(زوِّدْ كومبيوترك بالمعطيات واتركه يؤلف شعرك على هواه )

عباس بيضون
(لبنان)

الفنان السوري سبهان آدم كان الطقس بالتأكيد هو المفاجأة الاولى وربما الوحيدة، لم يكن كذلك لنا فحسب بل للفرنسيين أنفسهم، فحينما تحول المناخ الى البرد وانهمر المطر بدون توقف وثارت العاصفة، نعم العاصفة، كانوا علموا من قبل أنها أحدثت كوارث في اسبانيا، بالطبع كانوا يتوقعون البرد والمطر فالأوروبي لا يغادر منزله قبل ان يستطلع الطقس سواء في النشرة آم الانترنيت، لكنهم «الفرنسيون» لم يستطيعوا بسهولة ان يتكيفوا مع الانتقال من مناخ صيفي الى مناخ شبه شتوي في يوم وليلة. لا تملك الأجساد هذه السرعة وتحتاج الى ان تتدرج فهي ليست ترمومترات ولا تستطيع كل لحظة ان تكون بحرارة مختلفة. كان الناس لا يزالون في قمصان خفيفة حين حبستهم الزخة الأولى أو اضطرتهم الى السير تحت المطر. لم يكونوا جميعا مجهزين بالمظلات لكنهم لم يبدوا بالطبع غضبا عارما من تبدل الحال، إنما لم يستطيعوا بسهولة ان يبدلوا ملابسهم ونزلوا في اليوم الثاني بالقمصان والمظلات في نوع من عدم اعتراف لم يلبثوا ان تراجعوا عنه. احتاجوا لوقت حتى يقبلوا بدون حرج ان يرتدوا جاكيتات وكنزات صوفية. لكن لما صار ذلك مألوفا وساد تقريبا لم تكن تعدم ان ترى كثيرات وكثيرين بنصف كم. أما نحن الذين نخشى ان تفضح ثيابنا غربتنا عن المكان وطقسه فكنا في حرج دائم تقريبا وندفع أثمانا ليست قليلة لذلك، فالمشي تحت المطر ليس من عاداتنا على غزارة أمطارنا. ولا نرى فيه مجلبة للمرض فحسب بل بهدلة وبؤسا معيبين اجتماعيا، وحين نمشي تحت المطر في بلد أجنبي فإننا نضيف الغربة الى البهدلة وغالبا ما تكون الغربة الأوروبية بهدلة في الأساس، إذ طالما يشعر المرء بأنه لا يحظى هنا باعتبار كاف، ويلقي التبعة بالطبع على عنصرية الأوروبيين. والأرجح ان الركض تحت المطر هو بالنسبة للعربي مظهر امحاء اجتماعي في غربة لا يكون صاحبها فيها شيئا وإنما هو غفل نكره لا مقام له ولا رتبة فيراعيهما أو يتخذ لهما رسومهما وسلوكهما.

لم يتغير الطقس الا لماما، فقد يحدث ان تشرق شمس خادعة لا تلبث ان تختفي، لكن هذا على سرعة زوالها كان محيرا، فالناس هنا قد تراعي الشمس القصيرة بثياب لا تكفي لبقية اليوم، وما ان تتبدى الشمس قليلا حتى تخرج الأذرعة من أكمامها وتنقشر الأنسجة عن الأعناق والأكتاف والصدور فتشرق هذه أحيانا أكثر من الشمس، بل يبدو أنها هكذا تعيّد الشمس. وأذكر ان زوجة الشاعر بالب مدير المهرجان قالت لي وهي ترى الشاعرة البرتغالية في بياضها وشقرتها بأنها كالنهار، ولم تكن تسعى الى مجاز لكنها الحاجة الى إشراقة شمس غائبة منذ أيام.

