تضع يدها على جمرة الهلاك العراقي

فاروق يوسف
(العراق/السويد)

انعام كجه جي لم تكن الكاتبة العراقية انعام كجه جي في حاجة الى تخيل بطلتها (الحفيدة الأمريكية). مدت يدها الى واحدة من مرايا قدرنا العراقي وازاحت الستار عنها. هذا ما فعلته بالضبط كما لو أنها تستذكر فيلما كتبه صاموئيل بيكيت عام 1965 موضوعه رجل اختفى جزء من ملامح وجهه فقرر حين عودته إلى بيته أن يغطي جميع المرايا ولكنه حين أغمض عينيه رأى وجهه في الحلم بصورته الجديدة. يخيل لي أن كجه جي كانت ترغب في اخراج فيلم فكتبت رواية، مادتها لا تقبل التأجيل. بين أن تكون تلك المادة هدفا محتملا للقتل وبين أن تكون شريحة للدرس الأخلاقي تحركت الكاتبة بتقنية الصوت الذي لا يقول الحقيقة أو كان يزجرها في محاولة للافلات من قسوتها. أنصتت الكاتبة الى صوت زينة بهنام بطلة روايتها الجديدة الصادرة عن دار الجديد ببيروت كما فعلت من قبل مع لورنا سليم في كتابها (لورنا سنواتها مع جواد سليم 1998) لتقنعنا أن زينة ليست كائنا روائيا متخيلا (وهي بالتأكيد ليست كذلك). تقنية خبرتها في الكتابة التلقائية المباشرة بحكم عملها الصحافي الطويل أعانتها على استخراج تفاصيل دقيقة هي في الحقيقة جزء من أسرار ذلك العالم العدواني الغريب والشاذ الذي انتقلت إليه بطلتها حين قررت أن تنضم مترجمة إلى صفوف الجيش الأمريكي الذي غزا بلدها الأصلي (العراق). لقد رتبت كجه جي موادها الوثائقية بعناية على المنضدة قبل الكتابة كما أتخيل. ربما كان بين يديها عشرات الوثائق التي كانت تعود إليها كلما شعرت بالحاجة إلى الحجة الواقعية. ولكن لم لا نفترض أن زينة هي كائن واقعي بالفعل وقد أتيح للكاتبة أن تلتقيها بعد بحث لتسجل اعترافاتها المريرة؟ هناك الاف العراقيين والعراقيات ممن هم أو هن في مثل حالتها. عراقيون ظنوا أن عيشهم الطويل في أمريكا أو في أوروبا سيؤهلهم لعبور حاجز الضمير وأسئلته الغامضة والمربكة والجارحة وهم يشاركون في جريمة تدمير بلدهم الأصلي من أجل الحصول على المال الذي يضمن لهم رفاهية متوقعة في تلك البلاد التي صارت بلادهم (مئة وستة وثمانين الف دولار في السنة). مقابل هذا الوعد بجنة عيش محتملة لا تهم المفارقة القاسية التي تشير إليها البطلة (أن أكون ابنتهم وعدوتهم في آن، وأن يكونوا هم في الوقت عينه أهلي وخصومي). وهي هنا تتحدث عن العراقيين طبعا. ولكن ذلك الوعي الشقي سرعان ما يختفي حين تعود البطلة إلى سياق تربيتها الامريكية الذرائعية فتقول (مساكين أهل العراق، لن يصدقوا أعينهم حين تنفتح على الحرية.

