(قراءة في "شتاء" الشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار)

فاطمة ناعوت
(مصر)

يطرح هذا الديوان "أخيرًا وصل الشتاء" للمغربي عبد الرحيم الخصّار، سؤالا نقديًّا إشكاليًّا. حول مدى تماهي الأجناس الأدبية فيما بينها وتقاطعها وسقوط الجدر الفاصلة بينها. وكان انعكاسُ الخطاب ما بعد الحداثيّ في العمارة أن مزجت بين المدارس الفنية قديمها وحديثها، أفقيًّا على مستوى الجغرافيا، ورأسيًّا على مستوى التاريخ. فلربما أصبح من العادي أن تجد بنايةً حداثية متقشفة، تعلوها قَصْوَرةٌ باروكية مثقلة بالزخارف، وبمدخلها أعمدة كورنثية أو بيزنطية أو فرعونية. فلم تعد العمارة ما بعد الحداثية تولي كبير احترام للصفاء النوعيّ الإسكولائي الذي ميّز المدارس السابقة. هنا "سقوط سُلطة" أحادية النهج. وما لبث أن انعكس ما يشبه ذلك على الأدب. فكان أحد تجليات ما بعد الحداثة في الأدب هو سقوط أحادية الجنس الأدبي أو صفاء النوع. ذابت الجُدُر بين الشعر والنثر والسينما والمسرح انتصارًا لكتابة "عابرة للنوعية" بتعبير إدوار الخرّاط. في هذا الديوان الصادر مؤخرًا عن منشورات وزارة الثقافة المغربية، وهو الأول للشاعر، سنرى السرديةَ وهي تحاول أن تشدَّ عنق القصيدة إلى النثرية المحض. فما الذي يجعلنا نطلق على هذه الكتابة شعرًا؟ سيكون الفيصلُ هو فحصَ درجاتِ التقريريّة والتعليلية والسببية والتراتبية المنطقية في النص. والشعر دومًا في علاقة عدائية مع كل ما سبق. أي أن المقاربة النقدية لابد أن تفحص إلى أية مدى نجح الشاعر في خلق علاقات مدهشة وطازجة بين الموجودات عبر سرديته المسهبة؟ وكذلك اختبار قدرة الشاعر على القفز برشاقة بين المُتعيّن والمجرّد بحيث لا يقع في أيًّ من المحظوريْن القاتليْن للشعرية: سواء التقريرية الفجّة، أو المجاز المهوّم المستهلَك المأكول سلفًا؟ وبظني أن الخصّار قد نجح إلى حد بعيد في خلق تلك العلاقات والتجوال بحذر فوق الخط الفاصل بين المنطقتين الحمراوين فلم يسقط في أيٍّ من الزلليْن. سوى أن عنصرًا آخر يؤثر غيابُه على جواز منح النصِّ صكَّ قصيدة النثر. التكثيف. وهو ما غاب هنا. على أن غيابه لم يقوّض كثيرًا من شعرية الديوان بسبب قدرة الشاعر على تطويع الجمل الطويلة والشروحات في رسم صورٍ مشهديّة تشي بمخيال قادر على التقاط كادرات للحياة من زوايا مدهشة. "كأنكِ لا تزالين قربَ البئر/تسحبين الدلاءَ إلى بيتِنا القديم/تغزلين الصوفَ في الظهيرة/وتنحدرين مساءً مع نساءِ القريةِ إلى الوادي/لتعودي بحزمةِ الكلأ إلى حملانِنا الوديعة/كأن الحملانَ لا زالت ترعى في ذاكرتي." وفضلا عن الصورة الشعرية الأنيقة نجد السطر الأخير وقد قفز من الواقعيّ إلى المجازيّ لينجوَ من التقريرية