة الستة.

عبر الكلمات يمكن الانسان ولو ضحك على نفسه ان يشيد عالماً آخر, عالم الألوان والمشاعر الناعمة والهيمانـات المنفلتة آخر الليل. يحمل شعراء البصرة عالمهم الى لغة حالمة وزلقة وينحتون وطناً بديلاً في مدينة اللامكان. إنهم يوحون ولا يصرحون, فمن أين تأتي تلك الأشباح؟ قال من دون ان يعرف من أين تأتي, ففي العراق لكل امرئ شبحه, ولكل شاعر مدينته, المثال المحلوم بها, وهي تكون أحيانا اوروك وأحياناً بغداد وأحياناً بصرياثا (محمد خضير), فذلك الطريق البعيد في الليل كما يقول علي عيدان عبدالله يمتد في كل الاتجاهات. لا يحلم شعراء البصرة ببغداد الحاضر أو البصرة, بل بأوروك دائماً, عاصمة الجنوب المتحول من حضارة وملوك عظام الى مدن صفيح ومقابر جماعية وخوذ جنود محتلين وأشعة قاتلة. اوروك إذا تحولت عند معظم الشعراء الستة الى رمز, فهي جبلت أصولها في هدير الطوفان, وهي من ألم وضوء, وتشرب المنايا نخبها.

الحياة 2004/05/23


إقرأ أيضاً: