عبدالعزيز المقالح
(اليمن)

علي عبدالله خليفة'' لا يتشابه الشجر '' تلك حقيقة علمية لا نقض لها، لكن القصائد لا تتشابه أيضاً، وهذا ما أتكهن أن العنوان قد عناه ... صحيح أنها - أي القصائد - تستمد وجودها اللغوي من قاموس واحد لكنها تصبح مختلفة عندما يتناولها الشعراء الموهوبون والجادون . وهي تختلف من شاعر إلى آخر ومن نص إلى آخر، لأن الشعر، هذا الكائن اللغوي المحمول على أجنحة الإشارة والرمز يمتلك شبكة من الطرقات والمسارات تجعل الشاعر وهو يستلذ بسحر الكلمات يعطيها من روحه ومن دم قلبه لكي تحمل دلالات أخرى تختلف أو تتضاد مع معناها القاموسي ومع لغة الآخر واستخداماته، وهذا ما يجعل الشاعر نفسه يسأل كيف والى أين ستمضي به الكلمات أو يمضي بها؟
في القصيدة الأولى من المجموعة يخاطب الشاعر علي عبدالله خليفة هذا الكائن اللغوي ( الشعر ) مستنكراً في إعجاب لا يُخفى، وسائلاً في حيرة لذيذة عن سر هذا الاختلال الذي يفتح أمام الشاعر طريقاً يفضي به إلى غير الطريق الذي أراده . ان نجاح الشعر يتجلى في هذه الممانعة، وفي تغييب أشياء كانت حاضرة في شعر '' لا يتشابه الشجر '' ، وأشياء كانت غائبة أيضاً أو لم تكن في الحسبان . والشعر الحقيقي هو هذا الذي لا يلعب، لي المكشوف ولا يفصح عن نياته مسبقاً، ويكره - حتى العدم - المكاشفة الصريحة .

لا يتشابة الشجرلم يكن علي عبدالله خليفة وهو يكتب نصوصه الشعرية، في منأى عن هذا الفهم . وكما رأينا في مقطع من النص الأول من مجموعته الجديدة '' لا يتشابه الشجر '' كيف يشير إلى الشعر من دون أن يفصح عنه أو عن مسماه فهو في نص آخر من المجموعة نفسه بعنوان '' ظلال تهويمه '' يشير إلى القصيدة من دون ان يسميها، مكتفياً بالإشارة إلى علاقته الوثيقة والحميمة بها وكيف تساعده على فهم الواقع والناس ولا تفتأ تقف إلى جانبه في أصعب الحالات : نجح الشاعر في رسم مناخ الألفة بل التداخل الذي يجمعه أو بالأصح يوحده مع القصيدة، كما نجح في الجمع بين الإيجاز والمجاز بين الإضاءة والترميز والمفارقة، مع استخدام لغة حيوية مباغتة تصعد إلى قمة التكثيف وترفض أن تقع في قبضة التجريد . لا ينبغي ان يتوقع القارئ من الشاعر أن يدله إلى حقيقة هذا الذي لا يجد له ما يناسبه من الأسماء على رغم ما له من حضور طاغ على روحه وجسده وحياته، لكن المراوغة تخفت أحياناً فتومض الدلالة العصية على نحو إشراقي يوحي بالاسم ولا يصرِّح به.أخيراً، لا تناقض بين أن يكون النص شفافاً صافياً وفي الوقت ذاته أقل وضوحاً، فالوضوح - وعند كثير من الشعراء وعند علي عبدالله خليفة بخاصة - يفقد الشعر أهم مقوماته وهو الممانعة الفنية ورفض الاستسلام لقارئه بسهولة ومن دون أن يبذل أبسط جهد يجعله يحس أنه يمسك بالخيوط الأولى للدلالة التي تضعه في سياق المعنى وتحميه من مراوغة الشاعر وتضيء له الطريق إلى النص . والشاعر علي عبدالله خليفة من الشعراء القلائل الذين يصعب ان تقتنص قصائده بسهولة على رغم كل ما تمتاز به من صفاء وشفافية . وما هذه إلا دعوة لقراءة أشعاره بالجهد الذي بذله الشاعر نفسه في اصطفاء مفرداته وموضوعاته وإيقاعاته .

