(أنطولوجيا جديدة للشاعر الذي أحبّ الفلسفة)

حسين بن حمزة

فؤاد رفقةرفقة: الترجمة تحسِّن الأصل الشعري حيناً وتشوّهه أحياناً (مروان طحطح)شُغف بالشعر الألماني فترجمه يوم كانت مجلّة «شعر» تُعنى فقط بالأدب الفرنسي. هكذا اعتُبر أحد الاختصاصيين العرب في تاريخ هذا الشعر، وتطوّره، وأهم التيارات فيه. كتابه الجديد «قصائد ألمانية معاصرة» (دار نلسن) عبارة عن قصائد مختارة لـ 38 شاعراً ألمانياً تُفرّق بينهم الأجيال والأساليب... وتجمعهم الضاد بنفَس معرفي وإبداعي واحد

حالما تصدر ترجمة شعر ألماني إلى العربية يتبادر إلى أذهاننا اسم فؤاد رفقة (1930). ثمة مترجمون آخرون ينقلون قصائد وروايات من لغة غوته إلى العربية. لكنّ جهود فؤاد رفقة وقِدَمها يعطيانه نوعاً من الريادة والأسبقية، فضلاً عن خصوصية تتمثّل في كون الرجل قد شُغف بالأدب الألماني والفلسفة الألمانية في وقت كانت فيه الترجمة عن الفرنسية هي الطاغية في مجلة «شعر»، التي كان أحد مؤسّسيها. ارتبط اسمه بالشعر الألماني إلى حد أنّ كثيرين يعتبرونه أحد الاختصاصيين العرب في تاريخ هذا الشعر، وتطوّره وأهم التيارات والأسماء فيه. الألمان أنفسهم يعتبرونه ممثلاً لهم في الحياة الثقافية العربية. قدّموا إليه منحة للدراسة تُوِّجت بحصوله على شهادة الدكتوراه في بحث بعنوان «الجمال عند هايدغر». كرّموه أكثر من مرة في لبنان وفي ألمانيا. منحوه جوائز عدة. استضافوه كاتباً زائراً في جامعاتهم. في النتيجة، صحبته الطويلة مع الفلسفة الألمانية والشعر الألماني أصابته بالعدوى. يُخيَّل للقارئ أحياناً أنّ شيئاً ألمانياً تسرَّب إلى نتاجه الشعري والنثري. الزهد والبطء وحضور الطبيعة والتجوال في داخل النفس والتأمل العميق في حركة العالم... هذه الصفات ليست حكراً على الشعر الألماني، لكنّها أساسية ومستديمة في معظم هذا الشعر. حضورها في نصوص صاحب «أنهار برية» (1982) يمنحها معنىً مختلفاً وخاصاً.

قصائد المانية معاصركلّ ذلك نستعيده في مناسبة صدور ترجمة جديدة تحمل توقيع فؤاد رفقة، تحت عنوان «قصائد ألمانية معاصرة» (دار نلسن). يتضمّن الكتاب قصائد مختارة لثمانية وثلاثين شاعراً وشاعرة ينتمون إلى أجيال وأساليب شعرية متعددة. الشعراء ينتمون إلى مناطق اللغة الألمانية كلها، لا ألمانيا فقط. الكتاب أشبه بأنطولوجيا مقترحة لقراءة الشعر الألماني المعاصر. المترجم يقترح عامي 1898 و1962 كحدّين زمنيّين لمحتويات الكتاب، وهما عاما ولادة الشاعر الأول والأخير فيه (برتولد بريخت، ودروس غرينباين).
لا يتأخر القارئ كثيراً في اكتشاف أنّ ما يقرأه يختلف عما يقرأه من شعر لغات أخرى. ثمة روحية شبه موحّدة تسري في نصوص أغلب شعراء الكتاب. لا فرق إن كانوا من الكهول أو من الشبّان، من الموتى أو من الأحياء. حتى مَن لا يعرف الألمانية، يصله التأثير القويّ لشعرٍ كُتب وفق مخيّلاتٍ تعير اهتماماً بالغاً لحركة الزمن، وكينونة موجودات العالم. نكاد نعثر على أبديةٍ ما أو شذرة منها تحت كل قصيدة في الكتاب. ليس ضرورياً أن يكون حضور الزمان والكينونة مباشراً. فهذا الإحساس يتسرّب حتى إلى القصائد غير المشغولة بهذه الفكرة. القصد أن معرفتنا بأن الشعر الذي نقرأه ألماني يُدخلنا تلقائياً في مناخ شعري خاص ومحدد.

