حسين بن حمزة
(لبنان)

إيمان مرسالاقترن اسمها بـ «جيل» سعى إلى كتابة قصيدة سردية تدير ظهرها للبلاغة وتمتدح مفردات الحياة اليومية، لكن الطموحات الذاتية أفردت لكل واحد سياقاً خاصاً. ديوانها الجديد «حتى أتخلى عن فكرة البيوت» (شرقيات/ التنوير) خطوة إضافية في ترسيخ هذا السياق من السرد، تنشأ قصائد إيمان مرسال (1966). ربما علينا أن نحدد أكثر، ونقول إنّ هذه القصائد تنشأ من السرد الخام، لا من النثر المدرَّب على التحول بسرعة إلى قصيدة نثر. كأنّ الشاعرة المصرية تبدأ الكتابة من لحظة أسبق مما سُمّي «شعرية النثر»، وهي ممارسة تزامنت مع أقران آخرين مثل أحمد يماني وياسر عبد اللطيف وعلاء خالد وأسامة الدناصوري، في ثمانينيات وتسعينيات الشعر المصري، حيث جرى الرهان على استثمار السرد لكتابة «القصيدة اليومية» و«قصيدة التفاصيل»، لكنها كانت في العمق قصيدة زوال سحر القضايا والأحلام الكبرى، وأفول صورة الشاعر/ النبي لمصلحة صورة الشاعر/ المواطن وقصيدة «الإنسان الصغير».
كان السرد جزءاً من حساسية ضجر أصحابها من التهويم اللغوي والعاطفة المفرطة. ضجرٌ سمح لبعضهم بإيجاد صلات مع تجارب ومؤثرات غير مصرية. خلطةٌ سمحت، بدورها، بإدارة الظهر للبلاغة النيوتقليدية، وامتداح مفردات الحياة اليومية. ربما صار هذا التوصيف متقادماً مقارنة بالمجازفات التي أخذت تلك التجارب إلى ممارسات ناضجة، لكن بعض عناصر هذا التوصيف لا تزال تلوح في قصائد راهنة يكتبها هؤلاء. التقارب بين الأسماء كان نوعاً من تبادل وجهات النظر، ونوعاً من التجرؤ على السائد أيضاً. هكذا، ظهرت «شلل» شعرية بالمعنى الإيجابي للكلمة، لكن الطموحات الذاتية راحت تقدِّم «المفرد» على صيغة «الجمع»، وإن كان ذلك يحدث تحت لافتة عامة شملت أسماء روائية ونقدية مجايلة، وأخرى من أجيال سابقة أيضاً.

داخل هذه الصورة، يمكن قراءة تجربة إيمان مرسال كصوت شعري نشأ ضمن «جيل»، قبل أن تحظى بمزاج خاص ورِواق ضيق على الأوتوستراد العام. مزاجٌ لاح في باكورتها «اتصافات» (1990)، قبل أن يكشف عن ممارسات أكثر تأملاً وفلسفةً في «ممر معتم يصلح لتعلم الرقص» (1995)، ويتحول الشعر مسألة شخصية أكثر في «المشي أطول وقت ممكن» (1997). أثناء ذلك، كان تسريبُ شذرات من السيرة إلى الكتابة ممكناً، كما في قصيدة «عتبة» التي تصف افتراق المجموعة عن مشهد سائد: «كنا نصرخ بصوت عالٍ/ دون أن يفهمنا أحد»، وتنتهي بافتراق الشاعرة نفسها عن المجموعة أيضاً: «وعندما قررتُ أن أتركهم جميعاً/ أن أمشي وحدي/ كنتُ قد بلغتُ الثلاثين». التَّرْكُ سيتحول لاحقاً إلى ذهاب وإياب بين عالمين في مجموعتها الرابعة «جغرافيا بديلة» (2006). عنوانٌ سيحظى بدور مستقبلي في مجموعتها الجديدة «حتى أتخلى عن فكرة البيوت» (شرقيات/ التنوير).
السرد يأخذ راحته بالكامل في المجموعة الجديدة. القصائد مكتوبة على سطور كاملة، لكنّ ذلك ـــ باستثناءات قليلة ـــ لا يُوقعها في الاستطراد المجاني. السرد يجلب معه روحاً حديثة ولغة حيادية ودقيقة تجفّف التهافت الوجداني الذي يمكن أن ينشأ من مفارقات الحنين بين الأمكنة والأزمنة. الحيادية صفة مرافقة لنبرة الشاعرة التي تُعيد كتابة شذرات من سيرتها وأفكارها الذاتية، وتحولها إلى مقتنيات شعرية تتجاوز الأصل الواقعي، وتمحوه أحياناً. السرد يُطيل القصائد، ويصعّب اقتباس مقاطع صافية ومكتفية بنفسها منها. الشعرية المستهدفة تتراكم ببطء، وتطالب القارئ بالانتظار حتى الخاتمة كي يحظى بالدهشة الكاملة. أحياناً يمكن الإصغاء إلى الخاتمة وحدها كما في قصيدة «فكرة البيوت»: «كل مرة تعود إليه وتراب العالم على أطراف أصابعك. تحشرُ ما استطعتَ حمله في خزائنه. مع ذلك ترفضُ أن تعرّف البيت بأنه مستقبل الكراكيب، حيث أشياء ميتة كانت قد بدت في لحظة ما تفاوضاً مع الأمل. ليكنْ البيت هو المكان الذي لا تلاحظ البتّة إضاءته السيئة. جدارٌ تتسع شروخه حتى تظنَّها يوماً بديلاً للأبواب»، بينما قصيدة مثل «مقبرة سأحفرها» لا تصنع انطباعاً لدى القارئ إلا بإيرادها كاملة: «عائدة إلى البيت بطائر ميت في يدي، ومقبرة صغيرة سأحفرها تنتظرنا في الحديقة/ لا دماء على ريشه المغسول، جناحاه مفرودان، ونقطة ندى على منقاره ربما تكون خلاصة الروح/ كأنه طار أياماً وهو ميتٌ بالفعل. تحدّد سقوطه أمام عينيّ الرّب، مائلاً وثقيلاً، وأمام عينيّ. أنا التي تركتُ بلداً في مكان ما لأتمشى في هذه الغابة، أحملُ جثةً لم ينتبه لغيابها السّربْ. عائدة إلى البيت في جنازة كان يجب أن تكون مهيبةً، لولا هذا الحذاء الرياضي».
بالطريقة ذاتها، تُستعاد شذراتٌ من الطفولة، وغياب الأم، ورحيل أسامة الدناصوري، والإجازات المؤقتة إلى «تلك الحياة التي حَشرَ فيها أكثر من أب طموحه، أكثر من أمّ مقصاتها/ أكثر من طبيب مهدئاته، أكثر من مناضل سيفه، أكثر من مؤسسة غباوتها، أكثر من مدرسة شعرية تصوّرها عن الشعر»، لكنها في قصيدة أخرى حياةٌ «يمكنني ضمُها إذا شئت، يمكنني حتى الجلوس على ركبتيها، والغناء أو العويل».

الأمكنة الأولى

في «حتى أتخلى عن فكرة البيوت» (شرقيات/ التنوير)، تنتقل الشاعرة بين الأمكنة الأولى، واستعادة مذاقاتها بعد استقرارها كأستاذة للأدب العربي في جامعة كندية. القصيدة هي حصيلة المفارقات بين طرفي هذا التوصيف. بالتوازي مع ذلك، تمتحن مرسال ماضيها الشخصي والعائلي والجغرافي والشعري، وتسمح لتفاصيل وذكريات قديمة بالارتطام بتفاصيل وذكريات راهنة في طريقها إلى التكوّن.

***

ذات تلملم نفسها

محمد خير
(لبنان)

«لم يحدث هذا في بيت أهلي/ بالتأكيد ليس بين من ظننت أنهم يعرفوني/ حياتي التي فشلت دائماً في لمسها/ في أن أجد صورة لي معها/ بجانبي على نفس السرير/ تفتح عينيها بعد غيبوبة طويلة». في ديوانها «حتى أتخلّى عن فكرة البيوت»، تتخلى إيمان مرسال عن آخر ظلال القصيدة الحرة، تستكشف الإمكانات الكاملة للنثر، تجترح الشعر عبر السرد بالجمل الطويلة، تحضر حياتها كاملة أمامها «حتى أنه يمكنني ضمها إذا شئت، يمكنني حتى الجلوس على ركبتيها والغناء والعويل».
في ديوانها الخامس، تلملم خيوط حياتها ودواوينها السابقة، خيط يبدأ من قرية «ميت عدلان» (وطني الأم الذي يزورني كل ليلة في الكوابيس)، ويمتد إلى «لحظة كهذه بلا تاريخ ولا مستقبل، مثل زجاجة صغيرة من الماء تشربها على عجل ثم تلقيها في أول سلة مهملات». وبين أول الخيط وآخره، هناك دائماً «كرسيّ في مطار في عاصمة ليست في منتصف المسافة». هذا العمر ــ أو ذاك الطريق ــ لم يخلقا نضجاً أكبر أو أقلّ (بعض الناس يظنون أن الحقائق تصبح قريبة بعد الأربعين، ولكن يؤسفني أن أحبطهم)، مع أنها تستدرك (بعض النساء قد يصبحن حكيمات، ولكن ذلك يحدث عندما يتواطأن أكثر على الهروب من الحقائق). إذاً، أين ذهبت «كل تلك الأيام الضائعة، تجريب العمى (..) أين الذنوب، والحزن المفاجئ أمام تل من الفاكهة على عربة يد في شارع منسي؟». ألم يتبق سوى «طابور من الموتى الذين ماتوا ربما لأنني أحببتهم، بيوت للأرق داومت على تنظيفها بإخلاص في أيام العطلات، هدايا لم أفتحها لحظة وصولها، قصائد سرقت مني سطراً سطراً حتى أنني أشك في انتمائها لي، رجال لم أقابلهم إلا في الوقت الخطأ ومصحات لا أتذكر منها إلا الحديد على الشبابيك؟».

ربما بقيت لديها تلك القدرة على معرفة الشخص الذي «تبعثر من قبل»، فهو «عادة ما يتلفت حوله، كأنه يبحث عن جزء ما زال ضائعا منه/ وقد يبدو في التفاتته حلوا جداً لأنهم ألصقوه بالصمغ أو مرّاً بعض الشيء لأنه يبالغ في إضافة الغراء ليسدّ فجوة بين عضوين». لكن الأمر يبدو أصعب كثيراً مع أولئك «الذين تمزّقوا من قبل/ لا شيء يميّزهم في الحقيقة! /أقصد، ربما كل منهم لا يشبه إلا نفسه/ مثل ملصقات مختومة تم نزعها من أغلفة المظاريف وانتهت عند هواة جمع الطوابع».
لكن الحزن المثقل ليس كل شيء هنا، ثمة لحظات حب ومخيّلات حسية ممزوجة بقدر طفيف من السخرية الذاتية (سأمد يداً للسلام والأخرى تتأكد أن النظارة في مكانها، أرستقراطية محافظة، سيدة صالون تمارس نشاطها الخيري لصالح اليتامى. أهلاً)، في قصيدة «أنت أمام الباب أنا خلفه»، محاولة لالتقاط: «الثواني الأكثر بهاءً مما بعدها، فتحُ الباب لرجل تنتظره ينتظر في الخارج، كأن كل شيء على ما يرام في هذا العالم». إنّها تلك اللحظة المربكة عندما «بضغطة إصبعك على الجرس تحدث فوضى/ إلى الأذن تنطّ دماء كانت تتهادى قرب سلسلة الظهر/ تتراجع قدماي خطوتين للخلف/ كل عضو يهرول وحده في اتجاه خطأ».
لكن الحسيّة تمتد بخجل إلى حدود الإيروتيكا «بيده/ من شعري/ شدّني رجل كان قد رآني أغرق بعد أن كنت أمشي على الماء»، يمكن القول إنّها الحسيّة اللازمة للطمأنينة، لإبعاد القلق «لأن كتاب الرغبة المغلق/ مفتوح بعلامة على صفحة ما». قصائد تتنصل من الحكمة لكنها ما زالت تبحث عن الحقائق، وتتنكر من النضج لكن آثاره بادية في السخرية المرّة وتأمل البدايات، وذات تتأمل المبعثرين لأنها ـ مثلهم ـ تلملم نفسها، وشعر يستطيع أن يجد نفسه في السرد والحكاية، مدفوعاً بيقين أنه «كلّما تكونت كلمة التأم جرح ما في هذا العالم»، بلى إن تلك «معجزات تحدث ولا تسأل كيف؟».

الاخبار- الاربعاء 20 آذار 2013