(نجاة مكي وحكيم عنكر في "مدارج الدائرة")

بشير البكر

مدارج الدائرةيأخذنا كتاب "مدارج الدائرة" الى تجربة جديدة، لكل من الفنانة التشكيلية الاماراتية نجاة مكي والشاعر المغربي حكيم عنكر، عُرفت على نطاق ضيق جدا على مستوى العالم العربي. نحن ازاء قصيدة طويلة، مقسمة محطات ومستويات وجهات مختلفة، تتداخل وتتنافر في الرؤية، لكن زمناً شعرياً واحداً يجمعها، ضمن وعي جمالي للعلاقة بين الذات والعالم، والشاعر والقصيدة، والنقطة والدائرة، والمركز والمحيط. في مقابل ذلك هناك 54 عملا تشكيليا في اطار رحلة الكلام واللون. اشتغلت الفنانة على الدائرة دون سواها لمدة سنة. هي تخوض مغامرة، ليست جديدة كليا، وانما ضمن السياق الذي عرفته تجربتها على صعيد الشكل، مع اختلاف الأدوات، والذهاب أبعد في التجريب اللوني.

تنتشر القصيدة وتفرش نفسها في المساحات اللونية المشغولة بعناية كبيرة، ما بين الحار والزاهي والكابي والازرق والاسود والبرتقالي والاصفر، ضمن رحلة تحولات لا تستسلم لاغراءات اللون، بقدر ما تشكل ايقاعا خفيا لمستوى ثالث من علاقة اللون بالشعر. تدخل العناصر اللونية في الجانب الشكلي لبناء القصيدة، لتصبح تجربة العمل المشترك علاقة متحولة لا تستقر على هيئة واحدة، فتغدو أشبه بالاستغراق الصوفي الذي يشيع الغبطة في شرحه. فالنص مكاشفات تؤمن بقدسية الحرف، وتأخذ مداها في البحث، حول العمل على التباسات النقطة والدائرة واللون والظل والضوء والخط والفراغ، وصولا الى المنظور الذي تضيق من خلاله المسافة بين اللون والكلام.

الدائرة هي محور هذه التجربة الشعرية اللونية. في حالاتها الرمزية، تبدو الدائرة هي الحلقة الموصلة بين الداخل والخارج، الخاص والعام، الشاعر والكون، اللوحة وحالات التحول من الناحية اللونية التشكيلية، ضمن مستويات الحلم، والانتقال من الاحمر الى الاخضر الى الازرق فالابيض. ويصبح هذا الأخير كلمة سر اللوحة، ووسيلة اتصالها بالحالة الصوفية. لذا يذهب النص نحو الكشف عن وجه آخر في قول الحلاج: "هيهات من يدخل الدائرة والطريق مسدود، والطالب مردود، ونقطة الفوقاني همته، ونقطة التحتاني رجوعه الى اصله، ونقطة الوسطاني تحيره".

ينحو الخط البياني للتجربة منحى صوفيا، عبر استغراق القصيدة في الذات، وتحولات اللون في اللوحة، بين الذروة والرغبة في محو الحدود. ومن يتأمل مليا في دوائر نجاة مكي يكتشف ان البداية كانت نقطة، ثم تطور البحث والتجريب، ليصل الى الدائرة كمرآة تعكس ما تراه. وتحيلنا النقطة الأولى هنا، على موقعها عند الحلاج الذي اعتبرها رمزا من رموز الحقيقة، ولذا نراه يقول: "الدائرة لا باب لها، والنقطة التي هي في وسط الدائرة هي الحقيقة".

