(«في محاولة مني» لصباح زوين)

رامي الأمين
(لبنان)

ربما يكمن سرّ الكتابة في الملاحظة الدقيقة للأمور والأشياء التي تدور من حولنا، أو ربما يكمن في مكان آخر. الأكيد أن البديهة أمر اساس لكتابة الشعر. وصباح زوين تمتلك بديهة من نوع خاص، تظهر في ديوانها «في محاولة مني» الصادر لدى «دار نلسن». يمكنها أن تلاحظ أشياء لا تكون في حسبان احد. كأن تلحظ ما بقي منها في المدينة التي توارت، «هناك، حيث بقي شيء مني، حركة يد والجلوس للفطور». استطاعت أن تلتقط حركة اليد وتجعل منها أمراً محسوساً وموجوداً في مكان محدد. استحالت حركة اليد في القصيدة شيئاً يمكن إمساكه، أو نقله من مكان إلى آخر. والوقت مع صباح زوين مائل، أو انه «كان قد بدأ يميل»، أي انه عاد ومال في النهاية. الوقت مائل، لأنه مجرّد، لأنها تجعله كذلك، وهو إذاً موجود.
الوقت موجود ومائل. وهو إذ يميل، يعود ويقترب، تقول هي ذلك في مقطع آخر. لا أقول في قصيدة أخرى، لأنها تقصّدت في كتابها ألا تضع عناوين لقصائدها، بل جعلتها مفتوحة على بعضها البعض، مترابطة، كما لو كانت مقصورات لقطار يسير في الوقت الضائع. «في مقصورتي لازمت مطرحي طوال الوقت،/ وجهي لاصق بالخارج،/ حيث رأيت خيام السياح في ربيع بارد/ ورأيت مقاهي على الأرصفة،/ ورجالاً عاديين/ وبيوتاً متاخمة لسكة الحديد».
تستقل قصائدها، مقصوراتها المترابطة، وتنظر من خلال زجاجها إلى العالم الذي يمرّ مسرعاً مع أعمدة الكهرباء والأشجار. تقرأ الجريدة، صفحة الوفيات، خبر وفاة كاتب روماني. ثم تعلن بشكل مفاجئ: «الكتاب أيضاً يموتون بسبب التضخم». ترتفع بك من راكب قطار إلى طائر بأجنحة الصدمة.
تدوّن يومياتها. أو تدوّن علاقتها بأيامها. تصنّف هذه الأيام. ترّقمها: اليوم الأول، اليوم التالي، هكذا، تتابع الأيام، إلى أن تصل إلى اليوم الأخير: «في اليوم الأخير، تساءلتُ عن المعنى». تتساءل، لأنها تبحث. السؤال مقدمة البحث عن المعنى، وعن المكان والوقت، والمكان غاب عنها، «غاب عني ركن تحت نافذة كبيرة»، وغابت في لحظة أبدية، «لحظة امرأتين لا تعرفهما». تبدو غارقة في لعبة الزمان والمكان. لعبة المستحيل التي يلهث وراءها كل الشعراء كأطفال يسألون أسئلتهم الأولى. كمن يتلمّس الأشياء ويتعرف بالألوان والأطعمة.
كمن ولد حديثاً، تحبو بإتجاه الوقت، الذي يكبر ككائن بشري: «في المدينة الصغيرة كبر وقتي، أعني امتداد الوقت./ وفي القطار السريع/ اجتزت مسافات خضراء، أجتزت نهائياً «أ»، والإمرأتين على الرصيف/ المرسومتين». هنا يمكن ملاحظة استبدالها أمكنة الكلمات كما يجدر بها أن يكون. تلعب بالكلمات على سجيتها. تستخدم التجريب في اللغة، فبدلاً من «والإمرأتين المرسومتين على الرصيف»، تكتب: «الإمرأتين على الرصيف المرسومتين». ولا ندري تماماً ماذا تقصد بذلك، وهل هي تقصد شيئاً أم انه خطأ غير محسوب لا اكثر ولا أقلّ، أو انه في احسن تقدير، وكما أشرنا محاولة منها للتجريب.
تستخـــدم فــــــعل «الإنحناء» كثيراً في قصائدهـا، هذا فضلاً عن فعل «الميل»، الإنحناء، كما تعلن، يدلّ على كلام ما. وكلماتها تنحني، وتميل بعضهــــا على بعض لتتشكل القصيدة، وهـــذا يظهر فــي تدرّج قصائدها، وتدرّج الكلمات نفسها داخل المقطع الواحد، كدرج، تنزله برويّة: «كان المساء يأتي/ على شبابيك البيت،/ وتأتي الظلال/ على الأواني./ أيضاً على الكؤوس نصف الفارغة،/ وعلى وجوهنا البيضاء». تميل القصيدة إذاً، ويميل معها قطار القصائد أحياناً، حتى ليخال القارئ أنه سينحرف، أو أنه مهدد بالإنحراف، لكن الرحلة تنتهي، بسلام، في النهاية، «أو ربما لم تنته،/ وما زال القطار/ سائراً بي،/ والسكّة من تحتي/ تتقطع كلمات مائلة».

الحياة
01/04/2007


إقرأ أيضاً: