شاعرية القلق والأسئلة

حنان عاد

ماء ورماد"في عمق أعماقنا، نعرف إننا نمضي وحيدين (...) وكذا القصيدة، مثل كريستال من الثلج فريد، تلبث وحيدة (...) على الورقة، اكتشفها، أتأمل مخمل ابتسامتها الأولى، وتعبرني رجفة حنونة من الدهشة، اكتشف ذاك الجزء من ذاتي وقد تحرر لاثماً وجوده الخاص، يتنفس، تغرقني أنفاسه في خواء عظيم، في صمت بصري". انه بعض من المقدمة التي مهّدت بها عائشة ارناؤوط لمجموعتها الشعرية "ماء ورماد"  وهي الثانية بالفرنسية بعد مجموعات عديدة صدرت لها بالعربية.
تخط ارناؤوط القصيدة مدركة ما تنطوي عليه من قدرة على إبهار وتحرير، وعلى سبر أغوار الذات للعثور على خفاياها، وإخراجها إلى الضوء نبض كلمات وصور ومشاعر. وخصّت ما يمكن تسميته "صناعة" القصيدة بنص يجسد "نسج ذبذبات الحروف الصائتة (Voyelles) وذرّات الحروف الصوامت" في سبيل "ترميم الرماد/ والمضي إلى ابعد/ حيث النواة المشتركة/ لمِرْقَدَة الموتى". وتصور في مشهدية جاذبة المناخ الداخلي لما قبل ولادة القصيدة، فيتداخل الإصغاء إلى الذات مع البحث عن الكلمات وان "بلا وجهة محددة ولا ظلال ولا صدى". وتوحي بعبثية جميلة تفضح بها العلاقة مع اللغة وفعل الكتابة وقد لا يبزغ الكلام إلا مع اللايقين، و"يتقلص الأفق / ما ان ندجِّن كلمة". وتغوص أعمق في الحالات اللامرئية التي تولّدها عملية الكتابة، فتروح تضيء على تفاعلات الذات الكاتبة مع العناصر المحيطة بها. تنقل الاختلاجات الداخلية بدقة رسّام ماهر تظهر ريشته منمنمات الأحاسيس وأعظمها على حد سواء، ليس إلا لاكتمال اللوحة واستوائها في النضج المرتجى. وكذا تفلح الشاعرة في تحميل القصيدة كل مناخات ولادتها، وبالتالي مراحل الألم التي يعبر فيها كاتبها قبل ان تمسي كياناً قائماً في ذاته: "لأكتب/ عليّ أن أعجن الزمن/ أن أزيل الفضاء". ولا تقف معاناة الخلق لدى الشاعر عند حدود "عجن الزمن" بل ثمة ما هو أكثر صعوبة ومجازفة وخطراً. ثمة موت مرتقب يكمن له في طريقه إلى القبض على قصيدته، لكن المفارقة انه الموت الذي يرتضيه وقد يستعذبه طالما ان فجر قصيدته سيبزغ من بعد ذاك الموت. تقول: "لأكتب/ ينبغي أن أموت/ بعذوبة/ بلا عنوان/ لأكتب/ ينبغي ان أعبر عاصفة/ الفراغ". ويستوقف المتلقي ان الشاعرة تعمدت كتابة الحرف الأول من عبارة الفراغ Le Vide بالحجم الكبير. أتراها تحارب الفراغ بالكتابة؟ أتراه خوفها الهائل من الفراغ أوحى لها كتابة العبارة بهذه الطريقة، وللدلالة على رمزية هول الفراغ ووحشته؟
"ماذا يقال عن الوقت/ حين تمضي الأشياء/ قبل الوصول؟"، "ماذا يقال حين ذاتك/ الباحثة عن هوية/ تنصهر في الكوني؟"، "ماذا يقال عن القلب/ الذي يمتطي ضوء الصحراء/ ويعلن الكسوف؟". هذا بعض قصيدة عنوانها "ماذا يقال؟" حافلة بقلق المسيرة الوجودية المكتظة بوجع السؤال، بل الأسئلة الغزيرة التي تحاصر الوعي الإنساني وترميه دوماً في مرارة البحث المتواصل وان بلا رسو عند الميناء المنشود. لا نشك في ان الشاعرة عائشة ارناؤوط ترصف تلك الأسئلة في دراية القابع تحت وطأتها والمدرك ثقل التناقضات المنطوية عليه، تناقضات الأسئلة، والتناقضات الرابضة على احتمالات الإجابات عنها، أو الجزء الضئيل من تلك الإجابات. لذا يطل معظم نصوصها هاجساً بكلمة قادرة على رفع المعنى إلى مستوى رؤية ورؤيا معجونتين بتجربة حالمة بالأفضل: "ماذا يقال عن الحب الذي/ يعثر في الشيخوخة/ على طفولته؟/ (...) ماذا يقال عن الصمت/ الذي يحيلك شفافاً/ ويصغي إليك؟".

صدرت في منشورات "لو بلي"، أورليان.2000
النهار- الأحد 31 آب 2003


إقرأ أيضاً: