منى الشرافي تيم

عبده وازنيتناول عبده وازن في كتابه "شعراء من العالم" الصادر عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"، بالدراسة والتحليل والمقارنة والنقد، شعراء عالميين قديما وحديثا، مضيئاً على أهمية الترجمة التي تثري الآداب المختلفة بعناصر الحداثة والتجديد، وتفتح آفاق الثقافة والمعرفة للاطّلاع على ثقافات الشعوب والانفتاح على الحضارات، مناقشاً المشكلات والعقبات التي تواجه الكاتب العربي حين يخوض عالم التعريب من الآداب العالمية إلى اللغة العربية.

"شعراء من العالم" مجموعة من المقالات تناولت شعراء عالميين وبعض المختارات من أشعارهم عرّبها عبده وازن عن الفرنسية بغية تقديم نماذج منها الى القارئ العربي وهي تعريبات موقتة لكونها تمّت من لغة وسيطة. يتبين أن الكاتب يقدّم عملاً يثري به المكتبة العربية، لما يتضمنه من معلومات وأفكار جديدة وغنيّة. فالقضايا التي يطرحها، بالإضافة إلى الأمور الفنية التي يعالجها، تظهر ثقافته الواسعة وتعمقه في الآداب الغربية، وذوقه الأدبي، وحسّه النقدي المتميز. يعبّر عن فكره من خلال انتقائه ألفاظاً تتحقق فيها جزالة المعنى، وعبارات متناسقة سلسة ومفهومة، تضفي على المقالات حيوية، منها على سبيل المثال لا الحصر: "الشعر لدى باث ليس كتابة فقط بل هو إصغاء للذاكرة والروح وصمت وتأمل... ثمرة التوتر الداخلي المرهف المتجلّي... آسر المادة الحلميّة... تجسيد الغائب والتقاط اللحظات العابرة". يستخدم عبده وازن أسلوباً مشوّقاً لا يُشعر القارئ بالملل، وكأنه أمام مشهد أدبي راقٍ يحمل في طياته الفن والخلق والكلمة والتشويق. كما يثبت مقدرته النحويّة ودقة ملاحظته، حين يكتشف خطأ استخدام فعل الأمر في مطلع التعريب النثري الجديد للإلياذة: "غنّ لي يا ربة الشعر"، والصحيح هو "غنّي لي يا ربة الشعر"، فالياء هنا ضمير المتكلم للمؤنث وليس حرف العلّة الذي يُحذف في فعل الأمر. إلا أن الكتاب لا يخلو من بعض المبالغة في اختيار بعض الأفعال والمصطلحات غير المألوفة: "طابعها الملغّز"، "تفصيح الأفكار"، المادة الحلمية"، أو من خلال التعامل مع شعرائه ومخاطبتهم كأنهم ظواهر وليسوا أشخاصاً، من مثل: "المناخ الريلكوي"، "مشروع ريلكوي". والمقصود هنا الشاعر الألماني ريلكة، أو حين يترك نفسه على سجيتها إذ يميّز شعراءه بألقاب كانت بمثابة عناوين لشخصياتهم الشعرية: "سافو شاعرة الفتنة الملتبسة"، "الشيرازي ترجمان الأسرار"، "برشت شاعر اللعنة والسخرية"....

يستهلّ عبده وازن كتابه بمقال: "هل وُجد هوميروس حقا" يتناول فيه الإلياذة والأوديسية وأثرهما في الأدب العالمي، ويرى أن أبرز ما يميز هاتين الملحمتين أنهما ينمّان عن ماضٍ طويل وتراث عميق يقبعان وراءهما. لغة هوميروس كما عرّفها الناقد أحمد عثمان "نتاج الموروث الملحمي الشفوي". والإرباك الذي تسبب به هوميروس للباحثين والعلماء لا يزال لغزا محكم الإغلاق. يتمكن وازن من اختصار جدلية الإلياذة المعقدة والواسعة الحدود، وتقديم آخر ما توصلت إليه الدراسات والترجمات في شأنها إلى القارئ العربي في سطور، الأمر الذي ينطبق على مقالات الكتاب كلها. كما يضيء على القصائد التي تُرجمت إلى لغات عدة وشغلت نقاد عصرها، ولا تزال تشغل نقاد اليوم، فأثرها باقٍ: "وكلما مرّ عليها الزمن ازدادت ألقاً وإلغازاً".

يضيء عبده وازن في مقالاته على شأن جوهري وهو تأخر العرب في تعريب الأعمال ذات القيمة التي كان السبق فيها للغرب، كاشفاً أن هناك ظلماً حلّ بأسماء كبيرة وأصيلة ومجددة لم يطل النقل إلى العربية أعمالها. ويرى أن عمليات التعريب القديمة، على الرغم من المجهود المبذول فيها، قد "شاخت بعض الشيخوخة وغدت على قدر من الترهل". ويؤيد التعريب النثري وذلك لأنه يحفل بالإيقاع أكثر من التعريب الشعري، وأن إتباع المعرّب نظم التفاعيل قد يسيء إلى القصائد وإلى لغة الشاعر مما يوقعها في الحشو والتأويل. والوزن يجبر المعرّب على إضافة بعض الألفاظ والجمل، أو الحذف والتصرف، مما يفقدها جمالها وألفتها وموضوعيتها وطرافتها وسخريتها. ويؤكد أن التعريب قد يفقد الشعر "أسرار لعبته من غير أن يتمكن من خلق أسرار مماثلة لها في اللغات الأخرى". ويلقي الضوء على العمل الموفّق والدقيق للشاعر الأكاديمي العراقي كاظم جهاد الذي عرّب العديد من الأشعار العالمية إلى اللغة العربية، وصوّر عمله بالإبداعي وليس مجرد نقل من لغة إلى أخرى، قائلاً: "استطاع جهاد أن يشيّد بالعربية الصرح الأساس بل الأوحد لآثار ريلكه".
يظهر عبده وازن ناقدا مميزا، ويتوضّح ذلك من خلال حرصه على إضاءة الجوانب الخلاّقة لشعرائه ومكامن الجيد والأقل جودة في أشعارهم، فيصف نصوص نيتشه بأنها "تبرز النفحة الحكمية... والمحسنات البلاغية من مجازات واستعارات وصور". كما يصف جوانب ضعفها: "لم تخل تلك القصائد من بعض الحذلقة والصنعة أو التكلّف".

تظهر نزعة عبده وازن الرومنطيقية جليّة في كتابه، فهو يطلق لنفسه العنان حين يعبّر عن انفعالاته الشخصية تعبيرا صادقا، ويخلق في بعض تفاسيره، نصوصا جميلة خاصة به، فالشعر عنده: "استدعاء واستبطان وعبرة... ينبع من أعماق الألم ويضيء كثمرة أنكر عليها خلودها". ويصف حافظ شيرازي قائلاً: "فعالمه هو أقرب إلى المحيط الهادر بأمواجه، والعظيم بصمته، والآسر بهدوئه". ويغوص في أعماق شعرائه ويترجم ذواتهم، ويتكلم بألسنتهم، ويدرس حالاتهم النفسية، ويخوض تجاربهم التي رسمت مسارات حياتهم من عذاب وألم وخيبة ومعاناة وذل وصراع مع السلطة. مثال ذلك، ما قاله عن الشاعر الروسي بوشكين: "وعرف البلاط القيصري كيف يذله طوال حياته". وكأن قدر الشعراء والخلاّقين وأصحاب الفكر والأدب، القمع والاضطهاد على مرّ العصور!

يطرح عبده وازن في كتابه "شعراء من العالم" عدداً من الأسئلة من شأنها أن تفتح مجالا أمام بعض الأبحاث والدراسات الأكاديمية في الأدب المقارن، ومن هذه الأسئلة: "تُرى هل يمكن المقارنة بين رامبو وأبي نواس وكيف؟"، ولهذا أنصح من هم مهتمون بالآداب العالمية والأدب المقارن بالتحديد بقراءة "شعراء من العالم". فلا بد من أن يشعر القارئ بعد الانتهاء من مطالعته بالكثير من المعرفة والفائدة والقيمة والمعنى، وقراءته تختصر قراءة عدد كبير من الكتب والمراجع. وليته وثّق المراجع التي أمدّته بهذا الكم الكبير من المعلومات التي وضعها بين أيدينا من خلال كتابه، فهناك العديد من الأمور والموضوعات المطروحة التي قد يرغب الباحثون والقرّاء في اللجوء إليها للتعمق في شأنها والغوص في أعماقها. وليته سجّل سنة الولادة والوفاة لكل الشعراء، للإضاءة على الحقبة التي عاشوها، فيصبح التصور أكثر سهولة والمعلومة أكثر قربا.
وما أجملها من أشعار، تلك التي اختارها وعرّبها عبده وازن لشاعر التشاؤم الخلاّق ليوباردي كما يسمّيه، ومن هذه المختارات: "هائماً هنا حول بابي/ عبثاً ابتهل إلى المطر والريح/ أن يبقياها لديَّ/ لكن الريح تعصف في الغابات/ والرعد الهائم يهزم في الغمام".

ينهي عبده وازن كتابه بمقالتين، تناول في الأولى الشعر اليوناني الحديث الذي يحاور ظلال الماضي ويحتل حيزاً مهماً في حركة التعريب الشعرية العربية، والثانية "أزهار الشعر الفارسي"، التي يشير فيها إلى أنه وعلى الرغم من طغيان أسماء الشعراء على المشهد الشعري الإيراني إلا أن بضعة أصوات نسائية ارتفعت وعبرت عن معاناتها وأزماتها، وقدّم على ذلك مثالا الشاعرة فروغ فرخزاد، التي عبّرت عن مشاعرها كأمرأة في مجتمع مغلق.

النهار
20 اغسطس 2010