سميرة عوض
(الأردن)

أمجد ناصر

يذهب الناقد فخري صالح إلى القول ان 'رواية أمجد ناصر 'حيث لا تسقط الأمطار' تقوم، انطلاقا من تجربة الهزيمة الشاملة وتكسر العالم قطعا قطعا من حول الذات الراوية، على بناء مادتها من سلسلة من الثنائيات الضدية: الذات والآخر، الوطن والغربة، الطفولة والكهولة، الحياة والموت، المدينة ذات البحر الأنيس ومدن البحار الموحشة، وأخيرا: الذات المنقسمة على نفسها اسما وتجربة ووجودا، حيث يؤدي هذا الانقسام إلى ضياع الذات والهوية، ويفشل الراوي، الذي يروي حكايته لذاته الأصلية (أدهم يحكي ليونس الخطاط)، في محاولته لممارسة تجربة علاجية نفسية علها تشفي الذات من تشظيها إلى اثنين لا يتعرف أحدهما على الآخر'.

البشير: ناصر يجمع بين الشعر وأدب الرحلة والسرد

الأمسية التي أقامها منتدى الرواد الكبار، في إطار برنامجه 'مبدع وتجربة' وأدارها عبدالله رضوان مدير المنتدى، بحضور جماهيري كبير، لعله يلتئم للمرة الأولى، قدم فيها أمجد ناصر ـ مرتجلا- شهادته حول روايته 'حيث لا تسقط الأمطار'، كما قدم الناقد فخري صالح شهادته حول الرواية ذاتها، 'والتي تقوم دار بلومزبري البريطانية على ترجمتها للغة الانكليزية في الوقت الراهن'، استهلتها هيفاء البشير رئيسة المنتدى بكلمة ترحيبية، قالت فيها: 'خصوصية أمسيتنا هذه، تأتي من خصوصية وعطاء ضيفنا الكريم المبدع والإعلامي أمجد ناصر، المقيم في عاصمة الضباب، والذي يجمع في عطائه بين الشعر وأدب الرحلات والسرد الإبداعي، أقول لعل في خصوصية ضيفنا الليلة، ما يؤكد تميّز هذا اللقاء الذي يغتني بكم وبحضوركم وبإسهاماتكم ، والذي يجمعنا أيضاً مع الناقد الأستاذ فخري صالح صاحب التجربة والدراية العميقة بأسرار الكتابة على تنوعها ، وهو ناقد ومترجم وإعلامي، وهكذا يجتمع في هذه الندوة أديبان أردنيان كبيران، هما الأستاذ أمجد ناصر والأستاذ فخري صالح، فمرحباً بالجميع في بيت الثقافة والمبدعين'.
ونوهت البشير إلى أن منتدى الرواد الكبار 'يجتهد عبر برامجه الثقافية والفنية والاجتماعية أن يقدم لأعضائه وعضواته أنشطة نوعية متميزة ومتنوعة معاً، ليؤكد بذلك دوره وخصوصيته كمنتدى ثقافي اجتماعي منفتح على الحياة وعلى أنشطتها المتنوعة عبر أفق مفتوح من الحرية والنقاش لتحقيق تواصل خلاق بين أعضائه وأصدقائه من جهة، وبين النخب الثقافية والفنية والاجتماعية من جهة أخرى'.
صالح عن الرواية والشعر والسيرة الذاتية
ويلفت الناقد فخري صالح في ورقته النقدية المعنونة: (أمجد ناصر في باكورته الروائية 'حيث لا تسقط الأمطار': عن الرواية والشعر والسيرة الذاتية) أن رواية ناصر ليست رواية سيكولوجية، كما قد يستشف من كلامي، فهي رغم استعانتها بضمير المتكلم، وحكي الذات للذات، واستخدام الحكاية لشفاء الشخصية من الانهيار الذي أصابها، تسعى إلى الإجابة عن أسئلة الحقبة التاريخية التي تكتب انطلاقا منها، وتصوير مسيرة هزيمة جيل من المثقفين العرب الذين عايشوا حلم الثورة والتغيير والتقدم والانتصار على التخلف والاستبداد والهزيمة'.

وينوه صالح أن لسعي 'أمجد ناصر في عمله 'حيث لا تسقط الأمطار' (دار الآداب، بيروت، 2010) إلى كتابة رواية مجازية عن حقبة تاريخية صعد فيها الفكر القومي والفكر اليساري في العالم العربي، وأسهم مثقفو هذين التيارين في صياغة توجهات المرحلة الزمنية التي رفعت شعارات المقاومة المسلحة للصهيونية والإمبريالية والرجعية العربية. لكن الراوي، الذي يستخدم ضمير المخاطب في سرد الحكاية، يصور هذه الحقبة من منظور الهزيمة والانهيار والأفول الذي باء به هذا المشروع بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982، وتوزع مثقفي اليسار على عواصم العالم بعد أن كانت بيروت موئلا لهم. تلك هي نقطة انطلاق حكاية الراوي العائد من بلاد سماؤها ضبابية كابية إلى بلاد لا تسقط فيها الأمطار، حاملا بين جنبيه مرضا عضالا يأكل جسده، في إشارة رمزية إلى الخيبة والخذلان اللذين يشعر بهما بعد أن جرى ما جرى ومرت مياه كثيرة تحت الجسر، فانهارت الكتلة الاشتراكية ورسخت الإمبريالية العائدة بقوة انتصارها. ومن هنا فإن عودة 'يونس الخطاط' إلى اسمه ومسقط رأسه ليست عودة إلى الفردوس الأمومي المفقود بل هي لجوء إلى ماض أصبح حطاما؛ إلى خواء التجربة وهزيمة الذات والجماعة وافتقاد المعنى، حيث لا ينتظره سوى موت الأم والأب، وزواج الحبيبة الأولى، وموت الصديق الحميم، وضياع الاسم الذي يربطه بالمكان الأمومي ومسقط الرأس الذي شهد خطوته الأولى ونضجه السياسي والثقافي واحتضانه لمشروع التغيير والثورة على السلطة. لكن هذه العودة، غير المظفرة، تقترن بانهيار أرض المنفى تحت قدمي الراوي، وانتشار مرض غريب معد، مجازي على الأغلب يدل على فعل الانهيار كذلك، كان قد تفشى بين الناس ودفع الغريب إلى العودة مبتعدا عن عالم الآخرين الذي ظنه مطهرا فإذا به يتحول إلى جحيم مقيم'.