الصريحة. وهو ما سنلمسه في طول الديوان. "أحدّقُ في الماضي/وأخافُ أن أصابَ بالعمى/كان الفرحَ يرقصُ في حذائي البالي/يلمعُ في الأقلام/حين تحتكُّ بالمبراة/ ثم يختفي في طاقيةِ الولد/ أو يومئُ لي من خلف منسجِ الجَدة". هنا تراوحٌ بين المجازيّ والمُتعيّن: التحديق في الماضي مجاز، يتلوه متعيّنٌ وهو الإصابة بالعمى، يتلوه مجازٌ وهو رقصُ الفرحِ في الحذاء، ويستمر المجاز في صورة "الفرح" الذي سيغدو فاعلا لكل ما سيلي من أفعال: يلمع– يختفي– يومئ. على أن الشعرية في هكذا مقطع لا تتولد من تجاور المحسوس والمدرَك وحسب، بل عبر تلك التقاط فرح القلم بالمبراة، و"أنسنة" الفرح ذاته كأنه طفلٌ مشاكس يظهر ويختفي ويلعب ويومئ. المقطع من قصيدة عنوانها "خارج القفص". ولهذا العنوان دلالة ممتدة على طول الديوان. فالقارئ سوف يستشعر دومًا وكأن الشاعرَ عصفورٌ يكمن في قفص معتم يحجبه عن الوجود. يخرج العصفور/الشاعر بين حين وحين ليراقب العالم فيبهره الضوء فيعود لمنفاه الاختياري الآمن واثقًا من صحة اختياره العزلة في مأمن من حياة صاخبة مخيفة. ولعل ناقدًا إحصائيًّا يلمس ذلك عبر حصر تكرار مفردات بعينها على شاكلة: قفص- عصفور-سياج– أعمى- ضرير- ظلمة- جدران الخ. وسوف تتخلق شعرية الديوان ليس عبر المشهديات البصرية فحسب بل عبر تشويهها المتعمّد المحسوب. فقد ترسم الكلماتُ لوحةً بصرية ما تكاد تكتمل في مخيال القارئ حتى يحرِفها الشاعرُ بغتة بكلمة واحدة تطيّرها إلى لوحة أخرى مغايرة تماما: "المياهُ شاختْ في الآبار/ لذلك تترك بياضَ شعرها/ عالقًا في جدار الكأس"، الكلمة الأخيرة: "الكأس"، صدّعتِ الصورةَ التي كان رسمها القارئُ وكسرت توقعه في التفاتٍ مشهديٍّ مباغت، ولن يحسم أحدٌ هل كان البئرُ كأسًا أم كان الكأسُ هو البئر. من التيمات الفنية في الديوان ما قد أطلق عليه "ميتا-تناص" أو محاولة تقمّص شخصية المُتناص معه، وليس مجرد التعامل مع مقتطف له. فالخصّار لم يتناص مع جبران خليل جبران. بل ارتكب الجريمة الأكبر بأن استعار كيانَه كاملا ليغدو هو جبران وتغدو حبيبتُه "ماري هاكسل" تارةً، وتارة أخرى "سلمى كرامة". المرأة الأولى واقعٌ حيٌّ في حياة جبران، والثانية من ابتكاره. فالذاتُ الشاعرة تودُّ أن تتقمّص وجودَ جبران كاملا غير منقوص، واقعًا وخيالا. نلمح نفس التيمة الفنية في تناصه الموغل مع رواية "ماجدولين" للفرنسي "ألفونس كار"، على أنه لم يأخذ مقتطفا من الرواية ولم يقربها حتى، بل يقول: "هل قرأتِ روايةَ "ألفونس كار"، هديتي لك؟