"رهينة الألم" لفوزية السندي

فاطمة ناعوت
(مصر)

يقول صامويل كولريدج: "لا يجوز لشاعر أن يختلس من جيب الطبيعة. ربما بوسعه أن يستعيرَ منها. يستعيرُ ليردَّ ما أخذه في نفس لحظة الاستعارة. يفحصُ الطبيعةَ بدقة ويتأملها، ثم يكتبُ من استدعاءاتِ ذاكرته، وعليه أن يثق بخياله أكثر مما يثق في ذاكرته." وهنا يتكلم كولريدج عن مدى مشروعية أن ينقل الشاعرُ من الحياة والطبيعة المحيطة نقلا مرآويًّا بزعم محاكاة الواقع. فالشاعر، والفنان بعامة، لن يكون مبدعًا حقًّا إذا ما نقل من الواقع أو من حياته الشخصية نقلا دقيقًا مثل الكاميرا. حتى الكتاب الواقعيون لا ينقلون الواقع كما هو، بل يتأملونه جيدًّا، يحللون أجزاءه، ثم يغزلون على نسيج مشاهداتهم ما يمكن أن يقع في دائرة الواقع مما يتخلّق في خيالاتهم. لأن الفن يبدأ في لحظة "الانحراف" عن الطبيعي والمألوف. الفنان يمتلك عينين تريان الوجود تماما مثلما يراه الإنسان العادي، لكن عينيه هاتين بوسعهما التقاط زوايا نظر مبتكرة للأشياء والموجودات والأحداث، ولذلك، فقط، هو فنان. ينصت لإيقاع العالم على نحو مغاير فيبدع شيئا مغايرًا عما يراه الناس، إذ يقوم بتفكيك الوجود وإعادة بنائه حسب مكوّنه الجماليّ والفلسفيّ. وهذا ما سنجده في ديوان "رهينة الألم" للشاعرة البحرينية فوزية السندي، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2005. وهو السادس في تجربة الشاعرة التي بدأتها عام 1982 بديوان "استفاقات" ثم "هل أرى ما حولي"، و"هل أصف ما حدث" عام 1986، ثم "حنجرة الغائب" 1990، و"آخر المهب" 1998، و"ملاذ الروح" 1999. وإذا كان القانونُ والمنطق يعملان على ردِّ الأ.اء لأسمائها الأولى، يقوم الشعرُ باقتراح أسماء جديدة لها. لأن الشعر نقيضُ القانون والمنطق. في قصيدتيها الطويلتين: "أغلال الليل"، و"تأويلات"، تقوم الشاعرة بفحص الطبيعة والعالم والموجودات والشخوص، كما قال كولريدج، ثم ابتكار معجم جديد للوجود من خيالها الخاص. معجم يضم بين تضاعيفه تعريفاتٍ مغايرةً للمرئيات والمجردات، تتفق ومنظورَها الفلسفيّ للعالم. فنجد: "النقطةُ: دمعةُ الحبر، وحرفةُ القبر: نحتُ بوصلةٍ لا تتجه لغير الغياب، والشرُّ: شريكُ البشر، والجهلُ: إجهاضُ العقل، والطينُ: قابليةُ الرطوبةِ لإعجاز مشكل التراب، والبيتُ: أسمنتٌ أخرسُ يتكسر سرًّا لإعالة عائلة تعول عليه،...". بل وتعيد تعريف بشرٍ بعينهم: "يوسف: طفلٌ يتهجاني طيلةَ القلب، بهيٌّ وحكيمٌ في آن، فوز: كلما اقتربتْ بحريةِ موتِها أكثر، كلما انهالتْ نحو حبرِ روحي أقل" وهكذا. وإن كانت القصيدتان السابقتان قد قدمتا تعريفاتٍ مختزلَةً حاسمةً، واحترمت سيموطيقا المعاجم المتعارف عليها حيث نقطتان(:) بين المفردة ومعناها، سنجد الشاعرةَ في قصيدة "ضد غدر الوجع أسرفُ في تسريب السم"، تسرّب للقارئ تحليلَها وتعريفاتِها الفلسفيةَ المطولةَ للأشياء في العالم عبر تضاعيف النص، من دون أن تعلن لقارئها أنها تعيد تسمية الأشياء. "الغبارُ حكمةُ الصحراء/ به تداوي غرورَ تلالٍ تتصاعد./عندما تنتزع الأفعى جلدها الأخير/ تحرضه دومًا على نحت جديدها القديم/لتتقدم به./ للزواحفِ موهبةُ أصابعَ/ ترتسمُ دومًا على ترابٍ ضرير/ لتكسرَ سرَّ هذا الطريق." هي ذاتها التيمة التأويلية المعجمية للوجود وإن خلت من نقاط التعريف، وإن زاد بها حسُّ الحكمة والفلسفة، وهو ملمحٌ تراثي يغلب على كافة الديوان. والشاعرة تمتح