(حسين عجيب أصدر ديوانه بلا دار)

محمد علي شمس الدين
(لبنان)

حسين عجيبفي صخب العالم الثقافي (الإجرامي والإعلامي) كنت أبحث عن قصيدة. كنت ولا أزال أتمسك بالعشبة اللطيفة في مواجهة هذا الصخب المعولم للقتل والقتل والقتل، للمجاعة، لجفاف الروح البشرية والسرطان والألم. من دلالات ذلك ندرة الشعر في العالم، كروح وكحرف، وما تلفظه المطابع والصحف ومواقع الانترنت، كل يوم، لا يكاد يبلّ ريق المتعطش... بل «ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج»، على قولة قديمة. وقلت بيني وبين نفسي: أنا الطُلَعَة، ولا أجد ما يبلّ الريق من ماء القصيدة، فما بالك بالذين ينتظرون أن تقع عليهم القصيدة لا أن يقعوا عليها؟ بل ما بالك بمن لا ينتظرها ولا يبحث عنها بل يترك المسافة بينه وبين الشعر تتسع وتتعمق حتى حدود الريبة والوحشة؟ ثم هل ثمة في هذه الأيام أكثر من الأيام القديمة، شيء ما، معنى، حيثية وجودية مولجة بطرد الجميل والإفساح للقبيح والسقيم بهذا المدى الشاسع من الإهمال أو ما يشبهه من ثرثرة ورغوة كلام على الصحائف وفي الكتب والمواقع؟
آنئذ قلت في نفسي: لا بُدّ الجميل متوار. وهو بالتأكيد موجود، ولكن: أين؟ وكيف الوصول اليه؟

الصديق الذي ناولني هذه القصائد للشاعر السوري حسين عجيب، المجموعة بعنوان «نحن لا نتبادل الكلام» الصادرة عام 2007 لا عن دار نشر مسماة، والأرجح أنها إصدار خاص بنسخ محدودة، ولعلها منشورة في أحد مواقع الانترنت، أقول: الصديق الذي أهداني هذه القصائد، لم يكن يهجس بهواجسي... فقط، أحسبه شَعَر بشيء من ضيق التنفس الشعري في صدري من خلال تبادل حديث مقتضب بيننا وإشارات وكلمات... قلت إنهم يلمّعون صورهم الهرمة لكي يظهروا أكثر شباباً. يقتاتون كالجِمال من أسنِمَتهم، ويشربون من الماء المخزون في بطونهم ليرتووا. يستعيضون بالإعلام عن الإبداع، ويحومون ولا يرِدون. يُعيدون إنتاج أنفسهم بإبداع أقل واجترار أكثر. لقد قلّ القلق في الشعرية العربية اليوم، فأين المفرّ يا صديق؟
بالطبع ليست «نحن لا نتبادل الكلام» بالجواب الشافي عن أسئلتي وعن القلق. لكنها تفتح كوّة ولو صغيرة في ظلمة طخياء. وغالباً ما هي كمن يسترق الضوء استراقاً ولا يدفقه دفقاً. لعلها أفضل من الاكتفاء بمسبّة الظلام. ذات يوم كتبت: أن نوقد شمعة، لا يعفينا من مسبّة الظلام. لكننا محكومون بأمل الشعر... حتى ولو كان بصيصاً منه. والبصيص الذي بين يدينا، في مجموعة «نحن لا...» بصيص صُوى... صامت، خافت ويتقدّم بخَفَر وحَذَر، بل لعله لا يرغب في الإفصاح عن نفسه إفصاحاً صائتاً من البداية. وإلا لما تقدم بصورة إصدار خاص، محدود، ومُغفَل المكان والزمان. ثم حين يكتب شاعر ما «نحن لا نتبادل الكلام» فمعنى ذلك أن ما يتم تبادله هو الصمت. ذلك ما حدست به قبل الخوض في النصوص... فإذا بي أقع على النص الثالث بعنوان «صمت متبادل». ليس هذا فحسب، بل فاتحتني النصوص بميلها الى السرية... وصعوبة الكلام الواصلة لحدود الاستحالة. «فمن يعرف لا يتكلم» على ما يقول (ص 82)، و «ما أن تعرف ما حدث حتى يصبح كل شيء تافهاً» (ص 85 من قصيدة «محاكاة الألم»)... والأهم، والأبدى، هو عدم صلاحية الكتابة لكي تكتب مرة ثانية... فالمجموعة الشعرية تبدأ بالسطر التالي: «كانت الحكاية تصلح لكل شيء، سوى أن تعاد مرة أخرى» (ص 5)...

