"طيور الغسق" لعواض العصيمي

عبدالله السفر
(السعودية)

طيور الغسقفي الظلمةِ الناهدة، وفي ليالي السمر لا تتفتّح وردةُ الحكاية وحدها، ففي الأكناف ثمّة شقوق تبزغ منها كائناتٌ تعومُ في هواء الحكاية نفسها؛ تضربُ في الالتباس ويحيط بها الإشكال.. لونٌ مزدحمٌ بالأخلاط والمِزَق، لا تستطيع أن تجذب منه خيطاً خالصاً؛ فتصنّفه نقيّا إنْ في بياضٍ أو سواد. لا فكاك من التداخل واشتباك الأطراف. ومن العبث دون طائل والسعي غير المجدي محاولةُ ردّ الألوان والأشياء والأشكال إلى أصلٍ واحد أو إلى أرومة فريدة. إنّ المزجَ حاصلٌ نهائيّ، وهو النطفة التي تخلّقت منها الحكاية؛ فتشعّبتْ منها أغصانُ الكلام وانشعبتْ عنها دروبُ التلقي.
عوّاض العصيمي يأخذ قارئه بالتمهّل والتدرج، ويرحل به إلى بقعة الحكاية التي بقدر ما هي مضاءة فإن فيها جهاتٍ ينحسر عنها الضوء وتنغمر في الظلال. هكذا تتبدّى روايته "طيور الغسق" (دار أثر، الدمام ـ 2011) مخلصةً لعنوانها "الغسق". التأطير المكاني لضاحية "الشرائع" في مكة يذوب وينحلّ؛ ترحّله الحكاية إلى فضاء أسطوري وإلى أمكنةٍ مشبعةٍ بالغريب والمدهش.. والتحديد الزمنيّ ينفلتُ من قيد الحاضر مصوّبا سهمه نحو "الماضي"؛ موطن حياةٍ غربت ولم يبق منها إلا الرماد؛ وموطن عالمٍ من القيم صحّرَهُ التحديثُ واقتلعتْ عشبتَهُ خطوةُ الغريب. هذا الصّهْر، الذي تنجزه حكاية/ حكايات العصيمي فيرتفع المكان إلى سُدّة الأسطورة ويدنو العالم الآفل، يقوم بصياغة وجهٍ آخر، يتعاشق فيه ما هو موجود بما هو غير موجود، على نحوٍ تتكثّف فيه الحكاية، وتتقطّر في سؤال الحياة والوجود؛ ينكأ البداهة ويقلب الرتابة (الحكايات مغسلة الأفواه من الكلام العادي).
تنهض "المغسلة" على ركنين يسيّران الحكاية بالتوالي والتوازي. ركن المخيّلة وركن الوقائع.

المخيّلة تنشر شبكتها عبر الحكّاء، "الولد" الثلاثيني الأعزب "منسي" الذي يجمع مجايليه وأقرانه من الشباب، يقصّ عليهم حكاية القرية المتحولة بكلبها الذي ينبح من جهتين وحجارتها التي تتناسل منها الأشباح المتوحشّة. إلى ذلك حكايات الشخصيات بأسمائها المتعددة للواحد منهم، بما يحيل ـ ربما ـ على ذوات متحوّلة لم يصمد منها غير شخصيّة "بطي" المقطوع من النسب والأهل على خلاف الآخرين فتيسّر له الوحدةُ ليرى ما لا يراه سواه من أحوال القرية ومن الهواجس والأحلام التي تجعله فريدا وشاهدا على هذا التحوّل.
أمّا الوقائع فهي في "حكايات الشيّاب" حين يؤون إلى استراحتهم الخاصة. هناك يدور الزمن دورته؛ إلى العالم القديم المنصرم، وها هم يستحثّون جمرته الهاجعة في القلب، فتطفر حكاياتهم بدمها الحار متدفّقةً من الأمس القريب أو من الزمن البعيد. يجدّون في الابتعاد عن الحاضر نحو "علوم الرجال".. يستعيدون حياةً كانت على سبيل التعويض أو إبرام حكمٍ على حالةٍ يعيشونها لكنها لا يشعرون بالانتماء إليها لشدّة ما نالها من تحوّل. بعينٍ آسية يرقبون ما يجري، بلا حولٍ ولا قوّة، وبحسرةٍ يفزعون إلى زمنٍ لن يعود.

الإفلات من السيطرة هو المنطق أو الناظم الذي تتجوهر فيه حكاية المخيّلة والوقائع. الثانية محكومة بالزمن ولا قيام من حفرة تبتلع الأعمار وتصرم الآجال. شدق الزمن المفتوح لا يتورّع ولا يرحم مهما احتالت عليه الحكاية وترطّبت بها الأفواه. ثمّة نهاية بالمرصاد ولن تغفل وإن طال ليلُ الحكاية.
وفي حكاية المخيّلة ثقبٌ لا يُستر. الحكّاء "منسي" غير أصيلٍ في حكاياته، ينزع عن قوسٍ ليس هو باريها. وقعً على مخطوطة فانتحلها، فكان "الممثل" لنصٍّ لا يخصّه وإن برع في الدور والأداء. ولهذا ينزرع في شلّة الشباب من يهدم سقف الحكاية وأسوارها؛ "فوّاز قارورة"؛ النموذج الذي يقطع مع وْهْمِ المخيّلة وتمتلئ شرايينه بصخب الحياة وإن في دورة تدميرٍ ناهبةٍ لا تخضع لقانون أو أخلاق. "فوّاز قارورة" وجودُ ناتئ نافٍ، يرتجّ معه نسيج "منسي" وتتبدّد من بين يديه خيوط الحكاية التي توهّم أنه يديرها باقتدار. ولا عجب أن يرتدّ في آخر الرواية إلى "شرط الذبابة" في لا تعيين حركتها ولا خلاصة تنتهي إليها ـ هذه الحركة ـ حيث التخبّط هو من يقود الزمام.
التخبّط أو العماء تأدّت إليه حكاية المخيّلة والوقائع. ذلك أنهما انصرفا عن "الحاضر". تلك الصخرة الصّلدة التي لم يفلح في مجابتها الشباب ولا "الشيّاب". فكان الانصراف عن الحاضر في عروق "الحكاية". وهذا ما انتبهت له إحدى شخصيات الرواية؛ والد تركي الذي امتنع عن زيارة "الشيّاب في استراحتهم (أنا أعيش في الحاضر، رغم أنني شيبة مثلهم، لكن لا أخدع نفسي). كما أنه منع ابنه تركي من أن يغشى جلسة الشباب ناعتاً إياهم بالغباء (أنتم تعيشون في الماضي يا أغبياء، وأنا أقدّم لك معروفا عندما أنتشلك مهم).