("كأنني امرأة مطلقة" مجموعة يحيى جابر الجديدة)

ناظم السيد
(لبنان)

ناظم السيدمن البداية يطرح أمامك يحيى جابر قصيدة مشاكسة. لا يريد صكَّ الناقد ولا تصفيق القارئ. بالعكس، إنه يكتب قصيدة تستفزُّ النقاد والقرّاء على السواء. يكتب نفسه لنفسه مكسّراً، محطماً، عصبياً، حنوناً، مشدوداً في جملة ومتراخياً في أخرى، ذكياً حيناً ومترفعاً عن الذكاء أحياناً. يأتيك يحيى جابر من الموقع الضد، من الاختلاف، من الذائقة المعاكسة، بشعر برّي غير مشذب، وعْريّ، طازج، آني، صادق وحار. لكنه في النهاية يفرض عليك كتابته من غير أن يدعوك إلى تغيير وجهة نظرك. إنه دائماً هناك في الضفة الأخرى مرئياً وواضحاً، أنتَ سواء كنتَ ناقداً أم قارئاً في مكانك وهو في مكانه.

في مجموعته "كأنني امرأة مطلّقة" الصادرة أخيراً في "دار النهضة العربية"، يواصل يحيى جابر ما كان بدأه في مجموعاته السابقة منذ "بحيرة المصل" (1988)، "الزعران" (1991) و"خذ الكتاب بقوة" (1994). في هذه النصوص يحطم الشاعر اللغة جاعلاً القصيدة اليومية ليس موضوعاً فحسب وإنما أسلوب أيضاً. إنه يكتب بحطام اللغة والعادي منها نابذاً كل إرث بلاغي أو تأدّب إلى خارج قصيدته الشفهية بامتياز. يبدو جابر في هذه النصوص أكثر الشعراء التصاقاً بالواقع لا من ناحية ما تضمره قصيدته بل عبر اللغة التي تكتب نفسها كما هي مباشرة من الحياة. لهذا لا يتوانى في استخدام الكلمات الأجنبية والمفردات المحكية والتعابير الشعبية. لنقل إنه يستثمر اللغة الحية من دون تحريف أو ترجمة أدبية لها. هي بهذا المعنى قصيدة ضدَّ التعلم. ليس هناك مثاقفة ولا تأويلات ولا طبقات. قصيدة تقول نفسها مرة واحدة، معلنة شعريتها عبر طزاجتها وجدتها لا عبر تأدّبها إذا كان للأدب تعريف واضح وكلي في نهاية الأمر. هذه القصيدة وإن كانت تقوم على نقد الآباء ومشاغبتهم وتدمير أسطورتهم فإنها تتخذ محمد الماغوط أباً وحيداً في مديحها التلقائية ونبذها أثر القراءة. هكذا يظهر يحيى جابر كأكثر أبناء الماغوط إخلاصاً من حيث شفهية العبارة وتركيبها المبسّط والمباشر.
وعليه، تبدو كاف التشبيه الأداة البلاغية الوحيدة والطاغية في شعر جابر كما في شعر الماغوط. لكن الكاف هنا أيضاً ليست أكثر من أداة ربط بين مشبه ومشبّه به حسيين ومباشرين: "تهمدين كسمكة في الثلاجة"، "لا تسكتي كبقعة زيت"، "أذكرني/ ولداً أرعن/ تعرّضت لحوادث منزلية/ كالحرب الأهلية مثلاً"، "كانقطاع شريط صبّاط في حفل كوكتيل/... انقطعت علاقتنا". مع ذلك يذهب جابر في القصيدة اليومية أكثرمما ذهب الماغوط ومما فعل مجايلوه من شعراء الثمانينات في بيروت.
وأكثر ما يبدو هذا الذهاب في توظيف الصياغات الشعبية وإدراجها في النص الشعري: "حب تجرّه الرافعة إلى الخردة/ حب لم يبقَ منه سوى حديد بحديد"، "أكاغيك/ حبيبتي، يمكن معي سرطان/ ربما ذبحة قلبية/ بشرفي كدت أتهور بسيارتي"، "ألاحق ضوءاً متحركاً كحلمتك/ التي تناديني/ أنكغ... أنكغ"، "وحين تصالحنا، وتصافحنا/ كطنجرة وجدت غطاها"، "سأنتف صوركِ بالسكر"، "يا ويلك/ يا سواد ليلك/ سأسوّد ليلك"، "الدنيا صيف". ولكي يكون الشاعر أميناً للغته لا يكتفي بهذا التوظيف الشعبوي (لا الشعبي فقط) بل يجعله أسلوباً كاملاً وذلك باستخدامه الأفعال المحكية بكثافة: "أدكرب، جاوبيني، شو بكِ؟، أتولدن، يعنُّ على بالي، مزمزي، ينوّر، تروّب (الحليب)، نتزاعل، زمطت، أغرغر، أفرفح، أنطنط، أدبدب، أكركر، أتزعنف، أقصقص، أتشحّر، أتنيّل، أفتّت، أفطّس، أخبط، أقبّع، تقمّطينني، تعضعضينني (بعض هذه الأفعال لازمة فيجعلها متعدية وبعضها يوجد مرادف له في الفصحى وبعضها باللهجة الجنوبية الريفية). بالطبع يستطيع الشاعر هنا أن يبّدل فعلاً بآخر، لكن الإصرار على استخدام هذه الأفعال ليس مشاكسة بقدر ما هو أسلوب ينسحب على كتابة جابر كلها، قاصداً بذلك إلغاء المسافة بين الفعل ودلالاته الحية. ذلك أن استعمال الفعل المأخوذ من اللهجة المحكية يلغي فكرة ترجمة الأحاسيس والانفعالات حين يتم تحويلها من مسألة معاشة إلى كتابة.

