قصائد كنداوة الاستيقاظ الصباحي

سيلفانا الخوري
(لبنان)

غسان جوادعن تلك اللحظة الضوئية التي تفصل بين الأصل والصورة، يكتب غسان جواد في مجموعته الشعرية الاخيرة "ضوء بين حياتين" الصادرة لدى "دار النهضة العربية". هي لحظة الـ"فلاش" التي يصير فيها كل شيء في حكم المعلَّق في انتظار ان تقبض الكاميرا في جزء من الثانية على تفصيل واحد تُختزل فيه الحياة كلها. "مثلما ينقطع العالم ويعود في لمعان التقاط الصور"، هكذا يقارب الشاعر الحياة، التي تصير استعادةً موجبة لا حضوراً سالباً. ما الذي "نلتقطه" حقاً في تلك اللحظة الحاسمة، المشدودة، المتوتّرة؟ ما الذي نضيء عليه؟ أهو الزمن أم غيابه؟ الحقيقة أم وهمها؟ لن تجيب قصائد المجموعة عن هذا الموضوع في شكل مباشر، الا انها ستقدّم رؤية عامة حيث الحياة عبارة عن لحظات "مقطوفة" يواجه بها الشاعر استحالة المراوحة في اللحظة وهذا "الانزلاق" الالزاميّ الى الامام. في كل مرّة تعود هذه الحياة على شكل ذكرى متوهّجة او صورة فوتوغرافية او لحظة معلّقة بين زمنين كلحظة الاستيقاظ الصباحي حيث الأمس حلم بعيد و"المستقبل مزيد من الحوادث نفسها".
يكتب غسان جواد قصيدة من تلك القصائد التي يمكن وصفها بالـ"مؤنّثة"، قصيدة لها نداوة الاستيقاظ الصباحي عندما يكون الأمس قد صار ذكرى بعيدة: "اعود الى البيت/ في داخلي فكرة وحيدة/ خوف وحيد/ وقلب احتفظ بنصفه/ بعدما قال الجميع انك جميلة". لا يتقدم نصه غازياً او مقتحماً، بل يتسلّل مثل ضوء صباحيّ صامت. هو نص "نباتيّ" سأتجرأ وأقول، ليس دماً ما يجري في عروقه ويبثّ الحياة فيه، بل "الكلوروفيل" او اليخضور الذي يجعل النباتات تتجه دوماً صوب الضوء في نموّها. في لغة تنسج أفكارها من دون افتعال وبشيء من التلقائية احياناً، يكتب الشاعر قصائده الإحدى والعشرين. منذ العنوان، وعلى طول المجموعة لا تنفك كلمة "حياة" تتكرّر بحيث تكاد لا تخلو قصيدة منها. واذا كان الشاعر يشير في العنوان الى حياتين يفصل ضوء بينهما، فإن المجموعة تكرّس هذه الرؤية وتعمّقها، جاعلة من هذا الضوء الشرط الاساسي لخروج الاشياء عن رتابتها اليومية، لكنه كذلك الحدّ الفاصل بين رؤيتين وطبيعتين للاشياء: واحدة أكيدة لكن عابرة، وثانية تقريبية لكن ثابتة، يقف الشاعر عند لحظة العبور بينهما: "في عينيّ نقطة عبور يابسة" يقول، من دون ان يكون اليباس هنا رمزاً للجمود والموت، بل هو دليل الى اللحظة المتوتّرة التي تسبق الارتماء والسقوط، لحظة الشك الاخيرة بين العدول والاقدام: "الصراخ لا يكفي/ كي يحدث الانتحار/ الموت يحتاج الى آلة حادة/ يحتاج الى نشوة تتدلى من السقف/ كمشنقة اليدوية". الآلة الحادة هنا هي قرار الاستسلام المؤجَّل كما لو بالقوة: "في داخلي الذي لم أقرعه بعد/ بناية آيلة للسقوط/ تتمسك بالفراشات الهاربة من/ الكلمات العالية/ والآلام العالية كأبراج من الخيبات والظنون". تعود صورة البناية الآيلة للسقوط هذه لنجدها في مكان آخر من الكتاب، لتفصح هذه المرة عن كآبة عميقة ورغبة لا تتحقّق بالاستسلام لغواية اللجج: "كأنني في جوف الارض/ أثقل من بذورها/ كئيب مثل اشجار في جبال بعيدة/ كمبانٍ يرممونها عنوة/ وليس في وسعها السقوط".
اذا كانت الكآبة تفصح عن نفسها هنا في شكل صريح، فإنها من اللحظات النادرة التي تكشف فيها عن نفسها بهذا الشكل، لتحلّ في معظم الاحيان عوض ذلك كـ"صوت ثانٍ"، اذا اردنا استخدام التعبير الموسيقيّ، كصدى خلفيّ للعبارات يصل الى القارئ ايقاعياً اكثر منه بالكلمات. لا تبدو هذه الكآبة دخيلة على النفس بقدر ما هي جزء منها ومن تكوينها، ونتيجة حتمية للتذكّر الذي يصير بدوره أبعد من مجرّد عملية ذهنية عرَضية. انه تمرين صعب على البقاء: "القبور يا حبيبتي هي ان ننسى/ وان نكتفي بما تبقّى من ريقٍ في افواهنا" يقول الشاعر.

هكذا يضحي العالم عبارة عن استعادات لا تنتهي: مشهد، صورة، وجه، سؤال من حبيبة او حديث الى ماسح احذية تعود الى الذهن كلمعة ضوء، كومضة "فلاش"، كشبه إشراقة صوفية: "نفقد وجوهنا كما ساعة الرمل/ كما تنفض جملة نفسها كي يحل البياض/ كما تتخفف روح فتهزل وتذوي وتختفي/ وتضيء". لن يصل بنا الحديث الى ميل روحاني. فلنسمّ الامر توقاً الى غياب متوهّج، الى صمت يواجه به الشاعر عالماً "تقريبيّاً" وحياة تشبه الحياة: "الوقت اسمٌ جيّد لانحدارنا/ لا شكل لنا/ جامدة وجوهنا/ لا يحرّكها غير عقرب مضبوط في الخلايا/ ونزعة شبيهة بالحياة" يكتب في قصيدة "كما ساعة الرمل" ويكمل بالقول: "ندفع الافكار الى آخر اليقظة/ نتدلى من سقوف الاحلام/ ننهمر صخوراً في الفضاء./ الشوارع مكتظة بالنوافذ/ ونحن نردّ عن عيوننا جرأة الضوء/ وحقيقة الحجر/ وكثافة الغابات/ لنا في الوقت الطرق/ وفي الاسفلت انقضاء الدهشة والمسافات (...) في بالنا نساء كثيرات/ مررن ولم يقلن الشيء ذاته/ بقيت منهن الرائحة والضحكات/ وشيءٌ من حناننا عندما نغمض العينين/ ونخلد الى القلب".
قصائد غسان جواد، ربما احتاج بعضها الى مزيد من الصقل والتشذيب لتلافي شيء من الوعورة الايقاعية كالتي تتسبب بها على سبيل المثال عبارة "وتعرف" في هذه العبارة الجميلة من قصيدة "احياناً ارغب في ان اتكلّم": "حين استيقظ/ احدّث القهوة عنك/ وتعرف انني قلبٌ الى يسار رجل/ وما تبقّى من ضجيجي/ امرأة... وقفت ذات يوم أمام/ آلة التصوير".
من جهة أخرى، قد يشعر القارئ ان القصيدة تكاد تفتقر الى "منهجها" او "خطتها" الممسوكة، كما في قصيدة "أقطف هذا النهار" التي تفتتح المجموعة، اذ نراها تبدأ مترددة، "هلامية" في شكل من الاشكال، قبل ان تكتسب مع تقدمها المزيد من الصلابة البنائية والانسياب الايقاعي. عدا ذلك، تبقى "كما ساعة الرمل" و"بائع الورق" و"بورتريه امرأة مدمّرة" من افضل القصائد من حيث المتانة النسبية لبنيتها وتماسك رؤيتها ونفاذها.

Sylvana.elkhoury@annahar.com.lb