("الذين غادروا" لاسكندر حبش)

سيلفانا الخوري
(لبنان)

الذين غادروابالصمت يكتب اسكندر حبش في "الذين غادروا". بالصمت يكتب وبالغياب وبالبياض. كأنما يحرّكه هاجس أن يقول أكبر قدر ممكن بأقل الأدوات إمكاناً. لو شئنا أن نلعب لعبة الفرز والإحصاء المعجميَّين، فلن نُحصي على الأرجح الكثير من المفردات والصيغ والتقنيات على طول المجموعة المؤلفة من 195 صفحة والصادرة أخيراً لدى "دار النهضة العربية"، بل سنقع على غياب التنوّع في شكله الأفقي البرّاني، لنجد عوض ذلك تنويعاً عموديّ الاتجاه، داخليّ التوجّه، تنقيبيّاً في مقاربته الحياة. لن تنفكّ جملة الشاعر تحفر أعمق وأبعد، وتغوص أكثر في أسئلتها وشكوكها واستنتاجاتها قبل أن تنبثق من قتامه الأعماق في توهّج نورانيّ أشبه بالدهشة الصوفية. لا مكان هنا لسردٍ طالع من يوميات العيش العادي، بل هي لحظات من الحياة مقطوفة بمفردات الرومنطيقية وهواجسها لكن من دون تلك النزعة الغنائية الفائضة.
كأنما قصيدته مهما شفّت وارتفعت، تعرف كيف تحافظ على صلابتها وتماسكها الداخليين، وان تُبقي بين عالمها الأثيري وجذورها الترابية علاقة حيوية لا تنقطع لحظة.
إنها قصيدة مقطّرة، مقتصِدة، مصفّاة. ما سنعثر عليه هنا، قصيدة تقول بقدر ما تمتنع، وتبوح بقدر ما تصمت، وبين بوحها وصمتها ينشأ عالم يرتفع بهمسٍ واثق عند التخوم بين الضوء والعتمة. بكلمات قليلة، وصيغ متشابهة، وعبارات تستعيد نفسها، يكتب اسكندر حبش سلسلة من القصائد المرتبط بعضها ببعض ارتباطاً عضوياً حميماً. بعيداً من أي اجترار مجانيّ، تتناسل الواحدة من الأخرى في انسياب إيقاعي مضبوط، بحيث تصير القصيدة السابقة أشبه بذاكرة القصيدة اللاحقة، مما يخلق رؤية عامة شديدة التماسك حيث الزمن هو "الخديعة" الأقسى التي تجعل الحياة عبارة عن سنوات غابت وأخرى في حكم الغياب، وبينهما ذكريات لا تنفكّ تعيد نفسها كل يوم. حينذاك لا يبقى أمام الشاعر إلا الإقرار بعبثية المواجهة: "ماذا استطيع/ إزاء هذا الغياب؟"، يسأل ولا ينتظر جواباً. ذلك أن سؤاله ينطوي على نوع من التسليم البعيد من كل سلبية إزاء حياة كل ما فيها مرصود للرحيل، فالحياة ليست "سوى ما نفقده" و"الأزهار أيضا/ ذكريات نتركها/ قبل/ أن تجفّ المياه".
تتجلّى هذه "الحكمة" وخصوصاً في صيَغ الأمر والنهي التي غالباً ما يبدأ بها الشاعر قصيدته. وهي صيغ تُفصح قبل أي شيء عن الذات التي تنطلق من مسلّماتها واختباراتها السابقة في مواجهة ما تبقّى من حياة: "لا تطيلي حفر هذه النقوش"، "لا تعيدي الموجة"، "لا ترسمي نهداً"، "ارمِ هذا الألم"... وغيرها الكثير من العبارات يقولها بنبرة لا تخلو من ألم مُضمَر وحنان شبه أبويّ حتى في أقصى لحظات ايروسيته، من دون أن يسعى لإخفاء ما يشبه صرخة النجدة التي تحلّ في معظم الأحيان كصدى خلفيّ للعبارة الآمِرة، ولا تتوانى في لحظات أخرى نادرة عن التعبير عن نفسها في شكل صريح: "أعطني يديك،/ طردتني السنوات./ لم أغلق الباب/ خلفي".
يعود الألم على طول المجموعة بتواتر ملحوظ. انه هنا كحالة ثابتة لا كمظهر عرضيّ. انه سابق حتى لأسبابه: "كم من سبب/ نملأه/ بكلّ هذا الألم"، يجهر الشاعر صراحة. إلا أن الألم الذي نعاينه يعرف كيف يكون رديفاً للأمل وقريناً له في نوع من التواطؤ التلقائي: "سبق أن عبرت/ هذه الزهرة/ لكن العالم لا يزال ندياً"، يقول الشاعر. يحلّ إذاك الألم بنداوة تمنعه من الغرق في الكلبيّة أو المرارة، ولو اقترب منهما في لحظات عابرة بدا فيها كل شيء غارقاً في المراوحة: "ارمِ هذا الألم...// تماماً/ كما يرمي طفل حصاة/ في بحر (...) ارمِ هذا الألم/ ثمة ألم آخر/ لم نكتبه بعد". لكن في شكل عام، نلمس توازناً غريباً في هذه الحياة المُعبَّر عنها: من جهة، ثمة ليل وألم وغياب، ومن جهة ثانية نور وتخفّف وسكون يجعل الموت حاضراً كيقين من دون قدرته الكابحة أو الشالّة: "من صفحة إلى أخرى/ لم تكن تكتب/ سوى عن موتك".

لا تنتمي قصيدة اسكندر حبش إلى مكان بقدر ما تنتمي إلى الاغتراب في حد ذاته. رياحها وعشبها وأشجارها والأزهار تقطع مع انتمائها الريفيّ لتصبّ في جوهر العيش المدينيّ المتوحِّد. وفي كل مرة، نراها ترتفع عن مدلولاتها الحسية لتدخل في سياق من التعبير الشعوري المترفّع عن ماديته والمشدود إليها في الوقت ذاته: "هو الفجر.../ هي رغوة الضوء/ والصمت./ تصلين فوق النوافذ/ تصلين مع خيط شمس/ تستيقظين فوق قرميد/ بعض من نعاس./ وبالكاد/ لا تزال آثار/ ليل.../ هو موت الغناء/ لكن إن رغبت/ سأترك الحقل مضاء". مهما ترتفع هذه القصيدة عن المحسوس وعليه، فستظلّ مرتبطة به ليكون بالنسبة إليها أشبه بالذاكرة التأسيسية وبالتاريخ الجينيّ الذي يستحيل التنصّل منه. وقد تكون العلاقة بالجسد، رمز المحسوس بامتياز، هي المثال الأبرز على هذا التوجّه، يكتب حبش: "كيف أصف جسداً؟/ هي الكلمات/ التي تنطفئ./ الزهرة السرية/ ليست سوى منفى/ يبتدعه رجل ضاع/ بين الغرانيت/ والرخام/ رخام أيضا/ ذلك البياض/ الذي يلفّ الجسد/ كيف أصف جسداً؟/ هي الكلمات/ التي تنطفئ/ بعيداً/ فوق هذه العانة".

وفي صلب هذه الحياة المقدَّمة هنا، يحلّ الحب كعلاقة صميمية واختراقية بالآخَر وبالعالم على قدر سواء. علاقة لا تخلو من ميل روحاني – ايروسي يتجلى في الحديث عن الجسد "السابح في الأنوار" والنهد الذي "يرسم طريقاً إلى الله"، أو عندما يقول الشاعر: "أنتِ في أول الليل./ أحب هذا النور/ الذي يلي الرعشة./ سأحاول/ أن أجد مدينة/ كي تهبيني ما تبقّى/ من جسدك". يصير الآخَر دليل الأنا إلى ذاتها وجسدها: "حين في الليل/ تستيقظ يداك/ وأعرف شكل جسدي/ أرى نفسي/ في جليد لا نهائي"، والثابت الوحيد في هذه الحياة المرصودة للأفول: "لا تصدّق الماضي،/ لا تصدّق المستقبل،/ فقط/ اسمح للوردة التي فينا أن تذبل قليلاً"، يقول الشاعر في تسليمٍ ينطوي على شيء من حكمة الشيوخ والأطفال بقدر سواء، حكمة التجربة والفطرة في آن واحد.

النهار
26 كانون الثاني 2008