ويرى صالح أن 'رواية أمجد ناصر تقوم، انطلاقا من تجربة الهزيمة الشاملة وتكسر العالم قطعا قطعا من حول الذات الراوية، على بناء مادتها من سلسلة من الثنائيات الضدية: الذات والآخر، الوطن والغربة، الطفولة والكهولة، الحياة والموت، المدينة ذات البحر الأنيس ومدن البحار الموحشة، وأخيرا: الذات المنقسمة على نفسها اسما وتجربة ووجودا، حيث يؤدي هذا الانقسام إلى ضياع الذات والهوية، ويفشل الراوي، الذي يروي حكايته لذاته الأصلية (أدهم يحكي ليونس الخطاط)، في محاولته لممارسة تجربة علاجية نفسية علها تشفي الذات من تشظيها إلى اثنين لا يتعرف أحدهما على الآخر'.
لكن صالح يستدرك: رواية 'حيث لا تسقط الأمطار' ليست رواية سيكولوجية، كما قد يستشف من كلامي، فهي رغم استعانتها بضمير المتكلم، وحكي الذات للذات، واستخدام الحكاية لشفاء الشخصية من الانهيار الذي أصابها، تسعى إلى الإجابة عن أسئلة الحقبة التاريخية التي تكتب انطلاقا منها، وتصوير مسيرة هزيمة جيل من المثقفين العرب الذين عايشوا حلم الثورة والتغيير والتقدم والانتصار على التخلف والاستبداد والهزيمة، فإذا بهم يواجهون الهزيمة التي تنتقل، كجرثومة مرض عضال، من الخارج إلى الداخل، من الواقع المحيط إلى الذات التي تفشل في العثور على نفسها، في الاسم أو في مسقط الرأس الذي تغير مثله مثل بقية الأمكنة. وهي انطلاقا، من هذا التصور، تهتم بوصف المحيط وتسعى إلى إضفاء قدر من الواقعية على الأحداث. لكن غياب أسماء الأمكنة، والدول، وحكام الدول، والاكتفاء بالنعوت التي تصف تلك الأمكنة والشخوص (المدينة التي لا تسقط فيها الأمطار، المدينة البعيدة ذات البحار الموحشة، الحفيد، إلخ) تجعل هذا النص السردي يقيم على الحدود الفاصلة بين الكتابة الروائية والكتابة الشعرية؛ فالشعر لا يسمي، في الوقت الذي يعنى فيه السرد بالتسمية ووصف العالم الذي يتحرك ضمنه. يستخدم الشعر لغة الاستعارة والمجاز والتورية، ويوسع قوس الدلالة، فيما يسعى السرد إلى تضييق قوس الدلالة وتحديد المعاني من خلال استخدام ألسنة متعددة تكشف عن حوار الذوات السردية مع العالم من حولها.
ويعتقد صالح صاحب كتاب (وهم البدايات: الخطاب الروائي في الأردن، المؤسسة العربية للدارسات والنشر، بيروت، 1993)، - كما كثير من النقاد - أن مصدر الالتباس في رواية أمجد ناصر آت من كونه شاعرا أولا تدرب على استخدام المجاز ولغة الاستعارة للتعبير عن رؤيته للعالم؛ ومن استخدامه ضمير المتكلم في السرد الذي يشدد على ثنائية الصوت كما هو الأمر في الكتابة الشعرية التي تسعى إلى بث الصوت الفردي للذات الشاعرة باتجاه العالم والآخرين، وتشتق من نفسها ذاتا ثانية تقوم بتوجيه الخطاب إليه. كما أن هذا الالتباس ينشأ من تأرجح هذا العمل بين السيرة الذاتية (أو وهم السبرة الذاتية، والتعبير المجازي عن الذات الشعرية/ السردية) والكتابة الروائية التي تشدد على حوارية العالم وتعدديته. ويمكن أن نجد تشديدا على هذا الالتباس في كلام الراوي، إذ يفسر سؤال حبيبته 'رلى' عن كتابه السابق 'الحامية والجسر'، بأنه 'يمزج السيرة الذاتية والقناع الروائي. فأخبرتها أن كتابك ذاك ليس عملا تسجيليا. ليس سيرة فعلية، ففيه من الخيال، ربما، أكثر مما فيه من الواقع' ص: 217. وهذا الكلام نفسه ينطبق على نص 'حيث لا تسقط الأمطار' الذي يستخدم قناع الرواية لكنه في الوقت نفسه لا يقع، على صعيد التصنيف، في دائرة السيرة الذاتية التي يضع صاحبها وصف 'سيرة ذاتية' على غلافها، أو أنه يسعى في التعاقد السردي مع قارئه إلى إقناعه بأنه يكتب سيرة ذاتية غايتها تصوير ذاته، كما رآها وحاول استعادتها في الكتابة. لكن أمجد ناصر، رغم اللعب على وضعه الشخصي، فهو نفسه يحمل اسمين: يحيى عوض (وهو الاسم الذي في شهادة الميلاد)، وأمجد ناصر (وهو الاسم الذي يعرفه به الأصدقاء والقراء)، وهذا حال الشخصية في الرواية: فاسمها في شهادة الميلاد 'يونس الخطاط'، وفي التنظيم الثوري وفي الكتابة: أدهم جابر. الاسمان في شهادة الميلاد اسمان لنبيين، والاسمان المتبنيان متشابهان: أمجد ناصر/ أدهم جابر، والشخصية والشخص شاعران وكاتبان ومؤلفا سيرة ذاتية وكاتبا مقالات، وانتميا في مرحلة من المراحل إلى تنظيم ثوري سري ممنوع. هذه العناصر جميعها توقعنا في التباس التصنيف النوعي لهذا العمل. لكن ما يدفعنا إلى تصنيف هذا العمل في خانة الرواية هو ما يسميه فيليب لوجون في كتابه عن السيرة الذاتية 'التعاقد السردي' في مقابل 'التعاقد السير ذاتي' حيث يقر القارئ برغبة الكاتب ويبني قراءته على أساس هذا التعاقد. ومع ذلك فإن في الإمكان إضافة كثير من الأسباب التي تجعلنا نصنف 'حيث لا تسقط الأمطار' في خانة النوع الروائي: فهناك لعب روائي، وشخصيات مختلقة، وشخصيات معاد بناؤها، وحكايات خيالية، وبناء سردي يسعى إلى الإيهام لا إلى نيل ثقتنا وتصديقنا؛ وهناك أيضا انتقالات وعودات إلى الأمكنة وتقطع في السرد وتقدم وتقهقر في الحكاية، واستخدام لتيار الوعي والأسلوب الحر غير المباشر في السرد، ما يسم هذا العمل بسمات الكتابة الروائية الحداثية.
يختتم صاحب (أفول المعنى: في الرواية العربية الجديدة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000)، بالقول: 'بقي عليّ في النهاية أن أحاول التعرف على طبيعة الرسالة التي يتبناها هذا العمل، ورؤية العالم التي يسعى إلى تضمينها في ثناياه. ذلك أننا نعثر في النص على ثلاثة خيوط أساسية في السرد، أظن أنها تدلنا على رؤية العالم في 'حيث لا تسقط الأمطار': الحكاية الشخصية للراوي الذي اتهم بمحاولة اغتيال الحاكم، الذي يسميه النص 'الحفيد'، والحكم عليه غيابيا بالسجن المؤبد،؛ والحديث المتصل عن فن الخط وأنواعه وممارسيه ومعانيه الكونية، فعائلة 'يونس الخطاط' عائلة خطاطين ووالده ممارس لهذا الفن ومحيط بشجونه، رغم أن يونس فضل أن يكون شاعرا بدلا من أن يكون خطاطا. ويمثل الكلام عن الخط والخطاطين مناسبة بالنسبة للراوي للتشديد على رؤيته التي ترى غموض هذا العالم الذي يشبه في ما يحيط به من حجب وأستار تلك الخطوط التي يفشل يونس في فك ألغازها. من جهة أخرى فإن الراوي يعد الخط والتصوف، وهما مهنة والده وعقيدته على التوالي، وجهين لعملة واحدة؛ في الخط نعثر على غموض العالم والكشف عن معضلته في الآن نفسه، كما أن التصوف (وأشعار السهروردي القتيل مثال توضيحي لذلك)، تجربة تنوس بين الغموض والكشف، بين اليأس وانفراج الغمة، بين مأساة الكائن ومعراجه الروحي، بين بشرية الإنسان وسموه باتجاه الألوهية، بين جهنم الإنسان وجنته المركوزة داخله. ولعل هذا ما يفسر تركيز الراوي على الحديث عن أسرار الخط، وديوان السهروردي الذي يقول إن والده كان يعمل على جمعه وتحقيقه وكتابته بخطه البديع، ناسجا صلة وصل بين حكايته الشخصية وعودته من الشمال باتجاه الجنوب لتحقيق نوع من التوازن النفسي ـ الروحي في نهاية الرحلة التي تقوده إلى المقبرة زائرا قبري والديه اللذين توفيا أثناء غيابه الطويل الطويل. ومع هذا فلا بصيص أمل في هذا النص، لا شفاء من التجربة المرة، سوى في الرحلة إلى الداخل، إلى الذات المخبوءة، في رحلة الطيور الثلاثين إلى 'جبل قاف' (ولنلاحظ أن اسم الجبل يرجّع صدى حرف من الحروف أيضا التي تتصل بمهنة الأب وفنه، كما تتصل بالتجربة الصوفية التي تشدد على المعنى الصوفي للحرف) سعيا لرؤية ملك الطيور الذي يدعى طائر السيمرغ. إنه 'قريب منا. ونحن منه بعيدون.' وعندما تصل الطيور إلى 'جبل قاف' وتنظر نحو طائر السيمرغ تتبين أنها هي طائر السيمرغ'. (ص: 261). إنها رحلة باتجاه الداخل، إلى كشف أعماق الذات، والعثور على بلسم لشفاء الجراح، التي لا شفاء منها، كما يشدد أمجد ناصر في 'حيث لا تسقط الأمطار'.

أمجد ناصر: روايتي ضد الاستبداد العربي

وبعد أن فرغ الناقد فخري من قراءة ورقته، تحدث امجد ناصر مرتجلا عن عدد من النقاط التي رأى أنها تلقي أضواء على روايته تاركا للحوار مع الجمهور أن يسهم في فك رموز الرواية، فقال: سعيد أن أكون بينكم الآن، في هذا اللقاء الحميم فعلا، والذي يجمع بين عدد كبير من الأصدقاء منهم أصدقاء تعود علاقتي بهم إلى أكثر من ثلاثين عاما. شكرا للسيدة هيفاء البشير وعبدالله رضوان على كلماتهما الاحتفائية، كما اشكر الصديق الناقد فخري صالح على ورقته النقدية العميقة التي أحاطت بعالم الرواية من أكثر من جانب.
لن أتحدث عن الرواية كبنية وأسلوبية وتركيب، فهذا ما تولاه فخري صالح. يقول ناصر، مستدركا.. أعتقد بصحة مقولة الكاتب التشيكي ـ الفرنسي، ميلان كونديرا 'الرواية الحديثة، رواية من الصعب تلخيصها'، ذلك أنها ليست قائمة على الحدوتة، والتطور المعروف للشخصيات والأحداث، روايتي كتبت بطريقة اقرب ما تكون إلى قصيدة النثر، رغم أنني جاهدت كثيرا حتى لا أقع في شعرنة اللغة، تلك التي تطفو على سطح المعنى،وتنفصل عنه انفصال الزيت عن الماء، وتعمدت ـ بوعي- إلى أن تكون لغة روايتي دقيقة، وقادرة على تبيان المعنى، وعدم إرباك سيولة السرد.

سأتحدث في نقاط محددة، مجملا ما أتصوره عن الرواية:

إنها رواية لا تقوم على حدوتة، وان كانت تنطوي على حكايات عديدة. هذه الحكايات المتقلبة حينا المتداخلة حينا آخر تشكل ما يمكن أن اسميه الجسد الحكائي الكلي للرواية بهذا المعنى بوسعنا ان نقع على حكايات قد تبدو مستقلة في ظاهرها ولكنها متصلة ضمنا
كما يحلو لي أن أراها، من ناحية العالم الذي تتناوله، رواية ضد الاستبداد العربي، لان أشخاصها انخرطوا مجتمعين ومنفردين بالعمل السياسي في فترات زمنية ومكانية مختلفة، ولكن يمكن التأشير ضمنا إلى فترة السبعينات العربية بوصفها تأسيسا لحالة الاستبداد التي استمرت لأكثر من ثلاثين عاما. قد يرى البعض أن عدم تسمية الأمكنة هروب من استحقاق رقابي أو امني معين، الأمر لا يتعلق بهذا الجانب، بل ربما هي محاولة للتعميم، وليس للتعمية، فالمكان العربي اوالسياسي والاجتماعي متشابه على حد كبير، وهو ما نراه على الشاشات اليوم - وان كان لهذا الاستبداد درجات مختلفة- إنها رواية المكان السياسي والاجتماعي العربي ما قبل هذه الثورات والانتفاضات التي تتوالى في فضائنا اليوم.
ويمكن للرواية أن تقرأ بوصفها رواية عن الحب، ربما، ولكنه الحب غير المتحقق، ويبدو أن الحب الذي يكتب له أن يكتب، (أن يدون ويسجل) هو الحب الذي لم يتحقق، ولا يعرف الإشباع الكامل، باعتبار أن الشخصين في الرواية انفصلا لأسباب لها علاقة بالمصائر القاهرة التي واجهتهما فباعدت بينهما نهائيا.
وبوسع هذه الرواية أن تكون رواية الزمن، لان شخوص الرواية يدأبون على الحديث عن الزمن، كما في حكاية الساعة التي يفقدها بطل الرواية، وبعد فترة طويلة يعثر على ساعة تشبهها في سوق بيع الأدوات العتيقة، وكأن العثور عليها في الحلم هو استعادة للزمن الماضي أو السعيد، رغم أن الرواية لا تذكر إن كانت الساعة صلحت في الحلم أم لم تصلح..
ويمكن أن تكون رواية الصداقة، ورواية الوفاء والخيانة، كما يظهر في شخصية يونس الخطاط، ومحمود أبو طويلة، الذي جاء أسمه الثاني من طوله المفرط... و'يونس الخطّاط' الشخصية الرئيسة في هذه الرواية. فالرواية فيها حديث عن الصداقة التي تستمر زمنا طويلا أو قصيرا من الوقت، وهي رواية الوفاء والخيانة كما في شخصيات خلف الصديق القديم، وكذلك 'وحيد' حيث تظل جمرة الصداقة متقدة.
كما هي رواية تجسد العلاقة بين الأب والابن، وهي علاقة ملتبسة دائما، والأب هو خطاط وكذلك الجد، (فيما أنا أبي عسكري، وكذلك جدي، وربما جد جدي، عسكري أيضا، وهنا أقول لمن يصرون أنها سيرة ذاتية: ضعوا على جانب حكاية أنها سيرة ذاتية، ولو كانت كذلك سأضع عليها سيرة ذاتية دون تردد).
سوف يحظى الأب بعناية فائقة من قبِل الابن الذي عاد من منفاه بعد عشرين عاماً، لكي يعيد النظر بقناعاته السابقة، حيث كان موقف أدهم من والده سلبياً بعض الشيء، فالابن يتصالح مع الأب ولكن بعد رحيله، وذلك من خلال آثاره التي تمثلها لوحاته في الخط العربي في محترفه المتروك على حاله بعد رحيله.
وبخصوص رحلة الطيور الـ30 إلى جبل قاف، كما أشار فخري صالح قد يعني الأمر أنها رحلة البحث عن الحقيقة فسي الخارج بينما تكتشف الطيور بعد وصولها المضني إلى جبل قاف أن السيمرغ الذي ذهبت للقائه كان موجودا في داخلها.
ويمكن لرواية 'حيث لا تسقط الامطار' أن تكون رواية اللامكان، وكان 'السهروردي' قد نحت مصطلحا بالفارسية يشير إلى 'مكان اللا أين'، أو 'بلاد اللا أين' هو 'ناكوجا آباد' لان الرواية لا تتحدث عن مكان معين، وهذا ليس هروبا من سؤال المكان، أين.
ربما تنطلق الرواية من 'الأين'، لكنها تمضي وربما من دون وعي إلى 'اللا أين'...
وأخيرا هذه الرواية كتبت على حافة الربيع العربي فاحتشدت بالعلم الذي كان سائدا قبل ان يقدم التونسي محمد البوعزيزي جسده قربانا من نضال في مواجهة الاستبداد، وهذا التغيير الذي نرى ملامحه الدامية الآن طالع من الشوق الممط للحرية والكرامة والعدل الاجتماعي، والتحرر الوطني، وبهذا المعنى فإن الرواية عبرت عن تلك المرحلة التي أتمنى أن تكون انتهت في غير مكان عربي.
حقيقة لا يمكن اختزال رواية في موجز محدد، لكنني أتطلع معكم... إلى حوار يسهم في إثراء وجهات نظرنا.

الحوار : أفضل كلمة كاتب على كلمة شاعر

وفي معرض رد ناصر على أسئلة الجمهور الكثيرة، قال: أفضل كلمة كاتب، على كلمة شاعر، فلدي أكثر من كتاب عن المكان، أو أدب الرحلة، هناك قضايا تشغلني في الثقافة، وهناك سردية المكان، لا أريد إن ابرر كتابتي لهذه الرواية، لم ارتكب جناية تستحق التبرير، تدربت كثيرا في فنون السرد، ولا أجد غضاضة في كتابة الرواية.
وكما قلت: والدي ليس خطاطا، وما جاء من معلومات حول 'الخط' والخطاط' جاء نتيجة بحثي في الموضوع، وهو ما تم توظيفه في الرواية.
من جهته قال صالح معلقا على السؤال ذاته، 'في الثقافة العربية ما زلنا نطرب للشعر الموزون والذي يمكن أن يُغنى، وأتمنى أن نُسمى كتابا، وبالنسبة لأمجد اعتقد انه ليس بعيدا عن السرد حتى في شعره، حتى ديوانه الأخير، عنوانه 'حياة كسرد متقطع'، وكان متوقعا أن يكتب رواية، وأظنه سيكتب غيرها.
ووجهت الكاتبة هيام ضمرة سؤالها لناصر: ما سر أن تكون شاعرا تكتب القافية، ثم تنزل إلى كتابة شعر التفعيلة، فالنثر، ومن ثم الرواية... والأصل أن ترتفع.... وما علاقة السياسة بالعالم الذي تعيشه.
من جهته قال رد ناصر: أنا درست الاشتراكية الماركسية اللينينية في اليمن الجنوبي، بسبب من دوافع انتماءاتي السياسية وقتها.
كما لاحظت ـ موجها حديثه لضمرة- استخدامك للغة الجسد في سؤالك، أنا وصلت إلى هذا القرار لان هذا السرد يتضمن سائر الفنون الأدبية - كما قال فخري - غير قابل للتصنيف المدرسي القديم، صار من الصعب علي على الأقل التمييز بين الأجناس الأدبية، إنه ليس تدرجا ولا انتقالا من حال إلى حال، فقد يصعب علي التمييز بين القصة القصيرة جدا، والقصيدة القصيرة، لتداخلهما وتشابههما.
وفي مداخلة أخرى حول تخصيص 'مجلة نقد' اللبنانية عددها الأخير لتجربة ناصر، قال ناصر: يشرفني أن مجلة نقد اللبنانية وبعد توقفها لثلاث سنوات، تصدر عددا خاصا عن تجربتي الشعرية، ويشرفني أن أكون في القافلة الإبداعية التي احتفت بتجارب كبار المبدعين ومن بينهم الشاعر محمود درويش.
ولفت أحد الحضور'نزار حسين راشد' الى أن القاف حرف يمثل التحدي والإعجاز، كما جاء في القران الكريم، متسائلا عن 'التحولات الكافكية'، بمعنى كتابة التفاصيل المعاشة، والوصول للنهايات المحبطة، وعندما يعجز المبدع عن الوصول للنهايات المطلوبة، وهذا نضال مقدس لكل مبدع.. يتحول إلى كتابة الشعر والرواية...
ورد ناصر بقوله: ربما لا يدرك كله، لكن يدرك بعضه، لم يهبط علينا بمظلة من السماء، فيما يخص الرواية والشعر والواقع، أحب أن أراها من زوايا مختلفة، متصلة على نحو دقيق، السياسة ربما حقل إبداعي، فالشعر له عالم مختلف، والشاعر قد يلتقي بالسياسي، ولكن الشعر الجيد هو الذي يضمر السياسة.
وتساءل الكاتب صبحي فحماوي عن الحدود بين الأجناس الأدبية، كما يراها ناصر، الذي رد: أظن أن محمد الماغوط زهق من النقاد، وقال لهم: أنا اكتب نصا، وليس قصائد أو شعرا، ليس في الشعر فقط، الشعر فقد نتلمسه في أجناس أدبية، وقد نقع عليه ـ أي الشعر- في وجوه الناس، أو في جنس محدد، محمد الماغوط من اوائل الذين ارسوا إزالة الحدود بين الأجناس الأدبية.
وهو ما أكده الناقد فخري صالح ـ مشاركا في الحوار- ذاهبا للقول: سمات الأجناس ليست مقدسة، وحدودها ليست محددة، لكن هذه الأنواع في حالة سيولة دائمة، ففي نهايات القرن العشرين تم في الغرب إعادة كتابة نظرية الأنواع مجددا، ولكن مشكلتنا في الثقافة العربية هي أننا نصر على الفصل بينها.
وقال عدنان خليل 'استطاعت هذه الرواية أن تنقلني إلى أجواء مختلفة... ولم 'اخربط' بين الأجناس الأدبية، استطاعت الرواية أن تنقلني إلى جيل امجد ناصر، استطاعت أن تنقل حياة الشاب الذي تربى في الأردن، كما شممت فيها رائحة ضباب لندن... كما رأيت الأمل أحيانا بين ثنايا الحكايات..
ورد أمجد منوها، عدنان ونزار أقدم صديقين لي ألتقي بهما حتى الآن، من مدينة الزرقاء عندما كنا في مدرسة الزرقاء، وما جمعنا في ذلك الوقت، حلم التغيير وحب الكتابة والقراءة، على الأقل جيلنا نحن، وكذلك صاحب الصالون القاص الذي رحل عدنان.... وكان مولعا بقص الشعر وكتابة القصة...

ويعتبر ناصر من رواد الحداثة الشعرية وقصيدة النثر، أصدر عشر مجموعات شعرية وأربعة كتب في أدب الرحلة، فضلا عن كتاب في السيرة الشعرية والأدبية، منها 'مديح لمقهى اخر'، 'خبط الأجنحة'، 'وحيدا في الانتظار'، وهو مقيم بلندن، مدير تحرير صحيفة 'القدس العربي'، ويشرف على القسم الثقافي في صحيفة 'القدس العربـي' منـذ إصدارها فـي لندن عام 1989.