لا أعرف اذا كان يصح لي ان أفكر بأن هذه ليست حالنا مع الطقس، وأن حساسيتنا تجاهه اقل استجابة وسرعة وتحفزا. من النعم علينا ان شتاءنا شتاء وربيعنا ربيع وصيفنا صيف وخريفنا خريف، وأن الفصول لا تغدرنا بهذا القدر ولا تخدعنا عن حالها، هناك بالطبع استثناءات ليست كثيرة والباقي لا يفاجئ ولا يحير. ربما لذلك لا نستشير الترمومتر كل صباح وقد ننسى مسألة الطقس كلياً الا حين يقسو في حره أو برده. الأرجح ان أجدادنا في الجبال كانوا ألصق بالطقس وأدرى وأكثر حساسية، أما نحن فإننا نضج من الطقس اذا طال علينا مطره أو حره، أو برده. وفي ما عدا ذلك فإننا لا نستقبل يومنا بالسؤال عنه ولا يكون ذلك تحيتنا لمن نصادفه. وقد نحتفي بيوم جميل وقد لا نحتفي، وعلى غيرنا ان يبحث عن نتائج ذلك في رواياتنا ومسرحنا وأشعارنا وفنوننا كلها، فإذا علمنا ان الهايكو يدور على الفصول، وأن الانطباعية مدرسة رصد للشمس وانعكاساتها وان الشعر الجاهلي يتبع أوقات الصحراء بدا لنا ان سؤالنا في محله.

الشعراء

يشق على الواحد ان يفهم جغرافيا باريس، فإيفري لا تعد من باريس وقد يعدها البعض ضيعة قريبة. يكفي لذلك لتشعر انك بعيد، وليعتبرها الآخرون بعيدا لكن المترو الذي ينقلك بدون تبديلات في مدى عشر دقائق الى قلب باريس يجعلك تحتار في معرفة الخط الوهمي وربما التاريخي الذي يحيط بباريس ولا يزال رغم ذلك، حقيقة أكيدة فيها. مع ذلك فنحن في الضواحي بدون شك، وهذه ضاحية عمالية في الأصل لكنها تتبرجز وليس لها مظهر باريس التاريخية، لا ساحاتها ولا مبانيها وواجهاتها وشوارعها. بل المظهر العرقي مختلف فهنا للمغاربة مجتمعهم الواضح، وهنا تبدو على المنشآت حداثة وقرب عهد بخلاف تلك العراقة التي تطبع عمران باريس القديمة، ثمة تواضع وتفنن أقل لكن للخلو من الفخامة والعراقة حيز أيضا. فهنا نتعامل من الأشياء بحرية وبدون كلفة، وهنا فسحة أمام النظر ونقصان يحتاج الى الوقت، وهنا نرى بدون ان يضغط علينا التهيب وبدون ذلك الشعور بكمال لا تستطيع معه شيئا أو تحفة نخشى عليها من لمسنا ونظراتنا. العمال لا يزالون حقيقة هنا، وفي ايفري نشعر انه مجتمعهم وإدارتهم بل وسلطتهم أيضا. يقال ان هذه حديقة عمالية وهذه مكتبة عمالية وهذه روضة عمالية. المغاربة كثر أيضا لهم مطاعمهم ومقاهيهم وقد تمر في مطارح لا تسمع فيها سوى العربية. ومن الصعب ان نعرف اذا بدأوا يكرهون فرنسا أو يكرهون فرنسيتهم، لكن احدهم يقول لآخر جزائري يكلمه عن العنف في العراق محتجاً «انه ليس عنفا، انها مقاومة).

يقول جان بيار بالب مبتسماً «وأنا شاعر أيضا» لم يكن يريد مع ذلك ان يثبت شيئا وأنا لم أكن بحاجة الى إثبات، كان أكثر وسامة وهدوءاً مما يتسنى لشاعر، كان اقرب الى طبيب منه الى شاعر. لعل هذا، لعل شكله البرجوازي هو الذي جعل الشاعرة الفرنسية تقول عنه إنه يخشى من ان يقترب من أحد أو يلمس أحدا. جان بيار بالب هو المكلف بتنظيم المهرجان يستقبلنا في المكتب شبه المخفي في أرضية الفندق، كنت انتظر ان يكون نازلو الفندق شعراء وبالفعل كنت ترى الأشخاص إياهم متحلقين على كنبات البار الضيق، ادواردو البرازيلي الثمل غالبا والذي لم يكف عن جلبته في ليله حتى احضروا له البوليس وحرموه ليلتين تباعاً من أي كأس. القصة التي أحزنت سيرج بأي الجاهز دائما أمام كومبيوتره فكتب عنها قصيدة. سيرج غالبا في اللوبي يلعب بمفاتيح كومبيوتره ويؤلف. هناك ريي دوكارافا الأنغولي الشاعر بالبرتغالية الذي يشبه كثيرا الشعراء كما يشبه الصيادين، وهو غالبا مقطب لأن المطر لا يسمح له بالخروج. هناك أيضا كوينسيسا وليما الشاعرة بالبرتغالية من ساوتومي، هناك البرتغالية أنا لويزا امارال والموزابيقية أنا ليت والبرازيليان ملتون ازيفودو المشلول على كرسيه المتحرك وكاربيتو اريفودو وهما ليسا شقيقين ولا قريبين رغم كونهما الاثنين شاعرين رقميين وبرازيليين. هناك شوقي بغدادي السوري، هناك سمية السوسي الآتية من غزة وربما لقمان الديركي اذا توفر في الفندق وهناك سارا كارينا الفرنسية والأميركي اللطيف للغاية الذي يصافح الجميع حين يعز عليه الكلام معهم. إنهم في حلقتين في البار، ادواردو يتكلم دائما بفرنسية خاصة وملتون بأي لغة وسيرج يكتب. دائما في البار بعد الإفطار والعصر والمساء يتذمرون لأن المطر لا يسمح بالخروج والفندق سيئ الخدمة. لكن النزلاء يتدفقون على الفندق وتقول شاعرة وهي تراهم صفوفا أمام الاستقبال بأنهم أشبه بدفعة عبيد. يضيع الشعراء في الزحمة ورغم استمرار حضورهم في اللوبي وفي الأوقات نفسها الا أنهم يبدون اقرب الى متطفلين.

ثلاثة محاور، برتغالي أو بالبرتغالي، وعربي، وآخر هو خليط من شعراء البرفورمانس والشعراء الرقميين وشعراء الملتيميديا والإنشاءات والشعراء البصريين والصوتيين وشعراء الفيديو... الخ. شعراء البرتغالية جاؤوا من ساوتومي والبرازيل وانغولا وموزابيق والبرتغال بالطبع أي كل العالم البرتغالي، العرب كانوا سوريين في الغالب، عائشة ارناؤوط ومرام المصري المقيمتان في باريس، شوقي بغدادي ولقمان الديركي الآتيان من دمشق ومعهم سمية السوسي من غزة وحسن بلاسم العراقي الذي لم يحضر من فنلندا. وأنا بالطبع، مهما يكن رأيك فإن هذه الخلطة جاءت كما اتفق، لا أعرف من الذين يشيرون عليهم بالأسماء لكن جان بيار بالب قال لي ان هناك من يمدحون له ادونيس وآخرون لا ولم اقل له ان مؤلفات ادونيس كثيرة بالفرنسية وأحرى به ان تستشيرها هي. لا اعرف اذا كانت اختيارات البرتغالية أكثر إحكاما، لكنني حين سألت البرتغاليين عما اذا كانت أسماؤهم واردة في الانطولوجيا الصادرة عن غاليمار، استفز هذا السؤال ريي دوكارافالهو الذي قال ان من يدخلون الى الانطولوجيات يفعلون هذا لأنفسهم، إنه شيء والشعر شيء آخر، من يريدون الشهرة يشتغلون لها، إنها تحتاج لأن نتحرك لأجلها. أنا، قال لي، مستعد لأن أتحرك لأغراض كثيرة، لكن الشهرة ليست واحدا منها. كان ابن صائد الأفيال كما ورد في سيرته يتكلم كصياد أفيال ولا يترك لي مجالا للشك في ان الشهرة عدوة الشعر. وان الشعراء المعروفين زمرة محتالين، كان هذا يناسبني لكنه ذهب بعيدا فيه الى الحد الذي لم استطع مجاراته. البرتغاليون على كل حال كانوا دائما في البار، ودودين للغاية، لكنهم غير فضوليين بشأننا وغالبا ما يفضلون الحديث بالبرتغالية. ادواردو، كان كلامه الدائم بالفرنسية مثل شربه علامة سكر.

كان علينا ان نبدأ قراءتنا في الأمسية الاولى رافقت دوكارافالهو وليما وامارال. عبر الباص بنا ضواحي مزدحمة ثم تخلص الى ريف خالص لنصل الى قرية ساكنة ولا تجد سوى اثنين في انتظارنا. لم يكن التوقيت صارما. لما لم يكن هناك من أحد ذهبنا الى المائدة، أكلنا سلطات شهية وسومون مدخنا واجبان لذيذة جداً وشربنا نبيذاً احمر ونحن ننتظر. ثم اجتمعنا من جديد لنستمع الى كارافالهو الذي احتج على سوء ترجمته. قرأ قصيدة «القرش» من انطولوجيا المهرجان وقصائد أخرى كان اشتغلها مع بالب. قرأت ليما وقرأت امارال، لم استمع جيدا الى النص أو الترجمة، في الحقيقة استرقت لحظات نوم فسيحة وغالبتها لخجلي من ان يصدر غطيط أو يشعر الآخرون بنومي. كان هذا بالطبع فضيحة لي أنا الذي فاجأت البرتغاليين بركوبي معهم، وكنت أظن ان هذا بديهي لكن لما مضى أكثر من ساعة علينا في الأوتوبيس فهمت أنها خفة مني فهنا لا يركب الناس لسماع إخوانهم، هذه مشقة لا يتنكبها احد.

لم يكن دو كارافالهو الوحيد الذي يشكو من ترجمته، لم أجد راضيا. وحين عدت الى الفندق راجعت ترجمتي التي قامت بها، ريتا حداد وهي سيدة لم أصادفها ولم أصادف من يعرفها. كانت الترجمة غريبة إذ لم افهم مثلا من الذي دعا ريتا الى ان تضع المقابل الفرنسي لكلمة «تزيينها»، بدلاً من كلمة «عدها» بالعربية. لم افهم لماذا في قصيدة أخرى حولت كل مفرد الى جمع وكل جمع الى مفرد. بالطبع لن أحاسب على سوء الفهم أو حتى الفهم المعكوس فهو ما يتوقع ان يحصل حين تتم الترجمة بعيدا عن الشاعر القادر أكثر من غيره على ان يوضح مراميه ويضع الكلمات في فهمها الصحيح. بالب يقول إنها مسألة وقت، وإنهم لا يجدون فسحة ليراجعوا الشاعر ويتلقوا تدقيقاته، إنهم يتأخرون كثيرا ولا سبيل لانتظارهم.

كنت متحمسا لأمسيتي الاولى وغادرت أصدقائي في وقت مناسب، لكني وجدتهم غاضبين في الفندق. لقد انتظروني طويلا واضطروا لأن يرحلوا بدوني. كانت هذه مشكلتي مع الأرقام، تقول أحيانا لي أشياء لا تقولها لغيري، الموعد في السادسة لكن الرقم بدا لي في الثامنة. لم يبدوا على استعداد لتصديقي، فضلوا ان يعتبروني غير مسؤول. مظهري في الغالب يؤيد ذلك. كان الوقت متأخرا جدا لكنهم طلبوا لي تاكسي. التاكسي لم يحضر في عشر دقائق كما وعد وحين حضر الثاني كان قد مضى أكثر من نصف ساعة، ومع بعض الزحمة قد يكونون انتهوا من الأمر كله ولن أجد أحدا. كان الطريق خاليا فوصلنا في ربع ساعة. أنزلني السائق وكان علي في منطقة شبه مقفرة ان أسأل عن حديقة البلدية وحين وصلت الى الزيزفونة العظيمة التي وصفوها لي وجدت الجميع حول المائدة، لقد انتهت القراءة. لكن بريرا الغاضبة دكتورة الفلسفة على أطروحة عن «الإغواء» اقترحت علي ان ننادي الجمع المنهمك بالأكل ونقرأ. وقفت بينهم واعتذرت وقرأت دون حرج. وحين حضرت لبنانية متأخرة وشاءت ان تسمع شيئا بالعربية قرأت لها وحدها قصيدة ثالثة.

