عبدالعزيز المقالح
(اليمن)

- 1 -

عبدالعزيز المقالحما الذي يحدث في النسيان؟ سؤال صعب لكن المجموعة الجديدة للشاعر علي المقري "يحدث في النسيان" تحاول أن تقترب من الإجابة عن سؤال صعب كهذا, والإجابة تشير إلى الشعر, إلى هذا الذي يأتي من حيث لا يدري الشاعر, أي من حقل النسيان نفسه, من زوايا خاصة في النفس ليس فيها شيء سابق ولا شيء لاحق سوى العدم أو ما يشبه العدم, حيث يخرج النص الشعري بتولاً بكراً لم تمسسه الكلمات من قبل, ولا سطت عليه المعاني الموجودة في قارعة الطريق, على حد تعبير قديم منسوب إلى الجاحظ العظيم, وحيث لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر بحسب الحديث النبوي الشريف.
علي المقري شاعر يدرك ما الشعر وأين يكون, لذلك فهو لا يبحث عنه في مخازن الكتب وفي دواوين الشعراء, ولا في كل شيء مكتوب, وإنما يبحث عنه هناك في هذا الحقل الغائب الذي يسميه بالنسيان, ولا أدري لماذا تذكرني الكلمة (كلمة النسيان) بتلك التوجيهات المنسوبة إلى أحد الشعراء القدماء الذي ينصح بها شاعراً ناشئاً كان يريد أن يعرف من أين يجيء الشعر, فقال له العبارة المشهورة: احفظ مئات القصائد وآلاف الأبيات ثم حاول أن تنساها, فإذا تم لك ذلك حينئذ ستجد انك قد عثرت على الشعر أو انك اكتشفت أول الأبواب المؤدية إليه. ومن هذا الباب, باب النسيان, جاء علي المقري ليحكي لنا ماذا يحدث هناك في حقل النسيان الشعري حيث يفقد الإنسان وعيه المباشر ويدخل في منطقة اللاوعي التي تبدع الشعر وتصنع الفنون.
وفي نص شعري آخر هو الأقصر في هذه المجموعة, وهو في الوقت ذاته الأكثر دلالة وتعبيراً عن تجربة الشاعر وأسلوبيته في الوصول إلى ما هو شعري, عبر ما نظن بأن لا علاقة له بالشعر, في هذا النص يضعنا علي المقري وجهاً لوجه مع بعض وجوه النسيان:

هذا الليل لا أحد
هذا الصباح لا أحد
هذا النهار لا أحد
هذا أنا
لا أحد.

وكأن الشاعر علي المقري في هذا النص القصير الذي عنوانه "من يدق الباب؟" يشير إلى الشعر الذي لا يأتي إلا بعد أن نكون قد تخلينا عن الوعي بما حولنا, وحتى عن الوعي بذواتنا وتركنا له الباب مفتوحاً ليدخل بسلام, وكأن هذا النص يمتلك - من ناحية ثانية - القدرة على توريط القارئ بالتساؤل إذا كان الليل لا أحد, والصباح لا أحد, والنهار لا أحد, والشاعر لا أحد. فمن يدق الباب إذاً؟ ويأتي الجواب بعد ذلك ليقول إنه الشعر بكل بساطته وسذاجته. وهذه واحدة من حقائق الشعر التي من شأنها خلق قدرة عالية لدى القارئ على التساؤل والخروج من بين جدران الصمت, ليصبح - أي القارئ - شريكاً في السؤال والبحث عن الإجابة ولا يكتفي بالتلقي الصامت.

الجواب عن السؤال إذاً, هو المعطى القريب للفن حين يستحوذ على القارئ أو المشاهد, وهو الصرخة القلقة التي تفضح الصمت الإنساني وترفضه باعتباره وظيفة سلبية جامدة في واقع كل ما فيه يبعث على الحركة والاستفزاز, وعلى مواجهة كل ما هو بشع, ومن شأن هذه الصرخة القلقة أن تعمل على تحريض الحديث عن كل المسكوت عنه, وبكلام لا يحتمل الصمت أو يتواطأ معه: "نمشي حيث لا نمشي / كأننا عرفنا الحرب أول مرة / أو عدنا من موت توغل في أصواتنا / نحن الذين كنا قد نسينا الكلام / نتحدث بصمت صافر / كي لا نتهم بالصمت أو بالكلام".

هذا مقطع من نص بعنوان "نسينا الكلام" وهو كبقية نصوص المجموعة, يؤكد أن علي المقري في نصوصه المكتوبة بعفوية مفعمة بالشفافية لا يبحث عن الكلمات الشعرية الرقراقة, بل عن الكلمة البسيطة بساطة الضوء والدالة بذاتها على معنى يتفاعل مع المحيط الخارجي بسهولة وحميمية, كما يلاحظ تجنبه, بل استبعاده عن الولوج إلى عوالم القواميس بحثاً عن اللغة المجردة الساكنة.

- 2 -

في حديث قريب العهد مع طلاب الدراسات العليا حول القصيدة الأجد (النثرية), وحول المجموعة الشـعـريـة الأولى للشاعر علي المقري "نافذة للجسد" الصادرة في القاهرة عام 1987, قلت للطلاب إن من الممكن اعتبار هذا الشاعر واحداً من الآباء الحقيقيين لهذا الشكل الجديد من الشعر في اليمن, وانه الوحيد بين كتّاب قصيدة النثر الذين لم يحاولوا كتابة الأشكال الشعرية الأخرى لإثبات قدراته أو مسايرة الواقع, وممالأة الأكثرية المتشبثة بالموزون المقفى أو بالموزون غير المقفى. وأزعم أن إشارتي تلك - ومن موقع الأكاديمي - لم تكن تشي بأدنى حد من المبالغة. فالشاعر علي المقري, في طليعة الشعراء الناهضين بهذا الشكل الشعري, وهو إلى جانب شاعريته وحماسته للجديد, يمتلك حساً نقدياً يتجـلى لنا من خـلال كتاباته النقدية, وحواراته التي أسهمت عند أكثر من منعطف في تنشيـط ذاكـرة الجـيـل الذي ينتمي إليه, أو الجيل الذي يليه بأهمية المغامرة الشعرية. ومن محاوراته اللافتة للانتباه تلك التي دارت حول واقع القصيدة البيتية (العمودية) ومستقبلها, تلك التي أثارت عليه ردود أفعال لم يعرها أدنى اهتمام انطلاقاً من قناعته بأن الشعر كالنهر, كلما عبر مرحلة اجتاحته رغبة الانتشاء الى العبور نحو مرحلة جديدة. ولكل مرحلة مقوماتها ووسائل إبهارها. فضلاً عن إيمانه بأن الجمود هو عدو الفنون الأول ومصدر خيبتها وانكسارها.

يحاول علي المقري في مجموعته هذه كما في مجموعتيه السابقتين أن يكتب شعراً خالصاً, أي غير ملتزم بالمعنى المباشر للالتزام, وأن تكون قصائده ضرباً من البوح الشخصي الذي لا يشاركه فيه أحد. ويبدو في تواضعه المطلق غير معني بما يشغل بعض الشعراء الكبار حملة الشعارات الوطنية أو الإنسانية الكبيرة حتى لا يندم على سقوطها: "كان النوم يشدنا من أوّل الصبح / حتى آخر النوم / ذبحنا سنوات العمر على عتبة الندم / ولم يبق لنا أي شيء نتباهى به / أو / نندم عليه, / صرنا بلا تباهٍ, / وبلا ندم, / بلا أي شيء". (ص 21)

وفي نص آخر بعنوان "أنام بدون عكاز" يستفزك شعرياً بالعنوان نفسه, فالنوم ليس بحاجة إلى عكاكيز من أي نوع, لكن نوم الشاعر مختلف, لا يشبه نوم الآخرين, وحين يشبه نومه نوم الآخرين تكون شاعريته قد تخلت عنه: "أنام في النهار / أصحو في الليل / أصحو في النوم / هكذا, أكسر الأزمنة من عضدها / أكسر حاجتك إليّ, / حاجتي إليك, / لنبلك العالي / وانضباطك الرفيع / أكسر النهار من ساقه / وأنام بدون عكاز الغد".

هل أضافت كلمة (الغد) في نهاية النص شيئاً؟ هل كانت هي الهدف وسط هذه الدائـرة من النوم المختلف؟ كأني بالشاعر وهو منشغل بكسـر الأزمنـة وكل ما هو خاضع للانضباط والتدقيق, يستحضر الشعر لا الغد, الشعر وما يقتضيه في المخيلة من تحطيم كل القواعد المتعارف عليها أو التي تم التعارف عليها عند كتاب الشعر في أزمنة خلت.

عن (الحياة )