عبده وازن
(لبنان)

يسترجع طالب الرفاعي في روايته الجديدة «النجدي» (منشورات ذات السلاسل – الكويت 2017) شخصية بحار كويتي يدعى علي ناصر النجدي، كان من أشهر البحارة وأشدهم جرأة وصلابة ومعرفة بأسرار البحر والغوص والعواصف، وكان قدره أن يقضي في البحر خلال رحلة صيد في السبعين من عمره مثلما توقع لنفسه مرة قائلاً لأحد أصدقائه: «نهايتي ستكون في البحر». هذا البحار الشهير الذي ابتلعه البحر في 19 شباط (فبراير) عام 1979 جمع الرفاعي ما أمكنه من وقائع سيرته شخصاً وبحّاراً أو «نوخذة» وألقى على عاتقه مهمة الراوي ليسرد على لسانه حكاياته الشخصية ومغامراته في عالم البحر والأخطار التي كان يواجهها صيادو اللؤلؤ أو الغطاسون في الكويت في العقود الأولي من القرن العشرين. جعل الرفاعي منه شخصية حقيقية، تعيش تلك الحقبة الجميلة بتقاليدها الشعبية، وتشهد في الحين نفسه على ما طرأ على الكويت والخليج عموماً بعد ظهور النفط، من حركة تحديث شامل، قضت على مهنة الصيد والغطس.

قصر الرفاعي روايته على ذلك اليوم المشؤوم 19 شباط الذي يبدأ في الحادية عشرة قبل الظهر، ساعة انطلاق النجدي وصديقيه في رحلة الصيد على ظهر اليخت الحديث، وينتهي في الحادية عشرة والنصف عندما انتصرت العاصفة على النجدي وصديقيه ودمرت يختهما ورمتهم كل لمصيره. واختار الرفاعي أرقام الساعات عناوين لفصول الرواية ذات النفَس الهادر الذي هو إيقاع الموج والريح: 11:30 صباحاً، 12:30 ظهراً، 2:30 ظهراً، 7:30 مساء، 10 مساء وهكذا دواليك... فاليوم هذا عاشه الأشخاص الثلاثة على وقع الساعات المتهادية والمتقطّعة والتي اندمجت فيها الأحداث الأليمة والذكريات، وتحديداً ذكريات النجدي التي استعادها من عمق ذاكرته ليودع عبرها الحياة والماضي.

ولئن بدت الرواية رواية بحر وإبحار ثم رواية غوص وصيد لؤلؤ، فهي أولاً وأخيراً رواية هذا النجدي الذي كان هو الراوي والبطل في آن واحد. شخصية فريدة جداً، نادراً ما نجد ما يوازيها في الرواية الجديدة، لا سيما أن أدب البحر هو نادر أصلاً ويتطلب معرفة عميقة وشاملة بعالم البحر وأسراره ومفاجآته وكذلك بثقافة الصيد والغطس والسفر وسط الأمواج والعواصف. طبعاً كُتبت في الخليج قصص ونصوص عن صيد اللؤلؤ والغطس وعن التراث البحري الذي يتفرد به الخليج ويملك مخطوطات مهمة تدور في فلكه، لكنّ ما كتبه الرفاعي هو عمل روائي «بحري» متكامل يعيد إحياء هذا التراث ويسرده انطلاقاً من أحداث واقعية ووثائق ومعطيات ومن خلال هذه الشخصية الكويتية المعروفة في ميدان الإبحار والصيد. ونجح فعلاً في دمج التوثيق والتأريخ في نسيج روائي، تتقاطع فيه الحكايات والأحداث واقعياً وتخييلياً. هذه الرواية يمكن إدراجها في خانة أدب البحر الذي يقول نقاد إن بدايته كانت مع عوليس في «أوديسيه» هوميروس ثم بلغ أوجه مع الرواية الرهيبة «موبي ديك» لهرمان ملفيل و«عمال البحر» لفيكتور هيغو و«الشيخ والبحري» لهمنغواي وسواهم... أما عربياً فكان حنا مينة رائد رواية البحر الحديثة في أعمال شتى.

ربما حدس البحار النجدي أو «النوخذة» بالمصير المأسوي الذي ينتظره في ختام هذا اليــــوم. فهو راح، بتواطؤ من الكاتب طبعاً، يتذكر طفـــولته البحرية ثم مراهقته وفتوته قبل انـــطلاقه في الرحلة هو الذي أضحى في السبعين. نداء البحر الذي سمعه صغيراً ابن خمس سنوات عــــاد إلى أذنيه: «تعال». ولطالما جلس على الرمل يتأمـــل البحر، حالماً بالمشي على صفحة مائه. لكن والده البحار الـــذي عانى الأهوال كان يردد على مسمعه طفلاً: «البحر لا يعرف صديقاً»، «لا أمان للبحـــر، غدار كل لحظة»، «يأخذك البحر وتغرق»... لكنه عنـدما بلغ الرابعة عشرة وبعد إصراره على اعتناق مهنة البحر، وكله حماسة كما كان يقــول لأبيه «أنا لا أغرق، البحر صديقي»، ينطلق مع والـــده في أول رحلة غوص لتكون هذه الرحلة نقطة انطلاقه إلى ريادة مهنة الإبحار فيصبح بعـــد بضع سنوات أشهر «نوخذة» في الكويت. ولم ينس النجدي الجملة التي قالها له والده حينذاك: «مستعجل على البحر يا وليدي».

 

كان النجدي ابن السبعين يعيش حالاً من الحنـــين الدائــم إلى البحر، فهو لم يستطع التكيف مع الحياة الحديثة التي فرضها عصر النفط والتطور وكان كلما افتقد البحر يقول: «النفط غيّر البشر والحجر». وكم هاله أن ينصرف الكــــويتيون عن مهنة صيد اللؤلؤ بعدما اخترعت اليابان اللؤلؤ الصناعي الذي حل محل الأصيل. ويـــقول:» مع تصدير أول شحنة بترول من الكويت العام 1946 انصرف أهل الكويت عن البحر: النـــواخذة والطواويش والغواصون والقلاليف والبحارة. الجميع أدار ظهره للبحر، كل راح يبحث عن عمل في شركة البترول أو في سوق التجـــارة والوكالات الأجنبية الجديدة». ويضيف بنبــــرة ملؤها الأسى: «مهملاً حزيناً انزوى البحر ومـــثله تكومت أنا على نفسي». وسعى النجدي إلى مماشــاة ثورة العصر فتخلى عن سفينته الشراعية التي انتهت حطباً وأحل محلها أخرى تعمل على المحرك والنفط، لكن الحرب العالمية الثانية كان لها أثر على حركة السفر فتقلصت. وحاول النجدي أن ينخرط في سوق التجارة فلم ينجح، وظل غريباً تماماً عن «المدينة» الجديدة، الملطخة بـ «الإسمنت والأصباغ «، مشدوداً إلى البحر الذي ولد كما يقول «من خاصرته». إنها صدمة الحداثة يتلقاها هذا «النوخذة» على طريقته.

 

