صباح زوين
(لبنان)

"إنها لطبيعة ساحرة حقاً، حتى لَيَفْتقد الإنسان الموتى"، بهذا الإستشهاد لروبرت بروك يستهلّ الشاعر شوقي بزيع ديوانه الجديد "صراخ الأشجار" عن دار الأداب، وقد يضيف القارئ هذا، وهو أن سحر الطبيعة يضحى سحراً حقيقياً عندما يتمكّن الشاعر من نقله إلى سحر آخر، ألا وهو الذي ينضح من قلب الكلمات، من عين الكتابة. فلا يستطيع ديوان بزيع سوى أن يفتن قارءه لفرط ما يغوص في شفافية الرؤية، وأعني بذلك أن عينه وذاكرته واحد، ومن خلالهما انتقلت الطبيعة إلى سحر الورقة، بواسطتهما تحوّلت الأرض ومناظرها الساحرة إلى صور شعرية فيها من الجمال بقدر ما في الشجرة والزهرة من شعر وتأمل.

أقول العين والذاكرة، لأن قصائد شوقي بزيع تقدّم المقدار ذاته من الجمال والتأثير، وعلى حد سواء، للقارئ الذي لا يعرف هذه الطبيعة كما للقارئ الذي يعرفها. فثمة مَن يراها بعينه القارئة ويتأثر، وثمة مَن يراها بذاكرته. والأخير هو الذي يكون قد عاش، على غرار الشاعر، التجربة المكانية-الطبيعية ذاتها في طفولته – بشكلٍ خاص. من هنا، يأخذنا الشاعر إلى "الطبيعة الساحرة" مرّتين، مرّة عبر الصور الشعرية الفائقة الجمال، ومرّة عبر الذاكرة الباهرة التي لا نزال نحملها.

واللافت من ناحية أخرى في هذا الديوان، دون أن يكون أمراً مفاجئاً إذ بطبيعة الحال هو يتمحور حول عناصر الأرض، وفرة وكثرة وجود المفردات المتعلقة بهذه العناصر. فكما قلتُ، من البديهي أن ترد هذه المفردات في الكتاب، لكن ما يلفت أو ما أضيفه، هو قوّة صدقها، وبالتالي عمق شغف الشاعر بزيع وعمق شفافيته أي ارتباطه الوثيق بما يراه أو يتذكّره ويقوله. هذا القول الشغوف هو القول النابع من كيان متجذّر في هذا المزاج التلقائي بين الكون والكلمة وبين المادة وإسمها.

العشبة، المياه، النعناع، السنديان، الدرّاق، الدالية، السنونو، القبرات، حقول القمح، السنبلة، الموقد، الحطب، الغابة، شوك الصبّار، زهرة الرمان، الجذور، حقول التبغ، الدوري، البرق، الحقول البور، الطحالب، الصخور، البراري، النهر، الماعز، الصوان، اللوز، الثلوج ألخ ألخ. ومن أمضى شتويات وصيفيات طفولته، وأكثر من الطفولة في الجبال، يعرف تمام المعرفة جمالية هذه المحطات الشعرية التي غرفها شوقي بزيع من طبيعة جبلته وحضنته وروت مخيّلته وغذّتها. ولكن الأهم من ذلك، حتى مَن لا يعرف أو مَن لم يعش تجربة الطبيعة هذه، تبلغه هذه الجمالية كما يبلغه شغف الشاعر. لذا هنا تنتفي كلياً عملية الوصف من كتابة بزيع، وهو لم يتبنّاها أصلاً، ليتبنّى الشاعر كتابة جوّانية بامتياز، أي حيث الأنا تصبح سؤالاً داخل عناصر الطبيعة، وهذه الأخيرة تصبح تساؤلاً من خلال الكتابة. أي عندما يحوّلها الشاعر من مادة ترابية إلى لغة، وهي تحوّله بالتالي وبصورة متبادلة إلى ريبة. ألم يقل في مكانٍ ما "مَن تراني أكون إذن؟" في حين اعتقدنا أن الطبيعة هي فقط مادة رحبة للتنفس والإسترخاء، تصبح في محطةٍ ما من الحياة مادة للشك أو الخوف حول وعلى الكينونة الفردية وهويّتها ومعناها. "وما كنت ألمح إلا صرير الغيوم التي نزفت قطرةً قطرةً من عروق الشتاء تحت أكثر أيام كانون برداً أتيت إلى الأرض (...) تحسّستُ شعرَ المياه التي لذتُ طفلا بأهدابها، والصخور التي خرج الدمع من صلبها أوقفتني نتوءاتها فوق قمة جرف سحيق لأشهد من فوقها خفق قلب البراري ومسقط رأس الحجر، من تراني أكون إذن، عشبةً في شقوق الثرى أم جداراً لصد الطفولة عن خوفها من عواء الذئاب (...)؟، من تراني أكون سوى ما تبدّد من حلم ذاك الصبي (...)". ثمة الجدار وثمة الحلم في هذه الأبيات، وفي هذا الصدد يقول غاستون باشلار أن الفارق كبير بين حلم الجدار الذي يسدّ الطريق وبين حلم المتاهة حيث يظهر شقّ، هو شق بداية حلم المتاهة. فالمتاهة هي "الألم الأول"، ألم الطفولة. لكن يقول باشلار من ناحيةٍ ثانية، أن البيت الذي نراه في حلمنا هو صورة تصبح من خلال الذاكرة، قوة تحمي من العذاب أو ما شابه. لذا يمكننا أيضاً، إضافة إلى المنحى العذب الذي تتخذه الطبيعة أو ذاكرتها في كتابة بزيع، يمكننا إذن أن نعتقد ان الشاعر دخل في قصائد هذا الديوان إلى متاهات الصيرورة وإلى التساؤلات التي غالباً ما ترافق الكاتب أثناء الفعل الكتابي، أي أثناء تركيزه على معنى الوجود ومعنى كيانه هو في هذا الوجود. فالمكان الأول، القرية، الطبيعة ولوحاتها الخلابة، تشكّل نوعاً من الوقاية والحماية ضد الخوف وضدّ المتاهة وبالتالي ضد الألم والعذاب. وهذا المكان الأول هو أيضاً الجدار الذي يضع حداً بين الطفولة الخائفة من الطبيعة التي تقوى على الإنسان، والطفولة المتناغمة والمتماهية مع هذه العناصر العذبة والأليفة. تلك الإلفة والعذوبة اللتين وبمهارة ينقلهما بزيع إلى القول الشعري حيث يجعل الحلم ينبت في كل زاوية من زوايا قصيدته تماماً كالعشبة والوزّال والزهر، ويجعله يتدفّق كماء النهر والمطر، والكل في بهاء وصمت الجمال الذي لا يُداس ولا يُدنَّس، روعة ذاكرة وعناصر الأرض في مزيجٍ من الصلاة والإفتتان "وهذا أنا ناظراً نحو ما لا يُرى من لآلئ زرقاء". وبعد، تبقى الشعرية الفائقة، المرهفة، المرتجفة، "هناك، حيث لا يزال العمر غافياً، شممتُ عطر صمغه الخفي (...) ورحتُ أعدو، هابطاً من السرير، في مهب ذلك المضيق بين باب البيت والفضاء (...) كان اللوز جارحاً يستحمّ تحت أكثر الشموس شقرةً (...) كيف يحمل القرى على النهوض من سباتها وكيف يفتن الثلوج (...) وكان أن صنعتُ من حفيفه سلالماً نحيلة تقلّني غصونها إلى منابع الغناء". هذا أكثر من كافٍ لندخل إلى أكثر من الغناء، ولندخل إلى نصاعة تلك العلاقة بين بزيع ومحيطه الطبيعي، حيث طفولة حقيقية كمشت العناصر بيديها وتنشقتها وامتزجت بها، وكأنه يعيدنا إلى كياننا الأصلي، ذلك غير المنفصل عن ترابه ومائه وهوائه وناره أو شمسه. الكيان الأصلي "حيث لا يزال العمر غافياً"، وجمال هذه الصورة، يأخذاننا معاً إلى غفوة القرى قبل طلوع الشمس أو إلى سباتها تحت صمت الثلوج البهي. ولا يكفي أن نرى. لذا تكمن مهارة الشاعر أن ينقل ما يرى أو رأى وشوقي بزيع كان بارعاً في ذلك، حدّ الغناء، على غرار الدوري حتى "منابع الغناء".

وليس صدفة أن يكون تناول بزيع كل أنواع الأشجار التي رآها في قرية طفولته، إذ هي ترمز إلى الإنسان بامتياز، ولو أنه أرادها بشكلٍ خاص رمز المرأة.

الشجرة والمرء – الإنسان كائن واحد، فالجذور راسخة في عمق تراب القرية – مسقط الرأس، والفروع – الأغصان تنظر إلى السماء. في الشجر كما في قصائد بزيع، منحى صوفي إلى حدٍ كبير، حيث التطلّع إلى اتحاد الأرض بالسماء "لتفقّد أوجهنا الأولى، لتنشقنا عطر سماوات مقفلة الأبواب على جنّتها".

وفي كل هذا حزن النهايات، نهاية الطفولة، نهاية سطوح القرميد وزهور البابونج، في وجه "الإسمنت المفترس"، لتبقى هواجس المنازل المهجورة "وانقاض ممالك ضائعة". بين هاجس ضياع العمر والطفولة وانقراض جمال الطبيعة، يبقى شعاع القصيدة التي كتبها بزيع بشغفٍ كبير