تؤدي اللغة التشكيلية دورا مهما في ربط هذه العناصر في حلقة واحدة او دائرة جديدة مفتوحة على مساحات اوسع، يحاول الشعر أن يصبح الأفق الأعلى لكي يوازن بينها، من خلال تربيع المستويات فوق شبكة لونية من البهجة والفرح الطفولي واليأس والأمل والشوق، المصحوب باللهفة والتوق والمناجاة والحنين والانتظار، والاستغراق الصوفي عبر الذات. يتحقق ذلك ضمن رؤية مفتوحة على خارج يقوم على الاختبار والتجريب في الاتجاهين اللغوي والتشكيلي، وداخل ينطوي على مجازفات كبيرة، ولاسيما تجاه اللعب اللوني الذي يحاول ان يرفد الرؤيا الشعرية، ويعلي من مقامها لتخرج من الالتباس، الذي يحف بها في بعض المواقع، لتعود الى اطارها الصوفي الذي لا يستقر على حالة ثابتة، بل يرحل بعيدا في عالم المفاهيم التصويرية. اللغة ليست لتضع لمسة بيضاء فوق الابيض اللوني الخارج عن حدود الاطار، بل هي في رحلة تواكب سفر التلوين، الذي لا يمضي في اتجاه واحد، وانما من خلال اصوات متنوعة، ونبرات مختلفة، تتناقض وتتزاوج، صعودا وهبوطا نحو فضاءات غريبة، تحفل بالاسرار، ويتصاعد منها البخور.
 لا يمكن الحديث عن تجربة نجاة مكي التشكيلية، من دون الاشارة الى انها من رائدات الحركة التشكيلية الاماراتية، وهي أول امرأة تنال درجة الدكتوراه في هذا البلد في مجال فني، وأول فنانة اماراتية متخصصة في مجال النحت. متعددة الموهبة، كثيرة التجريب وتبحث باستمرار عن استنباط اشكال فنية جديدة، تنطلق من ارض محلية، ذات علاقة بالموروث والمحلي. لكن اكثر ما يشد العين هو اللون الحسي الآتي من ظلال أخرى، من الارض والبحر والطفولة والحلم. من البيت القديم، والأيام البعيدة والاسفار الى البلاد الأخرى، حيث واجهات المحلات تأسر البصر، وتجعله في قوس قزح. الوقوف امام اعمالها في هذا الكتاب يشبه الوقوف امام سحابة لونية، يهتز العالم على ايقاع تدرجاتها الكيميائية. ويبدو من خلال دوائرها ان دراستها للعملات القديمة، طبعت الكثير من مفرداتها التشكيلية على صعيد النمنمات الصغيرة. وتبدو جليةً الخلفية الدينية، السحرية، الميثولوجية، حين تصبح الدائرة علامة وموضوع في آن واحد.
دائرة لونية ايقونية، تشع في كثير من الحالات نورا وقداسة، كالهالات التي تحيط بصور القديسين. دائرة المعاني من الفراعنة حتى التيبت، مرورا بالتوظيفات السحرية. احيانا تكون الدائرة متداخلة مع بعض الخطوط التي تقسمها، هي اشكال هندسية من المثلث والمربع والمستطيل، لكنها تحتوي جميع هذه الاشكال. انها الحيرة التي تطلق العنان للحواس، للعين أن ترى اللغة البصرية، وتلمس التفاصيل الشديدة الدقة، وتشم وتتذوق الألوان الصريحة التي "تمتلك" المتلقي على حد تعبير بول كلي، وتشعر البهجة الطافحة بلا حدود، والتناسق بين اللون والخط والموسيقى الداخلية، التي تنساب بإيقاع ترتيلي حالم.

يسير شعر حكيم عنكر في الكتاب على طريقة التجليات الصوفية، بين الكشف والايماء، بين الورق المشتاق للحب وبين الكلمات، بساتين تنادي من خلفها بساتين، وزوايا وفراديس وشموع، وطيور من ذهب فلسفتها من حركة الريح، طيور "يواتيها حب جم"، ويستولي عليها سلطان الشوق فتترك الاوكار وتعبر الجبال والبحار، "ترى المعاني فتغيب الاسامي". هي طيور فريد الدين العطار "كل من له في الطريق عين مبصرة، قد اقبل فرحا وللروح ناثرا".

هناك تنويع على النقطة ليس ككائن هندسي لا ابعاد له، بل كمغامرة فلسفية صوفية. الدائرة التي تدخلها "طيور حيارى" حالمة ومسافرة، لكنها منذورة للهلاك في "الوهم الغائب"، و"الكلام المقلوب"، والطريق المسدود، والمعنى الذي ترف من حوله "طيور الأزل". يتجلى على نحو واضح استعارة عنكر للنقطة والدائرة، فهما من الاصطلاحات التي سوف تستقر في القاموس الصوفي، حتى يأتي ابن عربي ويكشف عن دلالاتهما الخاصة بالجدل المعرفي (الابستمولوجي)، الكاشف عن العلاقة الوجودية بين الله والانسان.

يرمز نصف الدائرة العلوي الى قوس قزح، يناظره في الاتجاه المعاكس النصف السفلي الذي يرمز الى الفلك، وهما ايضا نصفا بيضة العالم، نصفها الأول "الأرضي" في "المياه الدنيا"، والآخر "السموي" في المياه العليا، وصورة النون العربية تمثل الشمس الشارقة، الدائرة مثل كهف للمساررة. والوصل يجب أن يتم في العالم الوسيط، لكن "المحب ذليل" يظل يتهادى ضمن نسق جمالي.

يتوسل عنكر في هذا الكتاب الرمز الصوفي من دون أن يغرق في اللغة الصوفية والتهييم البعيد. يحلّق بوعي، لكن ذلك لا يمنع من الاشارة الى انه يختلف هنا اختلافا كبيرا عن عمله السابق، وقصائده التي نشرها حديثا، في الشاعرية والموضوع والبعد الفلسفي، لكن التجربة الجديدة تبدو مدروسة الى حد كبير، ذلك انه خرج منها بعمل شعري يستحق دراسة خاصة.

النهار
الثلاثاء 6 حزيران 2006


إقرأ أيضاً: