("عماد فؤاد" يُطلقُ حريرهُ في وجهِ الشوك)

منال الشيخ
(العراق)

منال الشيخهنا، لن ينفع إلا أن أتكلم بحريرية أكثر مما ألمسهُ. هنا، لن أستطيع أن استخدم المقص والمشرط، كالعادة. فالحرير بحاجة إلى أصابع ناعمة الملمس حتى لا أخدش حياء المعاني المتوارية خلف أصوات الكلمات. فهل أستطيع إستعارة أصابع عازفة على هواء الموسيقى لأستطيع استقراء ما ألمس؟!

يعود إلينا الشاعر "عماد فؤاد" بمشروع جديد "حرير" الصادر عن دار "النَّهضة العربية" للنشر في بيروت 2007، وكعادته، يحاول في كل مرة أن يختلف عن مجاميعه السابقة. ولكن يبقى السؤال؛ هل الاختلاف هنا لصالح النص المغاير؟ .. ربما لن أخوض كثيراً في المسألة النقدية أو البحث عن الوجهة التقدمية للنصوص التي سأتناولها في هذه المجموعة الحريرية الرائحة.
ديوان "حرير" يحمل في طياته أكثر من معنى قرائي. يعيدنا إلى الزمن الجميل رغماً عنّا، يحاول أن يجرنا ورائه إلى نسبة من - التخلف - المحبب لنعود إلى ذواتنا الأولى قبل أن تلوثها العولمة وتلطخها مسارات الحداثة المصطنعة، أحياناً.

نحن مختلفان تماماً في توجهنا الإبداعي، الشاعر يفهم هذا وأنا أيضا أعي ذلك تماماً.. ولكن هذا لا يمنع أن أقرأ ديوانه الجديد بعين متفحصة، هي ليست لي حالياً، ولكني سأستعيرها لأعيد بصيرتي إلى سيرتها الأولى كي أستطيع أن أتناول أو أجرؤ على ارتداء ما ألمس من حرير.

إذن، انطلاقتي مع النصوص لن تكون انطلاقة عين ناقدة بل عين باحثة عن الجمال والجمال فقط. وروح تحب معايشة الناعم والمخملي من الحياة، والتي ربما بدأنا نفتقدها هذه الأيام بسبب من ضغط القسوة على أيامنا.. فأنا مثل غيري بحاجة إلى أن ألجأ بين حين وآخر إلى ما يرطب روحي المجففة والمتعففة في نفس الوقت في استجداء الندى على سطح الكلمات. وهذا الديوان كان منتجعي القرائي.

لنبدأ كما يبدأ الشاعر أول خيطه، بسؤال: ماذا يريد شاعر من هذا الديوان بعد ثلاثة دواوين مختلفة وكل واحد يحمل سمة تميز عمله واشتغاله في لحظة معينة. ماذا يريد "عماد فؤاد" من الـ"حرير" الذي همَّ بنسجه مع أنَّةٍ أولى لدودة قز مخبأة عرضياً في قلبه؟:

(أعرفُ رجلاً
يسألُ نفسَهُ كلَّ صباح:
ما الّذي يريده رجلٌ من امرأةٍ
كلَّما همَّتْ بمسِّ حريرِها
أنَّتْ في قلبه
دودةُ القزِّ؟!)

من الكلمة الأولى سنعرف أننا نحاكي نبأ خلق آدم وحواء والنشأة الأولى للخليقة، وكيف أنَّت في قلب آدم أول رغبة عند رؤيته لحواء، فلماذا التساؤل إذاً طالما الجواب واضح؟!
هنا يبقى للسؤال فعل السحر على الجملة الشعرية، ولا ينفع أن ندرج جملة تقريرية رغم معرفتنا الجواب مسبقاً. ولكن تظل الإحتمالات واردة أمام السؤال لأن فعل إخفاء دودة القز في قلب الشاعر لم يكن حكراً على أمه فقط، ربما لها الأسبقية، ولكن دور المرأة متوالية في حياته وكأنه يرصدها بالتتابع منذ ولادته حتى لحظة الكتابة الأخيرة من الديوان.

فالدودة لا تئنُ في قلبه لمجرد رؤية الأم أو الحبيبة وإنما لوجود المرأة بشكل عام، ومما هو واضح من أعمال الشاعر السابقة، فأنه يرصد بحكمةِ رجلٍ متعقل هموم المرأة الشرقية البسيطة وما يختلجها من تداعيات تربيتها الصارمة أحيانا، وإن كنا نلاحظ بعض المرونة هذه الأيام وخاصة على مستوى الآباء، إلا إن طبقة معينة وهي الطبقة دون الوسط، تبقى تعاني من الإجحاف الاجتماعي ونظرة الآخرين لها على أساس دوني بعض الأحيان. هنا في أغنيتهِ يرصد ظاهرة الفقر والحرمان التي تعاني منه أية فتاة ترى الحرير وتلمسه وتساهم في صنعه، بل إنها هي من تربِّي الدود الذي ينتج الحرير والذي تراعيه أكثر من اللازم ليكتسب ملمساً لا يضاهيه ملمس، ليغري رجال النساء اللواتي خُلقن ليرتدين الحرير والحرير فقط، ومع ذلك لا يجرؤن أن يلبسنه ولو بنية التجريب. فأي حرير ناعم هذا الذي يرتضي كل هذه القسوة. وما الحرير هنا إلاّ مجازاً لكل مخمل الحياة من حب وعطف ومال وجاه وطبيعة الدنيا التي تكون محرومة منها فئة معينة رغم مشاركتهن في صنع كل هذا الخيال، ومن بين ذلك حرير الحب الذي تراه وتساهم في صنع مغريات من يمارسونه ولا يصيبها من الحب جانب.

(أنا ابنة صُنَّاع الحرير يا بنات
أرعى دودة القزِّ كي لا تأكلها رطوبة البيت
أجمع أوراق شجرة التُّوت كل نهار
أنظِّفها من شوائب الطَّريق وغباره
بصبر أرملة يا بنات
أغسلها بماء النَّبع كي يرقّ حريرنا وينعم
وكي يغري الرِّجال بشرائه لكُنَّ من عندنا
(.......)
كلُّ واحدة منَّا تحلم بثوب أبيض من حريرنا
أنا ابنة صُنَّاع الحرير الفقيرة يا بنات
نصنع الحرير
ولا نجرؤ على ارتدائه
يا بنات).

الحرير يجمع التضاد أيضا من منح قوة الطمأنينة والتجريح معاً. ومثلما أن مهمة دودة القز هي صنع الحرير في قلب الشاعر، تكون سبباً في إفساده أيضاً والتوجه نحو رجل لا يكاد يعرفه، بانحراف بسيط في المعاني عندما يختزل اختلافه الجديد مع تاريخه الطارئ بمناجاة طفولته مع الأم الحاضرة دوماً، ودور المرأة الأخرى التي كانت سببا في إفساده، كيف؟
وراء كل رجل عظيم امرأة، لا أعرف إن كنت مع المقولة أم ضدها ولكني استحضر هنا مشهداً تلفزيويناً من مسلسل (الراية البيضاء) للكاتب والمفكر المبدع "أسامة أنور عكاشة" وكان الحوار بين بطلي المسلسل. الرجل كان رساماً ويبحث عن الحب في نفس الوقت والمرأة صحفية مشهورة ومنتكسة بسبب زيجة فاشلة ربما قتلت كل شيء جميل فيها، وبعد سلسلة من الأحداث يتوصل الرسام إلى أنه وراء كل رجل عظيم امرأة، ولكن ليس بالمعنى المفهوم لدينا، لأنه يرى قربه منها موتاً له كفنان عظيم في المستقبل والتباشير تشير إلى أنه سيكون، ووجد أن حبه الصامت لها عن بعد يعطيه بعداً ثالثاً لحياته التي قرر أن يرسمها بدون وجودها وبوجودها في الوقت نفسه. هنا لا وجود للوجود المادي للمرأة ولكن تأثيرها هو الباقي وهو المحرك المباشر لذات الشاعر. ربما أفسدته من نواحي واقعية ولكنها ساهمت بشكل أو بآخر في إظهار هذا الشاعر على سطح المحيط، وإن كانت بعيدة، كما يختار هو. تعيده إلى ذكرى طفولته التي طالما يحن إليها الرجل الشرقي وهو حضن الأم التي يبحث عنها في كل امرأة يلتقيها:

(أفسدتني الأجنبيَّة يا أمُّ
قلبي الذي فوَّضُّتُ أمره لحجارة النِّسيان
صار يذوب في ماء صوتكِ البعيد
كقطعة السُّكر
يؤلمني كلَّما رأيتُ عينيكِ خلف زجاجة الكادر
وكلَّما مسحتُ الغبار الخفيف عن سمَّاعة الهاتف
كي تصفو لي ندهتك
وكلَّما شمَّست قمصاني البيضاء خارج البيت
الملعون
صرت أجده واقفاً يحار بين نصلين
كلاهما سوأة للغياب
أفسدتني الأجنبية
يا أمُّ).

يأتي التكرار هنا كما في الأغنية الأولى، ليس جزافاً بل لتأكيد الحالة، ولكل تكرار نبرته الخاصة ومقصده في لحظة القراءة وليس لحظة الكتابة، ويعيدني هنا الأمر إلى التوصل في البحث عن قصيدة نثر مغناة، تلك التي طالما بحثنا عنها وعن جدواها وهل سنقرأ في يوم من الأيام قصائد نثر مغناة أو قصيدة نثر صوتية على حسب تسمية الشاعر العراقي "باسم الأنصار" في مقاله الموسوم "النبرة الصوتية في قصيدة النثر" المنشور في موقع إيلاف وجريدة "الجريدة". هنا، في "حرير" "عماد فؤاد" أرى بعض التبشيرات بذلك.

ومن الأغاني الجميلة التي وردت في هذا الديوان هي أغنية "تين"، اللغة هنا مقتضبة ومكثفة والصورة أكبر من أن تستوعبها جملة شعرية خالصة، وكأننا سندخل عهد الأغاني غير المقفاة فعلاً. إذ أنك بقراءة هذه الصورة سترى حتى ملامح بائعة التين وهي تقول بغنجها الذي يرسمه الشاعر ببراعة مخرج أو سيناريست، سترى حتماً الكلمات تتقافز فوق شفاه البائعة دون أن تسأل هل الكاتب كان شاعراً أم شاعرة، فهو يكاد يقترب جداً من صفات المرأة ورغباتها وما تقصده بالضبط من معاني خفية تحت معطف الكلمات المتحفظة، ويعرف كيف يرصد أنوثتها المبالغ فيها والتي باعتقادنا أن المرأة هي الوحيدة العالمة بحالها:

(مغناجةٌ بائعة التِّين
تنده على بضاعتها
وعيناها مزهوَّتان بكحلهما الغجري:
شُقَّه وتذوَّق
إن لم يعجبكَ
حُطّه ثانيةً!)

ولأني أتعامل مع الـ"حرير"، تجنبت المرور بالجارح منه واكتفيت هذه المرة أن أكون لطيفة مع ما أتناول، فلم أرى نصوصه التي تحاكي معاناة المرأة الشرقية في كتم أنفاسها وشهوتها تحت ذريعة غير مسوغة عبر نصه (يدها في مكمن ضعف)، ولا أعرف لماذا أصرَّ الشاعر على إعادة نشر هذا النَّص رغم إنه مُنع فيما مضى من قبل دار نشر أخرى، وهو يكاد يكون خارجاً على قانون الـ"حرير" هنا، بافتقاره النبرة الغنائية الطاغية على الديوان. ولم أمر بالريحان الذي يجرح أحياناً، لأنني قررت منذ بداية مشواري في لمس الـ"حرير" أن أكون حريرية التطلع مع هذا الديوان. في نصه القصير (ترقيم): (يكتب العاشق اسم عاشقته) - وانتبه هنا هو لم يقل (عشيقته) - بفاصلة لأن قلب الرجل دائماً ما يكون مفتوحاً على الاحتمالات المكملة لمشوار سيبدؤه ولكن لا يعرف هل سينهيه أم لا. و: (تكتب العاشقة اسم عاشقها) - وهنا أيضاً لم يقل (عشيقها) - بنقطة خاتمة، لأن حلم المرأة منذ بداية أية علاقة تروم إلى ختم مشوارها ولا تترك للاحتمالات أي مجال في ذهنها، لأنها وقبل أن تبدأ تكون قد حسمت أمرها فيما ستبدأ به. أن تكون معه إلى الأبد أو لا تكون! وفي حضور الحب تكون النقطة الخاتمة حاضرة كقرار.

وربما يبدو تعبير (عاشقته - عاشقها) أقرب إلى المشاركة منه إلى الامتلاك والاستهانة بنوع العلاقة، وهنا أيضاً اختيار موفق في المفردة وكذلك على مستوى اختيار الصورة الشاسعة في جملة شعرية مقتضبة ومكثفة وتقريباً ينطبق هذا على أغلب نصوص الديوان القصيرة.

ومثلما يختتم الشاعر آخر الخيط بسؤالٍ أخير، سنختم قراءتنا بقرار لن يكون الأخير هذه المرة وهو: لا بد أن نمر على الـ"حرير" بين فترة وأخرى لننسى قسوة شوك الحقيقة الذي ما إن نلمسه حتى تُدمى كلماتنا على ألسنتنا ويغوص المعنى
ثم يطفو
ثم يغوص ليطفو
ولكن هذه المرة سيطفو إلى الأبد لأن الغرق لا يليق بالحرائر.

"الزمان"
24 أبريل 2007