نصوصَها من نسغ الفقد والألم. وكانت كتبت هذه القصائد بين عاميْ 2000 و2002 وبينهما كانت فقدت أمَّها وأباها وأعزَّ صديقاتها، حسب أحد حواراتها. ولذلك لا عجب أن يأتي العنوان "رهينة الألم"، وأن تأتي لوحة الغلاف للفنان السوري بشّار العيسى شديدة التعبير والدلالة، حيث وجه امرأة مشدوه بالفقد حبيسٌ في الوجع. لنا أن نظنَّ، نحن القراءَ، أن الشاعرة إنما تقصد نفسها برهينة الألم، لكننا لن نلبثَ أن نكتشفَ، في القصيدة التي تحمل ذات العنوان، أن الأمَّ هي تلك الرهينة المنذورة للألم والحب ثم الغياب الأبديّ. ولذلك سوف تهدي قصيدتها إليها: "يا لكِ يا أمي/حتى تحت التراب/ تحترفين عنف الحبِّ/ كأنكِ قلبُ الجنة." ثم نكتشف من جديد في آخر مقطع من الديوان أن الشاعرةَ (وربما القصيدة) هي تلك المنذورة للألم حين تعيد تقديم نفسها للعالم: "رهينةُ الألم: كتابةٌ لم أكتبها لأكتشفَ الألم/ بل لأعرف مداه/ ومآلات صداه." فالكتابةُ لدى السندي لا تساعدها على اكتشاف الألم، لأنه موجود وحاضر طوال الوقت وأجلى من أن يُكتشف، لكنها ترمومترٌ يساعدها فقط على قياس أبعاده المترامية في الكون والإنصات إلى رجع صداه المنتشر في الوجود. والكيان الشعري دوما في حال بحث عن حرية وجودية تتقاطع وتتصادم مع نسيج الأرض وأعرافها. لذلك يظلُّ الشاعر تواقًّا أبدًا إلى التحليق في العلا، ولو شعرًا. "أمهلوني قليلا/ لأتوارى بخجل حرفٍ/ يحيا حريةَ الهواء أكثر مني". إنه لمن نكد الدهر حقًّا أن يكونَ "الحرفُ" أكثر حريّةً منّا نحن البشر!، لذلك سنرى الشاعرةَ مشغولةً بفتنة الحرف وفحص طلاقة حريته ورشاقة وثباته بين نسيج الكلمة تباديلَ وتوافيقَ لكي يمارس لعبته السحرية في تغيير معنى الكلمة مع كل قفزة لغوية. ذاك أننا سنجد في "رهينة الألم" الكثيرَ من اللعب على جذور الكلمات وتبديل مواضع الحرف فيها من أجل متعة اكتشاف دوالٍ جديدة وبالتالي مدلولاتٍ ودلالاتٍ جديدة. "نحِّ مُديتَكَ/ أيّها الموت عنّي/ لم أعد دميتَكَ الخجولةَ/ ومَداي كالمُدية يمتدّ نحوي"، لنتأمل كمْ مفردة نحتتِ الشاعرةُ من الجذر (م د د). مُدية- دُمية- مَدى- يمتد. ونجد مثل هذا اللعب في المقطع: "أسمنتٌ أخرسُ يتكسر سرًّا لإعالة عائلة تعول عليه" حيث المصدر (ع ا ل) خرج منه، عالَ، إعالةٌ، عائلةٌ، يَعُولُ، يُعَوِّلُ إلخ. ورغم أن الديوان ينتمي لتيار قصيدة النثر، إلا أننا سنجد الشاعرة ميالة لاصطياد مفرداتها من المعجم التفعيليّ أو الشعر الحر، بما يضم من بلاغيات صياغية حدَّ التغريب اللغويّ في الكلمات أحيانًا من قبيل:"هصير، هيج، أتهوّد، أتمرأى، تتصاهل الحروف، عصائفُ، إلخ. ويتجلى ذلك الانشغال اللغوي وغواية الحرف والكلمة لدى الشاعرة في مجمل الديوان مثلما نجد في المقطع التالي الذي جمعت فيه معا خمسةَ عشر مصدرًا في ابتكار موسيقيّ وإيقاعيّ فريد حين تقول: "دمنا/ ترنحنا طويلا/ متعثرين بأنفاس نادرة تواكبُ هصير هيج تبارى:/ لثمٌ وأخذٌ وانغراسٌ وانشحاذٌ وترفقٌ وانغمارٌ وهبوبٌ وانحسارٌ واحتدادٌ وانبعاثٌ وغمرٌ وهملٌ وقتلٌ ورهوٌ وجناز." ومثل هكذا شعرية تقفُ، بظني، على الحد الفاصل المتماوج بين القديم والجديد. إذ تحرّرُها من سطوة الخليل بن أحمد الفراهيدي وابتكارُها إيقاعها الخاص يجنح بها نحو الانطلاق والتجديد والحداثة، في حين ترنو اللغةُ فيها برصانتها وبلاغتها بعين الحنين نحو التراث والماضي.

الوطن
السعودية- 24 أكتوبر 200