محمد الحجيري
(لبنان)

كيف نقرأ حياة الأديبة مي زيادة وعلاقاتها مع الأدباء والمفكرين وغيرهم من الناس؟! هل كانت حياتها على قدر من (الصخب) في العشق أم أن ما قيل ويقال حول الموضوع محض إشاعات وتركيبات قام بها البعض من الصحافيين والكتّاب. الأرجح أن الإجابة عن الموضوع معقدة بتعقيد حياة مي نفسها، لنقل ذلك قبل الدخول في عرض كتاب فاروق سعد (السر الموزع للآنسة مي) والذي يحاول فيه المؤلف الغوص في غمر علاقات مي وحياتها، فيجد أن ما كُتب وعرف عن سيرتها، حقائق كانت أم إشاعات، ظل ضمن نطاق ما حوته الرسائل المتبادلة بينها وبين أعلام الأدب في مصر ولبنان. وقد ركزت الكتابات على الطور الذي عاشته من حياتها بعد انتقالها برفقة والديها للإقامة في مصر في منتصف 1907، حيث أسعفها ثراء أهلها في افتتاح صالونها الأدبي، وتقديم حفلات الشاي أثناء المناظرات الفكرية والأدبية، وتوفير الراحة لعشرات الوافدين خاصة الأدباء الذين كثرت التأويلات والإشاعات حول علاقتهم بي وعلاقتها بهم، وهي تراوحت بين الاستلطاف والانسجام والغرام الى حد العشق، وتضاربت بين الظن والتأكيد. لم تذهب الكتابات في تبيان علاقات مي مع الناس العاديين (غير الأدباء)، وكأن أهل الأدب وحدهم (محصورة بهم بالذات المؤهلات الدونجوانية) بتعبير فاروق سعد، ليكونوا فرسان أحلام الصبايا، لمجرد أنهم يتوهمون أو يتخيلون ذلك أو يوحون به، أو ينسب إليهم(!) حتى بعد وفاة مي أطلق عدد من الكتّاب أعنّة أخيلتهم في تركيب الأخبار والروايات عن غراميات مزعومة لمي، ومن نسج الخيال، ولو عاشت مي، (يقول فاروق سعد) وقرأت الحلقات المتسلسة التي نشرها كامل الشناوي تحت عنوان (الذين أحبوا مي)، وما تضمنه من مزاعم عن علاقات مي العاطفية بزوار صالونها الأدبي، لأقفلت باب منزلها في وجههم(!).

ابن العم

لا ضير في القول ان غراميات مي، مهما كانت، تبدو شائكة إذا ما تأملنا في تجلياتها وبين سطورها.
يوم كانت مي قد ناهزت الخامسة عشرة من عمرها ولا تزال تدرس في مدرسة راهبات الزيارة في عينطورة، فإذا بها تنتحل اسم (كنار) لتوقع به رسائل غرامية تتأجج فيها الأشواق والمشاعر العاطفية، لترسلها الى نسيبها نعوم الذي كان يتعلم في مدرسة مجاورة. وكان نعوم (ابن عمها) يبادل المرسلة كنار رسائلها دون أن يدري الهوية الحقيقية لمراسلته. وربما كان يدري من هي وكتمها في نفسه الى حين، ولعله كان يضع مراسلته تحت الاختبار. فهو خطبها في ما بعد، في أواخر حزيران عام 1905 حين قدم والدها الى لبنان للاحتفال
بخطبتها. وبدت يوم الاحتفال سعيدة، وجدت في الاحتفاظ بشرعية علاقتها بنعوم تحقيقا لاستقلال شخصيتها، وأعلنت الخطبة، وأخذت مي بلطف نعوم وأعجبت برسائله ثم أصيبت بخيبة أمل دعتها الى إلغاء الخطبة في أواخر صيف 1905. والسبب بزعم البعض هو أنه تبين لديها ان نعوما كان يستكتب صديقه يوسف الحويك لتدبيج رسائل حب تستهويها وترضيها لعجزه عن كتابة ما يستدر إعجابها. والذي ذكرناه هو حب مي الأول، فالكاتب شبل خوري يروي واقعة جديدة مغايرة تماما للرواية المذكورة، ليست فيها مي الرافضة بل المرفوضة؟ فيبدو أنها منيت بإحباط عاطفي في حبها الأول، وهو كان لابن عمها جوزف، ففي رسالة اليه، مؤرخة في منتصف الثلاثينيات وتقول (... أنا يا جوزف وحيدة، فأتوسل إليك أن تأتي إلي. لا تخف على زوجتك فإن الله سيشفيها، ولا على أطفالك فإن الله سيحميهم، تعال إلي لأني محتاجة إليك أكثر منهم. (...) لم أعد أطيق هذا الشعور بالغربة خارج الحدود والزمان دون أن أدرك الباعث اليه (...) تعال يا جوزف لتعلمني بذنبي، وتقتلني، وتصفح عني صفحا أخويا). يسأل فاروق سعد: ألا يلوح في هذه الرسالة ما هو أبعد من ارتفاع العاطفة.. ألا يمكن أن يكون جوزف هو فتى الأحلام لمي التي آثرته على أخويه نعوم ولويس، وهو كان وسيما يدرس الطب في بيروت، ويحب الأدب، ويؤكد أهلوها أنها كانت تتوقع أن يخطبها، غير أنه كان عازما على السفر الى فرنسا، ولا يفكر بالزواج، وإن والده اقترح على والد مي ان يخطبها الى ابنه البكر نعوم. هكذا خذل جوزف ابنة عمه وسافر الى فرنسا!! ثم كانت خطوبة مي الى ابن عمها نعوم على أمل أن يكون البديل.. وكان ما آلت اليه هذه الخطوبة من فشل ذريع انتهى بفسخها؟ هذا ما كان من أمر مي، التي سارت في درب العنوسة في حين تزوج جوزف من امرأة فرنسية.