****

أسئلةُ الدهشة عندَ علي عبدالله خليفة
بين صدمةِ الوعي وإنتاجِ الدلالة

ياسر عمان
(مصر)

وأنا أتكلم عن علي عبد الله خليفة - في متوالية التوصيف المعلبة، الجاهزة دائماً في حقائب النقد، تلك المتوالية التي شاعت، ولا تزال تشيع مفرداتها في خطابنا النقدي العربي استجابةً لعوامل عدة لا يتسع لها المقام الآن .. المتوالية التي تنتقل من الحديث عن النص إلى تتبع سيرة صاحب النص، أي الدخول إلى النص من خلال صاحبه، وهو ما يمكن أن أسميه بين قوسين '' النقد السيري '' الذي يستفيد في تأويله النص من سيرة صاحب النص، فيرجع بنا إلى مفاهيم بالية مثل '' جو النص '' أو '' مناسبة النص '' الأمر يجعلنا نقيد النص المفتوح بخصوصية حدث أو خصوصية سيرة .
هنا - في هذه الدراسة - سأجرب الدخول إلى عالم الشاعر من خلال اكتناه نصه، وليس الدخول إلى النص من خلال اكتناه السيرة والحدث الذي يحرك النَّص أو ينتجه .. كما سأبتعد عن أي توصيفٍ نقديٍّ مُعلَّبٍ أصف به صاحب التجربة موضع الدراسة، إذ إن التجربة الشعرية لديه تضعه فوق العُلبِ النقدية الجاهزة المصنوعة من مفردات '' شاعر كبير '' أو '' شاعر متفرد '' أو '' علامة شعرية بارزة '' في تجربة الإبداع الخليجي خاصةً، والإبداع العربي عامةً .
وقد حاولت الدراسةُ هذه أن تتلافى الدخول في مثل تلك التوصيفات الجاهزة حول النص والمبدع لسببين :
- الأول : إن وجود تلك التوصيفات المعلبة هي دليل فقر، وأنيميا نقدية تتوسل بالمعلب كثيراً لتقي نفسها عناءَ الاكتناه والاكتشاف والمغامرات القرائية المغايرة .
- الثاني : فيكمن في النقطة التي تسعى هذه الورقة إلى إضاءتِها في تجربة علي عبد الله خليفة الشعرية ألا وهي '' العلاقة بين ترسيم المشهد الشعري لدى الشاعر، وسؤال الدهشة الذي ينبثق منه ذلك المشهد، وكيف تُنتِجُ تلك العلاقة منظومتها الدلالية المفتوحة ''.

و قبل الدخول في تفاصيل تلك العلاقة، نطرح أسئلتنا القلقة عن لحظة الإبداع :

  1. من أين تبدأ؟
  2. ما باعثها؟
  3. ما المثيرات التي تحركها؟
  4. هل تصدق الرؤية النسقية الثابتة في وجدان الكتابة النقدية حول لحظة الإبداع؟.تلك الرؤية التي تجعل من المعاناة الباعث الأكثر حضوراً وتأثيراً في تلك اللحظة، أم أن هناك رؤية مغايرة لا تعول على المعاناة قدرما تعول على الإحساس أيَّا كان نوعه في ميلاد اللحظة الإبداعية؟ .
    و تبدأ الورقة بالإجابة عن السؤال الأخير كونه يتعلق بفرضيتها، إذ تميل ناحية الرؤية الأخيرة المغايرة على حساب الأولى النسقية، معتبرةً إياها فرضيتها الرئيسة التي تسعى للتأكد من صحتها .

أما فيما يتعلق بالإجابة عن بقية الأسئلة ( 3 , 2 , 1 ) - التي سبق طرحها على عدد غير قليل ممن جمعوا بين ممارسة النقد الأدبي والعمل في مجال الدراسات النفسية وعلم النفس - فتكمن في أن الإحساس بصوره وأنواعه المختلفة هو الباعث الأوحد على اللحظة الإبداعية، ونقطة بدايتها إذ إن أحاسيس البشر جميعها يحركها الفرح كما تحركها المعاناة كما تحركها الدهشة . وعندما تنفجر براكين الإحساس داخل الذات المبدعة ( الذات التي تمتلك مقومات التصوير والتعبير عن ذلك الإحساس في شكل من أشكال الخلق والإبداع .. ) تتفجر استجابةً لها طبقات الوعي، ومن تفجر طبقات الوعي يتولد الإبداع .
يأتي سؤال الدهشة لدى خليفة لأغراضٍ سنفصلها لاحقاً . ولكننا قبل ذلك نودَّ أن نستخلص فرضيةً نقديةً عامة مفادها أن سؤال الدهشة عند خليفة يأتي لاختزال المشهد الدلالي لديه في معادلةٍ محبوكةِ المتغيرات تدشنُ لنفسها ميزتين مهمتين تصر عليهما عبر معظم - إن لم يكن كل - المشاهد المكثفة، المختزلة في شكل أسئلة :