كان هناك غالبا العشرون شخصا، في مكتبة اليساروي التي سرنا إليها تحت المطر وشوقي بغدادي يستكثر الطريق والمشي في هذا الطقس. في بيت الشعر حين حضر أكثر من العشرين المعتادين، وفي مكتبة البلدية دائما المسافات الطويلة في الباص والجمهور الصغير. لم يكن هذا شاقا، لكنه بدا أشبه بزيارة لمريض، لم يكن احد يمزح فيه، كان علينا قبل غيرنا ان نقتنع به ليغدو مستحقا. هناك العشرون الذين نجدهم متعاطفون كثيراً في الغالب، كأنهم بذلك يعطون أهمية إضافية لحضورهم، وكأنهم يكافئوننا على مجيئنا. ثم هناك هذا الاحترام الطقسي للشعر، فبعد كل قراءة كانوا يصفقون للشاعر أو لما قرأه بالضرورة، لكنهم يصفقون للشعر الذي تجلى فيه، يصفقون للجميع، وغالباً بالحماس نفسه. إذ في كل مرة يفعلون ذلك يبدون للشعر ما ينبغي له من تحية.

مشاهير

ريي دو كارافالهو ابن صياد الأفيال، المزارع الانتروبولوجي البرتغالي الذي تربى في انغولا ويعتبر نفسه انغوليا. يمكن ان يجمع كل ذلك في هيئته، التي تذكر من بعيد بهمنغواي، على الأقل لحيته القصيرة البيضاء وجسده الكبير المتين. كارافالهو الذي استفزه سؤالي عن الانطولوجيا، قال لي إنه يجد نفسه قريباً من لبنان فبينه وبين وطنه انغولا تاريخ متشابه، إنها ثلاثون سنة من الحرب الأهلية. كان يؤكد كثيرا على انغوليته ويتكلم هكذا عن انغولا التي هي كلبنان في نظره ضحية جيرانها والقوى الأكبر منها. تراءى لي ان انغوليته هذه قد تكون في الأكثر فعل تبرؤ من لونه الأبيض ومن برتغاليته الأصلية، بقدر ما هي فعل غضب ضد عالم الأقوياء. كارافالهو الذي تقول سيرته انه درس في فرنسا يتكلم فرنسية ذات لكنة خاصة للغاية، يبدو غاضبا ولو بدون حدة. الميديا والشهرة والماركتنغ، لا يحتمل هذا العالم ويؤكد ان الشعر كان دائما اقلويا. السياسة قد تعطي للشاعر حضورا لكن هذه السياسة وليست الشعر، وحين انفصل الشعر عن السياسة صار ما هو عليه الآن، اقلويا ومحصورا، لكن هذه هي الحال من قديم. لم يحصل شيء لا داعي لرثاء الشعر، كان هذا هو قدره وسيبقى. أسأله عن بيسوا، لا يربكه السؤال لكنه لا يجيب فورا، يحتاج الأمر لبضع تمهيدات. بيسوا شاعر كبير لكنه ليس الأعظم، صنيعه كبير بالنسبة لرؤيته لكني، يقول كارافالهو، لست من نظرته للشعر، بيسوا صانع مفهومات والشعر بالنسبة إليه هو هذا، أما أنا فالشعر بالنسبة إلي صور ومجاز. لست من رأي كارافالهو، الشعر صور ومجاز يبدو لي ذلك تبسيطا كبيرا لكني أظن انه يبسط خدمة للحديث، وللحديث بلغة ثالثة، الأرجح