وإذن: بِمَ يكتب الكاتب إن لم يكن بالكلمات؟ ربما لم يكن الشاعر ليرغب بتبادل الكلام، مع أي شخص آخر، أو بإرسال بريده لأحد. وأحياناً، كالمنتحر، لا يقول سوى انتحاره «وضع فوّهة البندقية على أكثر الأماكن قرباً الى النفس» (ص 84)، وآثر أن يقع بعد أول حوار له مع الآخر، صمتٌ لا كلام بعده «ورق الخريف يتعثر. من أين أتيت تجد الحكاية ناقصة. أنا حسين عجيب أجبته، ولفّنا صمت لا كلام بعده» (ص 48).

تواجهك المجموعة بنصوص متشردة، خائفة ومشحونة بشحنات عالية من القلق. وحسين عجيب لا يكتب القصيدة حتى ولو طالت، بمقدار ما يكتب جملاً تلهث الواحدة بعد الأخرى. وهو أقرب ما يكون من القصيدة حتى يكتب في صفحة بيضاء كلمات قليلة. جملة أو جملتين «كأننا جميعاً أتينا بعدنا»، «ما كان بعيداً وما كان بمتناول اليد» وربما اكتفى النص بخمس كلمات أو ثماني كلمات... وربما تقدم بصيغة حكمة، أو جملة متأمل مستوحد «أسوأ من الألم الخوف منه» «ضيّعتني الطرق السهلة» «رغم أني تركت 37 سنة خلفي، وأنا أحشو دماغي بالنيكوتين والذكريات» والقلق وجودي غائر... على الإجمال، إلا أنه قد يطفر من واقع اجتماعي وفكري عاشه الشاعر... فهو أحياناً رَمْبوي «بكثير من الغرور والطيش اتجهت صوب تاج العالم لأبصق عليه»، وثمة بينه وبين محمد الماغوط نَسَب نفسي ومعيشي ما، لم يصل لحد التماثل التعبيري، وإن كان ثمة جمل تهبّ على الورقة من ناحية ماغوطية «من حذائي المثقوب يبدأ التاريخ والجغرافيا» (من قصيدة «ماذا بقي من فكرة الانتحار»)... والشاعر بكل الأحوال، يكتب نصاً يشي ببعض أسلافه، فهو في المقطع الثاني من قصيدة «العدو» يكتب: «بعدما يتعوّد السوريون/ التسامح والتفكير الهادئ/ سوف توضع سنيّة صالح مع الماغوط الى جانب رياض الصالح الحسين/ في الكتاب المدرسي».

بالتأكيد، ليس لدى حسين عجيب صراخ سياسي... ليس لديه فيض كلام واتهام وتفجّع ولا يخدش بالأظافر كما فعل الماغوط. لكنه يزداد التصاقاً بحياته اليومية المألوفة، ويظهر على صورة من يخاطب ذاته باقتصاد من الكلام ولهاث من الأحوال، وكأنه ينتزع حياته من أمكنتها وأزمنتها ليعرضها شلواً شلواً على الورقة... جملة طازجة وحارة وشبيهة بدم يشخب من جرح: «قبل أن تتلف كليتي وأضطر لنزعها في مشفى عمومي/ ... وقبل أن يدعوني أهل بلدتي بالشيوعي/ كان يمكن بشيء من الحكمة والصبر/ أن يبقى لنا غير هذا الخواء/ الذي ما زلنا نسميه مستقبل» «... رجل لديه الغباء والحذر ليظن أحياناً/ أن ال75 كلغ من اللحم والعظم والسوائل المختلطة تشكل ماهيته الحقة»...

والكتابة، على صعوبتها لديه، غالباً ما تنضح بالقسوة، «في الظلام/ المولود يقطع حبل سرّته بيديه»، والخيبة، والحكمة الملتبسة، والمعنى المراوغ، وغالباً ما يجاور الشاعر جملاً متتالية لإثارة مخيّلة، أو يتابع تعرّجات فكرة غامضة لينتهي لا إلى جلائها، بل لمجرد عرضها كحال قلق، وتراه أحياناً، ربما دخل في سرد مباشر سِيَري كتعريف بهويته، فيكتب في نص بعنوان «عجيب»:

«تمنيت أن أدخل بهدوء/ تمنيت أن أغادر بصخب.../ في يوم حار من حزيران 1960/ فضّل أبي اسم بطل كربلاء/ على الحاكم المصري لسورية/ لا أميل معه الى لوم الآخرين...»

ويكتب نصاً بمختصر هويته بعنوان «الجدار المائل»:

«أحتاج 35 سنة أخرى/ كي أتكلّم بهدوء/ لا أميركا أمي/ ولا بوذا معلمي/ اسمي حسين عجيب/ زوجتي فريدة أحمد/ ونحلم بوطن للإيجار».

وهو إذ ينضح بالمرارة، والتشرد الداخلي والخارجي أيضاً، يصارع الكلمات صراعاً أكيداً، ليظفر منها بتاج صغير من القصيدة، والحكمة:

«أكثر ما يخيفني
أن تكون مخاوفي على حق

أجل:

الأسوأ قد مضى
لكن
الأجمل مضى معه أيضاً».

الحياة
7-7-2007