كان من السهل إذاً أن يقع النجدي في إغراء تلك الرحلة غير المنتظرة إلى البحر في ذاك اليوم البارد، الاثنين 19 شباط، كان النداء ما برح يترجّع في روحه. كان متردداً قليلاً، هو الرجل السبعيني لكنه تخطى التردد مدركاً أن البحر «بيته الثاني» وحده قادر «على إعادة الشباب» إلى روحه. لم يبال النجدي بخوف زوجته وأسرته فانطلق مع صديقيه سليمان وشقيقه عبدالله في رحلة الصيد تلك التي ستكون الأخيرة. وعندما مخر بهم اليخت الماء وابتعد عن الشاطئ نظر النجدي من حوله وقال: «البحر حاضر كأجمل وأوسع ما يكون. كيف لروحي أن تشبع من هذا المدى المتلألئ». كان النجدي على علاقة صوفية وروحية بهذا المدى الأزرق. لم يكن الصيد أو الإبحار مهنة أو حرفة فقط، كان أيضاً طريقة حياة ومسلكاً ومساراً نحو المجهول وطقساً احتفالياً، لا يخلو من الموسيقى والغناء البحري وحتى من الأذان الذي كان يؤديه سلطان مؤذن السفينة. والنوخذة، أي القبطان وقائد السفينة، يضحي في مسلكه هذا، شخصاً «منذوراً» للبحر والرياح والأخطار. إلا أن هذا النوخذة القدير كان يشعر دوماً كلما انطلق في رحلة بحرية أن قلبه يخفق كما لو أنه يركب البحر للمرة الأولى. بدأت الرحلة جميلة وهادئة ووفيرة الصيد حتى كاد صندوق اليخت يمتلئ بالأسماك المتنوعة الأصناف، لكن النجدي شعر أن خطراً ما يُحدق بهم وأن تياراً يقترب من اليخت. ثم هبت عاصفة وكانت الساعة قاربت العاشرة مساء وراحت تحاصر اليخت وتضرب جوانبه وارتفع التيار المائي الأسود من حوله. واجه النجدي العاصفة والتيار بصلابة، فالنوخذة لا يسلم سفينته بسهولة، وشرع يعاركهما حتى تمكنا من قلب اليخت، ولم يبق أمام الأصدقاء الثلاثة سوى التمسك بالصندوق لينجوا من الغرق... لكن العاصفة كانت هي الأقوى، شتتهم في الماء. هنا يمعن الرفاعي في وصف «المعركة» البحرية بدقة وبراعة وكأنه بحار خبير في تلك المواجهات والأخطار. يورد على لسان الراوي الذي هو النجدي نفسه تفاصيل المعركة وسط المياه ويصف أحوال البحّار الصلب الذي يقاوم الغرق مستميتاً لإنقاذ نفسه. ويركز طبعاً على النجدي الذي لام البحر الذي غدر به وهو في السبعين مخاطباً إياه :»لماذا يا بحر؟». وفي لحظات العراك يستعيد النجدي ذكرياته في ما يشبه الشريط السريع ويهلوس، ويسمع قبيل غرقه أذان سلطان مؤذن سفينته... أما كلماته الأخيرة فهي تفيض حنينا: «أنا خفيف الآن. أشعر أنني خفيف. الماء يأتي إلي من كل صوب. أنا ولدك يا بحر. لن أفارق البحر».

وبغية الارتكاز على المزيد من التوثيق البحري يعتمد الرفاعي كتاب البحّار الأسترالي ألن فاليرز وعنوانه «أبناء السندباد» الذي تناول فيه البحارة الكويتيين، وهو كان صديقاً للنجدي ورافقه في رحلات على متن سفينته التي سماها «البوم بيان». وقد رافقه مرة ستة أشهر من أواخر 1938 إلى منتصف 1939 في رحلة إلى زنجبار. وكتب البحّار الأسترالي صفحات بديعة عن الرحلة وعن السفينة والنجدي. وفي رأيه أن «المراكب العربية هي آخر ما تبقى من سحر الشرق القديم».

أصاب طالب الرفاعي كثيراً في استعادة شخصية «النوخذة» النجدي الذي اختفى في البحر ولم يظهر جثمانه بتاتاً، وفي جعله بطل الرواية وراويها، فمن خلال سيرته ومغامراته تمكن من كتابة رواية فريدة، عن عالم البحارة والسفن الشراعية والعواصف، وفيها يندمج التوثيق والتأريخ والتخييل السردي ليقدم هذا الاندماج عملاً روائياً ينقذ عالم المراكب من عتمة الذاكرة.

الحياة-١١ فبراير/ شباط ٢٠١٧