انه يعني بالصور أكثر مما نفهمه لأول وهلة. نصنع صورا كل لحظة، في الشعر وفي النثر وفي الحديث، الشعر، اذا كان صورا، فهو نوع خاص من الصور. انه الذي ينظم الصور وينسج منها. لا أتكلم عن مفهوم بقدر ما أتكلم عن نوع خاص من الفكرة. نوع ضمني وتحتي. مع ذلك ليس الشعر صناعة مفهومات، كارافالهو معه حق. حين قرأت بيسوا لأول مرة شعرت انه يرافع ويبرهن ويدعو ويستنتج وأحيانا تكون دعواه مبسطة ككل دعوى. أنا أيضا لا اعثر على الشعر الذي ينفد الي في قسم كبير من قصائد بيسوا وبخاصة أشعاره الوثنية ورعوياته. لم اقل لكارافالهو شيئا، وجدت شاقا علي ان اجاري استفزازيا مثله. لكني حين سألته عن انديراد وهو شاعر برتغالي مشهور أيضا انبسط وجهه بقدر من الإشفاق، قال انه اقل بكثير. من بيسوا، هذه قضية أخرى. انه شاعر يحسن النظم، له صبغة وأسلوب، لكنه اصغر بكثير. كان كارافالهو يسحق أنديراد بكرم ارستقراطي، قال ان في البرتغاليين شعراء كبار لكني لم أسأله عن أسمائهم. تراءى لي انه يعد نفسه بينهم. في غرفتي حاولت ان أقرأ قصيدته الوحيدة المترجمة في الانطولوجيا «القرش» لكني لم أجدها مثيرة، هو قال ان ترجمتها سيئة للغاية، لكن حتما في الترجمة السيئة يبقى شيء من الاصل. طلبت منه ان يعطيني نسخا من القصائد التي اشتغل على ترجتمها مع بالب، وعد بتصويرها لي وذكرته ثانية بالوعد، لكن القصائد لم تصلني.
حاولت ان أثير مسألة بيسوا مجددا مع آن البرتغالية لكن الشاعرة الموزابيقية البيضاء كالنهار كما وصفتها زوجة بالب لم تبدُ في وارد مسألة كهذه. بيسوا بالطبع بيسوا لكن حكاية شعر المفهومات لا تخطر لها، وليست لها شكوك كارافالهو. لا بد ان انديراد بالنسبة لها شاعر كبير وليس لص شهرة أما نينو جوديس الذي لم أجرأ على سؤال كارافالهو عنه فتكلمت عنه بألفة، عن زوجته وعن ميله للصمت. كانت الأمور عندها كما هي في السائد. لم يخفني كارافالهو لكنه أعادني الى سؤال أقدم، ماذا لو كانت الأشياء كما يراها، ماذا لو كانت الشهرة حقاً شيء آخر غير الموهبة، ماذا لو كان الكتاب المعروفون هم نتاج الدعاية، وهم فنانون فقط في هذا المجال، ماذا لو كان الأهم مغمورين أو مجهولين وكل علمنا بالأدب نوع من الخداع. ماذا لو كان بعض ذلك صحيحا. لا اعرف من هذا الشاعر الذي قال انه لا يتصور أديبا كبيرا غير معروف هذه نظرية مضادة تماما، لكنها ثوريه الى الدرجة التي يمكن ان تغرقنا في اليأس، إذ يمكن ان يكون حتى أولئك الذين اثروا فينا مجرد اختراع للميديا والماركتنغ.

الشعر الرقمي

استطردت وكان عليّ ان ابدأ بتعريف للمناسبة، إنه البينال التاسع، ذلك يعني ان ثمانية عشر عاما انقضت على تأسيسه وهذا ما يجعله راسخا. انه كما يدل اسمه مهرجان لكل سنتين، العمل عليه يبدأ صبيحة انتهاء المهرجان الفائت فهو عمل عامين أيضا وعلى مدارهما. تصل الدعوة باكراً وغالباً قبل عامين ومنذ ذلك الحين لا تنفك الاتصالات والإيميلات» بين إدارة المهرجان والمدعويين. قصائد غير منشورة وترجمات من كل اللغات وأنطولوجيا خاصة بالمهرجان. لكن البيينال ليس مفردا انه جزء من نشاط شعري مستدام حول مجلة «اكسبون بويتيك» التي هي من أقدم المجلات الشعرية في فرنسا وأكثرها حضورا. قطب المجلة شاعر فرنسي يدعي هنري دوليي وهو بمقدرته النظرية واللغات العديدة التي يتقنها ويترجم منها وحضوره الشعري وصلاته بالمجموعات الشعرية في العالم قادر على ان يجعل المجلة التي يرئس تحريرها ذات راهنية دائمة. ليست «اكسبون بويتيك» مدرسة في الشعر لكن هذا لا يمنع انحيازها للتجريب وللجديد في كل حين. هذه المرة أيضا كان الجديد في شعر البرفورمانس والملتميديا والفيديو والإنشاءات، وبالطبع فإن كل فنان يصنع في الغالب مدرسته الخاصة ويطلق عليها اسماً من عنده. لقد كان هؤلاء امتياز المهرجان، وفي الأخص الشعراء الرقميون.
حين أعياني السؤال عن الشعر الرقمي قال بالب بالهدوء الذي يقول به كل شيء انه أيضا شاعر رقمي. فهمت ان الأمر ليس بالكتابة على الكومبيوتر، انه برنامج موجود أو هو برنامج ينتجه المؤلف، يزوده بقاموس ومفاهيم ووقائع ويتدخل فيه بمقادير متفاوتة أو يتركه وحده يؤلف على هواه، وبالب يفضل ان يترك للصدفة ان تؤلف. الشعر الرقمي قد يكون وحده أو يدخل في فن الفيديو والملتميديا وقد يغدو جزءا من إنشاء أو بيرفورمانس تتلاقى فيه الموسيقى والأداء والرقص والإنشاءات، لم ألاحظ ان للشعر الصوتي حضورا لافتا في المهرجان، لقد غدا مع الوقت قديما، لقد أخلى المكان للشعر الرقمي بخاصة.

ويلتون ازيفودو الضخم على كرسيه المتحرك يتكلم دائما وبلغات يعرفها ولا يعرفها معروف أيضا كشاعر رقمي. وهو دائما أمام كومبيوتر لا يتوقف عن التأليف. ويلتون يقول انه لا يترك للصدفة ان تؤلف، انه يتدخل في قصائده بل يكتبها تقريبا ثم يضيف إليها مؤثرات الفيديو. لكني قرأت ويلتون فوجدت أشعاره رصفاً هذيانيّاً، في حين ان كوليتو الذي يحمل اسمه والذي قال لنا ويلتون انه يترك الكومبيوتر يؤلف، يوقع قصائد أكثر تسلسلا وتماسكا بكثير وكذلك بالب، فهذه قصائد لا تشي بالجنون بقدر ما تبدو صادرة عن عقل بارد وحيادي.

يتفاجأ كلود غير كما تفاجأ من قبله ستيفان حين قلت له ان الشعر فن مضجر ومستبد ومتعسف وان هذا قد يكون سبب أفوله الحالي. الاثنان ليسا الوحيدين اللذين لم يتزعزع حبهما للشعر، ذلك الحب الذي غدا في الظرف الحالي، جنونا، فالأغلب ان تهافت مكانة الشعر وانزوائه لا يجعله منبوذا. الصحيح ان في العالم اليوم شعراء أكثر مما عرفه في أي يوم آخر، بل ان في هذا الإقبال على فن مغدور عاق شهادة له. يبدو الشعر كذلك الى الآن معمل تجارب وتجديدات ففي غفلة من الميديا يسعى الشعر الى ان يكون على تقاطعات الثقافة والفنون والاختراعات كلها، يستمر مختبرا للغة ويتقاطع مع الرواية والمسرح والسينما والتشكيل والفيديو والموسيقى في الوقت الذي يواصل فيه صلاته السرية بالفكر والسياسة والغناء والشفهي. ليس السؤال اذا كان الشعر الى أفول، بقدر ما هو رؤيته يغتني ويتعدد في انزوائه وأفوله.

السفير
15 يوينو 2007