(عظمة أخرى لكلب القبيلة" لسركون بولص)

رامي الأمين
(لبنان)

رامي الأمينبعض الشعراء، الشفافين حقاً، يعيشون موتهم قبل أن يموتوا، لا بعذاب الموت، ولكن بحتميته الجميلة، وبوصفه اكتمالاً للقصيدة، ونهاية لامعة لها. سركون بولص، الشاعر العراقي الراحل، واحد من هؤلاء الشعراء الكثيرين - القلائل، الشفافين، والحقيقيين. يعيش موته قبل أن يموت، ويكتب هذا الموت كما لو أنه ملتحم معه وملتصق به الى حدّ التقمّص. سركون بولص، الذي توفى منذ وقت ليس بطويل، لا يكتب موته بوصفه شأناً خاصاً، بل يستمده من ميتات الآخرين، في وطنه العراق الذي أضحى وطن الموت اليومي الذي لا ينضب ولا يكلّ ولا يتعب. هو لا يكتب الموت بلحظته الآنية فحسب، بل يكتب التراكم الزمنيّ الذي يوصل إلى لحظة الحقيقة النهائية. لهذا يشبه سركون بولص موتاه الذين يكتبهم، ويصير كلما كتب عن أحدهم، كأنه يكتب عن نفسه، كأن يصف صديقه الذي التقاه قبل هبوط الليل بأن "شيئاً قلب قسماته/ من الداخل: الحواجب بيضاء/ سوداء هي الأسنان".

لكن، "هل مات من كان هنا؟". هل يموت حقاً من يشبه موتاه في مرورهم على صفحات دفاتره؟ هل يرحل من يسكن أبداً في نصّه المدوّن بالأنين الذي يجرح الزجاج من فرط الشفافية؟ سركون بولص لم يمت، بل يتوارى خلف موته ليخدع قارئه. يرفض المهمّة: "هذه الصفحة الليلية ستكفيه ليمشي/ إلى نهاية الحلم، ومليون لاجئ يَلبُدُ في خطاه". صفحة ليلية من دفتر أشعار تكفي لتصنع مليون روح ومليون حنجرة ومليون صرخة، فكيف بكتاب صفحاتُه من ظلال، وكلماته شواهد ذكريات مدفونة في تراب الزمن ("عظمة أخرى لكلب القبيلة"، "دار الجمل").

ينصب سركون بولص المصائد لأرواح موتاه. المصائد قصائد، والقصائد طرق مهجورة، وعادات مزمنة يزاولها، تماماً كما يزاول الهجران والتواري والوحدة التي لا ينالها إلا بالموت. بالموت وحده. يكتب كمن يتسلق القصائد إلى السماء، أو كمن يهبط بها إلى الأرض، لا فرق، ولا يهم. المهم أنه يهرب مثل "هجرة الفراشة" من هذا العالم الذي يشبّهه بـ"حديقة أشواك"، نحو "متاهة العالم السفليّ، حيث الليل، والله، واحد". الشعراء وحدهم يعرفون هذا السرّ، الشعراء الذين يألفون الموت بوصفه نوماً هادئاً، اختيارياً، حتمياً أيضاً، لا بوصفه إيقاظاً من الحلم. لهذا يفصل بين موتين. موت زائر فضيل، وآخر مجانيّ. كأن يأتيه خبر "بأن البريكان مات مطعوناً بخنجر في البصرة، حيث تكاثر اللصوص، وصار القتلة يبحثون عن... يبحثون، عمّن صار يبحثون القتلة؟". لا يستطيع أحد أن يعرف عمّن يبحث القتلة. بالأحرى، القتلة يبحثون عن قتلاهم، لكن السؤال ليس عمّن يبحثون. السؤال يضعه بولص في فراغ النقاط الثلاث، وهو السؤال الأصعب الموجه إلى القتلة في الدرجة الأولى: لماذا تقتلون؟ لكن أسئلة الشاعر لا تأتي من باب الرفض والإعتراض والشجب والحزن فحسب. الموت ليس سؤالاً ها هنا، انه قتل. القتل لا يتآلف مع الموت. في كل حال، القتل ليس موتاً. إنه سلب لمهنة الموت. بل هو تعدٍّ على وظيفة الموت وتجاوز لها. يضيء سركون بولص على ذلك بأسئلة مشعّة، قاسية، مبهرة للعيون، ومحفّزة للعقل والعواطف: "ماذا حدث لصانع الأسرّة، ودواليب العرائس/ كم كان يقدّس الخشب!". هكذا يقول الكثير بتورية قليلة، فيقلب الموازين بأسئلة غاية في الحنكة، والقدرة على الصدم والمفاجأة، والتلاعب بالخيال. ربما يريد أن يقول لنا إن الأسرّة ودواليب العرائس صارت نعوشاً من خشب، في بلاد الشاعر الذي يفتش عن بلاده تحت الأنقاض والركام وجثث الأطفال والنساء والرجال.

يعيش اللحظة، ويصنع منها شعراً طازجاً، حقيقياً، فجاً، متماسكاً. يرمّم بلاده بالكلمات، ثم يعيد تدمير بلاده بالكلمات ذاتها. يرمي بـ"عظمة أخرى لكلب القبيلة" وهو العنوان الذي اختاره لكتابه هذا، قبل أن يلتحف التراب. وكلب القبيلة يركض وراء العظمة. والقبيلة تركض وراء الكلب، كلب الحراسة، كي لا يحكمها ابن آوى. والبلاد تركض وراء القبيلة للسبب نفسه أيضاً. يكتب عراقه الخاص، بقسوة من ينتزع رصاصة من خاصرة جريح كي ينقذه من الموت.

هو يكتب شعراً حقيقياً، طبيعياً، "كالدم والكحول وورق الشجر" كما يصفه عباس بيضون على الغلاف الخلفي للكتاب، الذي يكتب أيضاً أن شعر سركون بولص ليس "برنامجاً للشعر ولا بطاقة للمستقبل، لكنه لحظة لا ترحم عامرة وملأى، خصبة وملموسة، لحظة دينامية متوترة مشعشعة، لحظة للشعر وحده لا شبهه". وقد صدق عباس بيضون.

النهار
9-7-2008