والشخصية التي تلفت الاهتمام بعد شخصية الدكتور جوزف (ابن عم مي)، هي شخصية فاكر بك المصري الذي خصها شبل خوري أيضا بصفحات من جوانب سيرة مي. للوهلة الأولى يُظن أن فاكر بك هو الكاتب أحمد لطفي السيد الذي أجمعت المراجع في سيرة مي على أنه تعرف إليها في لبنان في خلال صيف سنة 1911. وهو (أي فاكر) كان يحبها وينهزم من أسباب لقائها، فإذا وقع نظره على مقالة مذيلة باسمها ترك الصحيفة من يده كأنها تندلع بين يديه، ولكن ليس هناك من مصادر ملموسة تؤكد أن فاكر هو لطفي السيد.

أستاذ الجيل

هناك الكثير من الأسماء في حياة مي العاطفية، لكن شهرتها بقيت مع الأدباء الذين يأتون الى صالونها الأدبي يجدون فيها نبض الحياة. فهي عروس زفوها الى ألف حبيب، أحبها الأدباء، بعضهم ادعى أنها عشقته والبعض الآخر طلب الزواج منها ورفضت، وثمة من اخترع حباً معها من عندياته، وإذا ما تأملنا في رسائلهم الى مي نستنبط الكثير من المعاني والمسوغات. ففي الرسائل الموجهة من أحمد لطفي السيد الى مي تستوقفنا عبارات السيد: (جاءني كتابك، فشممته ملياً، وقرأته هنيئاً مريئاً). وسواء أكانت رسالة مي الى أحمد لطفي السيد معطرة أو غير معطرة فإنها تبقى مشمومة يعبر شمّها ملياً عن حالة اصطلح على تسميتها (الفيتشية)، وقد شرح فرويد معناها فبين أنها تلك: (التي يستبدل فيها الموضوع الجنسي السوي بموضوع آخر متصل به ولكنه غير موائم على الإطلاق للهدف الجنسي السوي). على أن الشم يعيد الى العقل ذكرى منظر كان الانسان قد نسيه، ولا تقتصر استعادة الذكرى على المنظر فقط، ولكنها تتعداه الى تذكر الإحساسات التي سيطرت على المرء في ذلك الوقت.

لم يكن فعل أحمد لطفي السيد يقتصر على شم رسائل مي، فنقرأ له عبارات في إحدى رسائله إليها تتجاوز حدود البوح بالغرام عندما يخاطبها فيها: (أنا لا أطرد الطيور إكراماً لخاطر كنارك الصغير، ولا أهيج الحمام إكراماً لما اشتهر به من معنى الوفاء، وحسن العشرة، (...) فطالما أصليت صغار الطير ناراً حامية من بندقيتي لا لآكل لحمها، بل لألعب بالنفوس البريئة التي هي مثلي لها حق في الحياة)!

لا ريب في أن مي شعرت بحرج كبير إزاء رسائل أستاذ الجيل، ولكنها كعادتها، كانت تتجاهل الأمر وتسكت عن الجواب، حتى في مواضيع الفكر والأدب التي كان يثيرها ثم ينتقل منها الي الإفاضة بما في نفسه، الى أن يرتدع عن الإسراف في البوح والافتتان بها. فهو في إحدى رسائله يصف فيها قلمه الجسور بالقول: (فاعذري قلماً حساساً غيوراً طماعاً أن يجري الى من يحب كالسيل المتدفق). لا يشير السيد الى حبه بالإشارات بل بالعبارات الواضحة المتدفقة. وعلى اثر نشر رسائل السيد في مجلة (الهلال) كتب العقاد (.. ولو جمعت الرسائل التي كتبتها مي أو كتبت إليها من نوع هذا الأدب الخاص لتمت بها ذخيرة لا نظير لها في آدابنا العربية).

