عقل العويط
(لبنان)

منامات هيفحسناً يفعل محمد الحجيري في إصدار كتابه الأول "منامات هيفا" (دار النهضة العربية). هكذا بات في إمكاني الآن أن أقول ما كنتُ أقوله في سرّي، وأيضاً هنا وهناك، ومفاده أن "الساحة" ليست خالية، وأن العشب المهجور لا بدّ أن يدل – بخلاف الرأي السائد - على من يسكن البيت المهجور ويجعله يفرح بالعشب. بل بات في إمكاني أن أقول عن الحجيري ما كنتُ أقوله فيه بدون كتاب: أرى أمامي كاتباً حقيقياً، يكثّر العشب ويمهره بالواقع والغرابة والالتباس، وبالقراءات المعرفية العجيبة الغريبة، ومن كل حدب وصوب، ويضع أخضره الريّان في الشعر والنثر، فيهما معاً، وفي آن واحد، قصيدةً وحكاية ونصاً ورأياً وقولاً وتخريفاً، وسوى ذلك مما تقترحه بنية الأحلام والعبثية الماحقة، وها أنا أكتب ذلك علناً ليقرأه القاصي والداني.

الكاتب يعني الشاعر، مثلما يعني القارئ العارف المثقف في الفترة نفسها. محمد الحجيري هو هؤلاء الثلاثة. وليس عندي أيّ تردد "حسابي" حيال هذا القول. لا تهمّني الحسابات وانعكاساتها ومردوداتها. يهمّني أن أكون صادقاً وعادلاً، قدر ما يجب، وقدر ما يتراءى لي، وقدر ما أستطيع. وكلما رأيتني منشدّاً الى كتاب، حاولتُ أن أجعل له في القول المكانة التي أعتقد انه يستحقها، وأنا أفعل ذلك بالعقل والقلب، وبدون أن أكون بخيلاً مقتّراً، أو مبذّراً.

"منامات هيفا" الذي قرأته للحجيري قبل حين، ثم أعدتُ قراءته الأسبوع الفائت، يدفعني الى أن أؤكد ما أنا في صدده. بالدهشة التي تغمر العين وتفغر الفاه، أذهب وراء هذه "المنامات"، لا لأصدّقها تصديق الأطفال الكبار فحسب، وإنما لأنام فيها، على سطوح الصفحات، وفي طيّات الحروف، وفي خرافاتها وتخييلات الحكايات. فماذا الذي يجري في هذه "المنامات" حتى يدهّشني هذه الدهشة؟! إنها المنامات محلومةً، مكتوبةً ومقروءةً، ومرغوبة، بما فيها من معنى الانتقال الى النوم، وتصديقه، وعيشه، والمشي خلاله مثلما يمشي النائم في نومه. يتحقق هنا الانتقال والتصديق والعيش والمشي، على شكل قصيدة حيناً، وعلى شكل حكاية حيناً آخر، وثالثاً على شكل شذرات، ورابعاً حين يجمع الكاتب هذه البنى في آن واحد، ضمن بنية مختلطة، حتى لتغدو الكتابة تنويماً كيميائياً لهذه الأساليب بحيث يتداخل بعضها في بعض، بشكل واعٍ أخرق مهلوس وثرثار معاً، لكنْ مدهش أيضاً. أعرف أن ذلك السير الحثيث في عالم المنامات يحمل الكثير من روائح بورخيس وماركيز ونيتشه وكونديرا، وعوالم الحياة الافتراضية التي تتيحها الوسائط التكنولوجية من انترنت وسواها. أعرف ذلك تماماً وأشمّ "سرقاته" وأستطيبها، لكني أرى فيها محمد الحجيري. فأنا أراه حقاً وحقيقة، حتى لأحبّ أن أتناسى هؤلاء الكتّاب الذين أورد أسماءهم عرضاً، وأن أنفي وجودهم الذي لا يأنف الكاتب الشاعر من أن يصفعنا بالتشديد على أسمائهم وكتاباتهم، كما لو أنه لا يهمّه البتة أن حين يُذكر كتابه فإنه يُذكر على مقربة من عطور هؤلاء.

لافتةٌ فكرة الزوجة التي يخترعها الحجيري، ويعقد قرانه عليها في الانترنت. هي، في الكتاب، ليست أكثر من منام. بل هي المنام. يجعلنا نصدّق أنها شبح اخترعته الشبكة الافتراضية، وأنها قصة كتبها إدغار ألن بو في المنام.

لافتةٌ أيضاً فكرة العلاقة بين ماركيز وهيفا، حين يروح الكاتب الكولومبي يتلو الحكايات عليها، وحين، هي، بين حين وآخر، تنطق بكلمات وهي نائمة، ثم تنسى الحكاية. النسيان هو الذي يجعل المنام شعراً.
لافتةٌ أيضاً فكرة سمعان المخترَع هو الآخر، والذي تولّى قراءة قصة بورخيس أمام هيفا. لم يكن يعرف هيفا، إنما كان يراها كما يرى النائم في حلمه. ظنّت هيفا أن القصة مثل المنام ففكّرت أن تمثّلها. فقط كانت هيفا تعرف أن الكتابة تكذب، وأن أجمل كذب يكون في الكتابة.
من هو سمعان هذا؟ إنه الذي يعرف، كما يقول الكتاب، أن الرجال يرون هيفا في ظهور نسائهم، أو ينامون مع زوجاتهم ويتخيلونها. ربما لهذا السبب يحضر كونديرا في "المنامات" هذه، حيث ينام بطل "الضحك والنسيان" مع امرأة لا يني ظهرها يتحول الى مرآة يشاهد من خلالها صور كل امرأة سابقة في حياته.

أتكون هيفا، على قول الحجيري، هي نسيان للنساء، وصورة في ظهر كل امرأة، أم محض كلمات عابرة، أم أن المنام يخرج من المنام، على قول محمود درويش؟
بدون حساب، أو تردّد فيه، بدون بخل، أو تقتير ظالم، أو إهدار مبذِّر، تحية الى "منامات" محمد الحجيري.

النهار
17 يناير 2009