محمد علي شمس الدين
(لبنان)

محمد علي شمس الدينيتمتع الشاعر الأردني حسين جلعاد، في ديوانه الثاني والأخير، «كما يخسر الأنبياء» (عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2007) بقوة الكلمات. ومن العنوان المعطى للديوان، رجوعا الى عنوان ديوانه الأول «العالي يُصلب دائماً»، ينتابنا شعور بقدرة الشاعر على صياغة جملة لافتة، عنوان، وأن ذلك ربما لا يأتي عفو الخاطر منه، بل هو حصيلة أولية لوعي باللغة، وأثر كيمياء الكلمات في النفس.. نقول «حصيلة أولية» لأن الشاعر ابن ديوانين حتى اليوم، وهذا الوعي باللغة، صارخ في نصوصه، وإلا فكيف له أن يرتب، يكسو هيكل ديوانه الأخير، بدم ولحم الكلمات، وهيكل ديوانه رأس وجذع وأطراف، فالرأس مبتدأ بعنوان (.. ولننتبه للعناوين) «كورال أوّل»، والجذع كتاب أول بعنوان «سيرة الثالث عشر» ومن أعضائه: صاحب الزمان، آدم الريح، عمامة الأدب، باب الخروج، قدّس سرّه، خبر السماء، عين الله، ما تنزّل، اقرأ، سرير النبي، الوعد والوعيد، عطر خولة، درب العواصم، دير العاقول..

أما الكتاب الثاني، وهو الأطراف، فهو بعنوان «سيرة الفتى»، ومن خلال نصوصه وفقراته، يعود حسين جلعاد من تطوافه حول «المتنبي» في الكتاب الأول، ليطوف حول ذاته، وذكرياته، والتفاصيل الصغيرة، الحب، المنفى، المشي في الشوارع، مشية حافية، خالك الصغير، خاتمك الصغير، هاتف، قميص أحمر في فيلم صامت، المحطة، حبل غسيل، سكر قليل...
ومثلما العناوين الأولى تشي بمضمون جذع الديوان، فإن العناوين التالية، وما يليها، تشي بمضمون أطرافه، ليسدل الستار على هذا البناء الشعري بكورال ختامي.

الهندسة

الشاعر يتدبر العناوين، لأنه يتدبر النصوص. فشعره الذي هو قصائد نثر مرسلة (ما خلا صفحة واحدة هي قصيدة كورال ختامي) ختم بها الديوان وجاءت موزونة، ينتمي لطريقة الهندسة الشعرية، أكثر من انتمائه لطريقة الانبثاق الشعري، وفيها (أي طريقة الهندسة...) يغلب الشكل والتشكيل البصري والصوري، ويتدخل الوعي الشعري تدخلاً يلجم اللاوعي، أو على الأقل، يضع له حدوداً وعلامات، وتقل نسبة الهذيان والتدفق والدوران المجنون للشاعر في جوفه الشعري... وتقل تمزقات اللغة وتشظياتها في النصوص.. وهي جميعها سمات الانبثاق.

إننا سنقع في مجموعة حسين جلعاد على عناوين خلابة، وجملاً خلابة أيضاً.. ومن مثل «أنين خافت في الخزائن القديمة» وهو عنوان مجموعة نصوص صغيرة. ترد في أولها بعنوان «ما تقصّف» الجملة الأخيرة التالية المسربلة بغموض جميل: «كمنوا في بيوت القز يحدّثون بما تقصّف مني في أعالي الشجر»... لكن، لكل عنوان سيرة، وعنوان الكتاب الأول «سيرة الثالث عشر»، مشفوع بإحالة تاريخية... تفتح الباب على أبي الطيب المتنبي وبعض أسراره، وبعض الاجتهاد حول أصله ومؤدّى أشعاره.

ونسأل: من هو الثالث عشر يا ترى وما هي سيرته؟

ويتأتى لنا بعد قراءة النصوص المتعلقة بهذا الجذع من الديوان، أن الثالث عشر هو المتنبي، وأنه إمام مضاف (ثالث عشر) على الأئمة الاثني عشر المعروفين للشيعة الإمامية... ويتكئ الشاعر في صنيعه الشعري هذا، على اجتهاد تاريخي ورد في كتاب المؤرخ الباحث عبد الغني الملاّح في كتابه المعروف «المتنبي يسترد أباه»، الصادر عن منشورات دار التآخي في بغداد العام .1974 والشاعر يثبت صفحات من الكتاب المذكور في أول «سيرة الثالث عشر» بعنوان «بصيص»، تقوم على استنتاجات مفادها أن المجهول الأم (لم يذكر الشاعر أمه في شعره بل ذكر جدته ورثاها)، والمنسوب لأب سقّاء في الكوفة، إنما هو في واقع الحال، من أحفاد الإمام الثاني عشر الحسن الملقب بالعسكري، المهدي المنتظر في العقيدة الشيعية للاثني عشرية...

