فاروق يوسف

علي جعفر العلاققبل ثلاثين سنة قرأت قصيدة منه فصرخت ملتاعا ' أخيرا هذا هو الشعر'. هل كنت أبحث عن شيء بعينه؟ وقتها لم أكن أبحث أصلا. كنتُ ضائعا ومشوشا وحائرا بين طرق، الكثير منها وهمي. فجأة شعرت أن هنالك خرير خيط مائي يتنقل خفية بين كلمة وأخرى. بين حرف وآخر في الكلمة الواحدة. خيط أسمعه يدب ويتأوه وينشج ولا أراه بعيني. خيط سري ينتقل من الاذن إلى العين ومن العين إلى الرئة.

هو ذا الشعر إذاً فتنفسه. مَن قال ذلك؟ لا أحد. مَن سمعني؟ أيضا لا أحد. كنتُ صغيرا حين همست لنفسي بتلك الصرخة الغاصة بالشوق إلى المعرفة والحدس والابتهاج. هو ولا أحد سواه، كاتب تلك القصيدة كان أول من علمني أن الشعر يقع في مكان آخر. ليست القصائد سوى صور مخادعة عن ذلك الشيء المبهم في حضوره، الاستثنائي في ندرته، الفريد في تمنعه والذي نسميه الشعر. الشعر لا يقيم في القصيدة دائما. ليس الشعر كله، لنقل الجزء الضال منه، هو ما نراه. جغرافيا مبهمة ودائرة من الاصباغ التي يمتزج بعضها بالبعض الآخر. في ذلك النهار الصيفي البعيد وضع علي جعفر العلاق اصبعه على جملة في كتاب (الشعر والتجربة) لارشيبالد مكليش فقرأت: الانسجام الكوني. قال لي: 'هو ذا'. يومها اتسعت أمامي دروب متاهة صارت تغري مواد مختلفة وصورا متناقضة وخطوطا خلتها لا تتقاطع وأشكالا، لكل شكل منها مزاجه المتمرد الخالص، في التخلي عن كثافتها وصرامتها ونأيها وصمتها لتسيل لينة وطائعة.

لا يزال صوته القديم وهو يقتفي أثر جناحين في المفردة التي ينتقيها كما لو أنه يراها يضرب أوتار السمع في اذني. هي ذي إذاً المعادلة الصحيحة. لم يقل تلك الجملة ولا أتوقع أنه سيقولها يوما ما. من هذا المكان بالذات ينبعث الشعر. اضرب حجرا بورقة لتحلق عصافير كالقطن. سيكون للسرير رماد وللايام رمل وللاعشاب شهوة وللبكاء مدن وللمياه عصفور وللحجر منديل. مباغتة لا تقول سوى شيء واحد: الكلمة تشق نسيج البلاغة لتصل إلى برية معانيها الوحشية. تلك المعاني التي تحث من خلالها النقائض، بعضها البعض الآخر، على الاشتباك لتشكل طراز حياة، حيزه لغة لا يمكن استبدالها بأخرى. ما لا نراه من الشيء يظل جاهزا للحضور مثل نبات نائم. هذا ما تفعله تيارات ما بعد الحداثة الفنية تماما الآن. ما من حدث يمكن أن لا يقع. افراط في التفاؤل اللغوي كان العلاق قد التقطه منذ أربعين سنة. لا شيء يهلك وحده واللغة ليست حاضنة مفردات. كل مفردة ترعى غربتها اما اللغة فانها فضاء. كان العلاق يبدي امتناعا عفويا عن التعبير الجاهز. لتقل القصيدة ما تشاء، ولكنها لن تنظر إلى ما تفعله بعين من ينتظر. ما لا نتوقعه يحدث دائما.

' الطينُ أرخى في دمي يده
حبراً،
وهاجر من أجراسيَ السمكُ'

