رامي الأمين
(لبنان)

يحيى جابأن يختار الشاعر اللبناني يحيى جابر “كأنني امرأة مطلقة” عنواناً لديوانه الجديد (دار النهضة العربية-2007)، فهذا ليس جديداً على الشاعر الذي عرف دائماً كيف يصطاد العناوين المناسبة لكتبه. فهو صاحب “بحيرة المصل” و”الزعران” و”نجوم الظهر” وهي كلها عناوين تبدو بالنسبة إلي موفّقة جداً، ثم إنها ليست المرة الأولى التي يؤنّث يحيى جابر فيها نفسه، فهو القائل “نحن الرجال، نساء هذا الكوكب”، وهي عبارة غاية في الفرادة، تبدو انعكاساً مطابقاً لعنوانه الجديد، الذي يرتدي فيه ثوب المرأة، ليلعب دورها، ليمثّل ضعفها، فيما تصير المرأة نفسها رجلاً قوياً ظالماً. انه ببساطة يقلب الأدوار، يتبادل الأسماء مع حبيبته: “لبست تنورتك، فقدت ذاكرتي/ رأيتك في المرآة،/ ترتدين بيجامتي.../ تذكرت/ لقد تبادلنا الأسماء في الخفاء/ في سرير البارحة”.

من هنا، يدخل يحيى جابر عالماً خاصاً جداً، ابتكره بنفسه، وجعله مناخاً لقصائده. للعالم هذا زمانه ودولته، رجاله ونساؤه، أدواته الصغيرة، تفاصيله، وطبعاً لغته الخاصة. انه عالم التلفزيون والمرأة والمذيعات والوجبات السريعة والحميات الغذائية وسيارات الهوندا والنيسان، عالم العولمة والصناعة، أو عصر “بلا أدب”، أي عصر الإرهاب كما يقصد الشاعر عندما يكتب عن اليوم الذي خسر فيه جائزة نوبل، وراح يبكي في اقرب حانة. ثم يحدث فجأة وبلا أدب أن “انفجرت سيارة مفخخة في الأشرفية/ ورحنا نشتم/ أم الفرد نوبل/ التي قذفته لوح ديناميت لهذا العالم”.
هكذا، وبأسلوب محبب وساخر، يقدّم الشاعر موقفه حيال قضايا راهنة، في السياسة والأدب على السواء. لا يفصل بينهما. هو هنا، يجد رابطاً أساسياً بين الديناميت والأدب. ومعنى آخر يفخخ قصيدته بعبوات ساخرة. لا يعود الشاعر رجلاً، بل هو كما يصف فرديريك نيتشه نفسه: “لست رجلاً بل ديناميت!”. يفجّر المعنى، لتتشظّى اللغة ايضاً. مثلاً عندما يكتب: “نحل يطن، يوزّ، يغط، يعض”. هنا تنشطر اللغة، كما لو كانت بلّوراً تفتت. انه يدخل اللغة من باب لغوي. أي أنه يقتحم اللغة بقاموس جديد، يلمّه من أمكنة مختلفة. يقطف كلماته من الشارع وحديث الناس، ومن التلفزيون: “ثمة شعر زائد بيننا/ عليّ أن أخلع بصلة الضجر”، أو: “هذا حب برعاية “سيليس” سابقاً، “ألفا” حالياً. وأترك الفواتير ليوم الحساب”.

يعرف يحيى جابر كيف ينسلّ إلى القصيدة، كيف يجعل منها “وكراً” ليومياته. يكتب يومه، مختصراً حياته المتكررة، بضجر قاتل: “حياتي في الصندوق الخلفي/ كرتونة كتب/ ربطات بلا عنق”. لكنه لا يحقد على تلك الحياة. يغضب، نعم، لكن غضبه “ناعم كرفسات جنين”. هذا تشبيه نادر. يكتب أحياناً يوميات ساذجة، عادية، كأنما نراها أمامنا. كأنها “نقل مباشر” من الواقع، مع إضافات شعرية. هكذا يصنع من اللحظات الخبرية التلفزيونية لحظات شعرية: “قد تستعيد أرضاً، وتحررها بعد جيل أو جيلين/ ولكن لا يمكنك الفوز بكمشة حب/(...)/ أنت على مشارف نصر/ تابع خط البجع/ سرب نساء في امرأة”. ولا يخفى هنا، أن الشاعر يغمز من قناة حرب “تموز” التي حصلت في لبنان الصيف الماضي. هو يريد القول إن النصر يكون، في الأساس، بواسطة الحب، بالبحث عن الآخر، عن المرأة، عن سرب نساء معاً. لكنه لا يريد أن يرى بعد الآن. يطلب إلى حبيبته أن “خذي عينيّ، يكفيني ما رأيت”.

ما يميّز يحيى جابر أيضاً هو قدرته على إيجاد مواضيع جديدة للقصيدة. مثلاً يكتب بغرابة تامة عن الطعام وعلاقته بالحب والحياة. في قصيدة بعنوان “قلب بين الأمعاء”، يتناول موضوع السمنة والحميات الغذائية، الحب وعلاقته بزيادة أو نقصان الوزن: “يا عشاق العالم/ كلما وصل حبي إلى طريق مسدود/ افتح فمي كجرافة”. الشاعر يحب من معدته. هكذا يريد أن يقول لنا جابر. الشاعر يهضم كل شيء، عندما يعاني الحب: “عاشق مهجور،/ يرى الأرض قطعة ستيك/ ويناقش الخسّة”. هكذا يضرب الشاعر عرض الحائط كل التقاليد الشعرية والاجتماعية المتعلقة بالحب. يحب كما يأكل. يتألم من معدته عندما يتعلق الأمر بعواطفه. شاعر ينتقم بأسنانه. يغضب، ويترجم ذلك شعراً غاضباً، لكنه غضب ناعم كرفسات جنين.

الحياة
02/08/2007