تحت قدميك

وكان ولي الدين يكن واحدا من أولئك الأدباء الذين ربطت بينهم وبين مي صداقة وطيدة، ولم يقف الأمر عندهم عند الإعجاب بل تجاوزه، لقد بلغ الهيام والضنى وعقدة الشعور بالاضطهاد العاطفي لدى ولي الدين يكن تجاه مي الى درجة جعلته على صورة فوتوغرافية له أهداها لها:

(كل شيء يا مي عندك غال/ غير أني وحدي لديك رخيص). كانت تشعر بهيام ولي الدين لها، وصدق عاطفته نحوها، ولكن هذا الشعور، وان لم يلق تجاوباً من مي، فإنه لم يغضبها، ولم يحرجها، ولم يحملها على تجافي يكن. بل انها تصرفت بلباقة على نحو جعلته يقتنع دون ان تمس مشاعره واعتداده بنفسه، بأن هذا الهيام من جانب واحد، ولا مانع في ان يبقى كذلك دون أمل في أن يلقى تجاوباً في المستقبل. ولعل هذا ينطبق أيضا على موقف مي من الكثيرين من الأدباء أمثال شبلي شميل وأحمد لطفي السيد.
 
لقد كان ولي الدين يكن واحداً من أولئك الأدباء الكهول الذين ترددوا على صالون مي، ويعتزون بصداقتها وأناقتها، حتى خيل الى بعضهم أنها تبادلهم إحساسهم، فكانوا يقدمون في رسائلهم ومقالاتهم (قرابين هواهم الى هيئتها وهي لا تصدهم ولا تمنيهم أمام القربان) بتعبير الكاتبة وداد سكاكيني. والواقع ان الرسائل التي وجهها ولي الدين يكن الى مي قد ضمت أحيانا من التذلل إليها ما تجاوز شعره فيها، وكان يسرف في هذا التذلل الى حد يبدو أنه كان يتلذذ به، لاسترضاء مي الى درجة التصريح بتقبيل قدميها بكل إجلال حيث ختم رسالته المؤرخة 4 تشرين الثاني سنة 1015 بعبارة: (أقبّل الأقدام بكل إجلال).
أما مصطفى صادق الرافعي فقد زار مياً للمرة الأولى في صالونها سنة 1923 وكان قد ناهز الثانية والأربعين، وقد بالغ بعض الكتاب في وصف مشاعر الرافعي تجاه مي، ومن ذلك ما ذكره كامل الشناوي في كتابه (الذين أحبوا مي)، عندما زعم ان الرافعي قد (جن بمي غراما.. وفكر ان يتخذها ضرة لزوجته.. بل انه كتب أوراقا كالتميمة ظن أنها تجلب له قلب مي وتحببها فيه وعلقها على سارية بأعلى منزله..). وكتب محمد سعيد العريان ان الرافعي أحب مياً (حباً عنيفاً جارفاً لا يقف في سبيله شيء، ولكنه حب ليس من حب الناس، حب فوق الشهوات والغايات الدنيا، لأنه ليس له مدى ولا غاية) الخ.. لكن سلمى الحفار الكزبري حاولت حسم الجدل في علاقة الرافعي بمي، عندها كتبت، ان الأمر لا يعدو كونه اندفاعا عاطفيا من الرافعي قابلته مي بلياقة، كما كان الحال بين مي ومن عرفتهم من أهل الثقافة. شأن سلامة موسى (مثلا!) الذي قدم من لندن مصمماً على التعرف الى مي، التي كانت في ذهنه (صورة الفتاة الجميلة الحلوة التي تتدلل وتتحدث في تأنق عن النزعات والمذاهب الأدبية والفلسفية). وأصبح سلامة يلتقيها، بعد أن تولى الإشراف على جريدة (المحروسة)، إلا أنه لم يبلغ درجة المراسلة الحميمة مع مي كما حظي بذلك الأدباء اللامعون أمثال ولي الدين يكن، عباس العقاد، انطوت الجميل، وأحمد لطفي السيد. وعلينا أن نشير هنا الى أن خليل مطران وانطوان الجميل رغبا في الزواج من مي، وأخفقا في تحقيق تلك الرغبة إذ ظلا في حياتهما عازبين مثلها! أما علاقة العقاد بمي فهي تزخر بالمزاعم والتناقضات بين رواية وأخرى.