هناك معنى مطلق للشعر. الشعر كله. لا في قصيدة بل في جملة، بل في مفردة هي ليست جزءا من شيء بعينه. صحيح أن العلاق يحرص دائما على البناء المعماري للقصيدة باعتبارها عملا فنيا مكتوبا غير أنه لا يكتم أنفاس مفرداته من أجل أن يكون لذلك البناء صوت واحد. شغف المفردة بغصتها يغلب. يمكنك أن تقتطع أية جملة من شعره ليسيل الشعر على يدك. لا تبحث المفردات هنا عن معانيها، ولا عن معجزات ريائها وهي تخدع المفردات الأخرى للتماهي معها، هي مثلنا تماما، ضائعة تتلفت، برية تفضل أن يكون سقفها هواء. مثل علي تماما. يده التي تكتب تتشبه به. بخياله الذي يستبعد الحل الوحيد ولا يخضع له. كنت أقول لنفسي وأنا أتأمله: مَن صنع مَن؟ سأعود إلى الماضي. كان علي يمشي محلقا. يضحك بجناحين. تلمع عيناه فأرى الأمهات كلهن ينتظرن. هناك على شاطئ الغراف. وهو نهر صغير في الكوت. أشبه بطائر مائي حط على ورقة فاهتزت الشجرة كلها. كان قادما من الجنوب بخبرة شقاء قد تخطى اللغة منذ قرون. لنقل منذ يوم سومري واحد من أيام الرب. شيء منه يشبه إلى حد كبير شيئا عنه. قصائدة تشي به، بل وتنبئ به. في لحظة مبهمة يخون السلاح المحارب. لا ليخذله بل ليعيده إلى ذخيرته الروحية. الآن وأنا أكتب أستعيد صوته وهو يكلمني ويمكنني أن اجازف بالقول ان عليا تدرب على قول الشعر شفاهيا قبل أن يكتبه. كان يقول الشعر إذاً قبل أن يكتبه. نغم صوته يحصي الكلمات، لكل كلمة وزن وإيقاع ورنين وكثافة وظل. لا يحط الشعر على الورقة إلا لكي يكتسب واحدة من صوره. القصيدة هناك اما الشعر فيظل محلقا مثل علي تماما. حتى اللغة فانه يتعفف عن الاقامة فيها طويلا.

'قد كنت قبرةً
تلملم ثوبها وتنامُ
مثلَ الوشم
تحت ثيابي'

سأقول على طريقته إن للجملة روحا. روحا معذبة وقلقة، هيامها لا يمكن التسلل إليه أو وصفه ونفورها الذي يدفع بها خارج خرائط البلاغة يسلمها إلى التيه. ولقد سلم الشاعر نفسه للتيه. كان تلك القبرة وذلك الوشم حين اختفى. أخذ معه جزءا من روح الشعر العراقي وغادر. كان يتساءل بأسى: 'هل اساء لك الشجرُ؟ هل اساءت لك البلادُ؟' شيء منه كان مغروسا عميقا في تربة تلك البلاد. البلاد التي صارت في ما بعد تختفي شيئا فشيئا. صار علي وهو يستعيدها يزخرف آنيته بأدعيتها من غير أن تتيح له فرصة الوقوف ساكنا أمام أطلالها التي صارت تترنح تحت خراب متجدد. غير أن عليا ظل حريصا على أن يبحث تحت الحطب عن نار تعيد تعريف (فاكهة الماضي). شيء منه يقيم في عبق تلك الفاكهة، في انوثتها وفي بياض الهامها. شيء منه ظل يحلق في فضاء تلك البلاد الماضية إلى هلاكها. وكنت يومها واحدا من سكان تلك البلاد.

'جرجرت في ليل البكاء
قصائدي،
وعجنتُ
من حطب الجنوب
ربابي
وحملت من امي
عباءة دمعها،
ووهبت وحشتها الفسيحة
ما بي'.

عالقة به، عالق بها. يسيل عبقها بين أصابعه وتكتب بيده. علاقة مركبة تحفل بالكثير من المقاربات العاطفية، من غير أن تُرخي تلك العاطفة خيط اللغة المشدود بتوتر. وهي لغة نادرة، تلمع من غير أن تهب العين فرصة لاقتناص لمعانها والقبض عليه، ذلك لأنها تحتمي بجوهرها الخفي في اللحظة التي يمارس فيها مظهرها تأثيره القوي على المتلقي. لغة قدت من مادة عاطفية غامضة، غير ميسر وصفها. خارج شعره وفيه، بين تلقائية فعل الخلق وتقنيات فن الشعر المعقدة يرعى علي العلاق عاطفة، هي النبع الذي يصدر عنه ذلك الانسجام الكوني الذي أظن أن العلاق لا يزال يعتبره واحدا من أعظم أهداف الشعر.
غير أن لغة العلاق المغمورة بعاطفة معانيها لا تخفي رغبة عميقة في الانفصال، بحثا عن حقها في أن تكون موجودة بقوة ثرائها الذاتي. كما هي، بنقاء صبواتها، في نشوة شغبها وعلو مرادها، عبر ما يتخللها من ايقاعات غامضة المصدر، هناك حيث لا يكتسب الهاجس الشعري قيمته من أي معنى مجاور له أو لا حق به فلا يضطر إلى أن يستعير قناعا. حينها تحضر اللغة مجردة من كل ما علق بها من سوء فهم، مصدره المعنى المشتبك بادائه الواقعي. لغة تباشر تاثيرها بصفاء سريرتها وتجليات خيالها الحر. لا المفردة الممكنة تُهمل، لانها تقع خارج السياق، ولا الجملة المعترضة التي لا تقول الشيء الذي نتوقعه تؤجل. وكما يبدو لي فان اللمعان الذي تنطوي عليه لغة العلاق انما يصدر عن مجازفة الشاعر وهو يمتزج بالنور الذي ينبعث من خيال الكلمات، هناك حيث لا يلزم الوصف اللسان ويكون فعل الخلق منزها عن غاياته.

' أمد كفي في دمي
حجارة
من جزر الكراكي
لكن دمي
مدينة تضيئها يداك'.

تقول اللغة شيئا مختلفا، لا يتقيد بشروط الاستنتاج المعرفي. هناك توازن لا يُقاس عن طريق التماثل، ولا يستهلك لذائذه عن طريق التفسير. يتبع العلاق حدسا لغويا يصعب التنبؤ بما سيقترحه. عالم مفرط في استعاراته ومجتزاته المحلقة. غير أنه لا يفارق معدن اللغة الأصلي، جوهرها، وولها بندرتها. الشعر يخدع واللغة تستعلمه لتمرير مكرها.

منذ كتابه الشعري الأول (لا شيء يحدث لا أحد يجيء) الصادر عام 1973 جلب العلاق الى الشعر العراقي نوعا من الغنائية لم يكن معروفا في ذلك الشعر. فغنائيات الشعر العراقي كانت قد توزعت من قبله بين ثلاثة مناطق نغمية: مرثيات السياب الفجائعية وصوتيات البياتي العالية المستمدة من القوافي والبوح منخفض الصوت لدى سعدي يوسف. اما غنائية العلاق فقد كانت من صنع اللغة. جاءت تلك الغنائية مستلهمة من عجينة تلك اللغة كما لو أنها مرآتها أو أنها قدت منها. حرص العلاق على رعاية النغم الداخلي الذي يحدث بسبب لقاء أوتصادم المفردات، بعضها بالبعض الآخر، كما لو أن تلك المفردات لم تلتق من قبل، حتى ليشعر القارئ أن الشاعر قد حذف الكثير من المفردات التي وقعت خطأ في المسافة التي تفصل بين مفردتين كانتا تتجاذبان فيما بينهما عن بعد، من أجل أن يصدر نغم بعينه، هو في حد ذاته هدف القصيدة. كانت موسيقى ذلك الشعر نوعا من الهبة التي تطلع من مكان لم تنتبه التقنية إلى وجوده فهو ليس على خارطتها. لا يكفي أن نقول أن العلاق كان خادما في حضرة لغته أو صانعا بارعا لها. هناك شيء يفوق الخدمة أو الصنعة يمكن أن ننسبه إلى الالهام الشعري الذي كان بالنسبة للعلاق ماكنة لانتاج جمال خالص. يمكنني أن أشبه محاولة العلاق بطائر برانكوزي. ذلك الطائر الذي رغب خالقه في أن يجعله جزءا من الفضاء. لغة العلاق لم تكن دليلا يهدي إلى الشعر بل كانت تلك اللغة الشعر في مهده، قبل أن يتكلم. بمعنى أنها لا تهبنا وسيلة لتعلم الشعر بقدر ما تلقي بنا في واحة من غصات مغامرته. اللغة في ذاتها تقول ما لا يمكن التعبير عنه بطريقة مختلفة. شعر لا يقال إلا بالطريقة التي كُتب فيها من أجل أن يصل إلى مبتغاه، وهو مبتغى لا يفارق الشعر أبداً. وهو أيضا بطريقة أو بأخرى لا يسعى إلى الافصاح عن أي نوع من المعرفة المباشرة. لذلك يفاجئني العلاق حين يكون أحيانا شاعر معنى. وأفهم بعد ذلك اضطراره إلى أن يكون كذلك في حقبات لاحقة. ربما لا أجازف في القول حين أبدو متأكدا من أن العلاق هو الشاعر العراقي الوحيد الذي كان يطمح إلى أن يكون شعره موسيقى. هل كان يحلم في أن يكون كاندنسكي الشعر العراقي؟ مَن تُرى/ جاء بهذا النص/ ملتفا، كما الافعى، على/ ماضيه؟. يصف العلاق هنا قصيدته باخلاص. لا تحلو له الجملة المغلقة على ذاتها. غالبا ما تكون قصيدته عبارة عن جملة واحدة تتوزع بين الأسطر لتهب اللسان تنويعات مختلفة من نغمها.