حتى الشيخ العجوز منهم سيعود صغيرا وهو يرشف حليب الديمقراطية، ويتذوق طعم الحياة كما ذقتها أنا). ليس للبطلة من تعرفه في بغداد فعلا سوى جدتها رحمة التي كانت قريبة من الموت (سوف ترى أقاربها الآخرين في جنازة جدتها وتفر منهم). ولكنها تكتشف أن لها أخوة بالرضاعة يقيمون في مدينة الصدر (الثورة) كان أحدهم عضوا في جيش المهدي. وهو الذي تغرم به ويمتنع عن الاستجابة لإغرائها. المكان الخطأ الذي ذهبت إليه قادها إلى الكشف عن سلوك أخلاقي لا تعترف بانحرافه إلى النهاية. موقفها من بلدها الأصلي ينعكس من خلال موقفها من أخيها بالرضاعة: المنفعة الشخصية. أن تكون أمريكيا صالحا عليك أن تبحث عن منفعتك. لا يهم ان تكون عدوا ولكن تكلم بلغة الصديق. وهو ما فعله المئات من العراقيين (العراقيات أيضا) ممن قدموا مع المحتل وهم يرفعون شعاراته عن الحرية والديمقراطية في حين كانوا يعرفون أنهم في حقيقة ما يفعلون إنما كانوا خدما لذلك المحتل يقبضون اجورا متفقاً عليها سلفا بعد أن وقعوا عقودا مع الشركات الأمريكية التي سخرتهم لخدمتها. لم تعان زينة من ازدواج هويتها أو تناحر هويات كما أشار البعض من قراء الرواية وكما أرى فان مشكلة من هذا النوع لم ترد في ذهن كجه جي وهي تكتب روايتها. انعام تعرف جيدا أن المشكلة لا تكمن في صراع بين هويتين متناحرتين بل بين مستويين من الأخلاق. (هناك أمريكيون كان موقفهم المضاد للحرب والغزو والاحتلال أكثر وضوحا من موقف بعض العراقيين). كانت البطلة تخشى صوت المؤلفة، وهي في الحقيقة تخشى عريها الأخلاقي الذي كان صوت المؤلفة يصل إليه، في حين كانت المؤلفة تتوقف عند حدود معينة من التنقيب، لا تفارقها لكي لا تحرج بطلتها. كانت تنصت إليها. كانت تنصت إلينا. “““ (كلب أبو بيتين) هكذا وصفت طاووس حالة البطلة وهي مرضعتها. فيما قال لها مهيمن وهو أخوها بالرضاعة الذي اشتهت مضاجعته: طردتم كينغ كونغ من المدينة وقبضتم ثمنه العراق كله. ازاء كل هذا لا أعتقد أن الجملة التي تنتهي الرواية بها تنفع: شلت يميني اذا نسيتك يا بغداد. وهي جملة استعارتها زينة من ذاكرة أبيها ولا معنى لها حين يتعلق الأمر بما فعلته في العراق طوال سنوات خدمتها في جيش الاحتلال.

قد لا تكون الروائية مهتمة بمصير بطلتها، ولكنني كقارئ يمكنني أن أرى في هذه الحكاية جزءاً من المأساة التي يتعرض لها شعبي. كانت الروائية بحكم قدرتها على الانصات متسامحة كثيرا مع بطلتها. لم ترغب في أن تستعرض حجم الكراهية الذي أحيطت به البطلة غير أن أهم ما فعلته الروائية أنها حررت الحرب من ضوضائها وشعاراتها وغبارها. جعلتنا بخفة وهدوء نعيش لحظات الحرب الأخرى: المقاومة. كان هناك شعب صامت، عرف كيف يظهر سخطه وتمرده وتمسكه بشرفه. ليست الأمور كما توقعنا. يعترف الكثيرون ممن لفظتهم آلة المحتل بعد انتهاء عقودهم مثل زينة، غير أنهم لا يقولون الحقيقة كلها. زينة التي انتهى عقدها عام 2008 وعادت إلى الولايات المتحدة يمكنها أن تكرر التجربة مرة أخرى، مثلما يمكن أن يفعل الكثيرون ممن هم في مثل حالتها. هناك سخرية مريرة تتمسك بها الروائية لا أخالها تستثني شيئا ولا أحدا (الفيلم مستمر). وكما يبدو فان الأسئلة التي تجيب عليها الرواية هي في حد ذاتها قناع لها. هناك اجابات صلبة في الرواية يمكننا استعمالها في الواقع العراقي المباشر، بل هي تقودنا مباشرة إلى ذلك الواقع. ولكنها اجابات لا تعد إلا بمزيد من الضنى: ها هم أبناؤنا العائدون من الخارج يمارسون كراهيتهم للحقيقة بكل تهتك واحتقار. هذا ما تعلموه هناك. لم ترغب انعام في الحاق الظلم ببطلتها. كانت تلك البطلة جزء من حشود من الضالين ممن يليق بهم الوصف (كلب أبو بيتين). ولهذا اعتقد أن هذه الرواية ضرورية، لا لأنها تكشف عن هشاشة وانحطاط المشروع الخدمي البغيض الذي صار بعض العراقيين مادته الرخيصة فحسب بل لأنها أيضا تتبنى مشروع مقاومة مفتوحاً على مفاجآت شاسعة وغير متوقعة. مقاومة روحية هي بحجم الاحتلال إذا لم تكن أكبر. تترك البطلة بلدا لا تعرفه لمصير لا يمكنها أن تتوقعه. إنها بلاد أخرى. هذا ما يجب أن يعترف به كل القادمين إلى العراق بصحبة المحتل وما تقوله الرواية بشكل واضح.

لم تسع كجه جي إلى التقاط ذلك الاعتراف عنوة غير أن كل كلمة في روايتها تقوله. ولهذا يمكنني القول أن انعام كجه جي كتبت واحدة من أهم الروايات التي كان العراقيون ينتظرونها. هي شهادة يأس بقدر ما هي محاولة لمواجهة الحقيقة. وهنا بالضبط تكمن ضرورة هذه الرواية بالمعنيين التاريخي والانساني. رواية تقدم العراق كما هو لا كما تقدمه معاجم الغرباء.

القدس العربي
02/09/2008