عبدالله السفر
(السعودية)

عبدالله ثابتفي السنوات الأخيرة، مع انخراط الساحة الثقافية السعودية في الكتابة الروائية التي أخذت تهيمن على المشهد وباتت أسماء من يكتبن ويكتبون الرواية لها السطوة والحظوة، لجأ الشعر إلى الظل، وهل يعرف الشعر منطقةً غيرها، يمارس مراجعةً واختماراً وتجديداً في رؤاه وأدواته على نحوٍ سوف يتبدّى فيه النسيج الشعري أكثر متانة ولمعاناً وإمعاناً في تقصي الواقعة الشعرية بإحالاتها ومرجعيّاتها وبنبشٍ متعدد الزوايا والأطراف، سعيا لاستمرار خطّ الحداثة الشعرية وتطويره، بما يحقّق إنجازاً لافتاً لا يقلّل من شأنه ولا يهوِّن من أثره أنّ الضوء الذي يستكشفه ناحلٌ وضامر. تلك ضريبة الظل ونُعماها أيضاً. ضريبةٌ هي الخفاء ونُعْمَى هي التجلي حين يتبقّى النوعي والإضافي ويتطاير زبد الوصفات الجاهزة بطعومها البائتة المتشابهة.

ذاكرة بقبضة خانقة

في نُعمَى الظل ومن هناءته خرجت نصوص " c.v. حرام " لعبدالله ثابت ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2007 ـ والتي تلتقط الفُتات والنُّتَف والهشيم، وما هو متروك في الهامش ؛ تعيده مستويا نابضاً فوّارا، يؤشِّر على الشخصي ويرتفع عنه وبه إلى الحالة الشعرية.. الإنسانية (الآن وهنا) تَمْثُل في التجربة بحشواتها وفراغاتها وسرديّاتها لكنها تمضي إلى ما هو أبعد، بما يمنحها وجهاً مفارقا حافلاً بالتردد والتوتر. المسافة الضرورية للانتقال من القول والرصد إلى الإيغال خلف ما تقوله وترصده القشرة الخارجية. الضرب عميقا باتجاه النواة والبلّورة المشعّة؛ موطن البحث وثمرة المسعى القائم على حشدٍ من الوسائط والتوسلات الجمالية، تجتمع في نقش الأثر وتظهير خطواتٍ سارحة في فضاء التجريب والصّوْغ، وإعمال الأدوات واختبارها بين حَدَّيْ "فجائع الأحناك" و "البكم وإيلامه" صانعةً سيرةَ "حرامٍ" لا يختزلها لفظ الـ "حرام" في الجانب الأخلاقي وحسب، لكنه الإطار الشامل الضاغط بحدوده التي تفرض وتسيطر وتقولب أخلاقيا واجتماعيا وثقافيا. إنه إطار الذاكرة الجامعة بهيبتها البالغة المكينة، لا تسمح بتفرّد ذات، ولا تتيح تنوّعا يُخرِج الأضداد من تجهّم قبضة الأركان الخانقة إلى بريّة الغواية، وفتنةِ اللعب خارج سياجٍ يشهق في المحظور والممنوع؛ يقلِّم الأظافر ويربّي الاستكانة، فيذبل برعم الفرادة وينطفئ قنديل المغامرة (بذاكرتي../يمشي ذاك الطفل القليل (...) حيث الاسمنت والخرسانة الخام/يتكرمش كدودة خائفة).. (فمنذ كنتُ صغيرا (...) اعتادوا أن يعاملوني كما لو أني لم أُخلَق).

ولا عجبَ أن مناخاً موبوءاً كهذا يولِّد كائناتٍ معطوبةً مشوَّهة يدبّ فيها العجز ويتكرّس، وتنشأ فيما بينها فجوات العزلة بشوكها المتوحش ينغرز في خاصرةٍ تتلوّى من وجع الإنكار والإلغاء. وهذا هو مناخ الأزمة بامتياز؛ ذاتٌ مغلولة محجوبة عن حركة الحياة، تتخبّط في عطالتها، ملفوحة بريح السكون الباردة، مبتوتة الصلة بمن حولها، تتأكّلها الكآبة، حسيرة الرغبات، لا تفوح منها سوى رائحة حامضة يتردد فيها نَفَسُ العدم (لا شيء للانتظار ولا شيء للفقد).. (هذه الأرض ليست لك ولا وُلدتَ بها).. (... وليس من رغبة في الإمساك بشيء ولا الإحساس بحي).

شعلةُ ليلٍ هائجة

تسري عطالة الكائن من مستواها العيني المرصود في شواهد وأحداث إلى مستوى كياني وجودي، تنعكس في تمثيلات رمزية حاملة للأزمة ومعبّرة عنها، نعثر عليها في مفرداتٍ ـ نحو: الهوّة؛ الهاوية؛ القاع؛ الغار؛... ـ تشخِّصها كمحركات تشحذ وتُلْهِب نبرةَ الشخصية الاحتجاجية التي تحاول الخروج، وتختطّ طريقا مناوِئا، لن نكون متسرعين بوصفه مناهضا يعلن، مرة بعد مرة، التحدي والعصيانَ ومقارعةَ الحدود والارتطام بها، بصبرٍ نافد وشعلة ليلٍ هائجة يؤجّجها الضجر ويسعِّرها الغضب وشديدُ الامتعاض. يخرج خشنا؛ مستفزّاً؛ لا مبالياً. يتباهى برفضه ويعلِّقه شارةً تنبئُ عنه وتشير إلى انخلاعه من الصيغ القارّة والصبغات الزائفة والقبور العائمة في الركود (عند الباب توحّشي يخلع الآخرين مني، وأخرج للشتاء دون معاطفهم).. (يداي مدفونتان في جيبي. ما من أحد كي أراضيه).. (غرفتي هي العالم وأنتم المغلَقون بإحكام).. (... لم يأتِ ليدعو أحدا إليه ولا ليكون إلى أحد واختارَ أن ينفخَ جمراته الكبيرات بفردانية وعناد في الجبل فقط).. (غادرَ،شارداً، إيوانَهم الفسيح إلى بريّته ولاذَ بصداقة العشب الحرام).. (.. لستُ سوى كتفٍ مخلوع).. (وفي انعكاس الضوء الأحمر دوماً.. التصقُ).

حطاب الهاوية

ومن تدبير هذا الخروج والاحتجاج، اتخاذ الكاتب قناعاً أو وسيطا يسرِّب عبره مقولاته وتعليقاته ومواقفه. ونعني به "نيكوتين" [ يردف عبدالله ثابت عنوان كتابه بجملة دالة:نيكوتين لدماء ظامئة]. هذا الـ "nickname" يمارس حضوره وفاعليته في نوافذ المحادثة بشبكة الإنترنت المرسومة على عديد صفحات الكتاب، حيث يتقاطع "نيكوتين" مع شخصيات سينمائية وتلفزيونية، وفنية وغنائية، وروائية وشعرية، وفكرية. وكأنها جرعة سميّة لا تخشى "التحذير الصحي" بل تسخر منه وتطلب المزيد؛ مزيداً من السمّ لحياة في الأصل نافقة أو في الأقل "حياة واحدة" غير متكثِّرة ولا متعددة، ينقصها التوتر والانفتاح، وتحتاج إلى زحزحة الصخرة التي تسد "الغار" وتشظيتها في فعل هدمي استفزازي لكن لا تذهب عن هذا الفعل البصيرةُ المتأملة. وهنا سرّ المفارقة وموئل الشعرية. في إحدى نوافذه يتقاطع "نيكوتين" مع الفيلسوف الألماني نيتشه الذي يورد له واحدةً من شذراته العميقة المقلقة: "حين تطيل النظر إلى الهاوية، تنظر الهاوية إليك أيضاً، وتنفذ فيك " ويعطيها بعدا يتصادى مع تجربته الكيانية (لا شربتُ حياتي ولا تقيّأ ني العالم). هذا التوتر ما بين الفردي الخاص وما بين العالم الضد النقيض، هو ما تستوعبه "الهاوية" النافذة؛ ناظرةً ومنظورا إليها. حطّابُ الهاوية، محصوراً، يعارك ويسعى لا إلى تفتيق الهاوية فهو مقيمٌ بها أبداً وتسكنه جرحا لا يبرى. إنما السعي إلى الوعي بها، وإحداث نزوعٍ روحيّ يحمل شرف الجهدَ السيزيفي؛ لا يتوقف ولا يَقْنَع. وربما يلخّص مجازُ الذاكرة ذلك الركض المحموم قَصْدَ النسيان والتحرر والبدء جديدا نقيّاً، لا يبهظه إرثٌ ولا تثقل عليه روحُ الأسلاف، ولا تنزل عليه مطرقة "الهباء الضخم" بشدّةٍ وقسوة تحيله قديما وتالفاً. رَكْضٌ محموم يمتنع أن يصل إلى مبتغاه وأن يوافي نهاياته (إنك لن تحصل أبداً على فقْد ذاكرة).. (محاولات نسيانٍ شديد الذاكرة).. (لو أني أقتلع ذاكرتي اللبنية وأعلّقها في غرفة أمي/ لو أنها تنبت لي ذاكرةٌ من الأَسِيد والفحم../ لأنام والوجوه مغسولة بالنار/ مسلوخة من جبيني/ وتقطر كالنايلون في الهواء). وحين تصبح ردود الفعل الاحتجاجية مستوعَبة ولا تُحْدِثُ أثراً ولا ينجم عنها أدنى تغيير، ويبدو صاحبها كمن يحرث في الهواء؛ فإن الشعورَ بالتلف يتفاقم، وعُقْمَ المحاولة يدفع إلى توسيع الهاوية وتعميقها، مما يصاعد من مفعول وضعيّة الاحتجاز والاحتباس؛ هيئة تغيِّر من الطبيعة كانعكاس للصمم العام والتجاهل لمن هو في قعر الهاوية (... مخنوقٌ بمفرداتي في زنزانة رأسي التالفة/ محبوس، وأضرب هذه الجدران كي تتكسّر/ وشَعري كثٌّ ومنفوش، وأنيابي المسنونة تزداد طولاً/ ومخالبي الهمجية اعتادت الفاقة/ وملامحي الشرسة، وطباعي الحارقة../ كلها تعوي من النافذة).

لقمة في حنك العالم

قبالة حَتْمِ الإقامة في الهاوية وعَيشِ إكراهاتها وإرغاماتها، يتعزّز الوعي بفداحة المأزق وبعمق الأزمة وبعبثيّة الأحلام، ومهما يكن الانخراط والمدافعة؛ فإن الخسران والخيبة والبَوار هو ما يتلامع في نهاية الشوط (كدّسَ أحلامَهُ الفارسُ على ظهْر مهرته/ لكنّ المهرةَ لا تعدو../ تبرك بأورامه الداكنة). المهرة؛ آلة العمل؛ الجسد المشبوب بعنفوانه وعنف طاقته ينتهي إلى السور، تبلغه رسالةُ الحصار واضحة صريحة صارمة: لا مخرج. لا منفذ.. فيرتدّ إلى الداخل؛ هيكله الوحيد ومساحته الحرّة المتاحة، منهوبا بقلقه وعدمه يستكشف ويستبصر ندوبَهُ الغائرة؛ أوسمتَهُ التي تؤكِّد مجابهتَهُ الإعصار والانكسار أمام نوباته العاتية. يستيقن بالمصير الكامن ولا يرعوي. إنها راحةُ الكشف والانكشاف ومبلغُ الرضا عن جسدٍ يتقوّم بما فيه. يختار خسرانه وخساراته؛ عنوانَهُ على باب الأيام ( جسدي، مساحتي الوحيدة (...) هذه اللقمة الكونية في حنك العالم، وما أَضِيقُ أني أعرف أنّ حياتي هي غصّة الدنيا بي، رفضُها أن تبتلعني، كحكحتُها واحمرارُ وجهها، ثم وَكزة الأقدار بين كتفيها لتلفظني خارجها (...) جسدي (...) اختارَ فاقته وحسراته، ليطلي بها خِزْيَ الأيام وكلَّ ما تبقّى).

جوهرة السرداب

إن الانسحاب إلى الداخل يجري طقسيا في حضرة النار، بتبييض الصفحة أو إهلاكها على وجه التحديد كإعلان مقاطعة واعتراض (عن هذه المدينة المخطوفة) وإجراء أوّلي يمهِّد لولوج "العتمة القدّيسة" متخفّفا من ضوء الخارج يعشي العينَ ويضلّل الروح. التخلّص من الحمولات والعبور (بمسافة جديدة تُخلَق) في الصدر، يعيد اكتشاف الحياة والأشياء والذاكرة كما هي عليه في نشوئها الأول؛ في بكارتها؛ في عذوبتها. يخرق الظاهر لينال نعمة الباطن المخبوءة في "السرداب". وكأنما هذا السرداب مقصد الرحلة الـ "حرام" يستجلي فيه الجوهر الذي تاه عنه أو أُنسيه في ذهول معركته مع الخارج ومحاولة توطين الحدود وتليينها. في السرداب يكتشف مسكنه الذي يهبه حياتَهُ الحقّة، ومن نوافذه يتدفّق المعنى؛ مفقودُهُ الذي تبحث عنه السيرة: (... ستأتي دفعةً واحدة/ ومعك الأحجية/ وفي جيبك السراج الذي تقول في ضوئه الشعر/ وبعينيك السفر الذي تمنيّته).

27-7-2008


إقرأ أيضاً:-