الحب الأدبي

على أن العلاقة الأكثر شهرة كانت بين مي وجبران، يوم أرسلت مي أول رسالة الى جبران كانت قد بلغت السادسة والعشرين من العمر. وقد أخذت تلوح تباشير ذيوع اسمها كأديبة تكتب باللغتين الفرنسية والعربية وبأسماء مستعارة كثيرة، وتوطدت ثقتها بمستقبلها الأدبي. والأمر الذي علينا التأمل في ثناياه هو العلاقة الشهيرة بين مي وجبران، والتي كثيرا ما نتماثل بها في اعتبارها ذروة الحب، لم تخرج في الواقع عن حدود الورق وبالتحديد ورق الرسائل المتبادلة بينهما على مدى سنوات. ولئن احتفظت مي برسائل جبران الست والثلاثين، والتي صدرت في كتاب تحت عنوان (الشعلة الزرقاء)، فقد كان جبران عزاءها الوحيد في أحلك أيامها، وقد وُجدت بين أوراقها صورة له كتبت عليها بالانكليزية (هذه مصيبتي منذ أعوام).

يبدو أن رسائل جبران سحرت مي وجعلتها تتعلق به أكثر، ولئن كانت قد انفصلت يوما ما، عن خطيبها (ابن عمها) لأنها اكتشفت ان صديقه يساعده في كتابة رسائله الغرامية إليها، فهي الخجولة الجميلة، أحبت جبران دون أن تعرفه. نقرأ ذلك من خلال رسائل مي التي جمعها الدارسون والتي تدل على حب تصاعدت وثائر كلماته من العام 1912 حتى منتصف العشرينيات. والحال ان السنوات الأولى من مراسلات الأديبين، أي من العام 1912 الى العام 1918، تميزت بطابع الصداقة الأدبية، بيد ان انعطافا جديدا بدا حين طلب جبران من مي ان تخاطب بما فيها من حسن أنثوي، كانت أخفته وراء نقاب الباحثة والناقدة. وأمكن جبران بلفتته الشعرية أن يأخذ مي الى مظهر العواطف الذي يستعر قويا في أدبياته الى أن وصلت مي الى البوح بحبها من خلال إحدى رسائلها، وحين أيقنت ان هذه الرسالة لم تلق الجواب الذي يرضيها سارعت الى سلوك سبيل آخر، في مراسلاتها معه، فبعدما قالت له سابقا (أعرف أنك محبوبي)، وبعدما اعتبرته ملاذها، خاطبته بقولها (صديقي يا جبران).

من المواضيع اللافتة التي نجدها بين مي وجبران، موضوع الزواج الذي لم تكن مي تتفق بشأنه مع جبران، فالزواج في عقيدتها هو وحده ما يبرر الحب في حين ان الحب إثم إذا لم يكن مرتبطا بالزواج حسب مفهومها له الناجم عن تربيتها الدينية والتقاليد الموروثة. أما موقف جبران من الزواج فكان سلبيا مع جميع من عرفهن من النساء انتهاء بميشلين وتيللر وماري هاسكل، وهذه الأخيرة كانت أكدت سنة 1912 في يومياتها أن جبران عرض عليها سنة 1910 الزواج ورفضت هذا العرض، وفي هذه الفترة تقريبا، كانت مي قد بدأت تراسل جبران، والحال ان هذه المراسلات، استنادا الى ما نعرفه عن حياة مي وظروفها، نجد أن مطمع مي في جبران كان مختلفا عن طموح الأخير في مي، فالكاتبة تصب كيانها في رسائل الشوق الى جبران، وتلح في حثه على زيارة لبنان أو البلاد العربية أو الدول الأوروبية، تحرقا الى اللقاء به وحسما للعلاقة على ما ترجوه. في المقابل رأينا رسائل جبران الى مي قد فاضت بجمل التمني والشرط، الا انها كانت تنطوي على معنى خفي واحد، هو أن كاتبها لن يعمد الى إنفاد هذه التمنيات بحجة علاقاته الكثيرة هنا، وعلى هذا، ورغم لقاءات جبران مع من راسلهن من النساء في الولايات المتحدة وخارجها، واستحالة اللقاءات بينه وبين مي التي تبادل الرسائل معها، استمرت عواطف مي تتدفق منهمرة على صفحات الرسائل المتبادلة بينها وبين جبران، حيث نرى هذه العواطف تصل الى الأوج في رسالة أرسلتها مي الى جبران في 15 كانون الثاني 1924، وكانت مي على مشارف الأربعين تقول فيها: (جبران، لا تحايد كلمة الحب (...) ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي واني أخاف الحب). وبعد هذا بادرت مي الى إرسال رسالة تتحدث فيها عن قصها شعرها رغم أنها كانت قد بدت ذات شعر قصير في الصور الفوتوغرافية التي نشرت لها في الصحف قبل سنوات (!) فإنها لم تتردد في الكتابة الى جبران في 9 كانون الثاني 1925 رسالة تروي فيها أنها مؤخرا قد قصت شعرها على طراز غلامي (صبياني) وتتحدث عن نفسها في هذه الرسالة وكأنها فتاة مراهقة لم تتجاوز السادسة عشرة من العمر، وهي التي في الأربعين. وهنا يرجح فاروق سعد أن مي خالت نفسها انها ما زالت تلك الفتاة أو الصبية المراهقة يوم كانت تكتب باسم (كنار) أو (عائدة). ولا ريب في ان ما كانت تقابل به مي في صالونها من تقدير وإعجاب زائريها، وما يوجهونه إليها من مدائح وتقريظ، قد عزز في نفسها الشعور الدائم بفتوتها وصباها، الى أن أتى حين طغى فيه هذا الشعور، من جراء تلك النرجسية، على علاقة مي بالرجال الذين كانوا حولها، وتجلى هذا الشعور في مخاطبتها لهم وكتابتها إليهم، هذه النرجسية هي نفسها تجلت في تصرفاتها إزاء بنات جنسها وكتاباتها إليهن.