لكن ألا توجد فلسفة في نتاج شعراء اللغات الأخرى (غير الألمانيّة)؟ يقول صاحب «عودة المراكب»: «هناك شعراء كبار في لغات أخرى، ولكن لا يقابلهم فلاسفة من النوع نفسه. كما أنّ صداقةً حميمة وعميقة تجمع بين الشعر والفكر لدى أغلب الشعراء الألمان، وهو ما نفتقده لدى غيرهم، حيث الشعر يتمظهر في انفجارات عاطفية ولغوية وغنائية، بينما الشاعر الألماني يكتب بخلفية فلسفية واسعة، وأحياناً لا نستطيع فهم شعره من دون العودة إلى فلسفة موازية. كما أن بعض الفلاسفة يلجأون إلى الشعر لتعزيز أطروحاتهم الفكرية. لنتذكر عبارة هايدغر: «كل ما كتبته في كتابي «الكينونة والزمان» موجود في شعر ريلكه».

عمل رفقة 15 عاماً على إنجاز الكتاب: «اشتغلت بشكل متقطّع وبطيء بسبب انشغالي بالتدريس في الجامعة، فضلاً عن صعوبات كثيرة واجهتني في انتقاء القصائد وفي نقلها إلى العربية». ويقول عن الترجمة نفسها: «لا توجد ترجمة كاملة. إذا كان الشاعر لا يستطيع شرح قصيدته، فكيف ينجح المترجم في نقل معانيها إلى لغة أخرى. أحياناً تحسَِّن الترجمة الأصل الشعري وغالباً ما تشوّهه، لكن مهما كان المترجم بارعاً ستظل هناك مسافة بين الأصل والترجمة. لهذا أصدرتُ الكتاب باللغتين، ويسرّني أن أتلقى أي ملاحظة أو تصويب لعبارة أو كلمة قد لا تكون صحيحة».
بداية الكتاب مع بريخت. الكاتب الذي أسّس تيّاراً مسرحياً كاملاً، يحضر هنا شاعراً ذا موهبة فريدة. وعلى رغم أنّ أعماله الشعرية صدرت بالعربية عن دار الفارابي عام 1986 (ترجمة أحمد حسان)، فإنّ شعره لا يزال مجهولاً لدى أغلب القرّاء والشعراء العرب. يُفاجئنا بريخت بقوة قصائده ونضارتها، بل إنّه يتفوق على العديد من الأسماء الموجودة في الكتاب، سواء من مجايليه أو ممن جاؤوا بعده. لنقرأ: «البيت الصغير تحت الشجرة عند البحيرة/ من السطح يطلع الدخان/ لولا وجودُه/ كم بلا عزاءٍ/ كان البيت والشجر والبحيرة». ثمة أسماء أخرى نعرفها من قبل: باول سيلان، إنغبورغ بخمن، هانز ماغنس إنتسنزبرغر، يواخيم سارتوريوس. الباقون غير معروفين كفاية للقارئ. الملاحظة الأهمّ هي أنّ تقدُّم القارئ في الكتاب لا يُشعره بالانتقال من زمن أقدم إلى زمن أحدث. لا نقول إنّ ذلك يوحي بأنّ الشعر الموجود في الكتاب يعود إلى شاعر واحد. لكنّ الصفات التي عهدناها في الشعر الألماني تجعل تغيّراته طفيفة وغير ملموسة تقريباً. ثمة أجيال متنوعة وأسماء متباعدة. لكن «المادة الألمانية» الجامعة بين الشعر والفلسفة تسري في نتاج الجميع. ينتقل القارئ من شاعر إلى آخر، فيجد تلك المادة كامنة له بين السطور والاستعارات. يقرأ لغونتر آيش: «شجر الكستناء يبرعم/ آخذُ علماً بذلك/ من دون أن أُفصحُ عن هذا». ثم للشاعرة روزي آوسلندر: «الرفاق الموتى/ يشكون/ لأنكِ عشتِ بعدهم». ثم هذا المقطع للشاعرة إلما راكوزا: «السَّكينة تقف/ الحصان واليد/ الرأس والجدار/ الكرسي والقطار والبخار/ الساعة والكتاب/ الوجع والقماش/ كل شيء يقف للوداع/ وحدك أنت/ تمضي». ويتوقف أخيراً عند لودفيغ شتاينر: «لثوانٍ/ أتخيلك/ بين الشجر/ تتقدمين صوبي/ لكن ما هو إلا رداؤك على الشريط/ يتأرجح/ كم بسهولة/ تقلِّد الريح/ مشيتكِ».

القصد من هذه الأمثلة هو إبراز قوة التأمل والتفلسف المدسوسة فيها. إنها عيّنات من المادة التي ذكرناها، حيث يعيش الشعر والفلسفة تحت سقف واحد. لا فرق إن كانت القصيدة ذات بعد فكري واضح أو كانت سرداً يؤرخ لحياة يومية. في الحالتين، ثمة خلاصة تبقى في عُهدة القارئ. لعلّ هذا يُفسر عبارة الشاعر الألماني الشهير هولدرلين: «ما يبقى يؤسّسه الشعراء».

يومَ التقى ريلكه في شارع بلسّ

ريلكهريلكهذات يوم من أواخر خمسينيات القرن الماضي، كان فؤاد رفقة الشاب يتسكَّع ضجره في بيروت. من دون أن ينتبه، وجد نفسه يدخل «معهد غوته» في نهاية شارع بلسّ. بمحض المصادفة، تناول من أحد رفوف المكتبة ديوان شعر مطبوعاً بالإنكليزية والألمانية وراح يتصفَّحه. ثم اكتشف أن أكثر من ساعة مضت وهو غارق في تلك الترجمة الإنكليزية لـ «مراثي دوينو» لراينر ماريا ريلكه. يقول رفقة: «كنت أقرأ بلذة غريبة وأحس أن ما أقرأه يترسّب في داخلي. لا أعرف لمَ فكرت في الاحتفاظ بالكتاب. أخفيته تحت ثيابي وغادرت المكتبة. قرأته أكثر من مرة. قلت لنفسي إنّ شاعراً كهذا لا بد أن يُترجم إلى العربية. لهذا قررت أن أتعلم الألمانية بأي طريقة.
بعد شهر، أحضرتُ الكتاب واعترفت للمدير بما جرى، فضحك وأهداني إياه».
صاحب «مرساة على الخليج» (1961)، طالب الفلسفة في الجامعة الأميركية حينذاك، كان على معرفة ضئيلة بالفلسفة والشعر الألمانيين، إلا أنّه كان يرغب في دراسة هذه الفلسفة بشكل مكثّف وفي موطنها الأصلي. قراءة ريلكه حوّلت تلك الرغبة إلى حلم مستديم.

نقول له إن الترجمة عن الفرنسية ثم الإنكليزية كانت طاغية في تلك الفترة، فيجيب: «لم يكن الأدب الألماني متداولاً، لكني كنت مؤمناً بأني سأجد فيها موطناً لي ولمزاجي في الكتابة. وهذا ما حدث فعلاً. الخليط الفلسفي والشعري في النصوص الألمانية كان يلبّي طبيعتي وحساسيتي في الكتابة».
لم يتأخر القدر في تسهيل هذا الحلم. جاءته منحة لمدة سنة من الهيئة الألمانية للتبادل العلمي. تعلّم الألمانية أربعة شهور في المعهد الألماني، ثم انتقل إلى مدينة توبينغن ليُنهي دراسة الدكتوراه في الفلسفة بأطروحة عن «الجمال عند هايدغر».
بعدها توالت الترجمات. مختارات من ريلكه أولاً، ثم هُلدرلن وغيروغ تراكل وأولي كومندا سانتغيرات، ثم عودة إلى «المعلم» ريلكه في «مراثي دوينو» و«سونيتات أورفيوس».

الاخبار
الثلاثاء ١٤ تشرين أول ٢٠٠٨