- الأولى : تكثيف المشهد من حيثُ اللغة إلى أقصى الحدود الممكنة .
- الثانية : فتح المشهد ذاته على مصراعيه أمام التأويل والدلالة بعد التزاوج الذي يتم بين ذلك المشهد وسؤاله المندهش .

ففي حضرة المعشوق يأتي سؤال الدهشة لدى خليفة في نهاية مشهده الشعري لينتصر للميزتين السابقتين :
فهو ( أي سؤال الدهشة ) يقدم مشهداً عاماً مكثفاً مختصِراً لجزيئات مشهده الشعري الموزع عبر مفردات المقطع، ويفتح الطريق أمام التلقي للدلالات القابلة للانزياح حسب درجة الصدمة التي يخلفها ذلك السؤال المندهش في الذات المتلقية للسؤال ومشهده :

فاجأتني رجفةُ النقشِ على الصخرِ
دماءً سالت الأحرفُ منها، فتأملتُ
دمائي تشهقُ العبرةُ فيها
وأنا أجمعُ في البحرِ شتات الأرخبيل

و لم تقف إستراتيجية تكثيف المشهد الشعري في هذا المقطع عند سؤال الدهشة وحسب، لكنها - وقبل الولوج في سؤالها المندهش قدمت لهذا السؤال بعلامتي تعجب تقاربان - بشدة - لحظة الحيرة والقلق والألم والتحسر التي تقود المشهد :
كما أكدت ( إستراتيجية تكثيف المشهد ) لحظتها تلك بختم المشهد والسؤال بعلامة تعجبٍ أخرى تفتح الفضاء الدلالي أمام التلقي استجابة لإحساس الحيرة العاجز لدى الشاعر عن وصف ناره التي تصطليه .

ويأتي سؤال خليفة - أحياناً - مباغتاً لسائر عناصر مشهده الشعري التي تلي السؤال . ففي قصيدته '' على رصيف المحطة '' تباغت الأسئلة عناصر المشهد الشعري الأخرى إلى الحد الذي يمكن معه التسليم بفرضيةٍ مؤداها أن السؤال هو الذي يصنع المشهد ويحرك الدلالة في شكل استباقي مباغت لكل دوال المشهد التي تلي ذلك السؤال الحائرِ المندهش :

قطار الحب يا قلبي تراه فات أم طوَّل؟
أم الساعات خانتنا فما عادت كما الأول؟
هل الأحزانُ عرتْنا
فجُنَّ الشوقُ ملهوفاً ولم يَكْمَلْ؟
أمِ القضبانُ قد حملتْ
قطاراً مرَّ من زمنٍ، فلم نرحلْ؟
متى نرحلْ؟

فمشهدُ الوحشةِ، والوحدةِ، والحيرةِ، الذي تشكلَّ لاحقاً من :
( الوقفةُ الخرساءُ / تلوبُ وتشتكي حيرى / خريف الوحدةِ الظامي / وبردُ الليلِ / أحاسيسُ الهوى لهفى / الوحشةُ الصماءُ ) ثمَّ أكّد الشاعر وحشته واغترابه بسؤاله الراغب في الرحيل عنه ( متى نرحل؟ ) كان قد تم اختزاله في مففتح المقطع بالأسئلة المباغتة الحائرة :
وكثيراً ما تتفيأ أسئلة خليفة ظلال الانزياح - متوسلةً في ذلك بعنصر المباغتة الذي سبقت الإشارة إليه - لترسم لحظتها المفتوحة بفرشاة التداول بعدما يكتفي مشهدها الشعري بوضع الدوال الأولى التي تشكل أساساً لذلك الرسم . ففي قصيدته '' أمام جدار الصمت '' تتجلى الأسئلة وميضاً من الانزياح، ويتحول المشهد إلى فلاشات ضوئية تغازل التلقي وتفتح أمامه الطريق إلى أقصى درجات ذلك الانزياح :
ويمكن رصد معالم الانزياح في هذا المقطع من خلال الدوال ( أقولها؟/أحاذر؟ / أأرقُب / اليمينَ / والشَّمالَ / الظلامُ / مكبَّلٌ / الجدار / حلقةٍ قويَّةٍ )