/هل رأيت كيف كنتُ أصارعُ التيار في تلك الرواية لأحميكِ من الغرق؟". واللافت أن الشاعر لم يغرق تمامًا في شخص "إستيفن" لكن وقف بحذر على الخط الفاصل بين الوعي واللاوعي، فهو مازال يدرك أن "ماجدولين" إن هي إلا رواية أهداها لحبيبته، سوى أنه قرر الدخول بحبيبته في لُعبة الاشتباك مع دراما الرواية، فيصير هو إستيفن وتغدو حبيبتُه ماجدولينَ. ثم: "وأسقي وردًا في لوحة فان جوخ/ موقنًا أنه لن ينمو"، اشتبك الشاعر أيضًا مع اللوحة في تناص موغل حتى صار جزءًا من عالمها. ثمة قصيدةٌ على هيأة رسالة مكتملة الأركان، فتبدأ بـ" آسفي/أوئل غشت/العزيزة نوال...." وآسفي هي مدينة بالمغرب(مكان)، وغشت هو شهر أغسطس(زمان)، ثم العزيزة نوال(مُخاطَب). بنيةٌ الرسالة المألوفة سوى أن الشعرية ستتخلق من العلاقات الجديدة للأشياء. وطبيعي هنا أن تأتي قصيدةُ الرسالة أحاديةَ الصوت بلسان المتكلِم فتحضر "الأنا" ويغيب ال"هو" إلا كخلفية، فيما يكون المخاطَب هو "الآخر" على إجماله: فتارة سيكون الأمَّ، وتارةً يكون مكانا مثلما في قصيدة "يد تنفض الخوف عن ملابسي"، أو قد يكون الحبيبة أو العالم بأسره. والحال أن معظم قصائد الديوان تنتهج "شعرية الرسائل"، إما بشكل صريح مثل النموذج السابق ورسائله في نهاية الديوان إلى شعراء بأسمائهم، أو على نحو غير مباشر كما في قصائد أخرى.

توسّل الديوان إيقاعَه الموسيقيّ عن طريق فقرات تكراريةٍ مثلما في قصيدة "أخبئُ حزني في شجرة الطرفاء"، حيث مقطع: "البارحة لم أنم/كان طيفك يملأ عليّ الغرفةَ/وكلما أطفأتُ المصباحَ/أضاء وجهك هذه العتمة/فحال بيني وبين النوم/أحتاج إليك"، يتكرّرُ كفاتحة وخاتمة للنص وكمداميكَ داخلية أيضا. وكذلك ما قد نسميه "النص الدائري"، كأن يفتتح القصيدة بـ: "سيارة قديمة تنزل ببطء في المنحدر/كذئب تسلل من وكره/ باحثًا عن فريسة..."، ثم ينهيها بـ: "حيث الضبابُ ينزل ملاءاته من جديد/منتظرًا سيارة قديمة/تصعد ببطء خلف المنحدر". فيستدير النص على نفسه ليغلق قوس الدراما بما يفضي أوله إلى آخره. هو أحد الدواوين التي نجت من أخطاء اللغة ما يُحسب للشاعر رغم غياب "تنضيد الحروف" الذي أراه أحد ضرورات الشعر، ورغم بعض الهنات الإملائية التي تكررت بما يشي بأنها أخطاء غير مطبعية، مثل "جدع" الشجرة وصحيحها جذع، و"حياض" كجمع كلمة حوض، وصحيحها أحواض. وربما يعود ذلك إلى الأجرومية اللغوية التي اختص بها المغاربة، سوى أننا لن نقبل هذا التبرير بطبيعة الحال. وعلى الرغم من غياب التكثيف عن مجمل القصائد واستفاضة الحكي كما أشرنا، إلا أن الطريف أن الشاعر بارعٌ في كتابة النص "الومضة" أو "الأبيجرام" شديد التكثيف وهو اللون الكتابي الأصعب! وهذه مفارقة. يقول في نص بالغ القِصر والجمال بعنوان "مقامرة": "حسنًا أيتها الحياة/ضعي أوراقك على الطاولة/ودعينا نعيدُ اللعبَ من جديد."، وفي نص بعنوان "تدريب" يقول: "منذ سنين/وأنا أسكن في الغرف الواطئة/كأنما أتدرب على القبر".