رامي الأمين
(لبنان)

عباس بيضون

نصف المقعد الخشبي يظهر على غلاف كتاب عباس بيضون الجديد. نصفه تماماً. نصف فارغ، لا يجلس عليه أحد. قد يكون الجالس عليه غادره للتو، أو أنه كان فارغاً منذ الأزل. وقد يكون كثيرون تعاقبوا بالجلوس على هذا النصف الفارغ من المقعد. أما النصف الآخر فلا نعرف شيئاً عنه. ليس فارغاً او ممتلئاً. هو ببساطة غير موجود. قد يكون العدم، أو ربما الموت، لا فرق. الواقع أن الموت هو على الأرجح سبب غياب هذا الجزء من المقعد، بمن يجلس عليه. الجالس الغائب هذا، هو أحد الشخصين اللذين يمتلكان البطاقة. هي بطاقة لشخصين. بطاقة سفر في القطار، والمقعد في المحطة، تحت شجرة عارية، ظلّها اقسى من العظام. هي بطاقة لشخصين، وهذا ما قرره الشاعر عباس بيضون عنواناً لكتابه الصادر حديثاً لدى "دار الساقي".

"بطاقة لشخصين"، أحدهما غائب، والثاني ترك المقعد نتيجة غياب الأول. ببساطة يروي بيضون في الكتاب، قصيدة بقصيدة، سيرة غياب الشخص الآخر، وهو الشاعر الكبير بسام حجار. يكتب قصائد "لا جواب لها إلا الموت". الموت في الكتاب هو بسام: "نسافر مع كتاب. إنه يقول إن التحضير للموت يتطلب وقتاً أطول من الحياة. الموتى يفضلون أن يسافروا في كتاب (...) سيكون (ب. ح) في عيني اليسرى. سنرى أشجاراً تتفرق وتجتمع بدون أي ذكريات مربكة، وبدون الحذر من الفراغات التي ملأت صداقتنا".

بالحرفين الأولين من اسمه واسم شهرته، يدلّنا عباس بيضون إلى قصيدته، إلى يد بسام حجار، "السعيدة لأنها لا تعرف الحيرة ولا تقدر على اليأس وبالضبط لا تستطيع أن تتوقف. هذه هي المشكلة فمن لا يستطيع أن يتوقف لا يعود حراً ويفقد قراره وربما يفتك بأي شيء، وفي مرحلة لاحقة لن يجد سوى نفسه ليدمرها". من اليد يصنع رجلاً. يصنع قصيدة مفتوحة على احتمالات الوجود والعدم، يد قابضة على زناد بندقية مصوّبة نحو الصدغ مباشرة. من اليد يصنع فماً يروي سيرة رجل "كان يصيب لأنه لا يستطيع أن يفعل العكس". رجل مصاب بلعنة اليد، "فقط يجلس، وبيدين غير موجودتين يرفع الكأس ويرشف، ببطء، الزوال".

عباس بيضون

لعباس بيضون قدرة استثنائية على استيلاد القصائد من العدم. الموت دائماً مادة غنية للقصائد. الموت روح القصائد، حينما يصيب في الصميم، حين يقترب أكثر فأكثر. هذا ما فعله عباس بيضون عندما انتحر ابن اخته زاد. كتب قصائد تؤلم حقاً، تعرف كيف تحفر في الروح، وكيف تذيق القارئ طعم الموت. بمبضع جرّاح، يخترق عباس بيضون دماغنا، يخترق الجمجمة، يفتح الصدر ويحفر عميقاً وصولاً إلى الرئتين، ثم القلب. يدخل إلى العمق، يكتب عن بسام حجار الجسد، من لحم ودم: "يستيقظ ويبدأ فوراً في تعزيل كبده من فطائس كثيرة، تعزيل دمه من الحرائق أيضاً، وأذنه من ألفاظ مختنقة". يشرّح بمبضعه جسد بسام. يشرّح حياته. الصديق هو الطبيب الشرعي. هو من يحدد سبب الوفاة. اليد قد تكون سبباً، أو الوضوح، الذي يصفه بأنه "نوع من الإماتة". أو قد يكون السبب "ابتلاع الغضب حتى آخر قطرة". أسباب كثيرة للوفاة، من بينها أيضاً أن بسام يستيقظ "فيجد الحياة هربت".

الألم راكب في القطار كما الروح. ثمة أكثر من مقطورة تحمل الألم: "القطارات لا تخيف لكننا نظل نفكر بأن لها ماضياً مع الحيوانات المفترسة وتجارة العبيد. أنها لم تصل إلى هذا الضبط إلا بالعسف. وأنها لا تزال تجرّ طولها المؤلم بحثاً عن نهاية هاربة". الألم يحجّر الساق. الحجر يسدّ الفراغ، ويظنه أحياناً رأسه. الحجر نفسه يستحيل ضريحاً، إنه شغف الحجر الذي ألمّ ببسام ففسّره. يعيد تفسيره عباس بيضون على طريقته. يحفر فيه الموت، والوقت، والإسم من أربعة حروف. يحفر القصيدة في الحجر. يسمعنا مع كل طرقة ازميل ضجيج الأبدية، وصداها الضائع في الفراغ. يسمعنا صدى الألم المتأتي من اللاشيء. في لحظة واحدة يفرغ القصيدة. يحبسنا داخل فراغها. يجعلنا نبحث عن قعر لبئر الكلمات، ولا نصل. لعبة "خبيثة" يلعبها عباس بيضون. يضعنا في المحطة في انتظار القطار. يجعلنا نصعد إليه، ونراقب كل شيء من النافذة، لنشهد هذا المرور السريع للروح، التي تحتاج إلى قطار أيضاً لحملها، على ما يقول في قصيدة "نزهة"، فـ"ليس لدى الموتى وسيلة أسرع". يجعلنا نشاهد الشجرة التي تمر بسرعة معينة، والجسر، وكيف يتباطآن، كيف يتوقف القطار وتنزل الروح ببساطة نزول راكب في محطة. تنزل الروح ويكمل القطار. "ولا نعرف أين نزلت الروح، ولا متى يتوقف القطار".

بسام حجار

هي صفحات تؤكل. ما من طريقة أخرى لتصريفها. هذا ما يصل إليه بيضون في قصيدته "سآكل هذه الصفحات": "من الواضح أن الأمر سيكون مجرد ضحك بريء على المجاز، لولا أن شيئاً يترتب على اللعب بكل قانون. سيشرب من اللعاب ويتمتع بكل العصارات، لكن العمود الذي أهين سيقلب اللعبة". هي لعبة المجاز، الغارق في الواقع، المؤلم حتى الحقيقة. هو مأزق ملأ الصفحات البيضاء بلون الأبدية، مأزق الأرواح التي هي من ورق، لكن "الأصدقاء الموتى يأتون لإنقاذنا، لكن في الساعة التي نكون ركمنا فيها كل شيء في الغرفة الجانبية وتوقفنا عن جمع الذكريات".

الصفحات التي تؤكل هي صفحات حيّة. يملأها الموت بطعم يجعل مضغها أطيب. بأضراس الشعر يمضغ عباس بيضون الموت. يشعرنا بملوحة الغياب تختلط بلعابنا. يجعلنا نفكر في حياة بسام حجار وكأنها ومضة. نغمض عيوننا وبسرعة البرق يمر بسام بشعره الأبيض ونظارته تتكئ على آخر أنفه كأنها سيارة عند حافة الهاوية. عيناه مفتوحتان، ينظر إلى البعيد. الذين عرفوا بسام والذين لم يعرفوه، سيكونون أمام فرصة التعرف إلى موته، إلى حياته التي كانت بمثابة موت قبل الموت. عباس بيضون يهبنا هذه الفرصة، ببطاقة لشخصين لمرافقة بسام حجار في رحلته بالقطار السريع، الذي لا نعرف متى يتوقف.

النهار- 15 ديسمبر 2009