/ مشارف المصيرْ ) إذ نرى أن المشهد الشعري هنا جاء مؤسساً على مفردة '' أقولها '' التي تقود لعبة الانزياح الدلالي من بداية المقطع وحتى آخره فا '' القول ''- هنا - منسوب إلى دائرة المعنوي المتمثلة في الفكر، والكلام والأخلاق، والعقيدة، والايدولوجيا والحلال والحرام والخطأ والصواب أكثر من كونه منسوباً لدائرة الفعل المجرد ( أي الفعل بمعناه الحسِّي / الصوتي، وحسب ) ، وهذا ما يعضد انزياح الحذر والرقابة في قوله ( أحاذر؟ / أأرقُب ) إلى دلالات منزاحة إلى الدائرة ذاتها، وكذا انزياح المآلات الدلالية لمفردتي ( اليمين / الشمال ) من اليمين / الشمال الجغرافي الحسِّي إلى اليمين / الشمال المنضوي تحت دائرة المعنوي المتمثلة في الخطأ والصواب، أو الأخلاق المحافظة، ونظيرتها الليبرالية المتحررة .
وتستمر لعبة الانزياح - وبالدرجة نفسها - لتشمل الدوال :( الظلامُ / مكبَّلٌ / الجدار / حلقةٍ قويَّةٍ ).
وقد يأتي السؤال لدى خليفة في بعض الأحيان ممزوجاً ذائباً في المشهد الشعري من خلال صياغة المشهد والسؤال المندهش في آنٍ؛ ليخلق بذلك فضاءين دلاليين يتحركان بالتوازي جنباً إلى جنب، مما يحمل المشهد الشعري لديه على التخلي عن تراتبية الدلالة لصالح منظومات دلالية متوازية المسار تشكلها جدليات فرعية متوازية مصاغة بحرفية عالية عن جدليةٍ أمٍّ تقود المسار الدلالي برمته كما في قصيدة '' يحْدُث فينا '':

ما الذي يمكن أن ننسى، وما
ذاك الذي يبقى مقيماً نابضاً في الذاكرة؟
لماذا تظل رائحة الياسمين حيةً
منذ فجر الطفولةِ الأولى
عندما شممتها على جدارٍ في زقاقٍ عاطرةْ؟ !
لماذا تموتُ روائحُ أخْرى
وأخْرى تعيش في ضياءِ نجمةٍ مكابرةْ؟
وما الذي يجعلُ الأماسيَ والأماكنَ
فجدلية '' التذكر والنسيان '' التي حملها سؤاله '' ما الذي يمكن أن ننسى، وما

ذاك الذي يبقى مقيماً نابضاً في الذاكرة؟ '' تحضر في القصيدة بوصفها جدليةً ودالةً أمًّا، لتسحب وراءها جدلياتٍ، ودوالاً فرعية تنبثق عنها مثل :
- جدلية الموت والبقاء، جدلية الوجود والعدم، جدلية الحضور والغياب، جدلية المكوث والعبور، جدلية الانتعاش والاندثار، جدلية الفوز والخسارة .
لا يقف خليفة عند المآلات البلاغية المتعارف عليها للاستفهام إلا نادراً كما ذكرنا، بل يتجاوز - في أغلب مشاهده الشعرية - تلك المآلات لينتصر لمشهده الشعري المتطلع إلى النقطةِ الأبعد في حركة الدلالة بعدما يوظف المآل الأقربَ لاستفهامه الحائر المندهش توظيفاً يجعل من ذلك المآل أساساً لمآلاتٍ أبعد في متواليةٍ من الدلالات المفتوحة . ففي مطلع المقطع الثاني من قصيدته '' ذلك الهارب مني '' يتخذ الشاعر من النفي ( الغرض الأقرب للاستفهام ) أساساً لمتوالية الدهشة . تلك المتوالية التي انتظمت على إيقاع العلاقة بين الغرض البلاغي من الاستفهام في قوله '' ما الذي يُجدي وخطو الريحِ إيقاع الثواني و فرار الأزمنة؟ '' ومفردات المشهد الشعري الذي يلي ذلك الاستفهام . فقد جاءت كلها تصبُّ في دائرة الحيرة والدهشة لا لتؤكدَ الغرض البلاغي من الاستفهامِ وحسب، وإنما لتشكل حدوداً أكبر، وأعمق من حدِّ النفي في متوالية الدهشة التي يُدشِّنُها المشهدُ الشعري بجزأيهِ :( سؤال الدهشة، والتعقيب الذي جاء رداً على ذلك السؤال ):

جاء سؤال الدهشة في مستهل هذا المقطع مرتدياً زيَّ النفي ( الغرضَ البلاغيَّ الأقرب لسؤال الدهشةِ ) ، ومفتتحاً المشهدَ الشعريَّ على اللحظة العاجزة عن الإمساك بذلك الشيء الهارب المنفلت إلى أقصى نقطة على حدود السراب . وقد صيغت مفردات لحظة العجز تلك - التي جاءت تعقيباً على السؤال المندهش - بحرفية عاليةٍ استلهمت مفارقة لحظة المطاردة إلى الحد الذي يصور طرفي تلك اللحظةِ وكأنهما يسيران في اتجاهين معاكسين، بما يحيل المحصلة النهائية لعملية المطاردة إلى صفرٍ كبير، بعدما يفقد الشاعر كلَّ مقومات إدراكِ شيئِهِ الهارب، و يصبح مشهد الفقد عنصراً مسيطراً على المشهد الشعري كله بعد الاستفهام المباغت في مستهله . ذلك الفقد الذي يعبر عنه المقطع باستدعاءين :

الأول : استدعاء دوال الهرب والأفول التي تؤكد صعوبة إدراك الشاعر شيئَهُ الهارب :

( كيف تمضي كما اللقطةِ في الحُلمِ
كما الومضِ لشيءٍ لا يبينْ؟ !
ثمَّ تبْقى، ولا تبْقى، سوى تلك الوجوه النافرةْ )
فيما لم يمسك الشاعر سوى بدوال العجز عن إدراكه

الثاني : استدعاء '' لا '' النافية التي يتوكأ عليها المشهد الشعري أكثر من مرة لتأكيد لحظة العجز حتى عن البدء في رحلة إدراك ذلك الشيءِ الهارب :

( أنا لا أمسك شيئاً أتملاه
و لا وقت لأفضي شَجَنَ القلبِ لأشجار الطريقْ )
( لا شمسَ يوماً دون ظلٍّ تعتريكْ
لا ولا وحشةَ المُدلجِ فرداً تقتفي إثر خطاكْ )

و لا تكتفي أسئلة خليفة بترسيم ملامحها المندهشة وحسب ، وإنما قد تأتي لتدلي بقولها في مشهد الحيرة المنبثق عن روعة المحكي عنه في قصائده لتفتح عين التلقي على احتمال كون الباعث وراء تلك الأسئلة :

عجزاً، وحيرةً عن ترسيم صورة المحكي عنه . وقد قصد الشاعر إلى الاعتراف بذلك العجز ، وبتلك الحيرة لتبقى مشاهد الوصف والترسيم مفتوحةً أمام التداولِ ليرسم ويوصفَّ نيابة عن الشاعر :

فبعدما يقترح القول الشعري بعض كلمات في وصف المحكى عنه، يعود ثانيةً إلى لعبة الأسئلة المتبوعة بعلامات التعجب التي تقيه وهج الدهشة وتفتح القول ذاته على مزيدٍ من الدهشة ذاتها لدى التلقي، ليتحول المشهد الشعري برمته إلى لوحةٍ يشرع التلقي في رسمها بأدواتٍ يستحضرها له النص المؤسس على أسئلة الدهشة المفتوحة التي جاءت منتصف القصيدة ( لها الله في محراب لألائها عسلٌ ؟!أم كوثرٌ؟ ! أم نبيذٌ حبيسٌ طليقُ السِّراج؟ !). واهبةً نفسها ملكاً للتداول .
ومن أسئلة الدهشة لدى خليفة ما يتوكأ ( في غايته الرامية لفتح الدلالة وتحريك أجنة الانزياح لتستمر في نموها الذي لا يتوقف عند لحظة المخاض وميلاد الأسئلة، بل يستمر مستجيباً للعبة التداول ) على استراتيجية التدمير والهدم من خلال إشعال الأسئلة ذاتها .
فمشهد '' الشيء '' الذي رسمه الشاعر مجتهداً في مطلع قصيدته عاد فدمره ثانيةً محيلاً إياه إلى نفاياتٍ لا ترى إلا بالكاد . وقد تمت إستراتيجية التدمير على مراحل ثلاث :

- الأولى : استدعاء دوال العجز المستمدة من صفات الشيء نفسه، الممثلة في سكونه ونأيهِ ومروره كما الومضة التي يصعب الإمساك بها ( لا تُبدي حراكْ / طُعْمٌ وشراكْ / النأيِ / سحيقٌ / ومضةٌ / فضاءٌ سرمديٌّ لرؤاكْ ).