ويعاد طرح السؤال: هل كانت مي تعرف أن النسوة اللواتي كن على علاقة بجبران بصرف النظر عن طبيعة هذه العلاقة كان شعرهن جميعا قصيرا رغم أنهن كن يكبرنه سنا: حلا الضاهر بسنتين، سلطانة ثابت بخمس عشرة سنة، جوزفين بيبودي بعشر سنوات، ميشلين بأكثر من سنة، ماري هاسكل بعشر سنوات، ماري قهوجي بأربع سنوات، ولم يكن بينهن واحدة ذات جدائل أو شعر طويل تماما!.

ليالي العصفورية

ويبقى أن نقول انه رغم صيت مي في العلاقات مع الأدباء والمفكرين فهي لم تتزوج، فبعد صدمتها العاطفية الأولى في خلال سنوات مراهقتها بانصراف ابن عمها جوزف الى متابعة دراسة الطب وفشلها في خطوبتها من البديل شقيقه نعوم، لم تجد بين جميع من عرفتهم من يستأهلها سوى جبران، الا ان علاقتهما الغرامية كانت قائمة على الوهم. وهكذا بعد أن بلغت من سن الرشد، أغدقت في الحب على جسدها بالذات دون موضوع جنسي آخر. في المقابل كان يجد فيها جبران المرأة الشرقية المتفهمة والأديبة والمحبة والمبادرة، كان يجد فيها نوعا من التعويض عن علاقاته النسوية غير السوية، في نيويورك وأماكن أخرى.

ونعلم ان مي زيادة بعد (طول باع) في أمور الحياة، راحت تداوي الحزن الذي حل بها بالشعر حينا وبالسفر الى الدول الأوروبية، إلا ان كآبتها سرعان ما كانت تعاودها، حالما تحط رحالها. وهذه الكآبة التي وصلت أخبارها الى أقرباء لها في لبنان مضخمة، مما أثارت (بلبلة) بين عائلتها التي زاد حرصها على صحتها ما تناهى الى سماعها ان مي عازمة على التوصية بمكتبتها بعد مماتها الى الأمة المصرية والأمة اللبنانية. وعندئذ سافر الدكتور جوزف زيادة (عشيقها في المراهقة)، على ما تروي مي، الى القاهرة وبرفقته محامون وكتّاب، وأقنعها بضرورة توقيع صك التخلي عن ملكية كُتبها الى آل زيادة. وبعد توقيعها، أقنعها بالسفر الى لبنان والإقامة في منزله، ترويحا لها عن آلامها، وبعد أيام من قدومها الى لبنان، عمد جوزف زيادة الى وضعها في مستشفى الأمراض العقلية (العصفورية) زاعما أنها تعاني اضطرابات عقلية تستدعي علاجا دائما. فبعد فشلها في حب جوزف، أتى جوزف نفسه وأدخلها المستشفى لتكتمل رحلة عذاب خطت مي سطوره في كتاب (ليالي العصفورية) الذي توارت مخطوطته عن الأنظار ولم تزل.

السفير- 2003/09/19


إقرأ أيضاً:-