هذا هو الأساس التاريخي المفترض للقسم من الديوان المسمى «سيرة الثالث عشر». ولو أردنا التحديق في بعض شعر المتنبي، من دون الاتكاء على افتراضات تاريخية تحتمل الخطأ والصواب، كما فعل عبد الغني الملاّح، فلربما استقام بين يدينا سؤال حول اعتقاد المتنبي (من خلال شعره) بأنه من أصل مطهّر أو فوق أرضي، أو مقدس، هذا من جهة، وذلك من خلال قوله:

«.. وإني لمن قومٍ كأن نفوسهم
بها أنَفٌ أن تسكن اللحمَ والعظما».

من جهة ثانية، يمكن استنتاج مطلب له في الإمامية (وليس في الملك) الإمامية أعلى من الملك، وهي ذات مصدر تنصيصي إلهي، من خلال قوله:

«يقولون لي ما أنتَ في كل بلدة
وما تبتغي؟
ما أبتغي جَلَّ أنْ يُسمى».

هذه المادة الافتراضية التاريخية والاعتقادية حول ماهية المتنبي، وسيرته، وظفها جلعاد في حوالى مئة صفحة من ديوانه، من خلال نصوص نثرية، سيرية، متقطعة، بدأها بنص بعنوان «صاحب الزمان» ينتهي بالجملة التالية: «.. أني في السر إمام». وثمة جمل تشي ببعض ما أثر عن المتنبي من خصال: كأني ابن وحدي، يسهر الخلق فيّ ويختصم، ولي أبان، ولي أمّان».

وتظهر قوة، هذا النص السردي من نبذة بعنوان «آدم الريح»، حيث يكتب:
«سأريك التماعة العرش، ويدي فوق كل ذي يد، فانشد في السموات والأرض ما وسع الكرسي، واقرأ باسمي ما لا يعلمون، وآتيكَ سني السكينة والسلام، فلا تأخذنّك بعدُ الطرائد، والأرائك، وهيبة الصولجان. أضعت الرضا يوم أضعتني على الأبواب، فخلني بين الحرف والسيف، أقوّم ما انشقّ من قمر الحديقة في أعالي الفراتين، وفي مآذن الشام. وانظرني كما انتظرت طاووسك في الندم وانظر حريقي وارتحالي عن النفس من بلد إلى بلد» (ص 31).

قاموس ديني

والحال أن القاموس الذي يتكئ عليه جلعاد، في نصوصه المتنبئية، هو قاموس مستلّ من جوف ديني وغيبي، مثل «عين الله» و«حمام العتبات» و«الغيبة» و«قدس سره» و«خبر السماء» و«ما تنزّل» و«اقرأ» و«سرير النبي»... إلخ. والخطاب الشعري خطاب متعال، ويتقصّد فيه صاحبه التأثير بالكلمات أكثر من التأثير بالحال مثل قوله «دمي يشخب في الصحراء» أو «أغفل عن جروحي القديمة، واندفاع السيف في الجسد»... ولعل هذه التجربة، جديرة كفكرة، وجزئياً كتنفيذ، أن تضم الى سابقاتها من تجارب شعرية، توسلت سيرة وشعر المتنبي، لتوليد قصيدة حديثة موصولة بالتراث.

في الكتاب الثاني، وسائر أقسام الديوان، تفاصيل ذاتية كثيرة، واتجاه لتسجيل ما يشبه يوميات شعرية، يظهر من خلالها الشاعر كأنه، بعد أن ابتعد طويلاً في رحم التاريخ والأسطورة (من خلال المتنبي)، قد آن له أن يعود لذاته وهواجسه وتفاصيله، والقصائد هنا ذات نبرة خافتة، وذات اختزال وإيماءات لطيفة... كإشارته الى مشيها حافية، وقد ذكرني هنا بما قاله نزار قباني من جميل قوله: «المرأة الحافية تطيل العمر»... وثمة التقاء للشاعر مع أمجد ناصر الذي يهديه قصيدة. والسؤال أخيراً في الشكل، هو، لماذا ختم حسين جلعاد نصوصه النثرية الكثيرة، بنص أخير موزون «خسرنا/ كما يخسر الأنبياء بلاداً/ وأرضاً بعيدة.. خسرنا وضوح اليدين/ تفاصيل قهوتنا/ ومعجزة ينام الغمام على كتفيها...../ خسرنا».

ألا يلاحظ أن الوزن (فعولن) البطيء الحزين، هنا، ضخ القصيدة بشعرية أخرى؟

عن الملحق الثقافي لجريدة السفير