لا ينتمي العلاق إلى جيل الستينات في العراق، فلم تكشف أسئلته الشعرية عن رغبته في أن يكمل الطريق الذي شقه شعراء الستينات وهو الذي ظهر شعريا في أواخر العقد الستيني. تبلورت قصيدته في مختبر آخر. لم يكن الرجل ينسج سجادته بمواد محلية سائدة (لا يتعلق هذا الحكم بالتجربة الانسانية التي كانت عراقية بعمق). وهو إذ يصف قصيدته بانها عزلاء صافية مثل وردة فانه يعيدني إلى ذلك الوحي الذي كان يتسلل إلي من خلال كلماته. يلخص الشاعر الحكاية فيقول: (حين فاجأني الحلم/ وانكسرت سعفة الغيم/ طاردني الشعر/ طاردته/ هاربا من دخان يديه/ والتجأت الى الجن/ أضرمت الجن في جسدي النار/ أهدت رمادي إليه). كان العلاق يسعى إلى كتابة شعر خالص في مرحلة كممت فيها النزاعات الحزبية كل رغبة انسانية بالبوح المتشبث بنقاء لغته وصفائها وافراطها في التسامي. تاريخيا يمكن أن يُحسب هذا الاختلاف لصالح العلاق، غير أنني على يقين من أن الشاعر قد عاش واقعا مريرا بسبب استقلاله الشعري الذي هو مصدر كل استقلال في حياته. كان يسعى إلى قصيدة تشبهه وفي الوقت نفسه كان يسعى إلى التشبه بقصيدته. كل واحد من الأثنين كان لديه فائض من الحرية يهبه للآخر من اجل أن يكون شبيها به. لم تكن قصيدته تعد أحدا آخر سواه. علاقة ما كان في إمكانها أن تترك أيا من طرفيها وحيدا. لم يكن العلاق يدنو من الوصف إلا من أجل أن يتعلم أبجدية الخلق الأولى. كيف يبدو الجمال صافيا من المعنى؟ (انثى النص كانت تلك، أم أنثاي؟) يتساءل في حيرة مَن ارتبكت حواسه في مواجهة المزيج الذي انتهى إليه النص. وهو مزيج لا ينفصل فيه الشعري عن الإنساني. كانت قصيدة العلاق نوعا من الخبرة الحدسية في بلد كان يؤهل تدريجيا للعمى. ( مَن الطريد؟/ مَن الصياد؟/ هل عبرت بي القرون/ خفافا؟/ أم أرى سنة كسلحفاة/ مدماة؟ كألف سنة؟)

لكن اتستطيع
ان تتناسى كل هذا الدخان
يصعد من روحك منذُ
اغُتصبت بابلَ
حتى الان؟

العلاق كان معنيا بسؤاله أكثر من سواه. بالنسبة لشاعر من نوعه فإن ما حدث لبلاده منذ أن احتلت عام 2003 يمثل انتهاكا لروح الشعر: اللغة في جوهرها الانساني. وكما أرى فان الرجل الذي 'لم يلق منفاه في المنفى ولا وطنه' قد وضع الشاعر أمام الشبهات كلها: يمكنك أن تكون آخرَ هذه المرة بما يُعلنك عدوا. يُمكنك أن لا تسهو لكن هناك من لا يغفر يقظتك الضرورية. عراقية العلاق الخالصة كانت مرآة لمسعاه الشعري في اتجاه لغة نقية والعكس صحيح أيضاً. مرآة مزدوجة دفعته إلى القول: (الرمل في روحه يغلي أم المطر؟). سيكون علينا إذاً أن ننظر إلى قصيدة على العلاق بطريقة مختلفة. طريقة لا تنحرف بها عن مسارها الشعري بل تكتشف في ذلك المسار بعدا إنسانيا مضافا، هو في حقيقته مصدر كل شقاء بالشعر. إنها تذهب بالشعر إلى مستقره.

'ــ ومتى ستكف عن الحلم؟
ــ حتى أرى حلما
يتكاثر في كل ثانية،
مثل نبض الشجر
وأرى ذات يوم سماءً
بلا كدمات وعائلةً
من مطر'

أخوة ترنو إليها القصيدة. كنت في الماضي أقرأ قصيدة العلاق ولا أفهم شيئا منها، غير أنني أظل مشدودا إليها. فيها ما يُسحر. شيء لا يُفقده غياب المعنى قوته. حين أعود إلى القصيدة نفسها من غير أن تكون لدي هذه المرة رغبة في الفهم أزداد تلذذا. كانت قصيدته تأخذ شكل عمارة روحية تستل خيوط هندستها من مواقع لغوية تسودها الدهشة والحذر والترقب. كان الشاعر يقطر سوائله بأناة ومتعة مترفة. نعمة كانت تهبنا جمالا متوترا. الآن بقي من تلك القصيدة الكثير. غير أن شقاء المنفى الذي يعيشه الشاعر منذ عقود والعذاب العظيم الذي يعيشه العراق منذ احتلاله قد وهبا تلك القصيدة مدادا قاتما بالرغم من أن هناك جملة تقول: 'وثم غدُ'.

'ببعض الحصى
لو رجعت ببعض الندى
لو رجعت
بخفي حنين'

فصل من كتاب (الصوت المختلف) الذي صدر مؤخرا عن دار فضاءات الاردنية من اعداد الدكتور احمد مطر.

2012-07-15