- الثانية : استدعاء الاستفهام التعجبي الذي يؤكد قدرة '' الشيء '' على المراوغةِ والإفلات وجعل المحصلة النهائية للساعات المستهلكة في إدراكه وتوصيفه صفراً كبيراً ( من يناديك فتأتي / تَجْلدُ الساعاتِ ما شِئْتَ / وتفضي بالليالي للهلاكْ؟ ).

- الثالثة : استدعاء الاستفهامِ الختامي ( كيف بالله أراك؟ ) ذي القوى التدميرية الأكبر الذي يحيل رفات المشهد التي أبقت عليها المرحلتين : الأولى، والثانية إلى نفاياتٍ لا ترى إلا بالكاد، ولكنها ترسل فلاشها للتداول الذي يبدأ في الترسيم نيابةً عن الشاعر / الرسام الأول .

****

قلوب ترى البحر

فايز الداية

إنّ وقفتنا مع ديوان ( أنين الصواري ) للشاعر البحريني علي عبدالله خليفة تؤكد ما نذهب إليه في هذه السلسلة، فنحن أمام تجربة ونتاج فيها قدرة على عطاء يتواصل معه القارئ اليوم، وهنا تتبدد أوهام سادت لبعض الوقت كانت مقاييس البقاء مرتبطة بالتغيّر المستمرّ الذي يطوي ما سبقه كما يكون الشأن في مباريات الرياضة وتجديدات الأزياء وما يكون من طقوس الأرقام القياسيّة أو غرائبية الشكل . إننا نرى الأدب إبداعاً يحمل همّ الإنسان على جناحي المتعة الجمالية الفائدة في رؤية للدرب .
رغم النظرة النقدية للواقع وعبور المسارات الشائكة التي تحيط بقضية الإنسان المتلمس لحريته وعدالة تنصفه، فإننا نجد الديوان تضج في جوانبه أشواق الحياة في لهفة الحّب، ومخاض الألم الذي يحول صيحة وعزمه على بلوغ نهاية الصراع مع الشرّ، ومن بين عبرات الأم ينبثق ضياءً لا يخذل الأجيال وإن طال المدى .
إن القراءة الأولى في ( أنين الصواري ) الصادر سنة تفرض سؤالاً حول حكاية أخبار البحر في ديار الخليج العربي والبحرين خاصّة، فهو موطن الشاعر وهل نحن أمام استعراض للماضي في رومانسية أو في أسىً قديم؟ وهل في مقدور هذه القصائد أن تخوض في هذا الحاضر وإرهاصات المستقبل؟
اختارعلي عبدالله خليفة غنائية القصيدة التي تنشر أشرعتها للرياح والعواصف وتعرف كيف تحتمي بالشواطئ يهديها نداء النوارس، وكانت حداثته في هذا الديوان تنطلق في مسارين، أولهما شكلاني يتمثل بالتفعيلة التي تعيد بناء إيقاعات الشعر - مع إنه ظلّ مع البحور في أطراف الديوان - في عمارة مختلفة تحقق بعضاً من التوافق مع أجواء الستينات الحافلة بتطلعات عالم جديد في أركان الدنيا، والشاعر يسعى هنا في موكب شعراء التفعيلة المتعالية أصداؤه : السياب، ونازك الملائكة، خليل حاوي، البياتي، صلاح عبدالصبور، أحمد عبدالمعطي حجازي ... والمسار الآخر تمثل في تعدد الأصوات، وتسليط الضوء من زوايا متعددة، وبهذا نحسّ بالتطور يسري بين القصائد والتصاعد ينفي سمة التكرار أوسمة السكون والركود، فنحن نرى بعيون أجيال تتوالى وترسم الملامح المميّزة التي تؤكد أن عملية الزمن لا تعود إلى الوراء بل تخترق الأيَّام القادمة .

الوطن
14 يناير 2006