في كل حال، إذا انتقلنا من اللغة التي تميّز شعرية جابر، سنجد أن هذه اللغة ليست أمينة لما يمكن تسميته الأسلوب الكامل فحسب، وإنما هي أمينة لموضوعاتها. إن نص يحيى جابر في "كأنني امرأة مطلقة" يطلُّ على اليومي المعاش وعلى الاجتماعي وعلى السياسي مرة واحدة مثلما يرصد العاطفة الشخصية لكاتبه. في المجموعة سنجد قصائد تُعدُّ انعكاساً مباشراً للحياة اللبنانية: طوائف كثيرة، تفجيرات، حرب، عادات، تقاليد، أهواء، أمزجة، نوّاب ووزراء، كحول في خمّارات صغيرة، أسماء مقاهٍ وحانات وشوارع ومعالم، أنواع سيارات مع موديلاتها، نميمة المدينة، هجاء الشعراء، علاقات عاطفية محطمة، تحرر جنسي، أصناف أطعمة وحلويات، ضروب من الخبز العربي والإفرنجي، أجبان مختلفة من دول أوروبية، أسماء شركات الهواتف النقالة، ظاهرة الريجيم، الاستخدام المفرط للتلفون، الرهاب من المدينة وامتداح الريف بمفرداته، أسماء شعراء روّاد يتم السخرية من أنماط الكتابة لديهم (أدونيس، نزار قباني، أنسي الحاج، شعراء الجنوب اللبناني، الشعر العربي العاطفي، قصيدة البياض...). حقاً يبدو كتاب جابر الجديد سجلاً للواقع اللبناني وبعض الواقع العربي، وكل ذلك يجري على خلفية قصيدة حب. هكذا تتشابك العناصر في قصيدة الشاعر المطلة بكل ملامحها على الراهن.

إذاً، في الأساس، تطرح مجموعة "كأنني امرأة مطلقة" نفسها ككتاب حب. لنقل هو كتاب نهاية حب. ليس في هذه النصوص احتفاء بالحب بل نقد له. إنها عاطفة تكسر العاطفة، حنان يقدّم نفسه بالقسوة، ألم لا يبدي إلا الجانب العنيف منه. أي ببساطة، إنه كتاب حب ضد الحب. يصدر يحيى جابر تجاه الحب من زاوية أخرى، حادة وناقمة. لهذا يمتدح الطعام الذي يلجأ إليه كلما تركته امرأة، يفرح بجسده الذي يصبح "كشجرة بلوط" بعد الهجران (لنفكر في هذه الشجرة التي ينبذها الشعراء من قصائدهم): "يا عشّاق العالم/ كلما وصل حبي إلى طريق مسدود/ أفتح فمي كجرّافة/ جرّافة فقدت عقلها/ أطحن، أفرم، أجرش/ فم يمشي على قدمين.../ كمقامر يتخبّط في حفرة جيوبه"، "عاشق مهجور/ يرى الأرض قطعة ستيك/ ويناقش الخَسّة/ عاشق لاجئ إلى البرّاد/ عاشق متروك يحاور/ إذن طنجرة". لكن فعل الأكل، عن قصد أو غير قصد، يغدو هنا مرادفاً للوحشية التي غالباً ما تكون حصيلة الحب: "لو أقلع صخرة الروشة ضرساً/ وأدكربها على الطاولة"، "أرى البحر نايلون/ والسابحين حسك"، "كالمسطول عند المستديرة.../ وكل الإشارات صفراء كالرمل/ صفراء كعينيك"، "ما رأيك لو سلمنا الحب باليد/ إلى حديقة حيوان"، "نغرز القدم/ في بطن الأحاديث/ ركلة ركلة"، "لو أخلّد هذا الحب بدسِّ السم"، "أرى صرصوراً يتمشى على الحائط/ يتغندر في مشيته/ سأخبطه بمشايتكِ الصوف"، "بالمشحاف/ سأزيل وجهك من الصور/... سأفتح فمك في الصورة/ وأدسُّ بين أسنانك حبة زرنيخ/... سأصوبن العالم من العالم/... سأسلخ المريخ هذا الكوكب الأحمر/ كقطعة سومو/ وأمرغه على توست أسمر/ كل الكواكب كافيار أسود/ وكل النجوم حبات بطاطا/ في مقلاة عتمتي".

يقيم يحيى جابر شعره بين الكبرياء وتوهم القوة، بين الضعف والمزاح. لكن جابر كان دائماً جميلاً في امتداح الضعف، في إبداء النقاط الواهنة التي تجعله شاعراً: "أنا القطُّ المتروك/ وقلبي كبكوب خيطان يتدحرج أمامي"، "ضميني سنجاباً لجذعك/ لاعبي شعري الذي يتوجع"، "ها أنذا أغرق كقارة/ أتحجب بماعز الظلام".

القدس العربي
9- 2007